رواية خذلان الماضي كاملة جميع الفصول

رواية خذلان الماضي هي رواية رومانسية والرواية من تأليف دودو محمد في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية خذلان الماضي لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية خذلان الماضي هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية خذلان الماضي تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة

رواية خذلان الماضي كاملة جميع الفصول

رواية خذلان الماضي من الفصل الاول للاخير بقلم دودو محمد

وقفت بالمطار تنظر أمامها والدمـ.ـو.ع تنهمر على وجنتيها، تعبيرات القهر والانكسار تؤرق ملامحها، وكأن الثقل الذي تحمله في قلبها أثقل بألف مرة مما كانت تتخيل. تململ الحزن العميق داخل جوارحها، وكأن كل ذكرى مريرة ترتبط بماضيها تخـ.ـنـ.ـق أنفاسها. لقد اشتاقت كثيراً إلى وطنها، إلى رائحة الأرض التي عاشت عليها وتفاصيل الحياة اليومية التي اعتادت عليها. وبالذاكرة تطرقت إلى ذلك اليوم البعيد حين ارتدت فستانها الأبيض، وقد غمرتها السعادة البالغة وكأنها كانت تجري في حلم جميل لن ينتهي. لقد تزوجت رجل أعمال مشهور، كما تروي القصص، الرجل الذي كان يعيد تعريف النجاح في عيون الكثيرين، وكانت تعرفه عن طريق إحدى شركاته حيث كانت تعمل في قسم الحسابات. في تلك الفترة، اعتقدت أنها تمتلك العالم بأسره، وكل شيء كان يبدو كأنه بقعة ساطعة من الأمل. لكنها لم تتوقع، في خضم الوعود والتطلعات، أن يكون ذلك بداية النهاية لمشاعرها وأحلامها.فجأة، انتبهت إلى صوت هتاف يأتي من الخارج، صوت مدوي ولكن مفعم بالحيوية؛ كانت تارة من ذكريات الماضي وتارة أخرى آتية من واقعها الحالي. بسرعة، مسحت عبراتها بأناملها الرقيقة، ورسمت ابتسامة حزينة على وجهها، ابتسامة استطاعت أن تخفي ما وراءها من ألم. تقدمت نحو مصدر الصوت، وفي لحظة شعرت بالأمان حين ارتمت بين أحضان ذلك الشخص الذي لطالما كان ملاذها، وتشبثت به بقوة، وكأنها تخشى أن تفقده كما فقدت أشياء أخرى كثيرة، قائلة بصوت مختنق: “وحـ.ـشـ.ـتني أوي يا قلب أختك. بابا وماما عاملين إيه؟ ومراتك الوا.طـ.ـيه مجاتش ليه معاك؟”
عجزت عن إخفاء تأجج المشاعر، فقد كانت التـ.ـو.ترات العائلية والأحداث المتلاحقة داهمتها برؤوسها، ولكن في تلك اللحظة، كانت تكتفي فقط بوجود شخص تحبه بجانبها، ليعيد لها بعضاً من الأمل المفقود.ابتسم لها بسعادة، وربت على ظهرها بلطف، قائلاً رامي بصوت حنون:
“يا بت، ابلعي ريقك شويّة. انتي لسه رغايه زي ما انتي. عموماً، يا ستي، مي مراتى حامل في أول شهور ليها، والدكتور مانع عنها الحركة علشان بتاخد مثبتات. هي كانت هتموت وتيجي معايا، بس أنا مرضتش. وماما وبابا مستنين وصولك بفارغ الصبر!”
ابتعدت عن حـ.ـضـ.ـنه وأشرقت الابتسامة في عينيها، وبدا عليها الإحساس بالراحة. قالت برقة:
“ياااااه يا رامي، حـ.ـضـ.ـنك كان واحشني أوي. ومبروك يا سيدى هبقى عمتو الحرباية لتاني مره!”
تعالت ضحكاته، وهو يبتسم برضا:
“ده ياسين هيموت ويشوفك. مصدعنا كل شويّة، بيقول: هي فين عمتو راما ليه مش بتيجي عندنا…
ثم أضاف وهو يهز رأسه:
“اسأله كتير أوي عنك، مش بتنتهى، أمشي يلا.”
تنهدت بوجع، ولكن ابتسامتها بقيت على وجهها، ثم تحركوا نحو الخارج. صعدوا إلى سيارة الأجرة، ثم نظر رامي إليها بتساؤل، سائلاً:
“صح، فين جوزك، مجاش معاكي ليه؟”
كانت أسئلته تحمل بين طياتها قلقًا عائليًا.أغلقت عينيها بألم، واحتبست أنفاسها لبعض الوقت، ثم أجابت بصوت مختنق:
“أنا أطلقت، يا رامي. ودي كانت واحدة من أصعب القرارات اللي اضطررت أخدها.”
شعرت بضغط عاطفي يكاد يكسرها، لكنها تماسكت طوال تلك اللحظات.جحظت عيناه بصدمة، ثم قال بعدم تصديق:
“أطلقتي!! ازاي ده؟ إيه حصل وصلكم لطـ.ـلا.ق، وحصل إمتى ده؟!”
عكست ملامح وجهها مخاوف كبيرة وأسئلة لم تخطر لها في بالها.تنهدت بحزن، ثم قالت:
“تعال نروح البيت، وأنا هحكيلكم كل حاجة.”
محاولة لإضفاء بعض الأمل على الموقف الثقيل.نظر إليها شقيقها بشفقة، فهو يعلم كم أحبته راما بصدق، وكيف كانت السعادة تتجلى في عينيها عنـ.ـد.ما تقدم لها وتزوجها. لم يستطع التفكير في أي شيء عدا أن يشـ.ـد على يدها. أمسك بيدها، مبتسماً لها بحب، وتحركت بهم السيارة نحو المنزل، حيث كانت هطول الأمطار يحيط بهم بدهشة وعواطف مختلطة في قلوبهم.
………………………………………………….
وصلوا البيت ورحب بيها الجميع وسعدوا بعودتها مرة أخرى إلى أحضانهم. علموا بخبر انفصالها وبدأت تقص عليهم تفاصيل ما حدث معها بالخارج.

فلاش باااااك…

انتهت راما من تسوقها بسعادة، فقد اقتنت أشياءً كثيرة. أمسكت صندوقًا صغيرًا يحتوي على ساعة يد ذات ماركة عالمية، ونظرت إليها بابتسامة تشع فرحًا. كان بإمكانها أن تتخيل لحظة رؤية زوجها والدهشة ترتسم على وجهه عند تلقيه تلك الهدية المميزة. وقفت السيارة أسفل إحدى أكبر الشركات بالخارج، وهبطت منها بعد أن فتح لها السائق الباب. أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت بتوجس يعتصر قلبها، ثم قالت بصوت هامس:
“اجمدي يا راما، أكيد مش هيزعق ليكي المرادي، أنك جايه ليه الشركة لما أفاجئة بهدية عيد ميلاده.”
تحركت باتجاه الباب وصعدت المصعد الكهربائي، حيث ضغطت على الزر ومرت ثوانٍ قليلة لكن شعرت وكأنها دهور، حتى وصل الطابق الذي يتواجد فيه مكتب زوجها. ابتسمت بسعادة، ولكن شعورها سرعان ما انقلب إلى قلق عنـ.ـد.ما فتحت باب المكتب لتجد زوجها فى أحضانه فتاة أخرى تتدفق إلى وجهها مشاعر الحزن والخيبة. سقط الصندوق من يدها، وانهمرت دمـ.ـو.عها بغزارة، وتكلمت من بين شهقاتها:
“أ… أنتوا بتعملوا إيه؟ ليه؟ أ… أنا قصرت معاك في إيه علشان تخونني؟ وفين في مكتبك مع السكرتيرة؟ علشان كده كنت كل ما اجيلك الشركه تزعقلى وتحذرنى أن مقربش من هنا تانى؟”
نهض زوجها سريعًا من مقعده، مشيحًا بنظره إلى السكرتيرة حتى تخرج وتغلق الباب خلفها. اقترب منها بغضب، وقد صك على أسنانه بغيظ، وكان قلبه يعاني من صراع داخلي بين مشاعره تجاهها والنار التي أشعلها خيانته، وقال:
“أنتي إيه جابك هنا؟ أنا مش مليون مرة أقولك رجلك متخطّيش المكان ده؟”
هدرت راما بغضب، وقالت من بين شهقاتها:
“مش عايزني أجي هنا علشان تعرف تخوني براحتك صح؟”
أمسك ذراعها بغضب، وبصوت عميق يكاد يخرج عن السيطرة، قال:
“حاجة متخصكيش، مدام مش مقصر معاكي في حاجة يبقى ملكيش دعوة باللي أنا بعمله!”
دفعته بقوة بعيدًا عنها، وعيناها تتألقان بغضبٍ وفقد، وقالت:
“إزاي مليش دعوة؟ أنت جوزي يا أستاذ! لو كنت أنت اللي شوفتني في الوضع ده وقولتلك أنا حرة، كان هيبقى إيه شعورك دلوقتي؟”
صفعها على وجنتها بغضب، والليل الذي يحيط بهما يبدو كظلام يبتلع كل شيء، وقال:
“اخرسي! ده أنا كنت كسرت رقبتك! أنا راجـ.ـل، أعمل اللي أنا عايزه! وبعدين، بلاش تعيشي عليا الدور، أنا عيشتك عيشة عمرك ما كنتي تحلمي بيها. عيشتك في فيلا، خليت عندك بدل العربية عشرة، بقى عندك حساب في البنك، أهلك بيوصلهم شهريّة كل أول شهر. اللي زيك يعيش ويحط جزمة في بؤقه ومينطقش، ولو عايزة تحافظي على مستواكي ده تعيشي، وأنتي ساكته، ملكيش أي دعوة باللي بعمله، فاهمة؟”
نظرت له بانكسار، وحقيقة ما حدث معها تجرح روحها، وقالت بغضب:
“تغور الفلوس، يغور المستوى اللي عايشة فيه! أنا عيشت معاك علشان بحبك، أنت مش بحب فلوسك، وعمرى ما هقبل أشوفك وانت بتخوني! طلقني!”
ابتسم لها باستحقار، وكأن انتصاره جاء على حساب كرامتها، وقال بتهكم:
“لا، صدقتك فعلاً إنك مش بتحبي فلوسي! انتي مفكرة نفسك إيه؟ أوعى تكوني فاكرة إنك واحدة وأنا هُموت عليكي! أنتي بالنسبالي كنتي مجرد نزوة. كنت هموت على جـ.ـسمك. ولما لاقيتك رافضة تسلّمينى نفسك، اتجوزتك، امتع نفسي يومين تلاته، وبعدين كنت ناوي أرميكي رميّة الكلاب. على العموم، كويس إنها جات منك، أنتي طالق يا راما، طالق وبالتلاتة!”
ثم أخرج لها نقودًا وألقاها بوجهها، وكأنها بقايا ذكرياته، وقال باستحقار:
“خدي دول نهاية الخدمة، وكمان تذكرة رجوعك لمصر على حسابي! وكل الهدوم اللي أنتي اشترتيها بفلوسي خديها معاكي!”

نظرت إلى النقود باستحقار، وكأنها ورقة ممزقة تعكس اللامبالاة التي أحاطت بها، وتكلمت بصوت مختنق:
“خلي فلوسك معاك، مش محتاجة حاجة منك، احجزلي بس تذكرة رجوعي لمصر.”
ثم تحركت إلى الخارج، وعادت إلى المنزل. أغلقت الباب خلفها، ودلفت غرفتها، وارتمت على السرير، وظلت تبكي بألم شـ.ـديد حتى تقطعت أنفاسها. في النهاية، اعتدلت على السرير، تنظر أمامها بروح منكسرة وفاقدة للحياة. أوجعت تلك الذكريات قلبها ومضت بخيالها لتعود إلى اللحظات السعيدة التي كانت تملأ حياتها. نهضت بجسد متأرجح، أخذت الأشياء التي تخصها وضعتها في الحقيبة، وكأنها تتخلص من كل ما يعيد لها أوجاع الماضي. وفي هذه الأثناء، أعلن هاتفها عن وجود اتصال. أجابت بصوت حزين، وكأن العواطف تغلبت عليها، وقالت:”نعم.”أتاها صوت رجولي يقول لها:
“تقدري تغوري كمان ساعة، حجزتلك الطيارة.”
فقط وأغلق الخط في وجهها، تاركًا إياها في دوامة من المشاعر المضطربة.نظرت إلى الهاتف بدمـ.ـو.ع، وشاركت وحدة قلبها مع تلك اللحظة، ثم أخذت الحقيبة وغادرت الفيلا متجهة إلى المطار، حيث كانت تأمل أن تجد بداية جديدة بعيدًا عن آلام ماضيها.
………………………………………………….
باااااك…

أنهت كلامها وارتمت داخل أحضان زوجة أخيها مي، وتكلمت من بين شهقاتها، قائلة:
“ده مفكرني أن اتجوزته علشان فلوسه، بس ربنا يعلم أن أنا حبيته بجد، متوقعتش أن هو بالقذارة دي.”
ربت مي على ظهرها بحنو، وتكلمت بنبرة هادئة تشبه نسمـ.ـا.ت الفجر:
“بطلي هبل وبلاش عـ.ـيا.ط، هو ميستهلش دمعه واحده من عيونك، أنا من الأول مكنتش مرتاحة ليه مغرور كده، وشايف نفسه، معرفش على أيه.”
أضافت والدتها بحزن يملأ قلبها:
“طيب نخلي أبوكي يكلمه ويصلح ما بينكم مدام لسه بتحبيه.”
انتفضت مكانها، وحركت رأسها برفض شـ.ـديد، وقالت بغضب يكسو صوتها:
“أوعي يا ماما تعملوا كده، بلاش نرخص نفسنا ليه، هو شايفنا أننا عايشين بفلوسه، وذلني بكلامه ده.”
رد أبوها عليها بحنو وعطف، وتكلم بنبرة حزينة مؤثرة:
“لا عاش ولا كان اللي يذلك يا قلب أبوكي، حقك عليا أنا يا ضنايا.”
نهضت سريعًا وجلست بجواره، وارتمت في حـ.ـضـ.ـنه وتمسكت به بقوة، وقالت:
“طول ما أنت في ضهري هفضل قوية وراسي مرفوع لفوق، ربنا يخليك ليا.”
رد رامي عليها بغضب:
“يغور في داهيه، تشيلوا بكرة يجيلك سيد سيده.”
نظرت له بدمـ.ـو.ع تحجب رؤيتها، وقالت بصوت مختنق:
“لا سيد سيده ولا سيد الناس، أنا خلاص جربت حظي مرة، ومستحيل أكررها تاني، أنا هعيش لوحدي أحسن مليون مرة من اتجوز واحد يكون عينه على جـ.ـسمي وبس.”
نظرت والدتها إليها بحزن، وقالت بصوت مفعم بالحنان:
“قومي يا بنتي ريحي جـ.ـسمك في أوضك، وربك قادر يريح قلبك.”
نهض ياسين ابن أخيها، وتمسك بها ببراءة، قائلاً:
“أنا هنام مع عمته راما.”
حملته على ذراعها وقبلته بحب غامر، وقالت:
“قلب عمته أنت يا ياسين، يلا بينا يا بطل.”
ثم نظرت لهم بابتسامة دافئة، قائلة:
“تصبحوا على خير.”
تحركت إلى غرفتها، ونظرت إليها بشوق شـ.ـديد، إذ أنزلت ابن أخيها وتحركت ببطء، ومررت أصابع يدها على المكتب الخاص بها، ثم أمسكت بلعبة خاصة بها. انهمرت دمـ.ـو.عها عنـ.ـد.ما تذكرت حياتها السابقة، وكيف كانت فتاة مفعمة بالحيوية. جلست على السرير، وضعت يدها على وجهها، لكنها تفاجأت بسؤال ابن أخيها، وهو يقول لها:
“هو انتي ليه مش معاكي أطفال زي ماما وبابا يا عمته؟”
نظرت له بحزن يملأ عينيها، حيث تجددت في ذهنها ذكريات شهور زواجها القصيرة، حين وضعت آمالها وأحلامها ورغباتها الشخصية جانبًا. تذكرت تلك اللحظة التي أشترط فيها زوجها تأجيل الإنجاب، وهي التي كانت تعتقد أنه يريد أن يستمتع بفرحة العيش سويا. لم يكن الأمر مجرد قرار عابر، فقد كانت تحمل موانع الحمل بتلك النية، وابتسمت بوجع في قلبها، وقالت:
“علشان ربنا مرزقش عمته بطفل قمر زيك، وبعدين أنت ابن قلبي أول ما عيني شافت.”
أدخل ياسين سعادتها المفقودة في تلك اللحظة، فاحتضنته ووضعته على السرير، وتمدت بجواره، كما لو كانت تتطلع للمشاركة في براعم الحياة والبراءة التي تملأ قلبه. كما لو أن عودتها للطفولة بين أحضانه قد تذكرها بجوانب من نفسها التي فقدتها. قالت:
“يلا بقى ننام علشان أنا تعبانه أوي من السفر.”
رد عليها الطفل ببراءة، وقال بتساؤل:
“هو انتي هتسافري تاني يا عمته؟”
حركت رأسها بالرفض، وانتابها شعور من الراحة في وجوده، بينما كانت تشعر بشيء من الخوف من فكرة مغادرة المنزل مرة أخرى. قالت بنبرة مختنقة تعكس تداخل المشاعر:
“لا يا حبيبي، قاعده معاكم هنا على طول، ويلا بقى نام بلاش أسأله كتير.”
أغلق الطفل عينيه، وبعد وقت ذهب في سبات عميق. عنـ.ـد.ما تأكدت أنه نام، نهضت من جواره، واتجهت إلى المرحاض، حيث أخذت حماماً دافئاً لتغسل عن نفسها تعب اليوم ومشاعرها المتناقضة. ثم خرجت، ارتدت ملابسها، وتمدت بجوار الطفل. ظلت تفكر فيما حدث لها حتى غلبها النعاس وذهبت في نوم عميق، في عالم من الأحلام التي تنسجها أفكارها وترتبط بأيام لم تكن تعرف فيها الألم، حيث كانت ترى الأمل في كل زاوية من زوايا حياتها.
………………
بعد مضي عدة شهور على الأيام العصيبة التي عاشتها راما، استيقظت من نومها على صوت ياسين، ابن أخيها. كان ينادي باسمها بحماس يشبه شعلة من النور، محاولاً أن يجعل صباحها أكثر بهجة. فتحت عينيها بصعوبة، وتحسست الأحلام التي كانت تراوضها قبل أن تستيقظ، ثم قالت بنعاس متصل بالمشاعر:
‘فيه أيه يا ياسين على الصبح كدة؟’
تكلم بطفولية، وكأن قلبه مليء بالأمل، بينما كان وجهه مليئًا بالرجاء، فقال بترجي:
‘عندي تمرين سباحة في النادي، وبابا في الشغل مش هيعرف يوديني، وماما تعبانه من الحمل، ومش لاقي حد يوديني. بليز يا عمته قومي انتي وديني.’
هنا، شعرت راما بمزيج من التعاطف والتعب؛ ردت عليه بألم، إذ شعرت بالتعب يؤثر عليها:
‘معلش يا ياسين، مش قادرة والله تعبانه.”
أدرك ياسين ما تعانيه عمته، لكن براءته دفعت به لنظرة حزن مختلطة بغضب طفولي، ثم تركها وخرج من الغرفة. نظرته جعلتها تشعر بنبض القلق في قلبها. زفرت بضيق ونهضت بصعوبة من على السرير، وكأن كل خطوة تتطلب جهدًا كبيرًا، ثم دلفت إلى المرحاض لتجهيز نفسها لتحضير أيام كثيرة مليئة بالتحديات. وبعد لحظات، خرجت، مرتدية ملابسها وممشطة شعرها، متمنية أن تبدو قوية. خرجت من غرفتها، واتجهت إلى غرفة ياسين، حيث كان يجلس على سريره بوجه عابس، يحمل أحمال العالم على كاهله. تحركت نحوه وجلست بجواره، محاولة تنقله من عالم الحزن إلى عالم الفرح، وقالت بمزاح:
“ينفع كده يعني أجهز وحضرتك لسه مجهزتش؟”
نظر لها بضيق، وتكلم بغضب طفولي:
‘مش رايح خلاص يا عمته، جهزتي نفسك على الفاضي.’
لم تستطع راما إلا أن تضحك على براءته، نظرت له بابتسامة مازحة، ثم بدأت تدغدغ فيه، وكأنها تعيد الحياة إلى روح الصغير، وتكلمت بمزاح:
‘ما هو لو مجهزتش نفسك حالا هفضل أزغزغ فيك كده لحد ما تقول حقي برقبتي.’
تعالت ضحكات الطفل بسعادة، وكأنها أكدت له أن الحياة تستحق العيش، وتكلم بصعوبة:
‘خلاااص يا عمته، هجهز والله، إحنا آسفين يا صلاح.’
احتضنته بحب، وكان ذلك الحـ.ـضـ.ـن يحمل معاني كثيرة، وقالت بابتسامة حنونة:
‘حبيب قلب عمته، يلا يا بطل، ربع ساعة والاقيك جاهز فاهم.’
ثم خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، وجدت والدتها تجلس على الأريكة تنظر إلى الفراغ بركنية ملامحها. جلست بجوارها، وكأنها ترغب في العودة إلى تلك الأوقات البسيطة، وقالت بابتسامة:
‘قاعدة كده ليه يا سمسمه بس؟’
ابتسمت لها بحزن، وكأن حياتها حقيبة مثقلة بالأفكار، وقالت:
‘قاعدة يا بنتي هعمل إيه بس، مافيش حاجة ورايا.’
وضعت رأسها على كتف والدتها، وكأنها تبحث عن الأمان، وقالت:
‘يا ستي فرفشي كده وسبيها على ربنا.’
ربتت والدتها على يدها، وتكلمت بنبرة حنونة:
‘ونعم بالله يا حبيبتي، ربنا يسعد قلبك ويرزقك بأبن الحلال اللي يعوض صبرك خير.’
زفرت راما بضيق، وكأنها تتوسل، وتكلمت بصوت مختنق بترجي:
‘أبوس إيدك يا ماما، بلاش كلام في الموضوع ده، مش كل يوم تتكلمي فيه. شيلي الفكرة دي من دماغك علشان أنا عمري ما هفكر في الجواز تاني.’
وفى ذلك الوقت، خرج ياسين من الغرفة كنسمة بهجة، وقال:
‘خلصت يا عمته، يلا بينا.’
استقامت راما بجسدها، وأمسكت بيد ياسين، وكأنها تتمسك بأمل جديد، وقالت بابتسامة حزينة:
‘يلا يا حبيب عمته.’
هبطوا إلى الأسفل، حيث أوقفت سيارة أجرة، كان السائق يتطلع إليهم بابتسامة لطيفة، واتجهوا إلى النادي. نظرت سامية إلى أثرهم وكأنها تخشى أن تفوتها لحظة من لحظات الحياة، وتكلمت بدعاء:
‘ربنا يرزقك بأبن الحلال اللي يسعدك ويفرح قلبك يا بنتي، يارب.’
………………………………………………….
بعد وقت، وصلت راما ومعها ياسين إلى النادي، ودلفوا إلى الداخل. ترك الطفل مكانه ليتجهز لتمرينه، بينما ظلت راما تتأمل حولها بتـ.ـو.تر، وكأن أعين الناس تخترقها. تراجعت إلى الوراء بعض الشيء، لكنها اصطدمت بشيء صلب، مما جعلها تنتفض في مكانها. استدارت سريعاً، وقالت بأسف:
“ا ا انا اسفه مقصدش والله.”
ابتسم الرجل الذي اصطدمت به، بهدوء، وقال بنبرة رجولية:
“حصل خير يا مدام راما.”
نظرت له باستغراب وسألته بتساؤل:
“هو حضرتك تعرفني!؟”
أومأ برأسه بالتأكيد وقال بتوضيح:
“أيوه، أنا عمر، صاحب رامي ومي من أيام الجامعة.”
استمرت في تحديد النظر إليه بتمعن، ثم قالت بأسف:
“سوري، مش فاكره حضرتك، عن إذنك.”
بعد ذلك، تركته وتحركت بسرعة من أمامه. شعر عمر بالدهشة عنـ.ـد.ما رأى ملامح القلق تجتاح وجه راما، وكأنها تغرق في دوامة من الذكريات المحرجة. نظر عمر إلى أثرها بتعجب، ثم توجه إلى الداخل.بعد لحظات، جلست راما تتابع ياسين خلال التمرين، وتفاجأت عنـ.ـد.ما اكتشفت أن هذا الشاب هو من يمرن ابن أخيها. كان ياسين يتنقل بخفة بين الحواجز، كل حركة تملؤها الطاقة والحماس. ظلت تبتسم بسعادة هي ترى ياسين سعيداً وهو يتمرن، ولوح لها بيده لتقترب منه. حركت رأسها بالرفض، لكنه، أصر على ذلك. نهضت من مقعدها واقتربت منه، وتحدثت بتساؤل:
“عايز أيه يا ياسين؟”
أجابها ببراءة الأطفال، وقال بسعادة:
“أيه رأيك فيا النهاردة، كنت شاطر؟”
مالت بجسدها وقبلته بابتسامة دافئة، وقالت:
“ابن قلبي شطور ومافيش منه اتنين، لسه بدري؟”
حرك كتفيه بعدم معرفة، وقال:
“مش عارف، اسألي كابتن عمر.”
أومأت برأسها، وتحركت نحو المدرب، وسألته بتردد:
“لو سمحت، ياسين خلص ولا لسه؟”
أجابها بتوضيح:
“أيوه خلاص كده، ممكن يروح يغير هدومه. ولو كده، استنوا أوصلكم على سكتي، وبالمرة أشوف الوا.طـ.ـي رامي، بقاله فترة مش بيسأل عليا.”
تنهدت بضيق، لكنها ابتسمت له برفق، وقالت:
“أنا آسفة، حضرتك مش بركب عربيات مع حد غريب، تقدر تتواصل مع صاحبك براحتك، عن إذنك.”
ثم تركته، وأمسكت يد ياسين، وتحركت به نحو غرفة تبديل الملابس. انتظرت بالخارج حتى انتهى، وخرج لها، ثم انطلقوا إلى خارج النادي. أوقفوا سيارة أجرة، وعادوا إلى المنزل.
………………………………………………….
في المساء

تجمعت العائلة حول طاولة الطعام، حيث خيم الصمت على المكان كما لو كان يحيطهم بسحابة من الكأبه. كسر رامي هذا الصمت بنظرة تجاه راما وسأل بفضول:
“هو انتي قابلتي عمر صاحبي النهاردة؟”
أومأت راما برأسها بالإيجاب، رغم أن عينيها حملتا بعض الضيــق، ثم أجابت:
“اممم، روحت النهارده تمرين السباحة مع ياسين، وخبط فيه، بس أنا معرفتهوش الصراحة، هو اللي عرفني على نفسه. وقالي إنه صاحبك، وكمان أتفاجئت إنه المدرب بتاع ابنك. ولما خلص، عرض عليا يوصلنا، بس أنا رفضت.”
ابتسمت مي، زوجة رامي، وقالت بحماسة:
“عمر ده ما شاء الله عليه، أدب إيه وأخلاق ميختلفش عليه اتنين، وشاطر أوي في شغله الصبح وفي شغلة بليل في النادي.”
نظرت إليها راما بعدم اهتمام، مما خلق جواً من التـ.ـو.تر، وردت بتهكم:
“مالك يا أختي، كأنك بتخطبي ليه؟ اهدي شويه على نفسك، وانتي بقيتي شبه القنبلة كده.”
ردت مي بضيق، محاولة الدفاع عنه:
“تصدقي إنك مش وش نعمة! ده شاب طول بعرض رياضي وقمور وذكي، والبنات كلها هتموت عليه. طيب، ده أنا جبتله عرايس أشكال وألوان، وهو اللي رافض فكرة الجواز.”
زفرت راما بضيق وتحدثت بصوت مختنق:
“اديكي قولتي بنات يا مي، مش واحدة مطلقة. وأنا أصلاً عمري ما هفكر أكرر التجربة دي تاني. ياريت تهدي شويه أنتي وماما، وبلاش شغل رايا وسكينة ده، علشان مش هينفع معايا…”
ثم استقامت بجسدها وقالت بضيق:
“الحمدلله، شبعت. تصبحوا على خير.”
تحدث رامي باستغراب:
“ايه ده هتنامي من دلوقتي يا راما، لسه بدري. خليكي قاعدة معانا شويه.”
حركت رأسها بالرفض وأجابت بوجع:
“لا يا رامي، مصدعة شوية وعايزة أنام.”
تركتهم وتوجهت إلى غرفتها، بينما نظر رامي إلى أثرها بحزن، وعاد بنظره إلى زوجته بضيق. ثم قال بصوت غاضب:
“عجبك كده؟ فيها ايه لو تحطي لسانك في بوقك شوية، هي كانت قاعدة على قلبك، ما تسبيها براحتها. وبعدين انتي بتتكلمي نيابة عن عمر ليه، هو قالك إنه معجب بيها؟”
رفضت مي ذلك، وبتوضيح قالت:
“آه يا رامي، قاعدة على قلبي ومتربعة كمان. راما أختي وبحبها، ونفسي ربنا يرزقها براجـ.ـل بجد يعوضها عن اللي شافته مع زفت الطين ده، وكمان عمر شاب ميتعوضش. قولت أجس نبضها هي الأول، لو وافقت، قولت أكلمه عليها.”
أغلق رامي عينيه حتى يهدأ قليلاً، ثم قال بغضب:
“انتي عارفة لو مبطلتيش كلامك المستفز ده، هوديكي بيت أهلك لحد ما لسانك يعرف يفكر في الكلام قبل ما ينطقه.”
تحدث والده بنفاذ صبر:
“كفاية خناق منك ليها، وكملوا أكلكم وانتوا ساكتين.”
نظر رامي إلى مي بضيق، ثم نهض من مقعده، وقال بغضب:
“شبعت، الحمدلله. عن إذنكم…”
أنهى كلامه وتحرك تجاه غرفته. نظرت مي إلى سامية بتـ.ـو.تر، ثم نهضت وقالت:
“الحمدلله، شبعت عن إذنكم.”
وتركتهم، وتوجهت خلف رامي إلى الغرفة، دلفت إلى الداخل وجلست بجواره، وقالت بأسف:
“أنا آسفة، مقصدش والله أزعل راما. أنا نفسي ربنا يرزقها براجـ.ـل بجد يعوضها عن الحزن اللي شافته، بس والله العظيم هو ده اللي أقصده.”
نظر إليها بضيق، وقال:
“فيه فرق بين أنك تتمني الخير لحد، وانك انتي تسمي بدنه طول الوقت. ده يدوب لسه مخلصه العدة بتاعتها من كام يوم، وخارجة من تجربة صعبة. نهدا عليها بقى شويه اللى فيها مكفيها. أنا عارف أنك عبـ.ـيـ.ـطة، واللي بتقوليه ده كلام ماما.”
نظرت له بتـ.ـو.تر، وأوضحت:
“حتى لو كلام ماما، ما هي عايزة مصلحتها وتشوفها سعيدة. راما بقت شبه الوردة الدبلانة يا رامي، نفسنا ترجع تاني زي الأول، نفسنا ضحكتها ترجع تترسم تاني على وشها.”
أخذها داخل أحضانه، وقبل رأسها بحب، وتنهد حزناً، وقال بتمني:
“إن شاء الله، هترجع أحسن من الأول. بس هي مسألة وقت مش أكتر.”
تمسكت به بقوة، وقالت بابتسامة حنونة:
“إن شاء الله يا حبيبي، بس أنا برضه عند رأي عمر، شاب ميتعوضش. إيه رأيك نقربهم لبعض؟”
أغلق عينيه بضيق، ثم قال بنفاذ صبر:
“مممممي، شيلي الموضوع ده من دماغك. ولو ليهم نصيب مع بعض، ربنا هيجمعهم من غير أي مجهود مننا.”
ابتسمت ابتسامة هادئة، وقالت:
“خلاص، خلاص، متتعصبش كده.”
أنهت كلامها وهي داخلها تخطط لما تريد فعله مع راما وعمر، بينما كانت تتداعى إلى نفسها كل التفاصيل الصغيرة التي قد تساعد في دفع الأمور نحو الاتجاه الصحيح، كتنظيم لقاء غير رسمي يجمع بينهما في جو مريح، بعيداً عن ضغوط الحياة اليومية، حيث يمكن أن يتحدثا ويتعرفا على بعضهما بشكل أفضل. كانت تشعر أن هناك أملاً بداخلهما، أملاً يمكن أن يولد شيئاً جديداً وجميلاً، إلا أنها كانت تعلم أيضاً أن الأمر يحتاج إلى وقت وصبر، ورغم ذلك، كانت مصممة على أن تفعل كل ما يمكنها لجعل راما تشعر بالسعادة مرة أخرى وتعيد الأمل إلى حياتها.
………………………………………………….
دخلت راما غرفتها، حيث انقضت على فراشها ببطء، وتركت نظرها معلقًا إلى السقف. أخرجت تنهيدة حارة، وانهمرت الدمـ.ـو.ع من عينيها عنـ.ـد.ما تذكرت ذكرياتها مع زوجها السابق. شعرت كما لو كان قلبها يتمزق من شـ.ـدة الألم والاشتياق، وأمسكت هاتفها بيد مرتجفة. بدأت تعرض الصور الخاصة بهم، وتذكرت ذلك اليوم المشمس الذي قضياه معًا على الشاطئ، حيث كانت ضحكاتهما تتعالى فوق زقزوق الطيور وأمواج البحر المتلاطمة. تحدثت بصوت حزين يمزقه الفراق:
“لييييه عملت فيا كده؟ انا حبيتك بجد، عمري ما بصيت على فلوسك ولا فكرت في شركاتك. بسببك قلبي بينزف، والدنيا بقيت أشوفها بلون واحد بس أسود . نفسي أتخطى حبك وأعيش حياتي من جديد، بس بجد مش قادرة. لسه كل ده بحبك، وكان عندي أمل ضعيف أن أوحشك، وترجع تكلمني وتصلح الأمور ما بينا، بس طلعت عبـ.ـيـ.ـطة وكالعادة خيبت ظني فيك.”
أنهت كلامها وهي تحتضن الهاتف الذي يحتوي على صورتهم معًا، الصورة التي كانت تعني لها العالم بأسره؛ حيث كانوا يبتسمون وسط الزهور الملونة، وكانت الأيام هناك أكثر إشراقًا. ثم أغلقت عينيها، وغرقت في سبات عميق، وكأنها تبحث عن هدوء في عالم من الفوضى التي تملأ قلبها. كانت الأحلام وذكراهم تداهمها، وتستحضر معها شعور الأمل الذي كان يعيش داخلها، لكن كل ذلك الآن يبدو بعيدًا، كنجوم تائهة في سماء مظلمة، ولم تعد تعرف كيف تعيد بناء نفسها بعد كل هذا الانكسار.
………………………………
باليوم التالي…

استيقظت راما من نومها بتكاسل، نهضت بصعوبة من على فراشها المريح، وتوجهت إلى المرحاض. بعد قليل، خرجت وارتدت ملابسها، ثم مشطت شعرها بعناية، وخطت خطوات خفيفة نحو باب غرفتها. لكن بينما كانت تتجه للخارج، استمعت لصوت رجولي يتحدث بلطف. شعرت بالفضول والتساؤل، فتوجهت نحوهم، لتتفاجأ بوجود عمر، الذي يحمل دائمًا معه هالة من الهيبة ووداعة. كان يحادث والدتها بلهجة حانية، لكن راما لم تستطع منع فضولها من دفعها للاستفسار عن الأمر ولماذا جاء في هذا الصباح الباكر. تكلمت بنبرة جادة وقالت:
“السلام عليكم.”
ابتسم لها بلطف وقال بنبرة هادئة:
“وعليكم السلام صباح الخير يا مدام راما.”
نظرت له باستغراب، وبتساؤل في عينيها، سألت:
“خير يا أستاذ عمر جاي من صباح ربنا هنا ليه؟”
تحدثت والدتها بضيق، متسائلة عن أسباب كلام راما:
“عيب يا بنتي، إيه اللي انتي بتقوليه لراجـ.ـل ده؟”
حركت راما رأسها بضيق، وأجابت بعدم اهتمام:
“قولت إيه يا ماما؟ بسأله عادي.”
ابتسم عمر مرة أخرى، مؤكدًا بنبرة هادئة:
“عادي يا طنط، هي مقالتش حاجة غلط…”
ثم نظر إلى راما وتحدث بتوضيح:
“مامت ياسين طلبت مني أجي أخده معايا النادي علشان هي تعبانه من الحمل، ورامي اليومين دول عنده ضغط شغل، فأنا جيت أخد ياسين وماشي على طول، آسف جدًا على الإزعاج.”
زفرت راما بضيق وتنحنحت بإحراج، قائلة:
“سوري، ما قصدتش، بس ياريت حضرتك متتعبش نفسك بعد كده، وأنا هجيب ياسين التمرين في ميعاده.”
كانت تشعر بحساسية الموقف، خاصةً بسبب وجود والدتها. كان عمر ذات شخصية عميقة، يحظى بتقدير الجميع، لكن راما شعرت بأنها تود أن تكون أكثر استقلالية في قراراتها وتفاصيل حياتها.وفي تلك اللحظة، خرج ياسين من غرفته، وركض نحو راما، محتضنًا إياها بسعادة، وقبلها بحب. ثم اتجه إلى عمر واحتضنه بشغف، قائلاً بفرحة طفولية:
“أنا فرحان أوي يا كابتن أن هروح معاك النهاردة النادي.”
ربت عمر على ظهره بابتسامة، وقبل رأسه بحب، ثم قال:
“وأنا فرحان أكتر منك، بس إيه رأيك لو أمشي وتيجي مع عمته أحسن؟”
تنحنحت بإحراج، وبدت متـ.ـو.ترة وهي تقول بصوت مهتز:
“أحم ل ل لا، خلاص تقدر تخده معاك النهاردة مدام جيت الطريق ده كله.”
شعرت ببعض الانزعاج من فكرة الحاجة إلى الاعتماد على عمر بهذه الطريقة، حيث كانت تعي جيدًا أنها لا تزال بحاجة إلى أن تكون قوية ومستقلة.تكلم ياسين بضيق، معبرًا عن إحباطه:
“انتوا هتحدفوني لبعض خلاص، مش عايز أروح.”
اقتربت راما سريعًا، وضعت يدها عليه في نفس الوقت الذي وضع فيه عمر يده، فتلامست أيديهما. انتفضت راما بتـ.ـو.تر، وأبعدت يدها بسرعة، قائلة بتلعثم:
“م م متزعلش يا حبيبي، منقصدش نحدفك لبعض، بس أنا عايزة أوصلك بعد كده علشان عمته بتزهق من القاعدة في البيت لوحدها.”
شعرت بأنها بحاجة إلى توضيح نواياها، خاصة مع وجود عمر الذي قد يساء فهم موقفه إذا فكرت في الأمر بشكل غير دقيق.نظر لها بأسف، وقال:
“ا ا أنا آسف، مقصدتش اللي حصل ده.”
ابتسمت له بتـ.ـو.تر، قائلة:
“ح ح حصل خير، عن إذنكم.”
تحركت من أمامهم، واتجهت إلى غرفة مي. طرقت على الباب بضيق، وبعد ثوانٍ، فتحت لها، فاندفعت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفهم بغضب، ثم تحدثت بلهجة حادة:
“أنتي مش هتفكك من الشغل ده؟ أنتي اتصلتي ليه بعمر؟ ما أنا لما بتطلبي مني أودي ابنك النادي بوديه. كلي عيش يا مي واهدي شوية، علشان متروحيش بيت أهلك تشرفي فيه وتولدي عندهم.”
نظرت لها مي بتـ.ـو.تر. قالت:
“ها ق ق قصدك إيه م م مش فاهمة ح ح حاجة؟ ا ا أنا اتصلت بعمر كصديق ليّا أنا ورامي، بس مش أكتر.”
ضغطت راما على أسنانها بغضب، وردت بنفاذ صبر:
“مي، أنا بتكلم بجد، اللي في دماغك مستحيل ده يحصل. أنا مش بفكر في الجواز وموضوع الخاطبه اللي أنتي وماما ماشية فيه ده مش هيمشي معايا. أنا المرادي عدتها، بس أقسم بالله لو حصل ده تاني، هقول لرامي، وهحرق دم صديق العيلة، وهخليه يقطع علاقته بيكم تاني، مفهووووم.”
أنهت حديثها، وخرجت من الغرفة بغضب شـ.ـديد، متوجهة إلى غرفتها. دفعت الباب بقوة، وجلست على سريرها، وأرجعت شعرها إلى الخلف، وانهمرت دمـ.ـو.عها بغزارة، تائهة وسط ذكرياتها. كانت تشعر وكأنها تعيد إحياء مشاعر مختلطة من الارتباك, والغضب، والقلق بشأن مستقبلها، حين كانت تفكر في كل الضغوط التي كانت تفرض عليها.
………………………………………………….
في المساء…

أنهى عمر تمرين ياسين وأوصله إلى منزله، حيث عكست الشمس الغاربة ألوانها الدافئة على الواجهات الزجاجية للمنازل. ثم وقف أمام الباب ورفض الدخول، وكأن هناك حاجزاً غير مرئي يمنعه من عبور تلك العتبة. تكلم رامي بإصرار، قائلاً:
“والله، لتدخل! أنت هتتكسف يا ابني، مافيش حد غريب جوه.”
كان صوت رامي يختلط بنسيم المساء، فيجعل من الموقف أقرب إلى الألفة السابقة التي عاشوها معاً. تنحنح عمر برجولية وظهر عليه بعض التـ.ـو.تر، فقال:
“م م، معلش مرة تانية، مش عايز أزعج حد.”
نظر رامي إليه بعدم فهم وتساءل:
“تزعج مين، يا ابني؟ أنت عبـ.ـيـ.ـط! ده من إمتى؟ ده أنت على طول بتيجي وتاكل معانا وتسهر.”
ابتسم عمر له بتـ.ـو.تر وقال بتوضيح:
“م م، مكانش اختك موجودة.”
فهم رامي قصده وأومأ برأسه تفهماً، وقال:
“معلش لو طريقة راما حادة شوية معاك. هي بقت كده من ساعة ما رجعت من السفر، ماما حكت ليا اللي حصل الصبح ما بينكم، وده جاي من ضغط حياتها.”
ابتسم عمر له بلطف ورد بنبرة هادئة:
“أنا مش زعلان منها والله، ولا اضايقت. بس مش حابب أزعجها.”
وفي تلك اللحظة، جاءت مي وتحدثت بمزاح:
“فيه إيه يا عم، ادخل وخلص الأكل برد.”
تعالت ضحكاته الرجولية وقال بمزاح:
“شكلك بقى مسخرة يا مي، أدي اللي أخديه من الجواز والخلفة.”
ردت عليه بمزاح قائلة:
“يارب يا عمر، يا ابن أم عمر، يوعدك بعروسة تعذبك وتطلع عينك علشان تبقى تعرف تضحك على شكلي!”
ابتسم لها وقال بمزاح:
“بعد الشر عليَّا، إن شاء الله جوزك رامي.”
تكلمت بصراخ وعلت نبرتها قائلة:
“بعد الشر! كده يا عمر بتدعي عليا وعايز جوزي يتجوز عليا!”
كانت راما تستمع لهما، وارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تسمع مزاحهم، لكنها تفاجأت عنـ.ـد.ما وجدتهم يجلسون أمامها حول طاولة الطعام، ارتسمت الجدية على وجهها وأكملت طعامها بصمت تام، وكأن البهجة تلاشت من المكان.عنـ.ـد.ما بدأ عمر يتكلم، نظر إلى راما وسأل بتساؤل:
“إنتي مش حابة تنزلي تشتغلي، يا مدام راما؟”
رفعت عينيها عن طبق الطعام الخاص بها، ونظرت إليه باستغراب، قائلة:
“أمم، أنا فعلاً كنت لسه بفكر في موضوع الشغل ده النهاردة، بس حضرتك بتسأل ليه، خير؟”
أجابها بابتسامة لطيفة هادئة قائلاً:
“بسأل لأن عندي في الشركة اللي شغال فيها، محتاجين محاسبين أكفاء. وعلى حد علمي إنك كنتي شغالة محاسبة قبل كده في شركة جوز، أحم أقصد في شركة اليسر.”
تنهدت راما بحزن وأومأت برأسها تأكيداً، قائلة:
“أيوه، كنت شغالة في قسم المحاسبة، بس أنا مش بفكر أشتغل في شركات تاني، أنا بشوف بنك أشتغل فيه. الاحترافية هناك أحسن.”
ابتسم لها وتحدث بنبرة جادة لكنها قاسية:
“على فكرة، الرجـ.ـا.لة في كل مكان، سواء في شركة أو بنك، يعني مش هت عـ.ـر.في تهربي منهم.”
نظرت له بغضب، وضغطت على أسنانها بقوة، وقالت:
“وإنت مالك، حد طلب منك المساعدة؟ خليك في حالك ومتدخلش في اللي ملكش فيه.”
ابتسم لها بهدوء، وسأل:
“هي الحقيقة بتوجع أوي كده!؟ كل واحد فينا لازم يتجاوز شبح الماضي.”
استقامت بجسدها وحركت أصابعها بتحذير، قائلة:
“ايااااك تتكلم معايا بأسلوبك ده تاني! فاااهم؟ وياريت متتكلمش معايا خالص علشان ما أقلش منك.”
استقام هو الآخر بجسده ونظر إليها بتحدي، قائلاً:
“وأنا مش بتهدد، ولا واحدة تقدر تقولي أعمل إيه ومعملش إيه، وأنا عندك، أهو، وريني هتعملي إيه.”
رفعت يدها كي تصفعه، لكنه أمسك بيدها وتحدث بتحذير:
“أياااكي تفكري تعمليها، علشان إنتي لسه متعرفنيش.”
في تلك الأثناء، تحدث والد راما بغضب:
“خلصت انت وهي؟”
ترك عمر يد راما، وتنحنح بإحراج، وقال بأسف:
“أنا آسف يا عمي،ا ا أنا مكنتش أقصد كل ده، أنا كنت عايز أساعدها، مش أكتر.”
تحدثت راما بغضب، قائلة:
“الله والغني عن مساعدتك، مش عايزة منك حاجة.”
رد والدها عليها بغضب شـ.ـديد، قائلاً بنفاذ صبر:
“ررراما، كفاية كده، عيب الراجـ.ـل في بيتنا.”
نظرت بغضب شـ.ـديد إلى عمر، وقالت بصوت مختنق:
“الحمدلله، شبعت، عن إذنكم.”
تركتهم واتجهت نحو غرفتها، تاركة خلفها أجواء مضطربة. شعرت أن كل شيء قد تحطم بين الحضور.نظر عمر بأسف وقال بصوت مختنق:
“أنا آسف والله يا جماعة، مكنتش حابب أسبب ليكم أزعاج، رامي ومي هما اللي أصروا إن أدخل.”
تحدث رامي بأسف، قائلاً:
“أنا آسف يا عمر، راما أعصابها تعبانة أوي الفترة دي، وعلى طول عصبية بالشكل ده.”
ابتسم له بلطف وتحدث بنبرة هادئة:
“حصل خير يا رامي، أنا مش زعلان والله، أتمنى بس مكونش أزعجت مدام راما. أنا لازم أمشي بقى عن إذنكم.”
تحدث والد راما سريعاً، قائلاً:
“أقعد يا عمر، كمل أكلك، انت طول عمرك واحد مننا، مافيش إحراج ما بينا.”
أومأ رأسه بالطاعة وجلس احتراماً له، وتناول الطعام في صمت، كأنه يفكر في ما جرى. كانت الرغبة في استمرار الحوار ما زالت تعصف برأسه، لكنه كان يدرك حدود الموقف.نظرت سامية إلى مي وغمزت لها، تشير إلى سير الخطة كما يريدون، حيث تبدو بصمـ.ـا.ت السعي لتحقيق الهدف واضحة في عيونهم، رغم كل ما حدث.
………………………………………………….
دلفت راما إلى غرفتها، بينما كانت الدمـ.ـو.ع حبيسةً داخل عينيها، شعرت باختناق شـ.ـديد مما حدث خارجاً. لم يكن بوسعها الإحساس بنفسها إلا عنـ.ـد.ما وضعت الهاتف على أذنيها. لحظات مرت، ثم جاء صوت رجولي يقول لها:
“ألو، مين معايا؟”
تخللت صوت الضحكات النسائية من حوله، ضحكات كانت خليعة ومزعجة، كأنها كانت تتراقص مع آلامها، تزيد من قسوة اللحظة. تحدثت، رغم شهقاتها، بصوت مختنق، كأن كل كلمة كانت تحتاج إلى جهد هائل لتخرج:
“أنا مش قادرة أعيش من غيرك، حياتي واقفة على اللحظة اللي بعدنا عن بعض فيها، أنا بموت يا ياسر.”
رد عليها بغضب شـ.ـديد، وصراخه كان كالصاعقة التي تصم أذنيها، يخترق كل دفاعاتها:
“أنتي!! عايزة إيه مني؟ أنتي بـ.ـاردة معندكيش دم، قولتلك اللي فيها. أنتي مجرد نزوة عندي، مش أكتر. ياريت تمسحي رقمي ومتتصليش بيا تاني، فاهمة؟”
أنهى كلامه بإغلاق الخط في وجهها، تاركاً خلفه صدى كلمـ.ـا.ت كالصخور الثقيلة تضغط على صدرها. انزلت يدها ببطء، والدمـ.ـو.ع تتسابق على وجنتيها، وكأنها تجري نحو الخروج من قيد الحزن الذي أحاط بها. سقط الهاتف من قبضتها، ارتعش جسدها كمن ضـ.ـر.به صاعقة، مع كل اهتزاز شعرت بأن روحها هي الأخرى قد تشتت. تمددت على فراشها، وضمّت قدميها إلى صدرها كطفلة صغيرة تبحث عن الأمان في حـ.ـضـ.ـن مألوف، وظلت تنتحب حتى تقطع قلبها، محاولةً في صمت إيصال ألمها إلى الكون، علّ أحداً يسمع أنينها. شعرت برغبة ملحة للهروب من واقعها المرير، كأن الجدران الأربعة تحاصر أنفاسها، فأغمضت عينيها، مستسلمةً لنومها، ذاهبةً إلى عالم خيالي وردي حيث لا مكان للخيبة ولا للألم، بل فقط أشباح لذكريات كانت تجلب لها السعادة، تلك السعادة التي تبددت كسراب.
………………………………………………….
بعد مرور عدة أيام…

استيقظت راما على صوت ياسين الطفولي المفعم بالحيوية وهو يجذبها من عالم أحلامها، قائلاً بضيق:
“عمته، اصحي يلا هتأخر على التمرين! يوووه يا راما، العصر هيأذن، وانتي كل ده نايمه!”
فتحت عينيها بصعوبة، وتدور في ذهنها دوامة من الأفكار، محاولة أن تعي ما يحدث حولها. شعرت بإرهاق شـ.ـديد وكأن ثقل العالم بأسره قد وُضِع على كاهلها، وتكلمت بصوت ضعيف متحشرج:
“فيه أيه يا ياسين على الصبح، أنا تعبانه بجد النهاردة.”
أمسك ياسين بيده الصغيرة وشـ.ـدها بضعف، وبصوت غاضب لكنه لا يخلو من الطفولة قال:
“قووومي يا راما علشان خاطري، النهاردة أخر تمرين قبل البطولة, ومش عايزك تخسريني!”
أثارت كلمـ.ـا.ته حماستها، فرغم التعب الذي ينهش جسدها، إلا أن شعور المسئولية تجاه ياسين ودعمه جعلها تنهدت بضيق وأومأت برأسها بالموافقة، مرددة بصوت خافت:
“خلاص يا ياسين، صحيت… روح اجهز على ما أجهز أنا كمان.”
ركض الطفل بحماس إلى الخارج، كأنما كانت لديه طاقة لا نهائية، بينما نهضت راما بصعوبة من على فراشها. اتجهت إلى المرحاض باحثة عن أي انتعاش يمكن أن يجدد نشاطها، وبعد برهة من الوقت، خرجت من غرفتها متوجهة بهدوء نحو المطبخ. لاحظتها والدتها التي كانت في المطبخ، تقدمت إليها وتكلمت بتساؤل:
“مالك يا راما، شكلك تعبانه؟”
ردت بصوت خافت، وكأن الكلمـ.ـا.ت تخرج بصعوبة من جعبتها:
“شكلي داخل عليا دور برد، مكنتش قادرة أقوم من على السرير… بس ياسين عنده تمرين مهم جداً، ومقدرتش أقوله لاء علشان ميزعلش.”
تابعت والدتها بقلق، كانت تعرف جيداً مدى أهمية ذلك التمرين بالنسبة لياسين، وكانت تحرص على عدم إزعاجه أو تقليل حماسه. أومأت برأسها بتفهم، وقالت بنبرة حنونة وهي تضع يدها على كتف راما:
“ربنا يجبر بخاطرك يا بنت بطني.”
وفي تلك الأثناء، خرج ياسين من غرفته، وهو يقول بحماس:
“يلا يا عمته، أنا جاهز! مش هكون خسران!”
ابتسمت راما له وأومأت برأسها بالموافقة، ثم تحركوا معاً تجاه الباب، حيث انطلقوا وهبطوا السلم إلى الأسفل. قبل أن يصلوا إلى الباب، شعرت راما بنبض قلبها يسرع بقوة من شـ.ـدة الإرهاق التي تشعر به. ركبوا سيارة أجرة انطلقت بهم نحو النادي، بينما شغلت ياسين حماسته، ولم تكن راما بعيدة عن ذلك، رغم الشعور بالإرهاق الذي قاومته في أعماقها.وفي هذه الأثناء، توجهت سامية إلى غرفة مي، طرقت الباب برفق حتى فتحت مي الباب ودلفت إلى الداخل. جلست بجوارها على السرير، وقالت بحنان وقلق:
“بت يا مي، اتصلي على عمر وقوليله يخلي باله على راما، لأنها تعبانه أوي. محبَتش تزعل ياسين ودته التمرين، علشان لو احتاجت حاجة، لازم يكون جنبها.”
أومأت مي برأسها بالطاعة، فقالت:
“حاضر يا ماما، هكلم عمر على طول.”
ثم أمسكَت الهاتف وأجرت اتصالاً، منتظرةً الرد لبضع ثوانٍ وهي تشعر بقلق. سمعت صوت عمر يأتي عبر الهاتف وهو يقول:
“خير يا أم كرش متصلة ليه؟”
ابتسمت على كلمـ.ـا.ته، وردت بمزاح:
“بلاش انت يا أبو طويلة، المهم بقولك، راما جايه عندك مع ياسين علشان تحضر معاه التمرين. خلي بالك منها لأنها نزلت وهي تعبانه أوي، ومحبتش تزعل ابني.”
تنهد عمر بضيق، ورد بصوت مختنق:
“مع إنها مش بترضى تتكلم معايا خالص، بس حاضر هاخد بالي منها. حاجة تاني؟”
ابتسمت بلؤم وقالت بنبرة مازحة:
“خد بالك منها كويس يا حونين، وخليك رويح يا أبا رشـ.ـدي.”
أطلق ضحكاته الرجولية وتحدث بصعوبة:
“مـ.ـجـ.ـنو.نة والله، الله يكون في عون جوزك منك، سلااام.”
أغلقت الخط مع عمر، ونظرت إلى سامية، وقد غمزت بعينيها وابتسمت، قائلة:
“حصل يا كابيره، والحونين هياخد باله منها.”
تنهدت سامية بـ.ـارتياح وقالت:
“ربنا يكملها على خير، ويهديكي يا بنت بطني، ويسعدك يارب.”
ثم نهضت، خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، وهي تدعي ربها أن يلين قلب راما على عمر ويجمعهم على خير.
…………………………………………
وصلت راما إلى النادي، بينما توجه ياسين إلى غرفة تبديل الملابس. شعرت بدوار شـ.ـديد، مما جعل قلبها ينبض بسرعة غير مألوفة، فبحثت عن أول مقعد جلست عليه وهي تحاول استعادة أنفاسها. أغلقت عينيها في محاولة لتجاوز هذا الشعور المزعج، وكأنما تريد أن تتجنب العالم من حولها. بعد فترة قصيرة، بدأت تشعر بتحسن نسبي، لذا نهضت من مقعدها لتتوجه إلى المسبح، راغبة في رؤية ياسين أثناء تدريباته، ومعرفة ما إذا كان يتقدم في مستواه. اقترب منها عمر، الذي كان يتمتع بأجواء النادي، وتحدث بنبرة هادئة، سائلًا عن حالها:
“أزيك يا مدام راما؟”
أجابته بصوت مختنق وبأعياء، مما جعل حديثها يبدو مملوءًا بالهموم:
“كويسة.”لكن شعور عمر بالقلق استمر، فقد شعر بأنها ليست بخير، فتكلم بنبرة تحمل الكثير من القلق:
“بس مش باين عليكي كده، شكلك مريـ.ـضة يا مدام راما.”
أغلقت عينيها بضيق، وبدت وكأنها تتحدث بتهكم واضح:
“هو حضرتك دكتور وأنا معرفش؟ أنت مالك إذا كنت مريـ.ـضة أو لأ، لو سمحت روح شوف شغلك وملكش دعوة بيا.”
تنهد بضيق وتحدث بتساؤل، محاولًا فهم سبب تصرفها:
“أنتي ليه واخدة مني موقف مع إن معملتش معاكي حاجة وحشة؟”
ردت عليه بنفاذ صبر وكأنها تحمل ضغوطات داخلية:
“انت إيه مبتزهقش؟ يا عم فكك مني وسيبني في حالي، أنت لا في بالي ولا شاغلني أصلاً.”
نهضت بغضب واضح، لكن الشعور بالدوار القوي عاد ليتسلل إليها، مما جعلها على وشك السقوط. لحسن حظها، أمسكتها يد عمر سريعًا، وسأل بقلق:
“مدام راما، خير مالك؟”
حركت رأسها ببطء وتكلمت بصعوبة، معبرة عن حالتها المزرية:
“أنا حاسّة نفسي مش كويسة، ممكن لو سمحت تقعدني.”
ساعدها على الجلوس، ونظر إليها بقلق بالغ، وكأنه يشعر بحاجة ملحة لحمايتها:
“اتصل بأخوكي رامي يجيلك؟”
حركت رأسها سريعاً بالرفض، وقالت:
“لا بلاش، عنده شغل ومينفعش يسيب شغله ويجي. اتفضل حضرتك روح شوف شغلك، وأنا هبقى كويسة.”
نظر إليها نظرة مطولة، ثم قال بجدية:
“طيب، هروح أخلص التمرين بسرعة وهاجي أوصلك انتي وياسين.”
قبل أن تجيب عليه بالرفض، تحرك سريعًا من أمامها وهو يشعر بأن هناك شيئًا غير عادي يحدث. أمسكت رأسها بألم شـ.ـديد وأغلقت عينيها، آملةً أن يخف حدة الألم قليلاً. بينما بدأ عمر في التمرين، كان لا يزال يسـ.ـر.ق نظرات القلق نحو راما. بعد فترة، انتهى بسرعة من عمله، وتوجه ياسين إلى غرفة تبديل الملابس، ثم عاد عمر مرة أخرى إلى راما، وسأل بقلق:
“عاملة إيه دلوقتي؟”
حركت رأسها بضعف وأجابت بصوت خافت، وهي تشعر بنوع من الإحباط:
“مش كويسة، ممكن توصلنا أنا وياسين؟”
تحدث بترحاب، كأنه يحمل شغفًا لمساعدتها:
“طبعاً، من غير ما تطلبي هعمل كده، تعالي معايا.”
أنهى كلامه وهو يمد يده لها ليسندها، ولكن نظرت إلى يده بضيق، وكأنها لا تريد أن تضع نفسها في موقف ضعف. استقامت بجسدها بصعوبة، وبدأت تتأرجح من شـ.ـدة الدوار حتى كادت أن تقع. في لحظة سريعة، أمسكها عمر مرة أخرى، ونظر إليها بعينيها، لكن سرعان ما انتبه لوضعها وأشاح بنظره بعيداً، محاولًا عدم زيادة إحراجها. تكلم بتلعثم، محاولاً توضيح رغبته في مساعدتها:
“ق ق قولتلك تعالي اساعدك، اتفضلي معايا عند العربية.”
أغلقت عينيها بتـ.ـو.تر، وشعرت أن قدميها تهتز بقوة، ولم تستطيع أن تتحرك، فوقفت في مكانها وضغطت على يد عمر بألم، كأنها تطلب العون. شعر بها وعلم بما تشعر به، وبلا تفكير مال بجسده وحملها بين ذراعيه، وتحدث بأسف حقيقي:
“ا ا أنا آسف والله مقصدش حاجة، بس مضطر أعمل كده.”
لأول مرة لم تتجادل معه، بل وضعت رأسها على صدره بأعياء، وظلت صامته، وكأن الألم قد دفعها إلى الاحتياج لهذا الدعم. نظر إليها باستغراب، وشعر بحرارة جسدها المرتفعة، وكأن القلق يسيطر على الموقف. تحرك بها سريعاً تجاه غرفة تبديل الملابس، حيث وجد ياسين قد انتهى وينظر إليهم باستغراب، كأنه يشعر بأن هناك شيئًا غريبًا يحدث. تحرك معه إلى السيارة وصعدوا بها، ثم انطلق عمر بسرعة جنونية نحو المستشفى، محاولًا الوصول في أقرب وقت. سأله الطفل بتساؤل، وجزء من القلق يتسلل إلى صوته:
“كابتن عمر، وهو احنا جاين المستشفى نعمل إيه؟”
أجابه وهو يميل بجسده داخل السيارة حتى يحمل راما، كأن محاولته لتهدئة المشاعر تنبع من حنو:
“عمتك راما شكلها تعبانه جداً، مينفعش نروح بيها البيت وهي كده. لازم الدكتور يكشف عليها ويديها علاج.”
أومأ الطفل برأسه بتفهم، ورغم قلقه، كانت لديه رغبة في الاطمئنان على عمته.سأل بفضول:
“طيب، هي مالها عمته؟”
أجابه عمر، وهو يحاول معالجة مخاوف الطفل:
“شكلها والله أعلم عندها حمى شـ.ـديدة، الدكتور دلوقتي يطمنا عليها.”
أنهى كلامه وترك راما في غرفة الفحص، بينما دخل الطبيب ليجري الفحص ويأكد من حالتها. بعد عدة دقائق، خرج الطبيب، قائلاً بوضوح:
“هي عندها التهاب في الشعب الهوائية وحمى شـ.ـديدة.”
نظر له عمر باستغراب وسأله، وهو يشعر بقلق كبير:
“وأيه علاجه يا دكتور؟”
أجابه الطبيب بمهانية وثقة:
“هكتبلك علاج ليها، شربوها سوايل دافية كتير، شوربة خضار، أكل مسلوق، تبعد عن أي روائح نفاذة. وإن شاء الله، عشرة أيام بالكتير وهتبقى كويسة.”
أومأ رأسه بتفهم عميق، ثم شكر الطبيب، معبرًا عن امتنانه:
“شكراً يا دكتور.”
ابتسم له الطبيب وقال، في محاولة لتخفيف القلق عنهم:
“العفو، ده شغلي. تقدروا تمشوا بعد ما يخلص المحلول، واهتموا بأكلها كويس لأنها ضعيفة جداً، عن إذنك.”
تركوا الطبيب وذهب ليتابع عمله، ونظر عمر إلى ياسين وقال بجدية:
“يسو، ادخل أنت الأول وبلغها أن أنا هدخلها.”
أومأ ياسين برأسه بالموافقة، ثم ركض إلى الداخل، وما أن دخل حتى نظر إلى عمته بقلق وقال بطفولية:
“سلامتك يا راما.”
ابتسمت له بحنو، وما زالت تعاني من التعب، لكن هذه الابتسامه كانت بالنسبة لها تذكيراً بأن هناك أشخاص يحبونها ويدعمونها في محنتها:
“الله يسلمك يا قلب راما.”
أشار ياسين بأصابعه إلى الباب:
“كابتن عمر عايز يدخلك يا عمته.”
أومأت رأسها بالموافقة، وأجابت بصوت هادئ:
“ماشي يا حبيبي، خليه يدخل.”
اتجه الطفل إلى الباب، وهتف على عمر الذي كان ينتظر بفارغ الصبر ثم عاد إلى الداخل وتحرك خلفه. نظر لها بقلق وسأل، محاولًا إظهار حقيقة مشاعره:
“عاملة إيه دلوقتي يا مدام راما؟”
أومأت برأسها بتعب، لكنها حاولت أن تبدو إيجابية في حديثها وقالت:
“الحمد لله، كويسة. أنا آسفة أن عطلتك وتعبتك معايا.”
ابتسم لها بلطف، وأجاب بنبرة هادئة:
“مافيش عطلة ولا حاجة، أنا أصلاً بخلص الشغل في النادي وبروح على البيت على طول، ومافيش تعب، المهم إنك تبقي بخير.”
تنحنحت بتـ.ـو.تر، ثم قالت:
“ش ش شكراً، ممكن بقى نمشي علشان زمانهم قلقانين علينا في البيت.”
حرك رأسه بتفهم واسع، وأوضح:
“متقلقيش، أنا اتصلت بيهم في البيت وطمنتهم عليكي، وهم مستنيين أوصلك بس لما يخلص المحلول ده كله.”
ابتسمت له بتـ.ـو.تر، لكن ابتسامتها كانت تحمل مشاعر شكر وامتنان عمقين.
“م م ماشي.”
لأول مرة، ابتسمت له، مما جعل قلبه يتراقص من شـ.ـدة السعادة. جلس على الأريكة وجلس ياسين بجواره، مقبلاً رأسه بحنو، ثم ظل يتابعها حتى وجدها قد غفت. خرجت منه تنهيدة حارة، وظل نظره معلقاً عليها بكل اهتمام حتى انتهى المحلول. نهض من مقعده، مال بجسده، وحملها بين ذراعيه، ثم خرجوا من الغرفة. اتجهوا خارج المستشفى، وضعها داخل السيارة، وصعد ياسين بالمقعد الخلفي، وانطلق بهم إلى منزل راما، حيث كانت محاطة بأجواء الحب والدعم من عائلتها.
………………………………………………….
في صباح اليوم التالي، استيقظت راما من نومها على صوت يؤذي السكون، كان صوتاً رجولياً آتياً من الخارج، يتردد خارج جدران الغرفة. نهضت من فراشها، بخطوات متثاقلة وثقيلة وكأنها تحمل ثقل الأيام التي مرت، واتجهت نحو الباب، مشـ.ـدودة إلى الصوت، الذي كان يخلط بين القلق والجدية. عنـ.ـد.ما فتحت الباب بلطف، كان قلبها ينبض بسرعة، ونظرت من خلفه لتجد عمر يقف هناك، محاطاً بكثير من الحقائب التي تعكس جهوده في مساعدتها. كان يمد يده إلى مي، بلهجة جادة ومتجددة، قائلاً:
“خدي دول يا مي، أسلقي فرخة واعملي ليها شوربة خضار، واهتمي بأكلها. وكمان جبتلها شوية مشروبات، أعملي منها على طول وخليها تشربهم وهم دافيين. وده العلاج، مكتوب عليه المواعيد، لازم تخده في مواعيده. مي، ركزي في اللي قولته. الدور ده عايز سوايل دافية كتير والعلاج بانتظام وغذا.”
رفعت إحدى حاجبيها بملامح مازحة، وكأنها تبحث عن خفة في الأجواء التي كانت مشحونة بالقلق، ثم قالت بمرح:
“أحلف! انت فيه أيه يا عم، ما براحة علينا يا حونين.”
لكن عمر، بتعابير وجه جادة وملامح تتسم بالقلق العميق، تنبهها بأسلوب صارم وعاطفي:
“مي، الموضوع مش هزار. اهتمي كويس براما. الدور اللي عندها صعب، ومحتاجة غذا كويس.”
ابتسمت مي بسعادة بملامحها الندية، ووافقت على حديثه برأسها، قائلة:
“عيوني من غير ما تقول كل ده، أنا واخده بالي منها من إمبـ.ـارح. مسبتهاش طول الليل، قاعدة معاها في الأوضة بعملها كمادات.”
أجابها مبتسماً بنفحة من المزاح الذي لم يخل من الجد:
“أيوه كده شطورة. خليكي معاها، عايزها رهوان فاهمة.”
غمزت له بابتسامة، معبرة عن امتنانها لدعمه وتفهمه، وأجابت:
“طبعاً فاهمة كل حاجة، فاهمة وبالأوي كمان.”
وفي تلك الأثناء، خرجت راما من الغرفة، وتنحنت بتـ.ـو.تر، وكأنها تحاول استعطاف العالم بأسره، قائلة:
“ص ص صباح الخير.”
ابتسم عمر لها بنبرة هادئة تعكس المحبة والطمأنينة، قائلاً:
“صباح النور، طمنيني، عاملة أيه النهاردة؟”
أومأت برأسها، متلعثمة وكأن ترددات القلق ما زالت تسيطر عليها:
“ك ك كويسة الحمد لله.”
نظرت مي إليهم بسعادة، حيث كانت الأجواء رغم ثقلها مليئة بالأمل، وتوجهت نحو المطبخ، قائلة:
“هروح أعملك زي ما سي عمر قالي، أوعدنا يا رب.”
نظرت راما إلى أثر مي بتـ.ـو.تر، وكأنها تخشى أن تعود إلى السكون الحالك، ثم عادت لتنظر إلى عمر، قائلة بشكر، مما أضفى لمسة من الود على الأجواء:
“ش ش شكراً على اللي عملته معايا إمبـ.ـارح، ب ب بس مكانش ليه لزوم تجيب كل الحاجات دي.”
رد عليها عمر بسعادة، موضحاً:
“أنا معملتش حاجة، ده واجبي. واللي جبته النهاردة دي حاجة بسيطة. المهم إنك ترجعي زي الأول وتبقي كويسة.”
تنهدت راما بحزن، ونظرت إليه بأسف عميق، كأن الدمـ.ـو.ع تتراقص في عينيها بانتظار الحرية:
“أستاذ عمر، أ أنا آسفة على الكلام اللي قولته ليك إمبـ.ـارح. أنا فعلاً مافيش ما بينا عداوة. اللي بعمله معاك ده مش عن قصد، ولا إنك عملتلي حاجة وحشة. بس دي طريقتي وأسلوبي مع أي حد معرفهوش، أو بمعنى أصح مع أي راجـ.ـل غريب. علشان كده مش عايزك تفتكر أن أسلوبي معاك ده عن قصد ولا عداوة شخصية.”
ابتسم عمر لها بابتسامة هادئة، وتحدث بأسلوب راقٍ وصادق، قائلاً:
“بصي يا مدام راما، أنا متفهم وضعك والظروف اللي مريتي بيها. علشان كده أنا مزعلتش منك، ولا بيكون ليا رد فعل معاكي زي ما متعود مع اللي بيتعاملوا معايا بطريقتك دي. أنا أعرفك من أيام ما كنت أنا في الجامعة، اه، أنتي متفتكريش، أو ممكن كمان تكوني ماأخديش بالك مني، لأن رامي كان متحفظ شوية أن أدخل عندكم حفاظاً على خصوصيتك، وان بنت موجودة في البيت. ومينفعش أدخل البيت في وجودك، مع إنك وقتها كنتي صغيرة في إعدادي. بس أنا احترمت رغبة أخوكي. بس أوقات كنت بشوفك وهو رامي رايح يخدك من المدرسة، أو أشوفك صدفة في الشارع. كنتي غير كده، كنتي كلك حيوية وتفاؤل. ضحكتك على طول مرسومة على وشك، كنتي بتجليبي البهجة لكل اللي حواليكي. كنتي شقية في نفسك، وعلى طول ضحك وهزار. أما دلوقتي، بقيتي واحدة تانية خالص. طول الوقت حزينه، وشايلة الهم. الدمـ.ـو.ع واقفة في عيونك، بتحاولي معاها علشان متخدعكيش، وتنزل قدام حد. مش عارف بقولك الكلام ده ليه، بس فعلاً نفسي ترجع شخصيتك بتاعت زمان.”
أغلقت راما عينيها حتى لا تخدعها دمـ.ـو.عها، وتحدثت بصوت مختنق، يعكس عمق الألم الذي تحمله:
“محدش بيختار مصيره بإيده، كله نصيب. في الأول وفي الآخر، أنا كمان بزعل على نفسي، نفسي أرجع زي زمان، ومش عارفة. واحشتني شخصيتي اللي مكانش القلب موجوع فيها…”
ثم ابتسمت بألم، وكأن الذكريات تلعب بها، وأضافت:
“نفسي أرجع البنت اللي كانت بتتذمر على طول من مروحها المدرسة الصبح بدري، اللي كانت دايماً تزعل لو طلبت الحاجة ومجاتش ليها. نفسي أرجع راما من جديد.”
أقترب عمر منها، ونظر في عينيها بإخلاص، وكأن عواطفه تجسدت في تلك اللحظة، وقال بصوت هامس:
“سيبي نفسك ليا، وأنا أوعدك هرجعك زي الأول وأحسن. هكون دوا لكل جروحك، ومش هتعب ولا أستسلم، لأني عارف الأمل جواكي، وأنا هساعدك تطلعيه.”
تراجعت راما إلى الخلف، وحركت رأسها بالرفض، كأنها تحاول الهروب من شبح الألم الذي يرافقها، وانهمرت دمـ.ـو.عها بغزارة، فقالت بأسى:
“م م مستحيل أصدق راجـ.ـل تاني، مستحيل أمن لكلامكم تاني. كلكم واحد وعود بس لحد ما تخدوا اللي انتوا عايزينه، وبعد كده ترموني رمية الكلاب. أنا مش هكون أسيرة ليكم تاني أبداً.”
أنهت كلامها، وتركته، وركضت إلى غرفتها، وكأنها تبحث عن السلام في جدرانها. نظر عمر إلى أثرها، وتنهد بحزن، وبصوت مصمم وخاص، قال:
“مستحيل أفرط فيكي تاني يا راما. أنا ما صدقت إنك رجعتي ليا تاني. مش هضيع فرصتي المرة دي كمان. أنا وراكي لحد ما أداوي جراحك كلها، وبعد كده أعيشك الحب والحياة اللي تستحقيها بجد.”
كانت مي وسامية يستمعون لهم بسعادة، لكنهم تألموا حقاً عنـ.ـد.ما سمعوا كلمـ.ـا.ت راما المؤلمة، التي حفرت عميقاً في قلوبهم كأكثر الذكريات مرارة. ومع ذلك، شعروا بالأمل عنـ.ـد.ما سمعوا تعهد عمر لرسم الضحكه على وجه راما من جديد وعودة الحياة مرة أخرى لها، مفعمة بالحب والمشاعر الصادقة.
………………………………………………….
ظلت راما حبيسة غرفتها، محاطة بالظلام الذي يعكس دمـ.ـو.عها التي تتساقط كالأمطار الغزيرة، في حيرة عما يـ.ـؤ.لمها أكثر: الفراق عن زوجها السابق، أم ضياع شخصيتها القديمة التي تلاشت كفكرة غير مكتملة. عدم قدرتها على إصلاح ما أفسدته تلك العلاقة كأنها جرح نازف، بينما يبدأ شعور آخر يكتنف قلبها تجاه عمر. توقفت أفكارها فجأة، لتغمرها تساؤلات تطاردها: لماذا أفقدت نفسها في حب مرة أخرى؟ لماذا تنازلت بهذه السهولة وسمحت لقلبها بالالتفات لشخص آخر؟ لماذا تستمر في تكرار نفس الأخطاء، كأنها أسيرة لا تستطيع الفكاك من أسر الرجل؟ حركت رأسها في رفض، مستخدمة ظهر يدها لمسح دمـ.ـو.عها المتعطشة للهدوء، ثم تحدثت بنبرة غاضبة:
“لا مش هسمحلك تعملي كده في نفسك، مش هسمحلك تتعلق براجـ.ـل تاني. كفاية ضعف وسذاجة بقى، أنا لازم انزل وأدور على شغل وأشغل وقتي فيه.”
وفي تلك اللحظة، تذكرت الشركة الذي يعمل بها عمر، وتـ.ـو.ترت نظرتها، قائلة:
“بدل ما أنزل أدور وملاقيش، أروح الشركة اللي قالي عليها. وأنا كده كده، هتجاهل وجوده. أيوه كده، مافيش قدامي حل غير كده.”
ولكن، بينما كانت تتأمل في أفكارها، شعرت برغبة قوية في التغيير، رغبة في استعادة ذاتها المفقودة. كانت بحاجة إلى نوع من القوة، قوة تعيد لها شغف الحياة، وليست مجرد وسيلة للهروب من المواقف المحبطة التي تعاني منها.خرجت من غرفتها متجهة نحو غرفة مي، حيث طرقت على الباب وانتظرت بقلق لبضع ثوانٍ. بعد قليل، فتحت مي الباب باستغراب، متسائلة:
“راما!! مالك انتي تعبانه ولا حاجة؟”
حركت راما رأسها في حركة نفي، معبرة بتـ.ـو.تر:
“ا أنا كويسة بس… احم، كنت عايزة رقم عمر!”
نظرت مي لها بلؤم، ثم ردت:
“رقم عمررر، من عيوني الجوز ومناخيري اللوز، ثواني والرقم يكون عندك.”
ركضت مي إلى الداخل، تخترق الغرفة بسرعة، وعادت وهي تحمل الهاتف، قائلة:
“رقم عمر، اهو سجلي عندك.”
نظرت راما إليها بضيق، مستندة على الهاتف، وقالت:
“على فكرة، أنا واخدة الرقم علشان أكلمه على الشغل، مش علشان اللي في دماغك السو دي.”
عانقت مي ذراعيها حول صدرها، وأجابت بمزاح:
“ايوه ايوه، ما انا فاهمة. ربنا يوفقكم في الشغل ويكون فتحت خير عليكم.”
زفرت راما بضيق، وبنبرة خالية من الصبر:
“الكلام معاكي يجيب الضغط.”
ثم تركتها وعادت إلى غرفتها مجددًا. دندنت مي برقة بصوت مرتفع، قائلة بمزاح:
“يا دبلة الخطوبة، عقبالنا كلنا.”
خرجت راما من غرفتها، محذرة:
“أقسم بالله، لو محتطيش لسانك في بؤقك يا مي، هاجي أقطعهولك.”
أنهت كلامها ودفعت الباب بغضب. وضعت مي يدها على فمها، وابتسمت بسعادة، كأنما تستمتع بلعبة التحدي بينهما.
………………………………………………….
كان عمر يجلس في مكتبه، محاطاً بأوراق العمل المبعثرة وأضواء الحاسوب الخافتة، مشغولاً بالتفكير في راما، تلك الفتاة التي أسرت قلبه منذ اللحظة الأولى التي التقيا فيها. كان يبحث بشغف عن وسيلة تفتح له قلبها، يتساءل في نفسه كيف يمكنه كسر الجليد الذي يحيط بمشاعرها تجاهه. شعوره بالقلق يتصاعد بينه وبين نفسه، وصورته الترويحية عن الغد كانت تتلاشى شيئاً فشيئاً. في تلك اللحظة، قطع تفكيره رنين هاتفه، مما جعل تنهدات الإحباط تخرج من صدره. كان الصوت المزعج وكأنه يذكّره بمدى استبعاده في عالمها، لكن فضوله التهمه عنـ.ـد.ما نظر إلى الشاشة، حدق بها في دهشة، وكأن دقات قلبه ستخترق صدره من كثرة التـ.ـو.تر. أجاب على الاتصال بصوت هادئ يكسوه الاسترخاء، بينما في داخله كان يصـ.ـر.خ من شـ.ـدة السعادة:
“السلام عليكم، عاملة إيه؟”
تحدثت راما باستغراب، متسائلة:
“الحمد لله، بس عرفت إزاي أن الرقم ده بتاعي؟”
تنحنح عمر بتـ.ـو.تر، محاولاً توضيح موقفه:
“ها… ك ك كنت واخده من مي علشان أطمن عليكي لما كنتي تعبانة، لكن بعد اللي حصل، مرضتش أزعجك بالاتصال.”
ردت عليه بتـ.ـو.تر، قائلة:
“م م ماشي، ا ا أنا كنت متصلة بيك علشان أسألك، الوظيفة لسه موجودة ولا انشغلت؟”
أجابها بسرعة، وكأن التصديق لم يتسرب إلى عقله بعد:
“موجودة طبعًا، ولو عايزة تيجي دلوقتي علشان تستلمي الشغل، مافيش مانع.”
تحدثت بأستغراب، وقالت:
“استلم دلوقتي! مالك بتتكلم بثقة كده؟”
رد عليها بسعادة، معبراً عن سروره:
“لا عادي، بس أنا والمدير أصدقاء، وعلشان كده هو ما هيصدق إني جبت ليه حد من طرفي.”
ظلت صامتة لبضع ثوانِ، ثم قالت بحذر:
“تمام، بكرة إن شاء الله هجيب السي ڤي بتاعي وهاجي الشركة، بس ليّا طلب، ياريت حضرتك لما أجي أشتغل، بلاش موضوع الصداقة والعشم الزيادة. يعني لما تشوفني، ملكش أي دعوة بيا، متكلمنيش خالص، ولا أكلمك. يا أما كده، يا بلاش منها الشغلانة دي.”
زفر بضيق، متحدثاً بصوت مختنق:
“على فكرة، أنا عمري ما اتعديت حدودي، وعارف الأصول كويس أوي، وهحميكي من بعيد، ده لأنك أخت صاحبي.”
ردت عليه بضيق، قائلة:
“تمام، شكراً لحضرتك، سلام.”
نظر عمر إلى الهاتف بضيق عنـ.ـد.ما أغلقت الخط قبل أن تستمع لصوته، لكنه شعر بدقات قلبه تتراقص من فرحة حقيقية، خاصة لأنها لجأت له في هذا الوقت، مما يعني أنها بدأت تتقبله كصديق في حياتها، على الرغم من أنه كان يأمل في أكثر من ذلك. تنهد بتمني، قائلاً:
“ربنا يهديكي يا راما وتحسي بيا بقى.”
أنهى حديثه وبدأ يتابع عمله، والسعادة تتلألأ في عينيه كشاب مراهق أسعدته أول كلمة جميلة نطقت بها فتاة. في أعماق نفسه، كان يدرك أن هذه البداية قد تكون فرصة لتغيير مجرى الأمور بينهما، وأنه سيكون مستعداً لفعل أي شيء ليكون قريباً منها دون أن يتجاوز حدود الصداقة التي وضعتها بنفسها. لقد قرر أن يظل صبوراً، ويعمل بجد لتحقيق هذه اللحظة التي قد تجمعهما معاً في مستقبل قريب.
………………………………………………….
في صباح اليوم التالي…
استيقظت راما وهي تشعر بالنشاط والحيوية، وهو إحساس غير معتاد لها في الآونة الأخيرة. نهضت من على سريرها الدافئ، حيث كان الضوء الخافت يتسلل من النوافذ ببطء، وكأنها أشعة شمس داعبة تدعوها للانطـ.ـلا.ق. اتجهت إلى المرحاض، بعد فترة قصيرة، خرجت، ترتدي ملابسها الأنيقة التي تعكس ثقتها بنفسها وحبها للأناقة؛ كانت تنورة ذات قصّة مميزة مع بلوزة بسيطة، مما أضفى عليها طابعًا عصريًا استثنائيًا. مشطت شعرها الطويل بدقة، حيث تركت خصلات منه تنسل كالشلال على كتفيها. أدت فرضها بتأمل وهدوء، وكأن تلك اللحظات كانت مناسبة لتجديد الروح، ثم خرجت من غرفتها، لتجد أخيها رامي يخرج من غرفته هو الآخر، متجهًا إلى العمل. أطلق صفره من بين شفتيه بإعجاب، وجعلها تشعر كأنها نجم أمام عدسات الكاميرات، وقال:
“اوعى بقى على الجمدان ايه القمر ده يا بت سيدة أعمال بجد.”
ابتسمت له بتلأللأ في عينيها، وكأنها معزوفة تنبعث من قلبها، وتكلمت بتهكم:
“ربنا يجبر بخاطرك يا اخويا القرد في عين اخوها غزال.”
تعالت ضحكاته، وكأن صداها يعكس فرحتهم، وتكلم بصعوبة جراء الضحك:
“طيب يلا يا قردة اوصلك على سكتي.”
ألقت عليه حقيبة يدها، وتكلمت بمزاح:
“تصدق انك رخم، امشي بقى من قصادي.”
ظل يقهقه على تذمرها، حيث كانت تلك المواقف تشكل جزءًا متصلًا من حياتهم، وضع يده على كتفها وقبل وجنتها برفق، قائلاً بمداعبة:
“عسل يا اخوووواتي.”
ابتسمت له بحب، وتحركا سويًا نحو الباب. هبطا معًا إلى الأسفل، حيث أوقف رامي سيارة أجرة بجوار الرصيف، مملوءة بألوان الصباح، واتجه بهم إلى الشركة التي يعمل بها عمر، بينما كان الهواء النقي ينعش وجوههم، تخترق ابتسامـ.ـا.تهم الأجواء وتنعكس البهجة في الصباح الذي يعد بمغامرات وفرص جديدة.
………………………………………………….
كان عمر يجلس في مكتبه، مشاعر الترقب تتلاعب في داخله كأحر من الجمر، ينتظر وصول راما بفارغ صبر بعد وقت مر عليه بصعوبة. سمع صوت طرقات خفيفة على الباب، فتشكلت ابتسامة عريضة على وجهه، واستقام على مقعده، متظاهراً بأنه مشغول بالملفات المبعثرة أمامه. قال بصوت رجولي مفعم بالثقة:
“ادخل.” دخلت راما، بشرتها تتلألأ بشعاع من الإشراق، لكن تـ.ـو.ترها كان واضحاً. تحدثت بصوت مرتعش:
“ا ا السلام عليكم.”
رفع عمر رأسه ونظر إليها، فشعر برغبة في ابتلاع ريقه بصعوبة حين رأى طلتها الفاتنة التي تخطف الأنظار في غرفة مليئة بالأداء والعمل الذي اعتاد عليه. أخذ نفساً عميقاً، وأخرجه ببطء، ثم قال بتلعثم:
“و و وعليكم السلام، اتفضلي يا مدام راما.”
تحركت نحو مقعدها وجلست بملل واضح، ثم قالت بضيق:
“ممكن بعد إذنك بلاش تقولي مدام راما، ممكن تقولي أستاذة راما أو راما بس، من غير ألقاب، المهم بلاش كلمة مدام دي.”
ابتسم بترحاب وقال بسعادة:
“طبعاً ينفع جداً أوي، أنا أصلاً مكنتش برتاح لما لساني ينطق اللقب ده.”
تنحنحت بتـ.ـو.تر، ثم قالت:
“تمام، م م ممكن بقى نروح المقابلة؟”
أومأ برأسه بالموافقة، ثم استقام بجسده وقال:
“اتفضلي معايا.” وقفت من مقعدها وتحركت أمامه نحو الباب، وخرجت منه. تبعها عمر، مشياً بجوارها، حيث كانا متجهين إلى أحد المكاتب الأكثر فخامة في المكان، المزين بقطع فنية تتراقص تحت الأضواء الهادئة. طرق على الباب، وسمع صوت يأذن له بالدخول. فتح الباب ودلف إلى الداخل بابتسامة هادئة، قائلاً:
“أستاذة راما اللي كلمتك عليها اهي.”
تكلم بلهجة هادئة، مضيفاً بترحاب:
“أهلا وسهلا يا أستاذة راما، اتفضلي.”
تحركت بتـ.ـو.تر وجلست على المقعد، وردت بصوت مهتز:
“أهلا بحضرتك.” ابتسم لها، وأضفى على الأجواء روح الدعابة قائلاً:
“شكلُك مهمة أوي عند سي عمر، من أمبـ.ـارح مصدعني بيكي وعمال يوصيني عليكي كأنك جاية تحاربي، مش تشتغلي في المحاسبة.”
ضغط عمر على أسنانه بنفاذ صبر، وقال بحذر:
“خف تعوم يا حليوة ها!”
انفجرت ضحكاته، وقال بصوت محشرج من الضحك:
“طيب يا سي روميو، وريني عرض كتافك علشان أبدأ الانترفيو معاها.”
نظر له بتوعد، قائلاً بضيق:
“ماشي ماشي، احلو براحتك، فيه بيت يجمعنا.”
نظرت إليهم باستغراب، وسألت:
“انتوا قرايب!؟”
أومأ برأسه، وقال موضحاً:
“أيوه، يا ستي، للأسف عمر يبقى ابن خالتي.”
رفعت حاجبيها في دهشة، وردت باستغراب:
“ولاد خاله؟ بس أستاذ عمر مقالش كده، قالي أنكم أصدقاء.”
رد عمر سريعاً:
“أيوه، ما أنا مبحبش أقول إننا ولاد خاله علشان الناس متفكرش إن شغال هنا بوسطة وكده.”
أومأت برأسها بضيق، وقالت:
“ماشي، ممكن نتكلم في الشغل بقى.”
أومأ برأسه بالموافقة وقال:
“طبعاً، نبدأ، بس الأول أعرفك على نفسي، أنا سيف إبراهيم، ابن خال الولا ده.”
وأشار بأصابعه على عمر، ثم تكلم بنفاذ صبر:
“يا ابني، انت واقف ليه كده؟ مش قولتلك تروح تشوف شغلك.”
ضغط عمر على أسنانه بضيق، وقال:
“ماشي يا شيفو، براحتك، أنا ماشي أهو.”
وتحرك ببطء، ثم نظر مرة أخرى له، قائلاً:
“أنا خارج ها.”
ابتسم له، وأشار إليه بأن يخرج. كانت تتابعهم وهي محتفظة بابتسامتها، ثم قالت:
“انتوا على طول كده مع بعض؟”
أومأ برأسه بالتأكيد، وقال بابتسامة:
“أحنا كده طول الوقت عاملين شبه الأطفال مع بعض، عمر أصلاً دمه خفيف جداً، وطول ما هو موجود في القعدة، مش بنبطل ضحك.”
تنحنحت بتـ.ـو.تر، وقالت:
“أحم، ربنا يخليكم لبعض.”
رد عليها بتمني:
“يارب، بسم الله، نبدأ.”
وبدأوا عمل الانترفيو لبدء العمل، في جو من التـ.ـو.تر والترقب، بينما كانت عيون راما متلألئة بالأمل وملامحها تدل على تصميمها القوي. كان أمامها فرصة جديدة، وهي تعرف تماماً أنها تحتاج إلى إثبات نفسها لتكون جزءاً من هذا الفريق الحيوي.
………………………………………………….
مر عدة أسابيع…
بدأت راما تتأقلم مع وجود عمر في حياتها، إذ أثبتت براعتها في العمل حتى أشاد بها الجميع. كانت تتعامل مع ضغوطات العمل بكل شجاعة، وتخرج بابتسامة رغم ما يعتريها من مشاعر مختلطة. في المقابل، كان عمر يقضي أسعد أيام حياته لوجود راما بالقرب منه، وشعر كما لو أنه يعيش في أحلام العصور الذهبية، حيث عادت له مشاعر الشباب والحماس، وكأنها كانت له فجرًا جديدًا بعد ظلام طويل.عنـ.ـد.ما أنهت راما العمل، خرجت من مكتبها واتجهت نحو مكتب عمر، تتمنى أن تقضى معه بضع لحظات ممتعة. طرقت الباب ودلفت إلى الداخل بابتسامة تضيء وجهها، لكنها مندهشة بشكل مفاجئ عنـ.ـد.ما رأت فتاة تمسك يد عمر وتبتسم له بسعادة، وكأنهما في عالم آخر. لحظات ظلت فيها راما جـ.ـا.مدة، بينما ذكريات خيانة زوجها السابق في موقف مشابه كانت تتدفق في عقلها كالأمواج العاتية، مما جعل قلبها ينبض بشـ.ـدة. تكلمت بصعوبة، ودمـ.ـو.عها تتقدّم على وجنتيها، وقالت:
“ا ا أنا آسفة، معرفش أنك مشغول.”
ركضت خارجاً، والدمـ.ـو.ع تتسابق على وجهها، وهي لا تشعر بالوقت ولا بالمكان، بل كل ما كان يشغلها هو الألم الذي أحست به. هبطت إلى الأسفل، مثيرةً ضجيج خطواتها المتسرعة، وكأنها تحاول ضبط فوضى مشاعرها. حاولت التلويح لسيارة أجرة، لكن كل جهدها كان بدون جدوى. تفاجأت بعمر يمسك ذراعها، يشـ.ـدها بلطف، ويقول بأنفاس لاهثة:
“راما، مالك خرجتي تجري ليه من المكتب؟ قعدت أنادي عليكي مردتيش؟”.
كانت عينيه مليئتين بالقلق، وملامحه تعبر عن رغبة عميقة في فهم ما يحدث لها.نظرت في الاتجاه الآخر، متجنبًة مواجهته، ثم تكلمت بصوت مختنق:
“مافيش، أنا بس عايزة أروح ضروري.”
كان الصوت الذي خرج منها بعيدًا عن حدود الكمال، واختلط فيه الشك والحزن. مد يده وحرك وجهها برفق، أُرغمها على النظر إليه بأسلوب يجمع بين القلق والحنان، ثم قال بنبرة هادئة:
“مالك يا راما، بتعيطي ليه؟”.
حاولت أن تمنع دمـ.ـو.عها، ولكنها كانت تتزايد أكثر مع كل لحظة، وكأنها تعكس كل الألم الذي في قلبها. تكلمت بصعوبة، متوسلة:
“ارجوك يا عمر، سيبني أمشي.”
كانت الكلمـ.ـا.ت تخرج كما لو كانت نابعة من أعماق جرحها، وكانت تحاول أن تظهر بمظهر القوية، إلا أن صوتها خانها.هزّ رأسه بالرفض، وبنبرة حنونة، قال:
“لا يا راما، مش هسيبك تمشي بالشكل ده، مش هكون مطمن عليكي.”
كلمـ.ـا.ته خففت من وطأة الكآبة، لكنها لم تكن كافية لتخفف من عاصفة مشاعرها. أخذت نفساً عميقاً، وعبرت بصعوبة:
“أنت عارف سبب طـ.ـلا.قي إيه يا عمر؟”
كانت عينيها تلمعان بالرجاء أن يفهم عمق معاناتها.هزّ رأسه بعدم معرفة، وكأن السؤال لم يكن مجرد كلمـ.ـا.ت، بل بوابة مفتوحة لعالم من الألم. تعالت شهقاتها، وتحدثت بصوت حزين منكسر:
“علشان كان بيخوني يا عمر. دخلت عليه وهو مع السكرتيرة في مكتبه، ولما حاولت أغضب وأرفض الوضع ده، قالي إن جوازنا كان مجرد متعة ليه، وإنه اتجوزني علشان رفض يقرب مني من غير جواز. ما صدق اللي حصل ده، علشان يطـ.ـلقني ويخلص مني. ذلني بالفلوس اللي صرفها عليّا وعلى أهلي. كسر قلبي اللي حبه بصدق، حبه هو مش فلوسه. يومها حلفت أني مش هسلم قلبي لحد تاني مهما حصل، بس للأسف قلبي خانني هو كمان وضعف. مبتعلمش من أخطائي. النهارده ولتاني مرة شفت نفس مشهد الخيانة.”
كانت كلمـ.ـا.تها تحمل ثقل الذكريات الأليمة، وكأنها تنقل له كافة الألغاز التي كانت تحيط بقلبها المنكسر، آملة أن يتمكن من فهم ما كان في جعبتها لتحاول الشفاء سويًا.عقد بين حاجبيه بعدم فهم، ثم تساءل ببراءة واضحة:
“خيانة إيه؟ أنا مش فاهم حاجة يا راما، إيه سبب كلامك ده؟”
أزالت عبراتها بأناملها المرتجفة، ثم قالت بصوت مختنق من شـ.ـدة البكاء:
“انسى يا عمر الكلام اللي قلته، واضح أني بقيت حساسة شويتين.”
نظر إليها بنظرة مطولة مليئة بالقلق، وكأنما بحث في عيونها عن أمل أو تفسير. ثم تذكر الفتاة التي رأها، وضحك ضحكة عميقة، خطفته السعادة رغم كل شيء، وكاد قلبه يتوقف من شـ.ـدة الضحك، قال بسعادة:
“إنتي غيرانة عليا يا راما؟ مش معقول!”
رفعت حاجبيها إلى الأعلى وعبَّرت بضيق، ربما لعدم قدرتها على إخفاء مشاعرها:
“و و و أنا هغير عليك بصفتي إيه؟”
اقترب منها، وأمسك يدها بنعومة قال بنبرة تحمل الكثير من الشغف:
“بصفتك حبيبتي، يا راما…”
ثم تنهد بعدم تصديق، واستمر في حديثه:
“أنا كنت مستني اللحظة دي من زمان أوي. كل يوم أصحى من نومي على أمل أنك تحسي بحبي ليكي، بس اليوم كان بيخلص وأفقد الأمل. راما اللي شفتيها فوق في المكتب دي أختي الصغيرة، ومخطوبة لسيف ابن خالتي. كانت جايه لخطيبها وعدت عليّا بس كده.”
أرجعت شعرها خلف أذنيها، مع شعور بالقلق، وقالت بتـ.ـو.تر:
“و و و أنا مالي إذا كانت أختك ولا حبيبتك؟ على فكرة، أنا مضايقتش منها أصلاً!”
أومأ برأسه بابتسامة مريحة وقال:
“أيوه، أيوه، ما هو واضح أهو إنك مش فارق معاكي.”
تراجعت إلى الخلف وعقدت ذراعيها على صدرها، ونظرت في الاتجاه الآخر، بينما وضعت في قلبها قولها بصوت متردد:
“متتريقش لو سمحت، وفعلاً انت مش فارق معايا.”
أخذ نفساً عميقاً وتكلم بنبرة عاشقة تحمل الكثير من الثقة:
“راما، أنا بحبك ومش من دلوقتي، لا من أيام ما كنتي لسه في إعدادي. خطفتي قلبي بخفة دمك وجمالك. كنت مستني أنك تتخرجي وأتقدملك، بس لاقيتك اشتغلتي في الشركة، ومافيش كام شهر أتجوزتي. اتقهرت وقلبي انكسر، بس قولت أكيد مافيش نصيب. رضيت بأمر ربنا، بس مقدرتش أشوف واحده غيرك. رغم محاولات مي معايا وأمي،وكلهم كنت شيفهم عادي، إلا أنتي بشوفك استثنائية. ولما رجعتي وعرفت من رامي أنك اطلقتي، اتجدد الأمل جوايا من جديد. حسيت أن طـ.ـلا.قك ده عوض ربنا ليا. واخدت عهد على نفسي أني مش هفرط فيكي، وأول فرصة هتيجي ليا هعترفلك بحبي، وأتجوزك. هعمل كل حاجة عشان أحببك فيا، والحمدلله أهي الفرصة جات وبدأتي تحبيني. علشان كده أنا بقولك، أهوو هتجوزك يعني هتجوزك.”
انهمرت دمـ.ـو.عها بغزارة، وحركت رأسها بالرفض، وقالت:
“مينفعش يا عمر، صدقني مينفعش، أنا مش هقدر أكرر اللي عشته تاني، مش هقدر والله.”
أمسك يدها وتحدث بحب، قائلاً بوعد:
“أنا مش زيه يا راما، صوابعك مش زي بعض. أنا بحبك بجد، وعلشان كده عشت عمري كله مستني فرصة واحدة تقربني ليكي. يبقى بعد ده كله، هكون عايز أتسلى بيكي. سيبي نفسك ليا، وأنا هنسيكي كل الماضي.”
ظلت تنظر له، ثم تحركت بسرعة، أوقفت سيارة أجرة وصعدت بها وغادرت المكان.ظل يتابعها عمر بنفاذ صبر، وقال بتوعد:
“اهربي زي ما انتي عايزة يا راما، في الآخر قلبك هيرق وهتوافقي تتجوزيني.”
ثم عاد مرة أخرى إلى الشركة لمتابعة عمله، لكن خيالاته عن راما ما زالت تعصف بأفكاره، ملمحاً للأمل بأن مستقبلهم قد يكون مشتركاً يوماً ما.
………………………………………………….
بعد عدة أسابيع…
جلست راما حبيسة بغرفتها، وموجات الدمـ.ـو.ع تنهمر من عينيها، تشعر بشوقٍ عميق لعمر، الذي كان يمثل لها أكثر من مجرد حب، بل كان هُناك عالم كامل من الذكريات الجميلة واللحظات السرمدية التي شاركتها معه. لكنها أرغمت نفسها على الابتعاد حتى لا تتكرر خيبة الأمل التي تعرضت لها في الماضي بسبب خيانة وألم الفراق، عنـ.ـد.ما تمزق قلبها وأحلامها إلى أشلاء بفعل خيانة غير متوقعة من شخص كانت تعتمد عليه. سمعت صوت عمر يتردد في الخارج، وهو يناديها للخروج ليتحدث معها، وقلوبهم تبدو وكأنها تخفق بحذر، كل منهما مدرك لخطورة الموقف ولكنهما متمسكان بالأمل. حاولت مي ووالدتها ثنيها عن قرار الابتعاد، لكن كل محاولاتهما ذهبت أدراج الرياح، حيث كانت راما تتمسك بموقفها وكأنها تبني جدارًا بين قلبها وذكرياتها المؤلمة.وصلتهم دعوة فرح من أحد أفراد العائلة في مطروح، فرَفضت راما الذهاب بشـ.ـدة، بينما لم تتمكن مي من الذهاب أيضًا لاقتراب موعد ولادتها، وبذلك كانت الأجواء صحراوية من الإحباط والانزعاج تجوب المكان. تركها رامي مع أخته راما وطلب منها الاعتناء بها حتى يعودوا في صباح السبت، متمنيًا أن يتجاوزوا هذه المحنة الصغيرة معًا.فجأة، دوى صوت صراخ يأتي من غرفة مي، انتفضت راما من مكانها بهلع وركضت بسرعة نحوها، وكأن صوت مي كان ناقوسًا ينبهها للخطر القائم. تكلمت بصوت مرتعش ونبرة قلقة، مستفسرة:
“مالك يا مي بتصرخي كده ليه؟”
بدأت مي بالبكاء وقد امتلأت عينيها بالدمـ.ـو.ع، وأجابت بألم:
“شكلي بولد يا راما! الطلق عندي من بليل، بس كنت مفكرة إنه شوية وهيعدي زي كل مرة. مش قادرة أتحمل بموت ألحقيني، أبوس إيدك.”
ابتلعت راما ريقها بصعوبة، وقالت بتـ.ـو.تر:
“حاضر، حاضر! هتصل بالاسعاف.”
صرخت مي بألم وقالت:
“الإسعاف يومها بسنه على ما يوصلوا، يكون اللي في بطني نزل، اتصلي بعمر بسرعة! هو هيوصل أسرع من الإسعاف.”
تعالت دقات قلب راما بالقلق، أومأت برأسها بالموافقة، وأمسكت هاتفها وأجرت اتصالاً، بينما كانت تتمنى في داخلها أن يأتي عمر سريعًا، كأنه الفارس المنقذ من هذا الألم. انتظرت الرد بضع ثوانٍ معدودة قبل أن تسمع صوته المتلهف يشـ.ـد انتباهها:
“أخيرًا، راضيتي عليا وكلمتيني! حشـ.ـتـ.ـيني و  أوى يا راما؟”
تنحنحت بتـ.ـو.تر، وقالت بصوت مرتعش:
“أنا مش متصله علشان اللي في دماغك ده، أنا متصله علشان أقولك تعال بسرعة على الشقة، مي بتولد ومافيش معايا حد في البيت ومش قادرة أواجه الموقف وحدي.”
أجاب بسرعة، قلقة حقيقية في صوته:
“مي بتولد؟ طيب عشر دقايق بالكتير وأكون عندك.”
أغلقت الخط مع عمر ونظرت إلى مي بتـ.ـو.تر، وقالت:
“عشر دقايق هيكون هنا، أتحملي بس يا مي.”
أمسكت مي بيدها، وكانت الدمـ.ـو.ع تتجمع في عينيها، وسرعان ما صرخت:
“مش قادرة يا راما! الوجع صعب أوي، أاه يارب.”
ربتت راما على يدها بحنو، وقالت:
“معلش يا حبيبتي، استحملي، هي الأمومة مش بالساهل كده. وبعدين، ما أنتي مجربة الوجع ده في ياسين.”
أومأت مي برأسها وبكت، قائلة:
“عارفة والله، بس الوجع صعب أوي أوي.”
ابتسمت راما بهدوء، وقالت بنبرة حنونة:
“ربنا يجعلها ساعة سهلة عليكي يا رب.”
فجأة، دق جرس الباب، فركضت راما وفتحته، وتحدثت بخوف شـ.ـديد:
“ألحق يا عمر، مي تعبانة أوي وبتولد.”
نظر إليها بأشتياق، قائلاً بصوت هامس:
“حشـ.ـتـ.ـيني و  أوي يا راما.”
نظرت له بعدم تصديق، وردت بنفاذ صبر:
“بذمتك، ده وقته؟! بقولك البت بتولد جوه!!”
ابتسم على كلمـ.ـا.تها، وقال:
“طيب، ما تدخلي! هاتيها، مينفعش أدخل ومافيش رجـ.ـا.لة جوه.”
أومأت برأسها بالموافقة، وتحركت إلى الداخل وساعدت مي على الحركة للخارج، وكأنهما تحملان آمالًا جديدة مع كل خطوة. كانت مي تصرخ بألم شـ.ـديد، وضحك عمر بشكل هستيري، مضيفًا بصعوبة:
“شكلك مسخرة وانتي بتصرخي كده يا مي!”
أجابت مي بصراخ:
“هولع فيك يا عمر! هطلع الوجع اللي حاسه بي كله على جتتك!”
ضحكت راما على مناغشات مي وعمر، قائلة:
“امشي يا بنتي، أخلصي، مش وقته اللي بتقوليه ده! هتولدي وانتي واقفة والله.”
تحركت مي مع راما نحو الخارج، وصرخت: “ربنا يجمعك انت وراما في بيت واحد، وتطلع عينك يا عمر يا ابن عمر!”
رد عمر بتمني، قائلاً:
“يااااارب يسمع من بؤك ربنا. أول مرة تقولي حاجة صح، شكلها كده مسك الختام.”
ضغطت راما على أسنانها بغضب، ثم ضغطت على يد مي بقوة، وقالت بصوت هامس:
“اتلمي يا مي ولمي الدور بدل ما أديكي يد في بطنك، أزفلت منك البيبي.”
استمع عمر لكلمـ.ـا.ت راما، وقال بمزاح:
“كتري بقى من الدعوة دي في اوضت العمليات. سمعت إن دعوات اللي بتولد بتكون مستجابة.”
نظرت راما إلى عمر بضيق وقالت:
“متنـ.ـد.منيش إن سمعت كلامها واتصلت بيك يا عمر.”
تعالت ضحكاته، وقال:
“مش البت مي دي مـ.ـجـ.ـنو.نة وطقة ودماغها مسافرة، بس أول مرة تعمل حاجة صح، علشان كنت هتجنن عليكي وعايز أشوفك بأي طريقة.”
صرخت مي بوجههم، قائلة:
“انتوا هتحبوا في بعض، وأنا بموت من الوجع! هتولي جوزي، يا رامي، ألحقني من تحت أيد روميو وجولييت دوول!”
ابتسمت راما على كلمـ.ـا.ت مي، وساعدتها في الصعود إلى السيارة، وكأن كل واحدة منهن كانت تحمل قطعة من قلب الأخرى. جلست بجوارها بينما صعد عمر إلى المقود، ونظر في مرآة السيارة إلى انعكاس صورة راما، وغمز لها بعينه قبل أن يتحرك بالسيارة مسرعاً إلى المشفى، حيث يحمل الأمل في عبور لحظة حياة جديدة معهم.
………………………………………………….
بعد بعض وقت، وُلدت مي، وخرجت الممرضة بابتسامة دافئة تحمل الطفل في ذراعيها، وقدمت الطفل إلى راما قائلة:
“حمدالله على سلامة المدام، جابت عريس زي القمر.”
حملت راما الطفل برفق، ونظرت إليه بإعجاب، وارتسمت على وجهها علامـ.ـا.ت الحنان، وكأن دقات قلبها كانت تتناغم مع خفقات عواطفها الجياشة. قبّلت رأسه بحنو، وكأنها تحاول تقبيل عذوبة الحياة في جسده الصغير، ثم قالت:
“ما شاء الله جميل أوي، نسخة من أبوه.”
أقترب عمر منها وقبّل الطفل بحب، وعيناه تتلألأ بالفرح كأشعة الشمس الباكرة بعد عاصفة. نظر بحب إلى راما وهمس لها بصوت خفيض كأنه يخاف أن تفر الهالة السحرية من حولهم:
“عقبالنا لما تجيبي حتة مني ومنك.”
شعرت راما بتـ.ـو.تر، كأنما صاعقة طائشة قد ضـ.ـر.بت مشاعرها الهادئة، وابتسمت لممرضة كوسيلة للهرب من حديث إضافي قد يزج بها إلى حيز الشكوك. وسألت بتساؤل وبلكنة تدل على القلق:
“مامته عاملة إيه دلوقتي؟”
أجابتها الممرضة بابتسامة لطيفة، وكأنها تطمئن روح راما المتـ.ـو.ترة:
“كويسة الحمد لله، شوية وهتدخل اوضتها. ممكن بس البيبي علشان نجهزه وندخله لمامته، وياريت والده يدفع باقي حساب المستشفى علشان يستلم الطفل ويسجله في الصحة.”
أومأت راما برأسها بتفهم، لكنها كانت تشعر بأن الوزن الهائل لتلك المسؤوليات بدأ يثقل على كاهلها، فقالت:
“والده جاي كمان ساعتين.”
أخذت الطفل وعادت مرة أخرى إلى الداخل، وكأن خطواتها تحاول الانسلاخ عن ثقل المشاعر المترسبة. تنهد عمر بضيق وتحدث بتمني كطفل يحلم بعيدًا:
“راما، وافقي بقى على جوازنا. نفسي نعيش اللحظة دي سوا، نفسي يتقفل علينا باب واحد وتبقى مراتي على سنة الله ورسوله. أنا عندي حاجات كتير أوي عايز نعيشها سوا، نرسم لوحة حياتنا بألوان سعادتنا.”
نظرت له بقلق، وارتبكت أفكارها كما لو كانت في دوامة، وتحدثت بصوت مختنق كمن يشهد غرق سفينة:
“بلاش تستنى يا عمر، علشان هتستنى كتير أوي وعلى الفاضي. اسمع كلامي وروح شوفلك بنوتة، لسه الحياة وردية في عيونها، هي دي اللي هتقدر تسعدك وتعيشك اللي نفسك تعيشه. أما أنا خلاص، عايشة من غير روح، مش هقدر أسعدك.”
أمسك يدها وتحدث بنبرة عاشقة، كأن كلمـ.ـا.ته تحمل سحرًا يحاول أن يذيب كل الخوف:
“أنا موافق وراضي جدا كمان، وافقي أنتي بس وملكيش دعوة بأي حاجة. مش يمكن أطلع أنا اللي نكدي ومتعاشرش.”
ابتسمت على كلمـ.ـا.ته وظلت صامتة وكأنها تحاول تلمس جليد حزانها. شعر بتفاؤل كبير عنـ.ـد.ما ابتسمت راما، وتحدث بسعادة عميقة:
“اعتبر سكوتك وابتسامتك موافقة على طلبي؟”
في تلك اللحظة، خرجت الممرضة وأبلغتهم بخروج مي من العمليات إلى غرفتها المتخصصة، كأنها قد جلبت لهم أنغام الحياة مرّة أخرى. تحركت راما سريعًا من أمام عمر وذهبت عند مي، وكأنها تعود إلى حوض شغفها. زفر عمر بضيق، وكلمـ.ـا.ت معدّلة في قلبه، وقال:
“يعني، ده كان وقته؟ لازم تخرج الممرضة وهي هترد عليا.”
أنهى كلامه، لكنه لم يستطع تخطي الطيف الذي خيم عليه، وتحرك خلف راما إلى غرفة مي. دخلوا إلى الداخل، وجلست راما بجوار مي، قبّلت رأسها بحب، وكلمـ.ـا.تها تفيض بالحنان:
“حمدالله على السلامة يا أم حزلقوم.”
ردّت مي بنبرة متعبة، لكنها تحاول أن تلملم نفسها:
“الله يسلمك يا راما، عقبالك يا رب لما ربنا يهديكي على الوَلَا اللي هيموت عليكي. أنا دعيتلكم كتير أوي جوة والله.”
ابتسم عمر بسعادة وقال:
“ربنا يستجاب منك يا أم ياسين. شوفتي اللي حصل معايا بعد ما كنتي انتي اللي بتتحايلي عليا علشان أتجوز بنت من اللي بتجبيهم ليا. دلوقتي أنا وإنتي بنتحايل على اللي خطفت قلبي وعقلي وكل كياني.”
نظرت لهما بتـ.ـو.تر وتحدثت بتلعثم، وكأن قلبها لا يزال في حالة صراع:
“ب ب بقولكم إيه، انتوا الاتنين بلاش تحدفوني لبعض. قولتلكم مش موافقة.”
اقترَب منها وتحدث بصوت هامس، محاولاً اختراق حواجز الخوف:
“ما الموافقة كانت خلاص هتنطقيها، لولا خروج الممرضة. إيه غير رأيك بقى؟”
ابتلعت ريقها بتـ.ـو.تر، وارتجفت أوتار صوتها وقالت بتلعثم:
“ا ا أنا مكنتش هوافق على فكرة، أنا كنت لسه هرفض، بس خرجت الممرضة وسكت.”
أحاط خصرها بذراعه وتحدث بنفاذ صبر، محاولاً استحضار القوة من صوته:
“راما، بقولك إيه، واضح كده الهدوء مش هيجيب نتيجة معاكي. إنتي هتوافقي وهنتجوز، وهنجيب عروسة لحزلقوم، ابن البت المـ.ـجـ.ـنو.نة دي، والشهر الجاي هتبقى مراتي برضاكي أو غصب عنك.”
رفعت حاجبيها إلى الأعلى، وكأنها تتحدى كل الحدود، وقالت بتحدٍّ:
“والله! طيب، أنا مش موافقة، ووريني هتتجوزني إزاي غصب عني.”
ضمّها أكثر إلى حـ.ـضـ.ـنه وتحدث بنبرة عاشقة، وكأنه يزرع الأمل في قلوبهم:
“بتكلم بجد يا راما، مش قادر أعيش من غيرك. وافقي بقى، حلي أيامي. والله العظيم بعشقك.”
نظرت له بخوف ورهبة، وكأنها تشهد معركة المشاعر في قلبها، ثم نظرت إلى مي، وجدتها تتابعهم باهتمام شـ.ـديد. عادت بنظرها مرة أخرى له وأومأت برأسها بالموافقة، وكأن خطوتها هذه تحمل النذر الجديد. نظر لها باستغراب، في فرحة عفوية، وقال بتساؤل:
“أفهم إيه من حركة راسك دي يعني موافقة ولا قصدك إيه بالظبط؟”
تنحنحت بخجل، وكأنها تتسلح بكلمـ.ـا.تها الحانية، وتحدثت بكلمـ.ـا.ت متقطعة:
“م م موافقة.”
تحدث بسعادة بالغة، وكأن الأمل قد ارتدى ثياب الفرح:
“أنا مش مصدق نفسي، أخيراً. حاسس نفسي بحلم، وخايف أصحى من الحلم الجميل ده.”
حاولت مي أن تطلق الزغاريد، لكنها لم تستطع، وما لبثت أن غمرت عيونها بالدمـ.ـو.ع، وتحدثت بسعادة:
“كان نفسي أزغرد وأغرق الدنيا زغاريد، بس ملحوقة. أكل فرختين تلاتة وتترد صحتي فيا بعد العلقة دي، وأنا كل ما أشوف حد، هزغرد في وشه.”
تعالت ضحكاتهم على كلمـ.ـا.ت مي، تلك الأصداء التي دفنت همومهم جميعًا في بحر من الفرح. وفي ذلك الوقت، وصل رامي ووالده ووالدته، نظروا إلى بعض باستغراب، ثم نظروا إلى راما وعمر بعدم فهم. تحدثت مي بسعادة، وكأنها مرآة لفرحتهم:
“وش يحيي حلو علينا، أخيراً راما وافقت تتجوز عمر.”
احتضنها رامي بسعادة، كالغيمة المطرية التي تنثر الفرح، وقال:
“ربنا يسعدك يا حبيبتي ويفرح قلبك.”
ثم ابتعد عنها واحتضن عمر وتحدث بنبرة سعيدة:
“مبروك عليك أختي. أنت راجـ.ـل وتستاهلها، ربنا يهنيكم يا رب.”
تحدث والدها بسعادة، وكأن قلبه قد انتشى كعصفور حر:
“ربنا يفرح قلبك يا بنتي ويرزقك راحة البال.”
ابتسمت له وقالت بحب، كأن كلمـ.ـا.تها تتدفق كالنبع:
“الله يبـ.ـارك فيك يا حبيبي، وربنا يخليك لينا يا رب.”
نظرت لها والدتها بدمـ.ـو.ع الفرح، واقتربت منها واحتضنتها بسعادة، كأنها تحمل كل الأماني:
“أخيراً يا بنتي، هطمن عليكي مع راجـ.ـل يستاهلك بجد، ربنا يسعدكم يا رب.”
ربتت على ظهرها بحنو، وكأنها تمتدح قلوبهم، وقالت بحب وامتنان:
“ربنا يخليكم ليا، ودايماً في ضهري وساندني.”
تحدث عمر بتلهف، عازمًا على تحقيق أحلامه:
“عمي، أنا هجيب أهلي الأسبوع الجاي علشان أطلب إيد راما. مناسب ليكم الميعاد ده؟”
أومأ والد راما برأسه بالموافقة، وقال:
“تنوروا يا حبيبي في أي وقت، البيت بيتكم.”
نظرت راما له بخجل، وكأنها تحاول عبور جسر جديد من المشاعر، ثم نظرت إلى الاتجاه الآخر، تحاول الهروب من أضواء الموقف. تحدثت مي بضيق، تحاول أن تسلط الضوء:
“يا سلام يا أخويا، جيت حـ.ـضـ.ـنت أختك وبـ.ـاركت ليها، وأنا ولا كأنك شايفني ولا سألت على البيبي عامل إيه.”
ابتسم لها، ثم اقترب منها وجلس بجوارها، احتضنها بحب وقبّل رأسها وقال بلطف:
“حمدالله على سلامتك يا أم الولاد. ربنا يبـ.ـارك لنا فيهم، ويجعلهم ذرية صالحة يا رب.”
ابتسمت له بحب، وكأنها تعيش في جنة اللحظة، وربتت على صدره وتحدثت بنبرة عاشقة:
“ويخليك ليا يا أجمل ما في حياتي. أنا محظوظة بجد بيك، وإنك أجمل وأعظم زوج وأب في الدنيا.”
تحدثت راما بمزاح، وكأنها تحاول تهوين الأجواء المتـ.ـو.ترة:
“فشتي وكليتي، مش قادرة تستحمل رومانسيتكم دي، ارحمونا.”
نظرت لها وقالت بتريقة، كأنها تذكّرها بتلك اللحظات:
“شوف مين بيتكلم، من شوية كنتوا عايشين دور العشق الممنوع. اهدي يا بنتي كده شوية وصفي النية.”
تعالت ضحكات الجميع، وفي ذلك الوقت، دخلت المربية ومعها الطفل الصغير وأعطته لوالدته، كأنها أضافت مسحة جديدة من الفرح لحياتهم. احتضنها رامي بسعادة، قبّل رأسها وسأل باستفسار، وكأنهم يمزجون الأماني بالمحبة:
“أمال ياسين فين؟”
أجابته بتوضيح وهي تمسك بيد طفلها الصغير، وكأن عذوبة اللحظة تملأ المكان:
“كلمت أم محمد، لما يجي باص المدرسة تخده وتخليه عندها لحد ما نروح.”
أومأ رامي برأسه بتفهم، وظلوا ينظرون إلى طفلهم بسعادة، كأنهم يرون مستقبلهم يتجلى أمام أعينهم.
………………………………………………….
بعد مرور عدة سنوات…
هبطت راما، وهي تمسك يد ابنتها لمار ذات الست سنوات، بخطوات خفيفة من فوق الدرج، مفعمة بالحماس، فتسارعت دقات قلبها مع كل خطوة. كانت الأجواء مليئة بالتوقعات، حيث كانت تشعر بأن يومها سيكون استثنائيًا. خرجت من شقتها، دون أن تنسى أن تلقي نظرة أخيرة على غرفة لمار المليئة بالألعاب والضحكات والذكريات السعيدة. نزلت إلى الأسفل وصعدت إلى السيارة التي كانت تنتظرها، ثم أغلقت الباب ببطء كما تفعل دائمًا، وكأنما تدعو السعادة لتصاحبها في رحلتها. انطلقت نحو الشركة، مشغولة بأفكارها الرومانسية حول المفاجأة التي أعدتها لزوجها، وما بين هذه الأفكار كانت تطل على نافذة السيارة لتشاهد المدينة تنبض بالحياة. بعد مرور بعض الوقت، وصلت إلى وجهتها، وترجلت منه، فنظرت إلى ابنتها مبتسمة قبل أن يصعدوا إلى الأعلى. عنـ.ـد.ما فتحت الباب، أضاء وجهها بابتسامة مليئة بالحب وقالت:”مفااااجأه.”
عندئذٍ، نظر إليها بسعادة، وبدت عينيه كأنما تعكسان فرحته ويقدران اللحظة. نهض من مقعده، متخطيًا كل العراقيل التي واجهته خلال اليوم، واقترب منها بحنان، حيث حمل ابنته بيديه، قبلها برقة كما لو كان يشكرها على وجودها في حياته، ثم أنزلها برفق ليوقف تلك اللحظة الثمينة للمستقبل. احتضن راما بعشق، وقد انطلقت منه الكلمـ.ـا.ت النابعة من القلب:
“أجمل مفاجأه، والله كنت لسه بفكر فيكم.”
ابتعدت عنه قليلًا، وأضفت بعض الدلع لحديثها قائلة:
“اممم، ما أنا حسيت إنك عمال تفكر فيا. قولت يا بت يا راما، خدي لمار وروحي ليه المكتب، ونقول ليه كل سنة وانت طيب، وعقبال مليون سنة وانت معانا، ومنور حياتنا يا أجمل ما في حياتنا.”
أنهت جملتها وأخرجت ساعة يد هدية من حقيبتها، متلألئة تحت أضواء المكتب، وأعطتها له بفرحة تنبع من قلبها، وكأنها هديا من روحها. كانت الساعة رمزًا لذكرياتهما، ومؤشرًا على كل لحظة مرت في حياتهما معًا. كانت تمثل الأمل الجديد والمستقبل المشترك. دقات قلبه تراقصت بسعادة، فاستقبل الهدية بيديه المرتجفتين، ثم قبل يديها بحب ورفع صوته بنبرة عاشقة:
“كل سنة وانتي منورة حياتي، يا أجمل حلم أتمنيت تحقيقه، وربنا حققه ليا. ربنا يخليكم ليا يا رب.”
أخرجت اختبـ.ـار حمل من حقيبتها، ورسمت على وجهها ابتسامة من السعادة، قائلة:
“ودي تاني هدية ليك.”
نظرت إليه وهي تتأمل تعبير وجهه المليء بالدهشة، وكانت كأنما تراقب السماء وقد انفتحت أمامهم بفرص جديدة. فقال:
“حامل يا راما؟ أنا مش مصدق نفسي! فرحان أوي إن عيلتي بتكبر معاكي. يااااه، ألف حمد وشكر ليك يا رب، أكرمتني بحب عمري، وكمان رزقتني الذرية منها. قد إيه كرم ربنا كبير، دايمًا يجبر بخاطر عبيده بعد الصبر. ربنا يديمكم في حياتي، يارب.”
ابتسمت له بحب وحرارة، وقالت:
“ده أنا اللي لازم أقول الكلام ده بعد خذلان الماضي اللي شوفته على أيده. أسودت الدنيا في عيوني، وقلت خلاص، انتهى كل حاجه. لكن جيت أنت، ولونت حياتي بحبك ودفئه. رجعت ثقتي بنفسي، حسستني بقمتي، خلتني أثق في الناس بعد ما كنت فقدت الثقة في الكل. كنت أجمل مكافأة من ربنا ليّا، عوضني خير عن كل اللي شفته. ربنا يخليك لينا، يارب.”
احتضنها بسعادة وراح بحب، قائلاً:
“إيه رأيك نحتفل بالمناسبة السعيدة دي ونتغدا بره، وبعد كده ناخد لمار الملاهي؟”
نظرت له باستغراب، متسائلة:
“طيب والشغل؟”
غمز لها، قائلاً بمزاح:
“يغور الشغل قصاد لحظة حلوة جنب حب عمري.”
أنهى حديثه، وحمل ابنته على ذراعه، وقبلها بحب، ثم أمسك يد راما، وخرجوا معًا من مكتبه ليقضوا وقتًا سعيدًا، يضيف ذكريات جميلة تتخلد في عقولهم، ويدونون فرحتهم في صفحات حياتهم التي لطالما انتظرت قدوم اللحظات السعيدة. كانت هذه اللحظة تمثل بداية فصل جديد لقصتهم، مليء بالأمل والتحديات الجديدة، وكل ما عليهم فعله هو العيش في هذه اللحظة والاستمتاع بكل تفاصيلها.
تمت بحمد الله
النهاااااية

لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇

تعليقات