رواية اصرة العزايزة كاملة جميع الفصول

رواية اصرة العزايزة هي رواية رومانسية والرواية من تأليف نهال مصطفي في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية اصرة العزايزة لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية اصرة العزايزة هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية اصرة العزايزة تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة

رواية اصرة العزايزة كاملة جميع الفصول

رواية اصرة العزايزة من الفصل الاول للاخير بقلم حبيبة الشاهد

أَحِنُّ إلى لَيْلَى وإنْ شَطَّتِ النَّوَى
بليلى كما حن اليراع المنشب
يقولون ليلى عـ.ـذ.بتك بحبّها
ألا حبذا ذاك الحبيب المعذّب.

قد يُفاجئك لحن قديـم فيفتح شهيتك على مذاق الحُب الذي تعمدت أن تتجاهله آمدًا طويلًا ، جر ” هارون ” عباءته الصعيديـة وهو يقترب رويدًا رويدًا من أخيـه الجالس بالأرض تحت ظل شجرة البرتقـال ممسكًا عودهُ ويعزف عليـه قصائد ” قيس بن الملوح ” التي يحبها كثيرًا .. خطوات متمهلة على لحن الكلمـات ودقات العود المتناسقة وصلت أقدام أخيه لعنده وبدون إحداث صوت يقاطعه جلس منسجمًا متخذًا من جذع الشجرة مسندًا لظهره ..

كرر ” هيثم ” لحن الأبيات بطرق مختلفة بتركيز شـ.ـديد حتى توصل للحن الذي هتف فيه هارون معلنًا إعجابه :

-الله !!!!

ترك العود أرضًا ودار نحـو أخيه متحمسًا وهو يعقد قدmيه :
-عجبك ، صوح ؟! شايف في تطور زين !!

ثنى هارون قدmه اليسـرى وسند علي ركبته كفه الممسك بالسواك ؛ وقال ذائبًا بسحر الغنـاء :
-إلا عجبني !! ماهو الصباح ما يبقاش صباح من غير عزفك الحلو ديه ..

ضحكة طفيفة اندلعت من شـ.ـدقه :
-طيب قول لي حابب اسمعك أيه ، بس يكون في معلومك خدmة قصاد خدmـة .

رفع هارون حاجبـه من جراءة أخيه وتجاوزه في الحديث معه :
-هي حصلت ؟! عـتساومني يا واد أنت ؟!

-أقلع عبايـة خليفة العزايزي دي ، وركز مع أخوك الصغير ، أنا بردك ماليش كبير غيرك بعد أبوي .

عقد حاجبيه الكثيفين ببعضهمـا :
-مطلع القصيدة كُفر !!مالها عاد عبايـة أبوك يا واد أنتَ ؟! هتخترف من أولها ؟!

-فوق رأسي ، ورأس النجع كله يا كبيرنا .. بس اسمعني اللول .

رد بجفاء مفتعل :
-هااه ، سمعني عايز تقول أيه .. ؟!

-عايز أخطب بت عمي وهدان يا هارون ، البت قالتها في وشي إكده لو مجبتش ناسي الجِمعة الجاية هتتخطب لوِلد غريب .

ثم اندفع نحو أخيـه :
-أنا عحبها قوي يا هارون ، أعمل حاجة عشان خاطر أخوك ، حتى نربطوا كلام مع ناسها والجواز على مهله ياسيدي .. أي قولك ؟!

ألتوى ثغره باستهزاء :
-ما تنشف وتصلب طولك ، مالك ؟!! هي الخسرانة مش أنت ، وبعدين ما عاش ولا كان الـ يلوي دراع وِلد خلفية العزايزي .

رد متيمًا :
-لاه هو عاش وكان وادهولت ، أخوك حب وطب يا أخوي .. والحب والكيف ذلتهم واعرة .. مايعرفوش لا كبير ولا طبيب يداويه …

-مش عاجبني حالك يا وِلد أمي وأبوي بس .
ثم رفع عينيه ولم تفارق البسمـة ثغره ولكنه أتبع قائلًا :
-خد رضـا صفيّة اللول وأنا اروح معاك من عشية .

انكمش وجهه بثنايا اليأس :
-ودي أعملها كيف ؟! دي حالفة ما في قرع طبل يرن بالدوار غير لما تفرح بولدها البكري ، الـ هو جنابك .. ما تتجوز وتفك نحسنا يا هارون وسيبك من مشاكل العزايزة الـ تقصف العُمر دي .

هز رأسـه بشموخ ثم أتبع بمزاح :
– أديك حافظها زين ، ومتنساش بعد مني هاشـم أخوك ، يعني لسه قدامك كتير .. عمومًا اتفق مع البت الـ عتحبها تحجزلك بتها لو ملكش نصيب فيها ؟!

-بتها يا هارون ؟!!

-يبقى طولت من الحب جانب يا مغفل، وهي أيه وبتها أيه ؟!

اكفهر وجه هيثم المغرم بـ رحاب وأخذ يلملم آلته الموسيقية :
-تصدق أنا غلطان إني عتكلم معاك ، ااه وأنت هتعرف الحب والمشاعر منين عشان تحس بي كفاية عليك غُلب ناسك .. مش عاوز منك حاجة يا هارون .. يا كبيرنـا … متشكر قوي .. خليك فاكرها .

أسبل عينيه ساخرًا :
-خُد أهنـه ، واخد في وشك ورايح على فين يا عم الحبيب أنتَ .

لوح بيده بدون اهتمام :
-قفل على الحديت دِلوق يا هارون .

على مساحة الثلاثون فدان بقلب الجبل يلف سور قصر خليفة العزايزي الفخم الذي يضم بداخله مساحة شاسعة من المباني المتعددة المتناسقة بجوار بعضها التي يسكنها أفراد العائلة المترابطة ، ومزرعة ضخمة للخيـول ، وحديقة واسعة تحتوي على مشاتل من الورود والبساتين المتنوعة ، يطوقها عدد هائل من الأشجار والنخيل التي تضلل عليـهم ..

طارت الفراشات من جواره فتبسـم ضاحكًا بسخرية :
-ماهو الـ بيغني لكم هج ، هـ تقعدوا معاي أنا ليه ؟!!

~المبنى الداخلي~

صوت رنين الجرس المزعج الذي لم يخلٌ منه القصـر ، ركضت ” فردوس ” لتفتح الباب مع علمها بهوية الطارق الذي استقبلته بنفس ثقيل :

-يسعد صباحك يا ست نغم .

طبعت نغم قُبلة سريعة على وجنتها وقالت بفرحة :
-وصباحك يا فردوس يا سكر أنتِ ..

ثم طافت أنظارها بساحة المبنى بسرعة بأعين متلصصة :
-خالتي صحيت ؟!

ردت فردوس على مضضٍ :
-طبعًا صحيت وهو في حد يصحى قبلهـا في البيت ديه ..

بخفة الفراشـة لملمت نغم طرف فستانها المشجر وهو تتمم على حجابها ، ولكنها توقفت متسائلة :
-وهارون .. ؟!

-ماله سي هارون يا ست نغم ؟!

تأملتها مليًا :
-جرالك أيه يا فردوس ؟! هتـردي عليّ السؤال بسؤال ؟! أقصد صحى هو كمان ؟!

-صاحي وقاعد في الجنينة الورانيـة .

قُبلة أخرى كانت من نصيب وجنتها الأخرى وقالت بشغف المراهقة المنسوجة من حبها الكبير لهارون ابن خالتها :

-هروح احضر له فطور ، أدعي لي يا فردوس ، هحليلك خشمك ده لو المراد بتاعي تم .

ضـ.ـر.بت فردوس كف على الأخر :
-البـ.ـنتة بقيت هي الـ تجري ورا الرجـ.ـا.لة الزمن ده ؟! ألطف بينـا يا رب .

شرعت أن تقفل الباب ولكن باغتتها زينـة وهي تتدفعه بلهفة :
-استنى استنى يا فردوس ..

ثم وقفت أمامها معاتبة وهى تنزع وشاح رأسها :
-أنتِ مش شايفاني جاية رمح على نفس واحد .

امتقع وجهها وردت بحسرة :
-العتب على النظر يا ست زينة !

داعبت وجنتها بخفة كمن يمزاح طفل صغيـر وهي تمد أنظارها للداخل :
-بكرة أخدك ونشوفوا مقاسات النضارة .. الا قوليلي يا دوسه يا قمر أنتِ ، عمتي صفية فينها ؟!

-في المخزن بتشوف المحاصيل هتقضي ولا لا لغاية المحاصيل الجديدة مـ.ـا.تخش علينا .

أصدرت زينـة صوت إيماءة خفيفة بحذر وهي توشوش لها:
-طب وهارون .. فين أراضيه ؟!

-قاعد في الجنينة جار سي هيثم .

أخرجت زينـة من جيب فستانها ورقـة مطوية داخل قطعة قماش بيضاء ودسته في يدها :
-أقولك أيه يا فردوس ، عايزاكي تحطي ده تحت مخدة هارون .. أياكي حد يوعالك ..

-ده أيه ده يا ست زينة ؟!

رمقته بأعين محذرة :
-وطي صوتك يا فردوس هتفضحينا .

بصوت منخفض :
-أيوة معرفتش إيه ده بردك ؟!

ارتبكت زينة قليلًا :
-أممممم دهوت حجاب عشان يحفظ هارون من كل شـر .. هتطلعي تحطيه ولا أطلع أنا .

أجابت فردوس باستسلام :
-لا هحطه متتعبيش روحك..

-أحبك يا دوسه وأنتِ مطيعة ، هروح افطر وياه هارون قبل الوكل ما يلسلس .

ما كادت أن تخطو خطوتين ثم تراجعت لتؤكد عليها :
-فردوس ، أوعاكي تنسي .. هاه ؟!

-طوالي يا ست زينة .. متعتليش هم .

بخطوات أرنب مُقبل على الحياة تمايلت على طراطيف أصابعها نحو الحديقة التي يجلس بها هارون حاملة حقيبة الطعام بيدها وهي تدندن:
” طايـر يا هوا طايـر على المينـا .. رايح يا هوا تخبر أهالينـا .. قصة الهوى وتفتن علينـا !! أمرك يا هوىٰ و ”
حتى ارتطمت بكتف هيثم الذي يتشاجر مع طوب الأرض ، فهب صارخًا :
-مش تفتحي يا زينة ؟!!!قطر معدي ؟!

-أباي عليك يا هيثم !! وأنا كُنت ضـ.ـر.بتك بطلقة ؟! مالك على الصبح !قول يسعد صباحك يا زينة !

لوح بيده متجاهلًا اسئلتها :
-مفيش .. وحلي عن راسي الساعة دي .

مطت شفتها بتعجب :
-ماله ديه ؟!

ثم نفضت غبـ.ـار حيرتها وأتبعت سيرها :
-وأنا مالي ..
ثم أتبعت مدندنة:
-جينا يا هوا للبحر جينا .

وصلت زينة إلى الشجرة التي يجلس هارون تحتها فأقبلت عليـه بسعادة مترنمة :
-يا صباح الهنـا على كبيرنا وكبير نجع العزايزي كله من شرقه لغربه وضواحيه .. يسعد صباحك يا سيـد الناس .

-كيفك يا زينـة ؟!
أردف سؤاله بهدوء خالٍ من أي ضيق أو شغف في حوارها ، فـ جلست مقابله :
-أنا زينة وهفضل زينة طول ما حسك في الدنيـا ياسيد الناس ..

ثم أخذت تفتش وتفتح بالحقيبة البلاستيكية وتخرج منه عُلب الطعام :
-تعرف أن عيني مشافتش النوم طول الليل ..

-ده ليه ؟! عيانة أياك نشوف لك داكتور ؟!

داهمهـا الحُب وهي تبرر سبب يقظتها طوال الليل :
-بعد الشر عليـا ، عياي واحد وطبيبه واحد ما ينفعش بعيديه الطب كله .. بس هو يقول آه .

رصت الأطباق أمامه وهي جالسه على رُكبتيها وأكملت :
-سهرانة أعملك بيدي الفطير الـ عتحبـه ، مع هبابة العسـل هينسوك وكل صفيـة .

تربع هارون ليستقبـل إفطارها بفرحة عارمـة ويعبر عنها :
-وه وه .. جيتي في وقتك يا زينة ، ده الفطير لسه بناره .

-مطرح ما يسري يمري يا وِلد عمتي .

ما شرع أن يتذوق الطعام ويتلذذ من مذاق العسل الطبيعي أتت نغم على عجل وهي تحمل فوق رأسهـا المائدة المعدنيـة وتقول بضجرٍ :

-أنتِ أيه جابك الساعة دي يا زينة !!

شنت الحرب النسائية بينهن ، فردت عليها وهي تضع الخبز الساخن بيده :
-جرب دي كمان يا هارون من يدي ..

ثم عادت لنغم :
-عازمة ولد عمتي على الفطور ، فيها حاجة دي ؟!

وضعت نغم المائدة على الأرض ثم شـ.ـدت الخبز من يد هارون بعنفٍ :
-والله ما هيفطر غير من وكلي يا زينة .

ثم ولت ناحيـة هارون وأخذت تبعد عنه الطعام الخاص بزينة :
-سيبك من الوكل الـ ينشف المعدة ده ، واشرب كوباية اللبن دي تِرُم عضمك .

تدخلت زينة بغـــضــــب :
-جرالك أيه يا نغم !! مش هتبطلي حركات العيال دي .. ما تسيبيه يختار على كيفه .

ردت الأخرى بتحدٍ :
-مش هياكل غير وكلي يا زينة ، ما تقول حاجة يا هارون .

مازال محافظًا على هدوئه يراقب تلك الحروب الدائرة حوله ، شـ.ـدت زينة كوب الحليب من يد نغم بإصرار :
-متسديش نفسه على الـوكل وسيبيه يملى بطنه عيش اللول .

شـ.ـدت نغم كوب الحليب منها :
-مالكيش فيه ، لازم يشق ريقه على كوباية اللبن الصبح ، مش فطير وعسل .

تأفف باختناق وهو يتمتم لنفسه :
-ياصبر الصبر على الصُبح !

تدخلت زينة وغمست اللقمة بالعسل وقربتها من فم هارون :
-سيبك منها ومن تقاليعها يا هارون وخد كُل من يدي والله ما أنت مرجعها .

انفجرت نغم بغـــضــــب يتطاير وهي تخـ.ـطـ.ـف اللقمة من يدها :
-قولتلك يشق ريقه باللبن اللول أنت ما عتفهميش .

طاحت يدي هارون بوجههن وهو يسب جنونهن :
-ولا وكلك ولا وكلها ، ومش طافح في أم اصطباحتكم المقندلة دي .

كادت زينة أن تدخل لتعارضه فقطعها بحزمٍ وهو يفارق مجلسهن :
-ولا كلمة قُلت …

لملم عباءته وترك لهن ساحة الحـرب الطاحنـة عليـه ، وصراع كل واحدة منهن أن تصل لقلب هارون العزايزي كبير عائلة العزايزي نيابة عن أبيه ، صاحب الرابعة والثلاثون عامًا تجمعت به هيبة وشجاعة الرجـ.ـال لذا أصبح جديرًا بأن من يتولى حكم قبيلته بعد أبيه الذي أصابه الهرم ، فتنازل لابنه كي يطمئن على حكم العائلة في حياته .. زفرت زينة بامتعاض :
-استريحتي ؟! أهو مشي وهو على لحم بطنه ..

أردفت نغـم قائلة بحنق :
-ما بلاش كهن الحريم ده يا زينـة ، هارون مش هيجي بالحركات دي !

زينـة بسخرية :
-أومال هيجي بأيه يا ست العارفين يابتاعت المدارس ؟!!

ردت نغم متدللة وهي تفارقها :
-القلب وما يريد عاد ، مش بالحنجل والمنجل .. والسبع ورقات بتوعك .

تنهدت زينة ببغضاء :
-طيب يا نغم يا بت ونيسة أمـا وريتك !

~ أمام البوابة الخلفية ~

-خُد خُد إهنـه ، مالك طايح وواخد في وشك من غير حتى ما تصبح على صفيـة .

اكفهر وجهه واعتلاه الضيق :
-مفيش يا صفيـة ..

ربتت على صدر بحنو :
-على أمك بردك ؟! دول عينيك بيطق منيهم الشـرار .

انفجر بوجه أمه معبرًا عن غـــضــــبه :
-فهمي بنات أخواتك إني مش بتاع جواز دلوق خليهم يفكوا مني لوجه الله ، مش ناقص خوتة وو.جـ.ـع راس أنا يا أما .

ضحكت بملامح عجوز على أعتاب الستين :
-هدي روحك يا حبيبي ، وقول لي قلبك مايل لمين أكتر ، نغم ولا زينـة .. ولا أقول لك ؛ الاتنين غلابة ، أنا أجوزك الاتنين في ليلة واحدة ، أيه قولك ؟

استولى على صوته الأسى والهزء :
-ياصبـر الصبر ؟! أنا هارون العزايزي يا أما مش هارون الرشيدي .. فوقي الله يراضيكي مش ناقصين خوتة ..

انكمشت ملامحها بامتعاض :
-يعني أيه هتقضي العمر إكده بطولك من غير لا عيل ولا تيل ؟! ده أبوك وهو في سنك كان معاه أربع رجـ.ـا.لة يسدوا عين الشمس .

جز على شفته السفلية :
-صفيـة ، حلي عن راسي الساعة دي ، مش أنتِ وبنات أخواتك عليّ .

وقفت أمامه كالجبل الذي لا تحركه ريح غـــضــــبه :
-أوعاك تكون باصص على واحدة من براة القبيلة ؟! أنت عارف زين عرف العزايزة ؛ مستحيل يدخلوا دm غريب بيناتهم .. أوعاك يا روهان ياولدي .

بكـبـــــريـاء الطاووس هب بوجه أمه معارضًا :
-لا بره ولا جوه ولا يشغلني صنف الحـ.ـر.ام ده واصل ، وسعي عاد خليني أروح أشوف مصالحي .

-ماشي يا هارون بس يكون في معلومك أنا صبرت بما فيه الكفاية ، وصبري له آخر ..

ربت على كتف أمه برفق :
-خشي عشان متستهويش يا أما ..

ثم انصرف وهو يسب بنات حواء جميعهن :
-والله العاقل يخوتوه ..

-روح ياولدي ربنا يفتح نفسك على صنف الحريم قادر يا كريـم .. دعوة وليـة في ساعة صُبحية .. أقبلها مني يارب ..

••••••••
” مرسى علـم “

صف هاشم سيارته المرسيدس أمام المنزل السكنى المكون من ثلاثة طوابق يسورها حديقة غاية في البساطة والجمال ، تناول ” كابه العسكري ” ووضعه تحت إبطه وهبط من سيارتـه متجهًا نحو بوابة منزله الأنبق .. ما أن اخترق مفتاح كالون الباب الخشبي الكبير سبقته ” رغد ” زوجته وهي تفتح الباب ويسطع اللؤلؤ من عينيها وهي تردد اسمه وترتمي بين ذراعيه :

-هاشم، أخيرًا جيت .

هاج قلبها ببلابل الشوق وهي معلقة بين يديه بأقدام محلقه في سماء الحُب :
-أسبوعين بحالهم يا هاشم .. ؟!

طوق زوجتـه السرية عن أهله بلهفـة مُحب وهو يطبع وسام اشتياقه على جدار عنقها :
-أنتِ عارفـة أن ما يبعدنيش عنك غير الشـ.ـديد القوي .

فارقت حـ.ـضـ.ـنه بأعجوبـة وهي تسحبـه للداخل بحماس الطفولة :
-تعالى تعالى ، مامي جوه سلم عليها .

قال في شيء من التهكم هامسًا :
-هي مطولة !

لكزته بحرج تابعته نظرة تحذيرية :
-بس بقا لتسمعك وتزعل .

رمى ” الكاب ” على الطاولة ذات السطح الرُخامي واتبع بهمس يشعله الشوق :
-أنا أجازة ٤٨ ساعة مش عايز أضيع منهم دقيقة واحدة ..

ضغطت على كفه وهي تقترب من أمها وبثغـر ضاحك :
-مامي ، هاشم جيـه .. قوليلو بقا أنا كُنت لسه بعيط لك وأقولك واحشني أد أيـه .

وثبت سامية لتُصافحـه ثم تعانقـه بقلب أم :
-نورت بيتك يا حبيبي ، شيـل بقا شوية من نكد ست رغد ..

ألتف ذراعه حول خصرها وشـ.ـدها إليـه :
-مش أنا قايل لك عندي مأموريـة المكان الـ رايحهُ مفيهوش شبكة .

نظرت إليه نظرة تملأها نار الحب التي تلتهم غابة وهي تمرر ظهر كفها على وجهه بهيام :
-أعمل أيه في قلبي طيب .. !!

تدخلت أمها بلطفٍ :
-أنا كده اطمنت عليها ، اسيبكم بقـا وأروح بيتي وأشوف زرعي اللي دبل بسبب الست رغد .

تدخلت رغد باعتراض :
-مامي استني اتغدي معانا ..

ضغط هاشم على كفها كي تصمت فلاحظت أمها فعلته فاستقبلتها برحب وابتسامة هادئة ، بادلتها ابـ.ـنتها ابتسامة رقيقة لكـ.ـسر ما سببه إليها من إحراج :
-سيبيني بقا أرجع بيتي وحشني .. هغيـر هدومي وامشي .

أخذ يترقب خطوات حمـ.ـا.ته المتهملة حتى لمست أقدامها أعتاب الدرج ، فأنقض هاشم على فريستـه التى تراجعت للوراء بفزعٍ ورفض قاطع لتصرفه الذي ينتويه في تلك الأثناء طاحت يدها بالفازة الزجاجيـة لترتطم بالأرض فيتهشم فتاتها هنا وهناك ، توقفت نادية بقلق بمنتصف السُلم متسائلة :

-في حاجة يا ولاد ؟!

رد هاشم على الفور وهو يحمل رغد ليحمي أقدامها الحافيـة من فتات الزجاج المنتشر وبلهجته القهراوية التي لا تتبدل إلا معهما :
-لا يا طنت ، دي رغد عندها فرط حركة بس زي ما أنتِ عارفه .

عاتبته رغد هامسـة :
-عاجبك كده ؟!

توغل في أحشاء عينيها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  الله .. !!

ثم حملها برفق وأجلسها على الطاولة مبتعدًا عن دائرة انتشار الزجاج وقال بتنهيدة تشبه شهقة الغريق متغزلًا بجمال المرأة ذات الشعر الغجري التى وقع بشباك عينيها منذ عامين وقبلت أن تكون زوجته بدون علم أهله رغم علم أهلها وأصدقائها وإقامتهم لحفل زفاف عائلي بمرسى علم ، العشق كالضبابة السوداء إن حلت بقلب إمراة عمتها عن جميع حقوقها :
-وبعدين فيكي ؟

-الله ؟! وأنا عملت أيه ؟!

ارتدى ثوب الصعيدي المُتيم وهو يجيب :
-كفاياكي حلاوة عاد ..

رن صوت ضحكتها بأرجاء ” ڤيلاتهم ” الصغيرة وقالت :
-بخاف منك لما تقلب صعيدي فجأة كده .

رفع حاجبـه مستنكرًا فأنقذت نفسها موضحة :
-بس بعشقك في كل حالاتك …..

•••••••••

~ الاسكندرية ~

في غُرفـة المرأة الأكثر اختلافًا ، إمراة لا تشبه إلا نفسها غير عاديّة.. لا يقارن جمالها إلا بـ الأشياء الأكثر رقّة وصلابة .. يقويها الجـ.ـر.ح لا يضعفها و يزهر فيها بدلًا من أن يذبلها وتحوّل أحزانها إلى درجات سُلم تدوس عليها كي تعلو أكثر وأكثر .

ضمت الإطار الذي يحمل صورة والدها ، سيادة اللواء “سامح الجوهري” الذي أصابته المنيّة قبل أربع سنوات ، اطالت النظر بالصورة بملامح يخالطها العجز والشوق :

-يعني مش لو كُنت موجود دلوقتي كنت وفرت علـيا التعب ده كله ، مفيش حاجة كـ.ـسرتني أد غيابك يا حبيبي .. لو كان بس ينفع أديك من عُمري ، عمري كله بس تبقى موجود ، أو نفارق الحياة دي سوا .. محدش فينـا يسبق التاني .. وحـ.ـشـ.ـتني يا بابا .

قطعت لحظات شكواها صوت المساعدة الخاصة بمنزلهم وهي تقول :

-أنسة ” ليـلة ” .. شريف بيه على التليفون .

تناولت الهاتف من يدها وهزت ورأسها على مضض وقالت :
-أقفلي الباب وراكي يا دادة لو سَمحتِ ..

ثم قعدت بمللٍ على طرف السرير وهي ترد على الهاتف المنزلي :
-شريف .. أنتَ بتكلمني هنا ليه ؟!

أجابها الرائد شريف أبو العلا ، معاون مباحث المركز الذي ينتمي له قبيلة العزايزي .. ويكون خطيبًا لـ ليلة منذ عامين ماضيين .. زفر شريف بضيق:
-شوفي موبايلك وأنتِ هت عـ.ـر.في ..

ألقت نظرة سريعة على شاشة هاتفها وهي تضغط على شفاهها بإحراج وبلهجة اسكندرانية عبرت عن خجلها متمتمة ” أحيـه** ؟! ” ، ثم قالت لتلطف الأجواء بينهم :

-سوري سوري ، بجد آخر مرة هنسى فيها الموبايل سايلنت ، بجد سوري .

تامر تحت ضغط الانزعاج :
-مش كل مرة يا لي لي .. أنا بجد تعبت معاكِ وزهقت .

-خلاص بقا يا سيادة الرائد قلت آخر مرة ..مش هتتكـرر تاني .

زفر بحنق :
-ماهي كل مرة بتبقى آخر مرة وبردو .

ابتسمت بلطف لتنهي الشِجار القائم بينهم :
-خلاص بقا قلت سوري .. متقفشش وتعكر اليوم .

جلس ” شريف ” على مقعد مكتبـه مغلوبًا على أمره :
-جهزتي حاجاتك ؟!

-اه يا حبيبي .. هسلم على مامي وهنزل على طول .

هز رأسه متعجبًا بجبين منكمش :
-هتنزلي فين مش الطيارة بالليل ؟! لسه بدري ..

شعرت بالتـ.ـو.تر إثر انكشاف كذبتها أمامه ، فبررت موضحة :
-أحيـــه !! قصدي هنزل أروح القنـاة اسلم التقاريـر الـ معايا وهروح اقعد مع جوري والبنات لحد ميعاد الطيارة.

تعجل في إنهاء المكالمة الهاتفية إثر دخول العسكري ، فقال بتسرع :
-تمام يا لي لي ، هكلمك كمان شوية ، باي باي دلوقتِ عندي شغل .

ألتوى ثغرها بمللٍ :
-باي باي .

ثم قفلت الهاتف لتتنفس الصعداء وتطرد غبـ.ـار مخاوفها من كشف أمرها ، أخذت تسب نفسها علنًا :

-غـ.ـبـ.ـية غـ.ـبـ.ـية ، كام مرة أقول لك هتخبي حاجة كوني أدها .. لسانك الفالت ده وبعدين فيه !!

ثم نظرت في ساعة يدها بحماس وهي تلملم حقيبتها وشاحن هاتفها :
-كده يا دوب ألحق ..

” ليلة سامح الجوهري ” تلك جميلة الروح قبل الملامح صاحبـة الثامنة والعشرين عامًا من العمـر بقلب لم يبلغ الثماني سنوات وعقل بلغ الستون من النضج ببعض الأوقات .. ‏اتدرك المعاناة التي يجتمع فيها براءة القلب مع نضج العقل ؟! ..
شعور يجبرك أن تعيش في صراع دائم حائرًا بين طفل في صدرك وعجوز في راسك ،كِلاهما لا يتقبـل أفعال الآخر …
فتاة متعددة المواهب تعشق المغامر والغناء والعزف ، تفضل قيادة السيارات لم يفارقها سباق إلا وشاركت فيه ..

خريجة إعلام حلمها الـوحيد أن تبقى إعلاميـة مشهورة ولديها برنامجها الخاص الذي تتحدث فيه عن كل الحقائق الكامنة والمكتوب عليها بالخط العريض ممنوع الاقتراب دون قيود أو خــــوف ، مؤمنة بأن الأعلام هو المنارة الأولى لتنويـر العقـول ونصرة الحقوق .. جاءتها الفرصة العظيمـة لتحقق حلمهـا ولم تتردد للحظة في السير إليه بكل شغف وإصرار مهما كانت النتيجة؟!!

يقال أن للسُبل نتائج آخرى غير تلك التي نقطعها لأجلها ؛ فيا ترى ما تلك النتائج التي ستواجه ” ليلة ” أثناء بحثها عن ذاتها عن حلمهـا ؟! والأكثر إيلامًا هي ستصل أم سيكون مصيرها كمصيـر كل من سعى وكان الخذلان نهايته ؟!

انتهت من وداع أمها السيدة نادية أبو العلا من أمهر وأشهر طبيبات مصـر في معالجة الأمراض النفسية والعقلية.. هبطت ” ليلة ” من منزلها لتتوجه إلى سيارتها المركونة أمام البنية ذات الطراز الحديث ، وضعت النظارة الشمسية على عينيها وهي تحمل شالها الصوف خــــوفًا من انقلاب الطقس الخريفي فجأة ثم أخذت المفتاح من السائق وهو يؤكد عليها :
-يا استاذة ليلة متأكدة إنك هتنزلي نجع حمادي لوحدك بالعربية ؟!

ردت باستهزاء للموضوع :
-وفيها أيه يا عمو !!، أنا متعودة أسافر أماكن أبعد من كده كمان لوحدي بالعربية .

تابع خُطاها مقترحًا :
-طيب تحبي أجي معاكي عشان لو تعبتي لقدر الله .. بصراحة قلبي مش مطاوعني اسيبك لوحدك يا بـ.ـنتي أنتِ أمانة سامح بيه الله يرحمه .

مازحته قائلة :
-أنت عارف إن مـ.ـيـ.ـتخفش عليـا بالذات من السواقة .. يلا بقا يا عم حسن كلها كام يوم وهتلاقيني رجعت أدوشك من تاني .. أدعيلي بس الموضوع يظبط …

-منصورة إن شاء الله يا بـ.ـنتي .
قال جملته وهو يفتح لها باب سيارتها ” بيجـو 3008 ” حمراء اللون .. صعدت ليلة والحماس يتطاير من صوتها كما تتطاير خصلات شعرها البنية في الهواء :
-أشوفك على خير يا عم حسن ..

باستسلام :
-ربنا يسلم طريقك يا بـ.ـنتي ويوقف لك ولاد الحلال …

••••••

~ عودة لقصـر العزازي ~

-يا خبـر !! ودي تيجي يا عمـتي ، تُقفي تطبخي وأنـا موجودة ، ده أنا عليـا شهقة ملوخية مفيش بعديها .

قالت زينـة جُملتها وهي تتناول المغرفـة من يد ” صفيـة ” وتتأهب لإعداد الوجبة بدلاً منها كي تنال رضاها .. سحبت صفيـة المقعد وجلست فوقـه بتعب وهي تتأوه :
-شالله تعيشي يا زينة يا بتي ..

ثم نادت على فردوس التي لبت النداء على الفور :
-استعجلي خضر يا فردوس عشان ياخد الغدا للعمال في المحجـر تلاقيهم وقعوا من الجوع ..

ما كادت أن تتحرك ولكنها أوقفتها قائلة :
-وروحي المطبخ الكبير قولي للبنات يشهلوا ويبطلوا مياعة وهيء وميء ، الضهر جيه وهما لسـه مخلصوش الوكل للناس .

فردوس بطاعة :
-حالًا يا ست صفيـة ..

جاءت نغـم في تلك اللحظة مهللة :
-أنا فضلت واقفة فوق راس البنات لحد ما خلصوا كل الوكل يا خالة ..

ثم طبعت قُبلة على كتف خالتها وهي تحملق النظر بزينة :
-شوفتي محدش حاسس بيكي غير نغم .

ربتت صفية على كفهـا بحب :
-ربنا يبـ.ـاركلي فيكي يابتي ..

ثم همست لها :
-أوعى تفكري الأم هي الـ ولدت ، لا دي اللي ربت يا عبـ.ـيـ.ـطة ، الله يرحمها أمك سابتك حتة لحمة حمرة وأنا اللي ربيتك وكبرتك ودخلتك كليـة التجارة زي ما أمك كانت عايزة بتها تحون متعلمة ومتنورة .

دب الغـ.ـيظ بقلب زينة التي تركت الطعام وانضمت لحديثها قائلة :
-يعني أيه الحديت ده يا عمتي !! وأنا يعني مش بتك ولا نابني من الحُب جانب .

ألتوى ثغر نغم بضيق:
-واحدة وخالتها ، حاشرة نفسك ليـه بيناتهم يا زينة ؟! ياباي منك .

لكزتها زينة بغيرة نسائية وجلست تحت يدي عمتها :
-عاجبك حديتها الماسخ ده يا عمة ؟!

ضحكت صفيـة من جنانهن :
-أنتوا على طول ناقر ونقير إكده ؟! مولدين فوق روس بعض ؟!!

حملقت نغم باستنكار :
-أنا نقري من نقر دي ؟!! محصلش ، الا لو هي الـ عينها مني .. عشان أنا الأحلى .

زينة بامتعاض :
-ما تحاسبي على كلامك يا ست نغم ، أنتِ ناسية أنا مين وأبويا منين ؟! ولو على الحلاوة النجع كله بيتحاكي بجمال بت صالح العزايزي .

وضعت نغم يديها بخصرها وهي تزيح شعرها الأسود جهة كتها الأيمن :
-وقالولك أنا الـلي جاية من الشارع أياك يا زينة ؟!! .

رمقتها زينـة باستهزاء ثم سحبت المقعد الخشبي والتصقت بعمتها :
-يعني يا صفية لو قالولك اختاري واحدة بس تكون مراة هارون ولدك ، هتختاري مين ؟!

جرت نغم مقعدها والتصقت بخالتها من الجهة الأخرى بمزاح :
-آكيد أنا ، متعلمة كيف هارون وراسي توزن بلد وأنسب واحدة لِيه .

صرخت صفيـة بوجههن :
-انا عن نفسي قولتله اجوزك الاتنين عشان اخلص منكم ومنه ومن خوتتكم دي .. أنا كبرت ومعتش حِمل المناهدة دي !

هب الاثنتان بنفس واحد وبأعين متحمسة :
-هاه وايه قوله ؟!

تفوهت بملل بعد ما فاض صبرها من ابنها وبنات أخواتها :
-لعن الجواز على اللي عايز يتجوز ، وبصراحة عنده حق ، أنتوا الجوز تجيبوا الفقر .. قومي يا بت منك ليها شوفي لك مُصلحة … بدل ما سادين نفس الولد عن الجواز إكده .

امتنعت نغم بشـ.ـدة :

-أنا ابقى ضرة دي ؟!

هزت زينة رأسها بكيد انثوي :
-ومالها دي يا عينيا !! ناقصة أيد ولا رجل ؟!!

دخلت ” هيـام ” أختهم الكبرى عليهن وهي تحمل جبال الهم فوق ملامحها ، فنظرت لها نغم بترحاب :

-أهي عروستنا وصلت أهي ؟!!

تدخلت زينـة عنـ.ـد.ما لاحظت وجهها الشاحب :
-وه وه!! مالك لاوية بوزك يا عروسـة ولا كأنك هتتجوزي أخر السبـوع .

تجاهلت حديثهن واسئلتهن الفضولية :
-فين هارون يا أما ؟!

-نزل شغله ياهيام يشوف مصالحه ..

جلست ” هيام ” تحت قدmي أمها بأعين باكية :
-يا أما أحب على يدك انا مش عايزة اتجوز ” ضيا ” ولا قادرة أبص في وشه .. حـ.ـر.ام عليكم حسوا بي .

قالت زينة معترضة :
-ما أنتِ كنتِ رايده وموافقة عليه يا هيام !! جرالك أيه !!

جلست نغم بمستوى خالتها وضمت كفيها :
-يا حبيبتي !! هو الجواز بالعافـ.ـية يا خالة ، البت مش رايداه ومعاها حق ، ضيا مين يطيقوه في النجع كله .

تعلقت ” هيام ” بحبال كلمـ.ـا.ت نغم :
-قوليلهم يا نغـم ، أنا تعبت .. مش عايزاه يا ناس مش عايزاه ..

تدخلت صفيـة بحدة المراة الصعيدية :
-اسمعك تقولي إكده تاني هكـ.ـسر راسك ، أياكي تكوني شايفالك شوفة من الجامعـة بتاعتك ، والله اقطع خبرك عن النجع..

انفجرت هيام باكية :
-مش عحبه يا أما .. مش عايزاه .. ولا عايزة اتجوز من أصلو أيه قولك عاد ! .

هبت رياح صفية الحاسمة :
-وأحنا مش عنتجوزوا عشان الحب والكلام الفارغ دهوت يا بت بطني .. الجواز سُترة للبت وعشان نحفظوا نسـل العزايزة ، أما الحُب والتقاليع دي مش في عُرفنـا ياضنايا..الـ يتفقوا عليه الرجـ.ـا.لة يصير وأنتِ وافقتي من اللول .

ربتت زينـة على كتف عمتهـا بيدها المكدسة بالغوايش الذهب :
-روقي يا صفيـة ، الزعل غلط عليكِ .. هدي روحك وأحنا هنتكلموا معاها ونفهموها .

تفوهت صفية بحزم :
-ولا كلمة زيادة في الحديت ديه ، سامعة يا بت بطني .. روح جهزي روحك وأفرحي .

ثم سبت الحب جهرًا :
-قال حُب وكلام مايع ملوش لون ولا ريحة !!

فرغت ” هيام ” كالملدوغـة وهي تفارق مجلسهن :
-إكده يا أما ؟! طيب أنا هروح اشتكي لأبوي ولو موقفش جاري وربنا وقبل ماالبس الفستان لضيا هتلبسوني الكفن .

أغــــرورقت العبرات من عيني صفية بحسرة :
-أبوكي عيان ومش حِمل هم يا بت .. خِدي إهنه !! يارب خدني أنا وريحني من عيالي ، لا عارفة احكم على واد ولا بت .. عملت أنا ايه في دنيتي بس يارب ، شيعي لهلال ولدي يرقيني ، دي عين مراة صديق ورشقت .

•••••••

~ مرسى علم ~

بأقدام حافيـة تتدلل رغـد أمام ” بـار ” مطبخها الذي اقترب منها هاشم بعد ما تحرر من قيود زيه العسكري مكتفيًا ببنطال رياضة تاركًا عضلات جسده للهواء الطلق .. تناول ثمرة من الفاكهة وجلس على أحد المقاعد وهو يسألها :

-هتأكليني أيه من أيدك …

ردت رغد وهي تعد قطع الدجاج :
-بيكاتا بالمشروم والوايت صوص وجمبهـا رز أبيض هتاكل صوابعك وراها ..

جذب كفها لعند ثغره وطبع بداخله قبلة دافئة ثم قال :
-أنا نفسي كدا تسيبك من الأكل الخواجاتي ده ، وتجربي الأكل الصعيدي الـ على أصله .. رقاق بالسمنه البلدي .. فتة باللحمة الضاني .. فطير مشلتت بالعسل والجبنة ..

تركت السكين من يدها متحمسـة :
-بجد يا هاشم ؟!! أنا نفسي أوي نروح هناك وتعرفني على أهلك .. حقيقي بحاول اتخيل هما ازاي وعاملين أيه .. أنا بجد نفسي أحس أن ليـا عيلة وعزوة ..

لُطخ وجهه بحمرة الامتعاض واكتفى بهز رأسه بدون اهتمام :
-قريب قريب ياحبيبتـي ..

شيعته بنظرة تكذيبه ولكنها غيرت مجرى الحديث قائلة :
-هتنزل الصعيد طبعًا ؟!

ابتسم بهدوء لدهائها :
-طبعا لازم أخد رضا صفية قبل كُل مأموريـة ..وكمان عشان فرح هيام أختي آخر الأسبوع ..

رغد بفضول :
-احكي لي عن الصعيد شوية .. وصفيـة وأخواتك ، كله كله ؟! أنا نفسي أجي معاك أحضر الفرح .

دار إليها باهتمام :
-الأول عايـزة ت عـ.ـر.في أيه ياستي عن الصعيـد ؟!

برقت عينيها بحماس وهي تدنو منه قليلًا :
-قول لي عندكم بنات حلوة في الصعيد .. ؟!

رفع حاجبه مشيدًا بجمال بنات موطنه :
-وهو فيه زي حلاوة بنات الصعيد ، عارفة الفرق بين الفرس العربي الأصيل والأمريكي ؟!! أنتِ طبعًا خيالة وعارفة الفرق كويس .

اكفهرت ملامح وجهها بضيق :
-والله ؟!! وسبتهم لي بقا وجيت لي.. ؟!

امتلأ محياه بالضحك وهو يفارق مقعده ويتحرك إليها :
-عشان لقيت فرس عربي أصيـل تايه في مرسى علم قلت مكنش ينفع أسيبه أبدًا .. لازم يكون ملكي .

ثم طوق خصرها بقوة وأكمل :
-وأنا خيـال وأعرف أقدر زين قيمة المهرة اللي قصادي .

حاولت التملص منه مفتعلة الزعل :
-مابقتش أكل من الكلام ده .. ووسع كده مخصماك ..

ثم قفلت عين الموقد وقالت بحدة :
-ومفيش أكل كمان .. روح بقا للبنات الحلوين في الصعيد وهما يأكلولك .

ذاب بين خصيلات شعرها الغجري وهو يقول متيمًا بتلك المراة التي جعلته يتمرد على أعراف بلدته بأكملها ويختارها :
-مش مهم الأكل ؛ تيجي أعزمك أنا ؟!!

دارت بين يديـه لتبقى يديهـا بعنقـه ويديه مطوقها خصرها النحيـل ، متعلقة بعينه المنكـ.ـسرة في حضرة جمالها :
-هتعزمني على أيه ؟!!!

-على الباقي من عمري ليكي لوحدك .
كانت جملته بمذاق القُبلة التي بدأت بلهفـة ثم متمهلة تدريجيـًا بمقدار الأدرينالين المتدفق من جسده عند رؤيتها ، زاح خصلة عن وجهها وسألهـا :
-أي رأيك ؟!

كل نظرة منها كانت تحمل بيان صريح لاعترافها بعشقه الذي فاق الحدود لذلك الرجل الذي غمرها بماء الحب حتى باتت لا تستطيع التنفس إلا بوجوده ،‏بالرغم من وجوده الشحيح معها لدرجة أن بُعده يقــ,تــلها مثلما يحييها قربه بالرغم من إنه لا يقدm لقلبها إلا الحُب فقط الخالٍ من أي تضحيات ولكنه قادر على زرع الزهور بصدرها ، بالرغم من اللاشيء الذي لا يُقدmه إلا انها تعشقه :
-وأنا موافقة طبعًا .. هاشم أنا بحبك أكتر من أكتر حاجة في الدنيـا ….

ثم ……
قد يحدث ألا يكفي المرء إلا الصمت لا مزيد من
الكلام يمكن أن يصف ما يشعر به ، لا مزيد من الشعور والنظرات والعبرات توفى لسعة الحب بالصدر المدجج بناره ، ولكن ربمـا للروح تنجح في التعبير لأي درجة من الحب وصل لها القلب …

•••••••

غَرُبت الشمـس وطوت خيوط نهارها مع الهموم المُعلقة بالقلوب الحائرة .. اجتمع كبـ.ـار آل العزايزي وعلى رأسهم خليفة العزايزي الجالس معهم يستفسر عن أمور بلدتهم وغيـرهم بالمندرة الكبيرة الخاصـة بالعائلة لحسـم بعض الأمور العائليـة .. غادر هيثم مجلس الرجـ.ـال ليهاتف أخيـه :

-فينك يا هارون ، اشحال مأكد عليهم يجوا بعد العشية ..؟!أبوك على آخره .

على الطريق الصحراوي يقود سيارته بأقصى سُرعـة :
-مشوار في سوهاج كان لازمًا أروح له ، كلها نص ساعة وأكون عندكم .. عشي الرجـ.ـا.لة لحد ما أوصل .. وخليك جار أبوك .

-طيب يا أخوى استعجل .. ألو .. هارون الشبكة عندك ساقطة لو سامعني عجل الله يرضى عنك مش ناقصين لت وعجن ..

كرر ندائه :
-هارون .. سامعني ؟!

شرعت حبات المطر تتقطر على زُجاج سيارته ربما تعلن باستقبال ضيف جديـد لضواحي المنطقة .. شغل مساحات سيارته وزود من السرعة كي يلحق بضيوفه متأففًا :
-مش بعادتها تنطر يعني !!

وعلى جانب الطريق تقف “ليلة” تلعن حظها الذي لم يسعفها لمواصلة طريقها بدون عوائق .. توقفت جانب الطريق تفحص ” عجلات ” السيارة التي انفجرت أحدهن بكشاف الهاتف .. وقفت بملامح عجزها ثم ركلت العجلة بقدmها وهي تعاتبها :
-لازم تعمليها يعني ..؟!!

ثم نظرت للسمـاء التي تُمطر قطرات خفيفة فوق رأسها :
-اااه ما كملت بقا ؟!! أيه الحظ ده ..؟!

حاولت الاتصال بشريف كي ينقذها من تلك الورطـة وهي تقول :
-مش لازم اقلق مامي .. أي نعم شريف مش هيعديها بس أعمل ايه مفيش حل تاني؟!!

أغــــرورقت عينيها بالدmـ.ـو.ع للعجز وقلة الحيلة التي تعاني منها :
-لااا وكمان السيجنال واقعة ؟!! كده كتير ؟!!!! والحل ؟!

أضاءت جميع فوانيس السيارة لتلفت نظر أي شخص على الطريق الصحراوي و يقوم بمساعدتها وقفت بعجز وقلة حيلة أمام سيارتها وقطرات المطر تزداد رويدًا رويدًا .. تحول حماسها لخــــوف وقلق ، قررت تطلب المسـاعدة من السيارات المارة بجوارها ، اشعلت كشاف هاتفها مرة آخرى وأخذت تلوح كالغريق أمام السيارات حتى رماها القدر أمام سيارة هارون القادm بأقصى سُرعة ممكنة ، لفت نظره الأنوار المتحركة عن بُعد ، هدأ من سرعة السيارة وكثف الضوء الصادر من مصابيح سيارته حتى صف بجوارها ..

نزل من سيـارته بجلبابه الصعيدي الذي يزيده هيبـة ووقار وعشرين عامًا فوق عمره متعجبًا عن سبب وقوف فتاة بمفردها بهذا المكان .. أقبلت ” ليلة ” نحوه كالعطشان المقبل على بحيرة من الماء :

-من فضلك ممكن تساعدني ؟!

قفل هارون خلفه باب سيارته مندهشًا ومعاتبًا :
-أنتِ كيف واقفة بروحك في مكان زي دِه !! اتهوستي ؟!

ردت بعنفوان يحمل وميض السخرية :
-أكيد مش واقفة ألعب تحت المطر !!

ثم أخذت زفيرًا قويا لتهدأ :
-مش معايا استبـن والكوتشي نام ومش عارفة أعمل أيه ؟!

تحرك خطوتين ليفحص السيارة فأتبعت خُطاه :
-أنت ممكن تساعدني مش كده ؟! بص أنا كنت سايقة على الطريق كده فجأة سمعت صوت غريب زي الفرقعة بصراحة اتخضيت أوي ، وو

فاض صبره من ثرثرتها الفوضوية :
-ينفع تبلعي ريقك هبابة لحد ما أشوف العربية ..

أجابته بتـ.ـو.تر يتقاذف من كلمـ.ـا.تها :
-حاضر حاضر .. أنا بس كنت بحكي لحضرتك أيه الـ حصل بالظبط قبل ما تكشف على العربية …

تنهد بجزع وهو يتمتم لنفسه أثناء فحصه لعجلة السيارة:
-يا مثبت العقل والدين يا رب.

مالت نحوه بفضول :
-هااه عرفت فيها أيه ؟!!

نصب هارون قامتـه الصلبة :
-مسمار ولازم الكاوتش يتغيـر .. وطبعًا مش معاكِ استبن .

وضعت كفها على فمها من حول الصدmة وبنبرة طفولية :
-أحيـ**ـه ؟!!!!

تمددت ملامحه من شـ.ـدة الدهشة لهول الكلمة التي تعد من الخطوط الحمراء في قاموسهم :
-أيه ؟!!!!

ردت بقلق :
-لالا .. قصدي وهعمل أيه في الورطة دي ؟!

تأفف بضيق :
-كُنتي رايحة فين الساعة دي ؟!

-كنت نازلة في فندق “___” بنجع حمادي .

قطع كلمـ.ـا.تها بدون أن تُكمل :
-طب اركبي اخدك في طريقي ، هو يوم باين من أوله !!

هبت معبرة عن اعتراضها بطريقتها المميزة :
-أحيـ**ـه ؟!!

جحظت عينها بالغـــضــــب :
-تاني ؟!!!!

-لالا ، قصدي يعني والعربية ؟! دي ممكن تتسرق !!

وجهه الكشاف ناحية السيارة ليفحصها :
-متخافيش محدش هيسـ.ـر.قها عربيتك دي صيني يتعلموا عليها العيال كيف يسوقوا .

-هااه ؟!! أنتَ عارف دي بكام أصلًا ؟!!

نفذ صبره من حواره معها ، فهبت زعابيب غـــضــــبه :
-ياستي خلصينـا ، هتركبي أوصلك وابعت حد ياخد العربية ، ولا أمشي أشوف مصالحي ؟!

دmدmت شبه معتذرة:
-طيب حضرتك بتزعق ليه ؟! ما أحنا بـ.ـنتكلم بالراحة يعني وبلاش تعلي صوتك عشان كده هتـ.ـو.تر أكتر وأنا أساسًا متـ.ـو.ترة .

ثم استجمعت قوتها أمامها :
-وبعدين أنتَ أزاي تستجرى تعلي صـوت عليـا يا جدع أنتَ .. أنا محدش يقدر يكلمني كده ، المفروض يبقى في ذوقيات في الكلام ، أنا ضيفة عندكم .

رفع صوته فأجبرها على الإنصات إليه وقال بحسمٍ لا يقبل النقاش :
-هركب عربيتي ، ومعاكي من واحد لتلاتة ، يا ألقاكي ركبتي جاري ، ياما هسيبك في الصحرا وسط الديابة منك ليهم وهمشي ..

هتفت ممتعضة وهي تلوح بكفها :
-لسه بتزعق !! مش عايزة حاجة منك وفي ألف عربية هتعدي ممكن تساعدني ، اتفضل امشي عشان الدنيا طايرة عندك ..

ثم تمتمت مختنقة :
-إنسان قليل الذوق بصحيح !!

لم ينتظر السماع لـ ردها بل أسرع مستلقيًا سيارته وهو يجز على فكيه ويراقب ساعة يده ، قفز الرعـ.ـب بقلبها عنـ.ـد.ما تركها بمفردها وجه لوجه تحارب كبريائها و رضوخها .. وقفت أمام سيارتها عاقدة ذراعيها بتحدٍ مرحجة المـ.ـو.ت في قلب الصحراء على أن تخضع لرجـل متعجرف مثـله .. انتظر ” هارون” حتى مضى الوقت المحدد لها وبدون تفكيـر لف مقود سيارته نحو اليسـار ونفذ تهديده وهو ينسحب دون أن يلتفت لهذه القطة التي اختارت ظلام الصحراء عن الاستسلام والرضوخ لأوامره …
لم أجد وصفًا مؤلمًا للحب أكثر ما ذكره نزار قباني :
“الحب ليس رواية شرقية في ختامها يتزوج الابطال ..
الحُب هو أن تظل على الأصابع رجفة وعلى الشفاه المطبقات سؤال .. ”
-بل مائة سؤال وألف حُلم ومليون فرضيـة لفرصة لقاء واحدة .. وبقيـة العمر في شوق وحنين .
#نهال_مصطفى.
•••••••
حُسم رعد التمرد والكـبـــــريـاء والموقف ، فتاة مدللة مثل ليلة الجوهري لم يخلق من يفرض عليهـا آرائه كما تربت على الدلال المفرط لوحيدة أبيها وأن كل طلباتها مُجابة ، و هارون العزايزي لن يمتلك رفاهيـة الصبـر التي تجبره أن يتحمل دلال وتمرد إمراة مثلها .
مع غروب سيارته أحست ” ليلة ” بالخــــوف والصقيع في آنٍ واحد ، أخذت تتلفت حولها بذعرٍ حتى وصل لمسامعها صوت عواء الذئاب كأنه جاء ليذكرها بتلك الكارثة التي تُحيط بها ورحل.. بدون تفكـير هرولت مسرعة لتختبئ بسيارتها قافلة جميع أبوابها بإحكام ، دفنت وجهها بين راحتي يديها وهي تلهث بفزع لتواسي نفسها حتى دخلت في نوبة هستيرية .. بصرخة متقنة الإخفاء في مكان خالٍ:
-إن شاء الله مفيش حاجة عادي ده مجرد صوت من بعيد ، بس الصوت يدل أنه قُريب مني .. لالا أنا مش همـ.ـو.ت هنـا آكيد .. يامامي !!
في تلك اللحظة أخذت أنياب الشهامـة تأكل برأسه مما جعله لأول مرة يكـ.ـسر كلمته ويتراجع عن قرارٍ أتخذه ، لف مقود السيارة وعاد مرغمًا لعندها فكانت وصلت لذروة خــــوفهـا ، طرق على نافذة السيارة المقفولة فهبت صارخة بوجهه ، فبادرها قائلًا :
-شوفتي عفريت إياك ؟!! اندلي .
فتحت النافذة تدريجيا لتتأكد من هويتـه برعـ.ـب :
-ااه أنت ، الكابتين الـ كُنت من شوية .. أنت رجعت !!
ثم شرعت لتسرد له معاناتها :
-انا سمعت صوت الثعلب ، كان قريب أوي أوي ، أهو اسمع كده لسـه شغال .. هو كان ممكن يأكلني صح ؟!
كز على فكيـه بنفـاذ صبـر :
-ده ديب مش صعلوك .
ما زالت تحت سطو خــــوفها ولكنها لم تنكر نفحات الونس التي هلت عليها بعودته :
-هااه ؟! يعني أيه ؟! معلش استحملني بس عشان أنا بخاف من أي حاجة عندها رجلين وبتمشي .
زفر باختناق:
-ياستي فُضيني وخفي عَطلة ، طلعتي لي منين أنتِ بس ؟! يلا انزلي هوصلك .
ردت بعجـلٍ وهي تلملم أشياءها :
-حاضر حاضر ، أخد حاجاتي بس .. استنى عليا وبلاش تزعق عشان بتـ.ـو.تر .
ثم نظرت له بتوسل :
-ممكن يا كابتن تنزل شنطتي من العربية .. معلش كمل جِميلك معايا للآخر .. شكلك شهم وابن بلد وجيت لي من السمـا والله .. أنت بركة دعوات عمو حسن ليا !
قفل جفونه للحظة يستوعب طلبها الذي لم يجرؤ عليه أحد:
-كمـان شيال ؟!! ومين حسن ده “راخر” !!
ضـ.ـر.ب كف على الأخر قبل أن ينتظر جوابها :
-افتحي الشنطة لحد ما أشوف أخرتها معاكٍ يا بت الناس .
وضع هارون حقيبتها بسيارته في تلك الأثناء فرغت ليلة من جمع أغراضها المبعثرة بحقيبة يدها الكبيرة .. أخذت مفتاح سيارتها وهبطت لتقطع تلك المسافة القصيرة التي لم تتجاوز بضعة أمتار فاصلة بين السيارتين ركضًا .. تأفف هارون ممتعضًا :
-هو يوم باين من أوله .. اصطباحة كانت على وش زينة ونغم ؟!! مستني أيه أخر اليوم ؟! مبروك ربحت المليون !
أكمل دmدmة حتى وصل لمقعد سيارته المخصص بالقيادة وهو يتحدث بصوت مسموع :
-وقال صفية عايزاني اتجوز واحدة منيهم ؟! عشان يبقى الفقر ملازمني لآخر عمري !!
ثم نظر إليها ناطقًا بسؤاله التعجبي :
-يرضيكي يا بت الناس الحديت ده !!
حركت كفتيها بجهل تام وبأعينها المتسعة غمغمت متبعة نهجه :
-لا طبعًا ، مادام حاجة مزعلاك أوي كده متعملهاش.
-شكلك نبيهه !!
استقبلت جملته الغامضة بابتسامة مزيفة تكـ.ـسر بها حاجز الخــــوف المسيطر على قلبها والحرج ؛ فأكملت :
-مرسي ليك يا كابتن، كنت متأكدة وحياة ربنا أن الصعيد كله رجـ.ـا.لة جدعان والشهامة بتجري في دmهم .. أهو أنتَ أكبر مثال .
اكتفى بنظرة مطولة تحمل السخرية والاستهزاء ثم عاد ليواصل سيره .. تعجبت للحظة من رد فعله الغامض ثم عادت لتفتح مسارًا جديدًا للحوار :
-نتعرف .. أنا ليلة الجوهري .
رفع حاجبه وعلى محياه ضحكة ساخرة :
-دي هي ليـلة هارون المقندلة !!
تصلبت تعابير وجهها مكذبـة مسامعها ولكنها تجاهلت وأكملت بنفس الابتسامة
-إعلامية على أدها .. ولو الموضوع الـ جاية عشانه تم ، هابقى إعلامية مشهورة و هتشوفني كل يوم على التليفزيون.. وكمان هحلي لك بؤك .
ثم تمتمت بحماس الطفولة :
-قول بس يا رب يتم .
رد ببرود دون أن يلتفت إليهـا :
-ما عتفرجش على تلفيزيون .
أحست بقليل من الإحراج انعكس في ابتسامتها المهزوزة ، ثم عادت لتسأله :
-أنت عارف طريق الفندق صح ؟!
رد باختصار وهو يهز برأسه التي أوشكت أن تتفجر من ثرثرتها المبالغـة :
-عارفو …
-“لو مش عارفه ممكن الـ GpS يساعدنا .. أنا مش بعرف أمشي من غيره في أي مكان . ”
نفذ صبـره وهو يتأفف بضيق ، فجهر بصوته الأجش:
-قلت لك عارفو ، واسكتي خليني أركز في الطريق والليلة الغَبرة دي !
لم تشم رائحة جزعه إثر ثرثرتها المُبالغـة ، فأتبعت مبررة لعصبيته وملتمسة له العُذر :
-ااه حضرتك من النوع الـ بيحب يركز أوي في السواقة ، وهدوء بقا ومش عايز صوت والجو ده ، تعرف أنا مش كده خالص .. أنا بعرف أسوق من وأنا عندي ١٤ سنـه .. وكل سباق لازم اشارك فيه وكمان باخد مركز اول على طول .. بابي الله يرحمه هو الـ حببني في السواقة والعربيات وو
قذفها بنظرة حادة جعلتها تبتلع ما تبقى بفاهها من كلمـ.ـا.ت وتندس بمقعد سيارته الفارهة .. التزمت الصمت تمامًا مكتفية بسيل من النظرات المتأرجحة نحوه ذهابًا وإياباً.. أحس هارون بتأنيب الضميـر على أسلوبه الفظ في معاملتها ، فقرر أن يكسـر حاجز الصمت وكأنه يعتذر بلطف خفي :
-جاية الصعيد تعملي إيه لحالك ؟!
كالغريق الذي تعلق بالسؤال ليفتح لها مجالًا للحديث فهي تكره الصمت والسكوت مؤمنة بأن شخصية المرء لا تبرز إلا بالكلمـ.ـا.ت ، دارت نحوه بشغف وهي تلوح بكفها :
-جايه أعمل تقرير إعلامي عن عائلة العزايزي ..
دقت الدهشة برأسه فدار لعندها مشـ.ـدوهًا:
-لا ياشيخة !!
أكملت بنفس الحماس :
-العيلة دي عاملة قلق جـ.ـا.مد عندنا .. وفي اتهامـ.ـا.ت كتير موجهة لرجـ.ـالتهم رغم أنهم بيمسكوا مناصب قيادية في البلد ، والتقارير عن الكسب غير المشروع ، ناس بتقول مصدر دخلهم آثار .. وناس تانية بتقول سلاح .. بس جدو الله يرحمه يارب، اللواء رفعت الجوهري كان ماسك هنا ، فاكرة زمان أنه حكى لي أن جدهم العزايزي وهما بيحفروا في الجبل لان زي ما سمعت بردو أن كل شغل في الجبل .. حكى لنا انه لقى مقبرة فرعونيـة كبيرة أوي ، ودي كانت سبب سعدهم .. بس للأسف الحكومة معرفتش تمسك عليهم أي دليل .. بس بردو درجة الثراء الـ العيلة دي وصلت لها من مصادر مجهولة أمر يحير ..أنتَ أيه رأيك في كلامي؟!
ثم وضعت سبابتها على ثغرها وقالت متحيرة :
-تفتكر يطلعوا تُجار سلاح ولا آثار ؟!
أخذ يسحب منها الكلام دون الإفصاح عن هويـته الحقيقية ، رفع حاجبه مستفسرًا :
-وأنتِ جاية إهنه ليه يعني ؟!
ردت بصوت مدجج بالحماس :
-عشان أفضحهم واكشف حقيقتهم للعالم كله .. هما فاكرين نفسهم مين عشان يتحايلوا على القانون ..
لم يستطع التحكم في تمدد ثغره بـ سخرية :
-أصلًا ؟!!! ودي هتعمليها أزاي ؟! الـ خلى جدك الراجـ.ـل الكُبرة معرفش يعملها !!
-أنا عندي أساليبي الخاصة الـ هكشفهم بيها .
ضحكة مكتومة بدى طيفها على محياه مستهزءًا بهمس :
-في المشمش !!
ثم أكملت ” ليلة ” بنفس ذات النبرة الحمقاء متأملة:
-وأثبت نفسي عشان دي فرصتي الوحيدة يكون ليا برنامجي الخاص على أكبر المحطات .. لازم موضوع هيفرقع الرأي ويعمل بووم …
دmدm بسخرية وهو لم يتوقف عن الضحك الساخر الغير مسموع :
-ده هيفرقع في وشك إن شاء الله .
عقدت حاجبيه مستفهمة وهي تتابعه عن كثب :
-أفنـ.ـد.م ؟!!
جهر معلنًا وهو يجز على فكيه :
-ربنا يوفقك يا استاذة .. وتجيبي رأسهم الأرض ، ونخلصوا منهم ومن أذاهم .. معاكِ حق دول عيلة لوش وليهم تقاليع عجيبة .. افضحيهم وأنا معاكِ .
رفعت سبابتها بإعجاب شـ.ـديد ، وبنفس النبرة الحمقاء :
-أنتَ أجدع حد أنا قابلته في حياتي والله العظيم ..
فتحت ” ليلة ” النافذة لتستنشق الهواء البـ.ـارد باستمتاع وهي تقفل جفونها وتسترخي متلذذة بنسمة الهواء الممزوجة برائحة المطـر الخفيف وكأن نجوم السماء تُزين ملامحها ، التفت إليها بدون رغبة منه ولكن شعور ما بداخله أجبره أن يتأملها مليًا .. ربما السر يكمن في خصلة شعرها القصيرة المتطايرة ، أم بملامحها الرقيقة التي تحمل براءة الطفولة .. تنهد وكأنه أراد أن يبتلعها دفعة واحدة لداخل صدره .. فتحت مُقلتيلها كمن تذكر شيئا ودارت نحوه لتسأله بوميض من الإحراج :
-أنا عارفة إني تقلت عليك .. بس ده والله آخر طلب … بليز ممكن .
اكتفى بنظرة واحدة فتحت لها مجالًا لاستكمال حديثها وقالت :
-كُنت عايزة أوصل لحد هنا اسمـه ..
فتحت حقيبتها بعجلٍ وهي تخرج هاتفها تبحث عن اسم ذلك الرجل الذي تريد لقاءه ، فتشت لدقيقة بهاتفه ثم هبت متحمسة :
-ايوة أهو ، اسمه هارون العزايزي .. ده العُمدة بتاعهم مكان باباه الـ اسمه خليفة مش كده ؟! بيقولوا عليه رجل صعب أوي وأصعب من باباه ، فاتح صدره على الناس ومحدش هامه .. وصعب التفاهم معاه وخُلقه ضيق ومحدش بيعرف ياخد معاه حق ولا باطل .. بيلعب بالسبع ورقات !
دmدm لنفسه متعجبًا :
-أنا عملت كل ده مـ.ـيـ.ـتة !!
وهنا تفرض التساؤلات نفسها في ساحة فضوله عن هوية تلك الفتاة تبحث عنـه وتفتش وراء عائلته عامة ووراءه بالأخص ، تعامل بهدوء وجهل تام مع سؤالها وقال :
-و سمعتي أيه كمان ؟! قولي قولي ، دا أنتِ طلعتي لقُطة .
ردت باندفاع متبعة فضولها وهي تتساءل :
-صحيـح القبيلة دي حاطة قانون جواز الدm ، ممنوع أي حد يتجوز من بره القبيلة ؟! يعني مش بيتجوزوا غيـر قرايب بعض وبس؟!
رد بثبات :
-ده أهم عُرف للـعزايزة .
ابدت اعتراضها معبرة :
-what?!
فاتبعت دهشتها بضحكة ساخرة وأكلمت بتلقائية :
-أحيـ**ـه ؟!
يبدو لوقع الكلمة أثار فجة على قلبـه فظهرت بوادرها بإحمرار جمر الغـــضــــب على ملامحه :
-اسمعي يا بت الناس ، طول ما أنتِ قاعدة إهنه متقوليش الكلمة دي حتى قِدام عيل صغير .. فاهمة ؟!
بدون اقتناع :
-كلمة أيه ؟! ااه ليـه يعني ؟! عندنا كلمة اعتراضيـة أن الكلام مش عاجبني أو مندهشة .. !! فين المشكلة ؟! وبعدين دي لهجتنا كلنا كاسكندرانية ومش مسموح لأحد حد مهما كان يتريق عليها .
يبدو أن حديثها لم يرق له ، اكتفى بتنهيدة عقبت خلفها زفيرًا قويـًا ليتخلص مما يشعر به ، غيرت مسار الحوار ومازالت تحت تأثير صدmتها من عُرف تلك القبيلة :
-نرجع لمرجوعنا .. لو واحد مثلًا حب واحدة تانية ومش عايز يطبق العرف ده ، مفيش أي ثغرة ممكن يستخدmها ، خلاص كده يتجوز حد مش بيحبه ولا متقبله عشان أعراف وتخاريف ؟!! أحنا فـ الجاهلية !! دول عيلة متـ.ـخـ.ـلفة بجد وتستاهل تتفضح .
بات الغـــضــــب كحبات الفشار التي تتقاذف من عينيه وهو يشيعها بنظراته الحادة ليجيب بحزم وانتماء لقوانين قبيلتهم :
-عرف العزايزة متخلقش اللي يكـ.ـسروا ، والقوانين سيف يحترمه الصغير قبل الكبير ، بعيد عن الحب والمياعة اللي عتتكلمي عنِها دي؟!
تراجعت للخلف برعـ.ـب يتطاير من مُقلتيها :
-حضرتك اتعصبت لي ؟! أحنا مش خلاص بقينا صُحاب وبندردش. عادي !! ليه الأفشة دي يا كابتين ؟!!
طريقتها الطفولية كانت مرهمًا على شروخ غـــضــــبه التي جعلتها تتخدر في نفس اللحظة .. التوى ثغره مبتسمًا عنـ.ـد.ما رأي خــــوفها فبادر ليطمئنها بعودته لهدوئه مبررًا لنفسه إنه ضيفته وبلداه ، تحمحم بخفوت وهو يجادلها :
-كملي سمعتي أي كمان على العُمدة ولد المجلحف ( مُجحف ) ..
بفضول مُلح بجهل :
-مُجـ..مجلفح يعني أي؟!
ببسمة كـبـــــريـاء ممزوجة بـ الشكوى :
-أنتِ جِيتي لي منين يابت الناس ؟! فتحي مخك معاي مش كل كلمة هنزلك بقاموسها ؟!
ثم ولى النظر إليها للمرة الثانية التي انحرفت فيها عينيه عن الطريق وقال :
-مجلحف يعني ظالم مفتري بلغتكم في بحري .. ومش دهوت كلامك !!
-أهااه فهمت يا كابتين.. سوري مش متعودة على اللهجة بتاعتكم ، أصل دي أول مرة انزل فيها الصعيـد .
ثم تململت في جلستها بحماس الطفولة :
-متحمسة أوي أشوف العمدة بتاعهم وبالأخص الحج خليفة ، أنا متخيلاه راجـ.ـل رجله والقبـر ، هلقى سنانه واقعة ولابس عمة وجلابيـة بس له هيبة تخض أي حد يقرب منه ، أنتَ شوفته ؟! قصدي تعرفـه ؟! احكي لي كمان عن ابنه هارون ده !!
رد بإنكار :
-لا هعرفه من فين أنا على قد حالي؟! راجـ.ـل بالسُمعة دي وآثار وفلوس هيقابل أي حد والسلام زيي إكده على باب الله !!
حدجته بعدm تصديق وهي تتأمل ماركة السيارة التي يقودها :
-مش باين الصراحة !!
تفهم قصدها شارحًا :
-قصدك العربية !! دي بتاعت الجماعة الـ شغال عنديهم .
-اااه فهمت .
أصابها اليأس في مقــ,تــل لصعوبة مهمتها بخلق حوار صحفي مع ذلك الرجل الغامض الذي قطعت مسافة أميال لأجله .. سألته بفضول :
-قولي تعرف أيه عنهم كمان ؟! حضرتك من هنا ؟! يعني من البلد ..
أكمل مسرحيته المزيفة :
-أنا من البلد اللي بعيدهم طوالي .. بس قوليلي عايزة ت عـ.ـر.في أيه ؟!
-قول لي مثلًا أيـه أغرب حاجة سمعتها عنهم ؟!
فكر مليًا ثم قال بإختصار متعمدًا إخافتها :
-أيام جدهم العزايزي الكبير ، ولد أخوه حب واحدة قهراوية واتجوزها من وراهم .. ولما وصلهم الخبـر ..
قطعته مع اتساع بؤبؤ عينيها بفضول رهيب :
-وبعدين ، عملو فيـه أيه المجرمين دول ؟!
وصلت سيارتـه لبوابـة الفندق ، فهدأ السرعة تدريجيًا وأجابها :
-من يومها محدش سمع خبرهم ، في أقاويل بتقول أنهم حبسوهم في كهف في الجبل لحد ما مـ.ـا.توا ، واللي يقولك قــ,تــلوهم ورموهم للديابة ..
زام فاهها من هول ما سمعته :
-يا حـ.ـر.ام ؟! دول مجرمين بجد ؟! طيب ليه بيعملوا كده ؟!
صف سيارته أمام مدخل الفندق ثم أبطل المُحرك وطل عليها للمرة الثالثة ليجيبها بنبرة أهدى عن بداية لقائهم وكأنه يذكر نفسه بقوانين قبيلته التي قطع عهدًا للحفاظ عليها أمام عينيها النبدقية :
-العزايزة دmهم عزيز وشرفي .. ومش أي حد يستحق يكون منيهم .. هما إمبراطورية اكتفت بحالها في وسط الجبل .. وأي دm غريب عليهم مصيره القتـل …..
بللت حلقها إثر الخــــوف الذي دب في أوصالها حتى أوشكت على البكاء :
-يامامي !! أنا عايزة أروح ….
انفجر ضاحكًا بصوته الأجش وملامحه الجادة التي لا يغازلها الضحك :
-تقلي قلبك عاد ، بدأتي مشوار يبقى تقطعيه لأخره ميبقاش قلبك خفيف … وصلنا .
تعرقلت الأعين المختلفة ببعضهـا أعين تحمل رائحة موج البحـر الرطبة بتلك الأعين التي ينعكس منها رمال الصحراء الحارقة ، كتعرقل سمكة بكمين صيادها المخادع.. يا ترى هل ذلك إثر حماقة السمكة أم للذة الطُعم ؟! أم لدهاء صيادها ؟! أحست لوهلة بشعور ليس من المفترض أن تشعر بـه ، قلب يرتجف وكأن قطرات المطر الخفيفة غسلت قلبها بدلًا من أرصفة الشوارع .. بتنهيدة تشبه شهقة الغريق وكأنها تود الاعتذار عما سببته له من إحراج :
-مرسيي أوي تعبتك معايـا يا كابتن .. جميلك ده أنا عمري ما هنساه .. حسابك كام بقا ؟!
تعجب بغرابة :
-حساب ايه !!
-التوصيلة !!
زفر بضيقٍ:
-انزلي وبطلي حديت ماسخ !!
شكرته بعرفان :
-ماشوفتش عمري في جدعنتك والله .. أنتَ رجل بصحيح وكُلك ذوق بجد ..
كادت أن تهبط ولكنها تراجعت متسائلة :
-والعربية ؟!! عربيتي ؟!!
رد بثقة :
-الصُبح هتلاقيها قدام اللوكاندة .. والمفتاح مع الموظف .
أردفت ممتنـة بإعجاب وبثرثرة :
-حقيقي أنت أجدع حد قابلته .. بجد مفيش منك ، بس أنا معرفتش اسمك لحد دلوقت تصور ؟!
أشار بيده لرجل الأمن كي يأتي ليأخذ حقيبتها متجاهلًا الرد على سؤالها حتى يئست من تلقي الجواب فترجمت صمته :
-خلاص مش مهم ، شكلك من الناس الـ بتحب تعمل الخيـر وترميه في البحر .. أنا هفضـل فاكرة الجميل ده طول عمري .. وهحكي لكل الناس عنك .
اكتفى بميلة خفيفة برأسه التي تحمل بداخلها مسئولية ومشاكل عائلة من أكبر وأهم عائلات الصعيـد .. هبطت ” ليلة ” من سيارته فلم ينتظر دخولها لبوابة الفندق .. انطلق مُسرعًا نحو قبيلتـه التي تنتظره على مراجـ.ـل من نار .. وقف رجل الأمن على الرصيف ملقيًا التحية :
-معالي الباشا نورت نورت ..نورتنا .
اقتربت ليلة من موظف الأمن وسألته بفضول قـ.ـا.تل :
-واضح إنك تعرفه .. هو مشهور أوي كده!!
مع ابتسامـة حمقاء أكملت :
-مين ده ؟!!
رمقها الموظف بذهول يحمل ألف سؤال ناتج سؤالها الأبله :
-ده هارون بيـه … هارون بيه العزايزي.
وقع الاسم على رأسها كالصاعقـة التي رجت كيانها فأغمضت عينيها لتسترد أنفاسها محاولة تلقى هذه الصدmة التي طاحت بجميع أحلامها وأن مـ.ـا.تبحث عنه يجلس بجوارها ، فغمغمت بصوت خفيض يحمل البكاء :
-أحيـــه !!
••••••••
تقف ” صفيـة ” وراء الجدران تلطم على وجهها بقلق يتتطاير من معالم وجهها المنكمشـة رغم بياض وصفاء بشرتها .. نادت هامسـة لهيثم برعـ.ـب :
-أخوك مش بعادته يعوق على الناس إكده ، ما تمشي رجلك للجسر ليكون دق في حد على الطريق ..
فاض صبر ” هيثم ” الذي بدا عليه التوتـر من ضجيج عمومته وأبنائهم من طيلة انتظارهم لـ هارون ونظرات أبيه التي تحمل التوعد :
-ياما مش أنتِ وهما علىّ !! دي مابقتش عيشـة ، وهارون ولدك مش بتاع عراك عشان يمشي يدق في خلق الله .. أقولك روحي نامي يا صفية .
-أنام كيف بس والدوار والع حريقة وكلهم هيدقوا في روس بعض ! طيب هلال أخوك فينه !
-فـ الجامع ، وروحت له قال لي أُغرب عن وجهي يا أخ هيثم .
ثم انصرف هيثـم ليكرر مهاتفة أخيه للمرة الذي لا يعرف عددها وهو يركض نحو مندرة اجتماع العائلة .. هرولت صفية فاتبعت زينـة خُطاها :
-روقي يا عمتي .. ربنا يجيب العواقب سليمة .
ضـ.ـر.بت صفية على صدرها بـ.ـارتباك :
-كلميلي الداكتورة هاجر بتي ، هاجر هي اللي هتقدر توصل لهارون أخوها .. هي الـ عتريح قلبي .
-وتشغلي هاجر لي بس دلوك وهي متغربة في أسيوط لحالها ؟! سبيها تركز في جامعتها ومذاكرتها .
جلست صفية على أقرب مقعد :
-متقاوحيش معاي يا زينة وكلمي هاجر .
لبت زينة طلب عمتها وهاتفت هاجر الأخت الصغرى لهارون صاحبة العشرين عامًا طالبة بكلية الصيدلة وتقيم بأحدى المدن الجامعية التابعة لجامعة أسيوط .. ردت ” هاجر ” على هاتفها باستغراب :
-زينة ؟!! أزيك ؟!
هتفت زينـة بـ عجلٍ :
-خُدي أمك عايزاكي يا هاجر … خدي يا عمة أهي هاجر على المحمول .
شـ.ـدت صفية الهاتف من ابنة أخيها :
-ألو .. يا هاجر .. سمعاني يابتي ؟!
وضعت هاجر غطاء رأسها وخرجت للنافذة :
-معاكي يا صفصف ، مال صوتك متاخد ليه ؟
-سوقت عليكي حبيبك النبي يا بتي شوفيلي فين مكان أخوكي على النت بتاعكم دهون ، لو مجاش هتحصل عركة كبيرة وأبوكي مش هيعديها وأنتِ عارفة عمامك ما عيصدقوا يمسكوا في بعض .
تبسمت هاجر مستخفة بالأمر :
-عمامي بردك ؟! ولا قلبك اللي مش هايهدأ غير وهارون جاره ، هكلمهولك متقلقيش .
-مش وقت مقلدة وشوفي لي أخوكي فين يالا استعجلي ..
دبت عجلات سيارته الفارهة دهليز القصـر ، فدلف منها على الفور وهو ينُادي على كبير الحرس :
-جابر خد المفتاح ده هتلاقي عربية عطلانة عند الكيلو ” —” وديها لدنقل وقوله البيه بيقول لك تسيب كل اللي في يدك وتخلصها قبل طلعة النهار .. اتحرك يلا .
ركض هثيم على أخيـه :
-كنت فين يا هارون ؟!!
-حصل أيه ؟!
حذره مغمغًا :
-أبوك على آخره !! هارون ما فكرتش في موضوعي أنا ورحاب ؟!
زفر بضيق:
-وده وقته ياهيثم !!
مسح بكفه على صدره وقال متيمًا :
-حاسس أن رحاب دي هي حُب عمري يا خوي وغير كل البنات الـ عرفتهم !هنتقدmولها مـ.ـيـ.ـتة ؟!
تجاهل سؤال أخيه وهو يسير بخطوات سريعة ناحية المندرة المتجاهر منها الأصوات المبهمة والهمهمـ.ـا.ت الغاضبة ، ما وطأت قدmيه عتبة المكان جهر بشموخ :
-عاملين غاغا لي .. طارت الدنيا ما تاخدوا نايبكم صبر ؟!!!!
••••••••
“مرسى علـم”
ضحكات متكررة من فاه ” هاشم ” وهو يتحدث مع أختـه عبر الهاتف وهي تشكي له أمه .. ثنى سيجارته بقلب المطفأة وقال بنبرته الصعيدية التي لا يمكن أن يتجاوزها وينساها مع أهله :
-ولدها البكري اللي مخلفتش غيره !! صفيـة هي صفيـة مش هتتغير .
جلست ” هاجر ” على طرف مقعد مكتبها وهي غارقة بالضحك :
-حقيقي أنا وأنت المتغربين مش بتفكر فينا كيف ما هارون شاغلها ..
جلس على الأريكة بجوار ” رغد ” بعد ما طبع وسام حبه على جدار عنقها بقُبلة صامتـة ولكنها قادرة على وصف مدى حبـه فلبت ندائه وتركت هاتفها ومالت برأسها على صدره ثم عاد لحديثه مع هاجر :
-هو اللي على الحجر ياستي .. بكرة يتجوز وتيجي اللي تأخده منها .. وهنشوف صفية هتعمل فيها أيه !
هبت معترضة :
-مين دي ؟!!دي صفية هطلع عين اللي جابوها .. وقول هاجر أختي قالت .
-يحيينا ويورينا يا ستي ، قوليلي ناقصك حاجة عندك ، فلوس، حد مزعلك ؟!
قفلت الكتاب المفتوح أمامها :
-مين ده اللي يقدر يزعلني ، دول بس يسمعوا إني بت العزايزة يخافوا يقربوا مني .. عاملين رُعب أنتوا في كل مكان .
-أومال أنتِ فاكرة أيه !! بطلة كيف أخوكِ ..
-قعدتك في بحري علمتك الحديت المزوق والبكش ، بس هعمل أيه أخوي وعحبـه .
ظلت يده تمسح على رأس رغد النائمة بحـ.ـضـ.ـنـه ثم قال :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  يا مقرودة ..
-كلها يومين وهنتجمعوا على فرحة هيام وهزهقك مني .
-مقدرش ..
-ربنا يخليك لي يا هاشم أنت وهارون وهلال وهيثم ، أنتوا سندنا من بعد أبوي ربنا يديم حسه .. اسيبك عشان تشوف شغلك مـ.ـا.تقولش عليا رطاطة ، بس أنت عارف عحب الحديت وياك .
-وأنا عحبك أنتِ .. خلي بالك من روحك .
رسمت البسمة على محياها :
-من عيني .. هاشم لا اله إلا الله .
-محمد رسول الله يا حبيبتي .
أنهى المكالمـة مع أخته الصغرى ثم ألتفت لتلك الأعين التي تتغزل به في صمتها .. رفع حاجبه مندهشًا ومازال محافظًا على لهجته الصعيدية :
-أنا مش قد البصة دي يا بت الحلال !!
اتسعت ابتسامتها الرقيقة وسألته :
-لسه النظرة من عيني بتهزمك زي أول مرة اتقابلنـا ؟!
-بتهزمني ؟! أنا اتمسح بيا أسفلت مرسى علم .
قال جملته بتلقائيـة جعلتها تخر ضاحكة ، تلك الضحكة المسـ.ـر.وقة من لحن قديم لفنان ماهر .. بزهوة الملامح التي اختارها الورد لتكون مرآته لتردف تحت سطو ازدهارها :
-أكبر بكاش شوفته في حياتي .. حتى هاجر متفقة معايـا إنك بكاش.
احتمت بالوسادة عنـ.ـد.ما قرب منها ، فأنقذها من شروره رنين هاتفـه ، عض على شفته السُفليـة :
-فلتتي المرة دي ..
رد على هاتفه بعجل فتحركت من جاره بأقدامها الحافية ، تلقى التعليمـ.ـا.ت الخاصة من الفرقة المسئول عنها حتى بعد انتهاء المكالمة واصل حديثـه المُزيف وهو يتقدm إليهـا بخطوات خفيفة تلك الواقفة بداخل الخزانة تبحث عن ملابسـها ، جهر مكملًا مسرحيته وهي يعبث بشعرها :
-يعني أيه مش عارفين تتصرفوا من غيري ؟! بقولك مش هينفع أجي ..
دارت نحوه بأعين خائفة من رحيـل منتظرة بقية حديثه برهبة ، عقد هاشم حاجبيه :
-هجوم مسلح ؟! لا اله إلا الله ، أمتى ده ؟؟!! خلاص قلت جاي …
خيمت معالم الحـ.ـز.ن على ملامحه :
-رغد أديكي سمعتي ووو
قفلت الخزانة بضيق وهي تخفي عبراتها المترقرقة:
-لا يا هاشم ، أنا ما بصدق تيجي هنا ، أنا مش بطمن غير ونفسك معايا في البيت ، واليوم اللي عشمت نفسي هتنام جمبي تنزل وكمان ضـ.ـر.ب نار وهجوم ، أقولك اترفد وتعالى اقعد جمبي .
جفف عبراتها بإبهامه مكملًا مسرحيتـه :
-طيب الشغل ودي تعليمـ.ـا.ت .. أنا لو عليـا عايز أقعد جمبك عمري كله ..
انفجرت باكيـه خارجة عن صمتها :
-بس دي مش عيشة ، أفضل مستنياك من الشهر للشهر على كام ساعة وبعدين نلف في نفس الدايرة ، أنتَ لا سامح لي اشتغل ولا حتى أخرج من بره البيت ، البازار بتاعي وشغلي كله وقف عشانك والنتيجة كانت أيه ؟! قاعدة محبوسة بين أربع حيطان .. أنا مش قادرة أكمل كده شوف لنا حل ؟؟
ضمها إليها قبل أن تنهار كليًا أمامه :
-رغود حياتي بهزر .. مش رايح لحتة ولو عايزني منزلش الصعيد مش هعارض بس بلاش دmـ.ـو.عك دي .. غاليين عليا.
حاولت التملص من يده ولكنه لم يمنح لها فرصة للهرب :
-بس بس طيب بصيلي كده !!
تحاشت النظر إليه :
-لو سمحت يا هاشم ؟!
-هاشم أيه بس ؟!!! أنتِ عايزة تبقي معايا وفي حـ.ـضـ.ـني وكمان تعيطي ؟!! ليه كوافير حريمي أنا هنا .. بـ.ـنت أنت بصي لي ..
رفع وجهها عنوة لعينيه وقال بنبرة خافتة :
-أنتِ عايزة تعـ.ـذ.بيني بالدmـ.ـو.ع دي .. ولا بتعـ.ـا.قبيني!! هو الواحد ما يعرفش يهزر معاكِ !!
عبرت عن حـ.ـز.نها ببكاء :
-غـ.ـصـ.ـب عني يا هاشم والله مابقتش قادرة ، أنت في شغلك وانا هنا عمري بيتسرق ، حتى الخلفة مش عايزنا نخلف ؟!! أنا زي اللي غمضت عيني ونزلت معاك البحر حتى ولو هغرق بس المهم معاك … ضريبة حبي ليك تعـ.ـذ.بني كده ؟!
لملم شعرها الغجري بحنان ذاخر ثم قطف منديلًا ورقيًا وشرع بتنشيف قطرات الحـ.ـز.ن من فوق وجنتيها بحنـو ثم طبع قبلتي إعتذاره على كل واحدة منهم وقال :
-الكلام ده ما ينفعش يتقال من غير عـ.ـيا.ط يعني ؟! ولا أنتِ حابة تو.جـ.ـعي قلبي وخلاص .
عضت على شفتيها بحيرة :
-أنا عايزة اتكلم ومش عارفة اشتكي لمين ، غـ.ـصـ.ـب عني صبري له آخر يا هاشم .
هب بنبرته الصعيدية قائلًا :
-طيب أيه يراضيكي دلوك وأنا أعمله .. تعوزي لبن العصفور هيجيلك ..
-خليني ارجع لحياتي وشغلي اللي بحبه .. يعني مش هجبرك على الخلفة دلوقتي أنا مقدرة الظروف أهلك وانهم لازم يفرحوا بهارون الأول .. بس على الأقل يكون لي حياة في غيابك ، الوحدة بتقــ,تــلني يا هاشم .
احتوى وجنتيها براحتي كفيه :
-وعد هفكر في الموضوع ده ، ولما اتأكد مفيش خطورة عليكي هخليكي تنزلي .
هتفت معارضـة :
-هاشم أنا مش طفـ ….
سد أبخرة عتابها وعنادها بأنامله :
-رغود مش هيبقى نكد هنا وفي الشغل وفي البلد ؟!! ارحمي اللي خلفوني .. أنا بهرب من الدنيـا ليكِ .
هزت رأسها منسحبة من رحى الحرب بينهم :
-تمام اللي تشوفه ، أقفل النور عايزة أنام ..
شـ.ـد قبضته على خصرها :
-بس أنا مش عايز أنام ..
-هاشم ….. !!
بعينيه نظرة متحفزة للاعتذار قائلًا بنبرته الصعيدية التي تذوب بها :
-انسي .. معندناش حريم تنام قبل رجـ.ـالتها ..
ابتلعت ابتسامتها الخفيفة كي لا تنهزم ككل مرة أمامه :
-هنا عندنا عادي .. لما أجي الصعيد عندكم أبقى مشي عليا عاداتكم ..
بنبرته الحادة هتف :
-رغد ؟!!!
تأففت مُجبرة :
-نعم يا هاشم ؟!
-غيري هننزل نشم هوا .
-ماليش مزاج .
حك ذقنه الأملس وقال :
-خلاص نامي وأنا هنزل أشوف واحدة متنكدش عليا .
اتسعت عينيها بتحدٍ وحزم وهي تقفل باب الغرفة بالمفتاح وتخفيه بداخلها :
-هاشم أنا هروح أنام ، وسيادتك هتسبقني وتنام قبلي ومفيش خروج من البيت .. ولا من الأوضة دي .
-يعني ليلتنا dry night ؟!
هتفت بإصرار :
-هاشم !!!
مسح على شعره بطاعة دون أي جدال وبنبرته العسكرية المعتادة :
-علم وجارٍ التنفيذ معاليـكِ .. تمام يافنـ.ـد.م .
أشارت له ناحية مرقده بنفس النبرة الآمرة بعد ما قفلت الباب عليهما بالمفتاح كأنها أعلنت الحرب عليـه :
-اتفضل نام يلا …
اقترب مطاوعًا من فراشه وهو يرمقها بنظرات خبيثة حتى باغتـها بحملها بقبضة يده القـوية متجاهلًا صرختها وهو يدلف بها إلى المرحاض ويقفل الباب عليهما … هبت متمنعة لقربه :
-هاشم متفقناش علي كده ، أنا كلامي مش بيتسمع ليه ؟!
أجلسها فوق رُخامة الحوض :
-أي الشراسة دي كلها دا أنا اتهزيت ؟!! أنا محدش يستجرى ويكلمني كده في الشغل ولا في البلد.
تمردت قائلة :
-متحاولش مش هصالحك لا .. ووسع بقا عايز مني أيه مش بكلمك يا اخي لحد ما تبطل رخامة !
-مش بعرف أنام من غير ما احلق ؟!
رغد باستنكار :
-ده من أمتى بقا ؟!!
-من الساعة دي ؟!
نال بشـ.ـدقه فوهة غـــضــــبها معتذرًا عما سببه لها من آلام ، رغم عنها هزمت أمام سيف الحب القوي ، فلم تُخلق امرأةً هشة ولم تكن يومًا من النوع الذي يغلبهُ هواه ولكن الأمر كلهُ انحصر في كونه هو …. هو الذي تنحني أمامه جميع القواعد والقوانين ….
••••••••
-أنتَ واعي لحديتك ؟!!
فوهة سلاحه انغرست بجبين ” معتز ” ابن عمه عنـ.ـد.ما علم بحقيقة ميله لفتاة آخرى لا تنتمى لنسل العزايزة .. لم يغمض جفن الرحمة لهارون وهو يشـ.ـد السلاح من يد أحد الخفر ليستقر بين عينه .. ما زال معتز محتفظًا بثباته معارضًا :
-يعني لو هاشم أخوك جيه وقالك إنه رايد واحدة من بحري هتعمل معاه إكده ..
هجر هارون بعنفوان وهو يوبخه :
-أخويا هاشم لو فكر بس قبل ما ينطقها هتكون روحه طالعة في يدي ؟!! مش أنا ولا أنت ولا حد يستجرى يكـ.ـسر عرف لهوارة العزايزة … أنت فاهم … ؟!
تدخل هيثم ليدافع عن ابن عمه :
-استهدى بالله يا هارون ، معتز آكيد ما يقصدش …
جهر بصوته الأشبه بالرعد :
-ولا يقصد …. عند الأعراف الكل يخرس وينفذ ويحط مركوب بخشمه .
هب معتز معارضًا :
-وطالما إكده أنتَ متجوزتش ليه لحد دلوك ؟! ولا أنتَ فالح بس تقول مين يتجوز ومين لا …؟! طالما عارف الأصول زين فين حفيد ووريث خليفة العزايزي ؟؟!
لكزه هارون بفوهة السلاح بكتفه كي يتراجع جالسًا على الأريكة :
-أنتَ كمان جاي تحاسبني يعني بجاحة وقلة أدب ؟!!!
جادله معتز :
-لا جاي أعرف عقوبتي لما اتجوز بت الإعرابي …
طال صمت هارون وهو ينظر لأييه الذي يراقب أسلوبه بالحكم بدلًا منه حتى قطعه مجمهرًا :
-هخلي أبوك اللي معرفش يربيك يرد عليك … سمعنا يا عم رفاعي ردك على حديت ولدك الماسخ ؟!!عشان موال كُل سنة ده مش هنخلصوا منه .
انتفض العجوز من جلسته وهو يحدج النظر بالحاضرين بخجل :
-يتقل هو وهي في الكوشة ..
قطم هارون الحديث وأكمل :
-سمعت، قبل ما يتخلط دmه بدmها ، بنشربوا من دmهم …
ثم أغمض عينيه وآمر :
-كمل يا عمي وسمعنا …
أكمل العم رفاعي ذلك العجوز الذي أصابه الهرم :
-يا أما يتطرد من العيلة ومن البلد كلها ونتبروا منه قصاد كُل الناس .. ويبقى مقطوع مش شجرة العمر كله .. ومالهوش في ذمتنا جنيه …
عارضه معتز غاضبًا :
-أنا مش مجبر أنفذ أعراف وقوانين ناس مـ.ـا.تت وشبعت مـ.ـو.ت ؟!
حدجه هارون بانفعال :
-ولو مكتمتش وقفلت خشمك وقمت حبيت على راس أبوك وأبويا ، هبعتك ليهم وابقى اتعارك معاهم تحت الأرض … قلت أيه ؟؟!!!!
صدر صوت جمهوري من محشـ.ـد الرجـ.ـال وهم يؤيدون حديث هارون بإعجاب :
-عداك العيب يا عمدة ..
تراجع هارون وترك السلاح بيد الحارس ليعود لعرشه بشموخ :
-الحديت خِلص ومعتز وِلد عمي عقل ومستحيل يكـ.ـسر هيبة العزايزة بينات الخلق .. نورتوا يا رجـ.ـا.لة …
نهض كبـ.ـار العائلة واحد تلو الأخر حتى تقهقر العم رفاعي آخر واحد ، فأوقفه نداء هارون الذي لا يحمل الا الوعيد :
-عم رفاعي ، يا تعقل ولدك يا أما البت اللي رايدها مش هيطلع عليها نهار … والموضوع دِه ما يتفتحش مرة تانية ..
قَبل رفاعي على مضض :
-آومرك يا ولدي ، مـ.ـا.تعتلش هم ، أنا هكلمه……
••••••••
~ صباح اليوم التالي ~
بعد ليلة طويلة وصعبة حملة ممنهجة هجمت على رأس” ليلة ” محاولة استيعاب ما مرت بـه ليلة أمس ، هـ.ـر.بت من العالم برُمته بعدmا طمئنت أمها بوصولها ثم قفلت هاتفها وأخذت تهذي مع نفسها حول هويـة ذلك الرجل الذي فشت أمامه أسرارها ومحاولة بحثها عن كبير العزايزة لـ كونه هو من تبحث عنه حتى غلبها النعاس على أحد المقاعد ….. داعبت أشعة الشمس أعينها فاستيقظت لتحكم غلق الستائر وتواصل نومها على فراشها لتغتال مشقة سفر الأمس …
جاءت ” صفية ” حاملة كوب الشاي لابنها الجالس بحديقة منزلهم مع طلوع الشمس يتفحص أوراق المحاجر والأراضي التي تقع في حيازة آل العزايزة .. وضعت الكأس أمامه :
-كوبايـة شاي من يد صفية هتروق عليك .. وتروق يومك .
رد باهتمام :
-سلم يدك ياما …
-حالك مش عاجبني يا حبيبي ، أيه شاغل راسك مش مريحك من إمبـ.ـارح؟!أوعاك كلام معتز فرق معاك !! أقول لك ما تتجوز وتخرسه ، الحديت كتير يا ولدي وكل الخلق مركز معاك .. ومستني يشوف عروستك .
ترك ما بيده ثم نزع نظارته الطبية وبعدها تناول كأس الشاي ليرتشفه .. رشفة واحدة منه ثم قال :
-مشاكل العزايزة ماعتخلصش يا صفية .. من يوم ما قعدت على الكرسي ده مش عارف ارتاح .. كل يوم بمصايبه ..
ثم تنهد بكلل:
-جواز ويبقى زيادة الهم همين ياما !!
انتقلت من مقعدها لتجلس للمقعد المجاور له:
-طيب أنت مش ناوي تريح قلب صفية يا حبيبي ، العُمر بيجري يا هارون والقعدة مافيش منها لازمة .. لازمًا تتجوز يا نور عيني.
أكملت صفية بنبرة لا تقبل أي نقاش :
-الليلة هكلم خالك على زيـنة وتخطبها وتخشوا بعد العيد الصغير ..
ونغم دي غاوية علام ودmاغها بحري كيف فكر هاشم .. وزينة غاوياك ، اخطب لك أنت زينة وهاشم نغم .. وافرح بيكم في ليلة واحدة .. هروح أخبر أبوك .
كاد أن يجادلها معترضًا فتوسلت له بنبـرتها الاستعطافية :
-وغلاوتي عندك ما تكـ.ـسر بخاطر أمك ، زينة دي هتحطك جوة نين عينها .. ونغم خسارة تروح منينا أخوك هاشم أولى بيها .. وافق لو أمك ليها عندك خاطر يا هارون .. ولا عايزني أمـ.ـو.ت من قهرتي عليك ؟!
وثب من مكانه وقبل رأسها مبتلعًا غصة اقتراحها وقال على مضض :
-اللي تشوفيه يا صفية ، أعملي اللي عايزاه …
صفية بفرحة تتقاذف من مقلتيها :
-يا فرج الله ، يا ما أنت كريم يارب ، آخيرًا ، آخيرًا هفرح بيكم ، متتصورش أنا روحي ردت فيّ كيف … الليلة هكلم خالك ، ويجي هاشم نروحوا نطلبوا يدها رسمي..
رد كالمضطر لأمر لا مفر منه خاصـة بعد توبيخ معتز له ليلة أمس :
-أعملي اللي عايزاه يا صفية .. مش فارقـة .
ثم تراجع ممازحًا :
-هو مفيش غير زينة قصادك يا صفية ؟!! ما تدوري إهنه ولا إهنه يمكن تعتري في واحدة غيرها .. أصل زينة دي عفية وراسها فاضية وأنا راجـ.ـل شقيان .
-رايداك يا حبيبي ودي تربية يدي ، يعني هتقولها شرقي هتشرق ، غربي هتغرب .. مفيش أغلب منها.
فرغ من ارتشاف كأسه ثم ضب جلبابه وهمّ راحلًا :
-خدتي اللي عايزاه بكوباية شاي أهو يا صفية ، أهملك أنا عاد ..
ردت بلهفة :
-الود ودي ازغرد بس مش دلوك عشان النقم والعين ما بترحمش .. وعيون حريم عمامك مفنجلة كد إكده علينا .. أنتَ وهاشم في ليلة واحدة بعون الله .
ضـ.ـر.ب كف على الأخر وهو يتساءل ألف مرة بينه وبين نفسه ما الذي يجبره أن يوافق بعرض أمه ؟! أن يقبل بفتاة لم يتحرك لها قلبـه للحظة ، ما الذي يجبره لقبول أمرًا رفضه قطعًا ، جاءت ” هيام ” تركض بلهفة أن تلحق به :
-هارون فينه يا ما أنا مش عارفة أعتر عليه من امبـ.ـارح؟!
-مشي يا هيام .. يلا يلا تعالي نشوفوا عفشتك ناقص فيها أيه ؟!
صرخت هيام بوجهها :
-مش عايزة أشوف حاجة ولا عايزة اتجوز من أصلو وهملوني لحالي عاد .. والجوازة دي على جثتي لو تمت .
تجاهلت صفية صراخ ابـ.ـنتها وحرقة قلبها إثر سطو فرحتها بهارون وهاشم ، اتسعت ابتسامتها بفرحة :
-أهو جلع البـ.ـنتة دهون بعينه ؟! أعيش واشوفك متستتة يابت بطني وأنتِ بتصرخي إكده عشان متهمليش جوزك ..
مرت أحداث اليوم المعتاد سريعًا حتى ذابت الشمس بصحن السماء ، نهضت ” ليلة ” مفزوعة من نومها وهي تنظر للساعة لتجدها السادسة مساءً .. وضعت يدها على شـ.ـدقها :
-يا خبر ؟!! أنا نمت كل ده ؟!!
ثم فزعت من مرقدها :
-شريف قالب عليـا الدنيـا ..
أخذت تركض بالغرفة كالمـ.ـجـ.ـنو.نة وهي تبحث عن أشياءها وتبدل ملابسها وتصفف شعرها وترتب حقيبتها التي انسكبت أرضًا بتـ.ـو.تر وقلق حتى ألغت جميع المهام واكتفت أن تهبط بمظهر مناسب كي تصلح خطأها الفادح بحق خطيبها ..
نزلت من الغرفة تركض كالهائم على وجهه حتى وصلت لاستقبال الفندق وأعطته بصمة الغرفة .. فسألها الموظف :
-آنسة ليلة اتفضلي مفتاح عربيتك ، كانت هنا من ٨ الصبح ..
شـ.ـدت المفتاح بذهول لن يدوم طويلًا مصحوبًا بإعجاب :
-عربيتي ؟!! ده كمان رجعها في نفس المعاد ؟!!
ثم نظرت للموظف بعجل :
-مرسي مرسي اووي ، لازم امشي ….
~على الجهة الآخرى ~
احتشـد رجـ.ـال الشرطة بسرايا خليفة العزايزي يبحثون عن ” هارون ” .. خرج لهما مرتديًا عباءته الصعيدية وجهر :
-محسن باشا خير ؟!!!!
تقدm إليه الضابط باحترام ينعكس بخطواته :
-أنا أسف يا عمدة .. بس ممكن تشرفنـا في القسـم ؟!
-خير ؟!!!
رد محسن بهدوء :
-استجواب على السريع وهتروح على طول .. لو حابب تيجي بعربيتك مفيش مشاكل ..
هز رأسـه هو يتقدm خطوتين:
-هات العربية يا جابـر ..
****
“لا مكان لليأس في قلب يؤمن بأن الله هو متولي أمره .”
تلك كانت آخر جُملة اختتم بها الشيخ هلال خِطبته بعد صلاة العشـاء ليلة الجمعـة كما اعتاد أن يلقى خطبته على المُصليين عشاء الخميس وظهر يوم الجمعـة .. أومئ بخفوت وهو يذكر الله في سره ويحمل مصحفه الكبير ويضعه بمكانه بمكتبـة المسجد .. ثم ألتفت لنداء أحد الشباب بأدب :
-شيخ هلال .. ممكن كلمتين .
طالعه بنظـراته الاستكشافية :
-أنتَ مين !! أنا أول مرة أشوفك تصلي معانا ؟!
عرفه الشاب على نفسـه قائلًا :
-أنا مرتضى وِلد سعيد الغنامي مش من إهنه ، أنا من قِبلي ، بس سمعت عنك كتير وقولت لازمًا أجي أصلي وراك في يوم .
ربت هلال المرتدي زيه الإسلامي الأزهري وقال :
-تعالى أقعد ونتحدتوا براحتنا .
جلس الرجل بمحاذاته تحت أحد أعمدة المسجـد وشرع في التحدث عما يدور بخاطره:
-شوف يا شيخنا …
قاطعته هلال قائلًا بابتسامة يحاصرها نور الرضا :
-ياا لله !! أنا مش شيخ ، أنا عـحب ربنـا .. والـ عيحب ماعيفارقش حبيبه واصل .
تفهم الشاب عدm حبه للفظ شيخ ، فتقبل الأمر بترحاب وقال :
-وأنا جاي عشان اتعلم منك وتاخد بيدي .. شوف أنا مش عارف انتظم في الصلاة واصل .. وكُل ما أصلي وانتظم ارجع اقطع تاني ، قولت اجيلك يمكن يكون عندك الحل ..
انكمشت ملامحـه لغيرتـه الشـ.ـديدة على العلاقات المُقدسـة بين العبد وربه التي يفرط فيها العبد بسهولة ، هز رأسه بخفة حتى ألتقطت أنظاره الدبلة التي تُنير يمين الشـاب ؛ غير مسار الحديث وسأله :
-أنتَ خاطب يا مرتضي!!
رفع الشاب يمينه وهو يتأمل محبس خطبته بـ.ـارتياح :
-أيوة ، خاطب بت عمي وحُب عمري ، وفرحنا الشهر الجاي ، لازمًا هتنورنا وتكتب الكتاب بنفسـك .. سمعت إنك مسكت المأذونية من قريب .
وضع هلال كفه على صدره مُرحبًا بدعوة الشاب بتواضع ثم عاد لمحور سؤاله :
-و لما خطيبتك ترن عليك ، بترد عليها طوالي ولا بتعوق فـ الرد !!
رد الشاب بعفوية:
-دي تخلي يومي مقندل لو مردتش عليها في نفس الوخت .
اتسعت ابتسامة هلال التي لا تُفارق وجهه وقال :
-و أنا كيفك بالضبط .. ساعة ما أسمع صوت الآذان أجري عشان ألحق الصلاة ، ده لو مكنتش قاعد مستنيه ، علشان لو معملتش إكده يومي هيكون مقندل زيك ..
تأرجحت عيني مرتضي بذهول و هو يحاول إدراك المغزى من كلامه، فأتبع هلال موضحًا :
-زي ما عقول لك ، أحس بأن ربنا قفل في وشي كل أبواب الرزق والراحة !! مانا تجاهلت لقائه ونداءه !! شوفت مش عـ قول لك الحبيب هاوي لُقاء ، وأجمل هوى في حُب خالق هذا القلب .
قال جملته الأخيرة وهو يُشير بسبابته على قلبه ، فأكمل واعظًا:
-خلي علاقتك مع ربنا كـ حبيب ، مش كعبد وربه ، صدقني عمرك ما تفارق سجادة الصلاة ولا يهون عليك تسمع النداء ومترمحش عليه ..
-الله يفتح عليك .. كلامك عيريح قوي .
برق الإعجاب بعيني الشاب وببدو أنه اقتنع بنصيحته ، لذا عاد متسائلًا :
-حاجة كمان .. أنا عملت ذنوب كتير قـوي ، بس توبت !! لكن شعور الذنب وأن عمر ربنا ما هيسامحني دايما ملازمني .. قول لي حاجة تريح بالي من وسوسة الشيطان ..
ربت هلال على كتفه بنفس الابتسامـة الهادئة ونظر بعيني الشـاب وهو يروي على مسامعه أحدى قصص الصحابه بتأثر شـ.ـديد :
-في قعدة صفى كده بين الصحابه ، فجاة (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ) ضحك ؛ فسأله احد الصحابة
“ما الذي يضحكك يا أمير المؤمنين ؟! ”
اتسعت ابتسامته وهو يذوب بحب النبي وصُحبته :
-عارف رد عليه بصوت كله فخر وقاله “لانني اكثركم حسنات !! ”
كان رده غير متوقع خلاهم يبصوا لبعض ، فسأله واحد كمان منهم :”كيف ذلك يا عمر ؟! ”
كمل بنفس اسلوبه المتباهي وقال: “ألــم أكن في الجاهلية أكثركم سيئات !! ”
ثم أغمض هلال جفونه وواصل حديثه بسكينة لحلول القرآن بقلبه راويًا حديث سيدنا عمر :
-وربنا قال في كتابه :
: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾
فاكمل :”وانا تُبت وأسلمت ، فبدل الله سيئاتى بإذنه ، فأصبحت أكثركم حسنات .. وهذا هو وعد الله الذي لا يخلف وعده ”
أشاد الفتى بابنهار:
-الله!! الله يفتح عليك يا أخ هلال .
في تلك اللحظة كان ” هيثم ” واقفًا على باب الجامع يخلع نعله ، فانتبه له هلال الذي وثب مستئذنًا من الشاب وأقبل إليه:
-أي رياح طيبة أتت بك لهنـا يا أخ هيثم ؟!
أمتعض هيثم لطريقة أخيه التي يحدث الجميع بها وإصراره على اقتناء المفردات العربية بالحديث العامي ، زفر هيثم ليبخ سُم أخبـ.ـاره التي لا تعرف الطيب :
-خدوا هارون على المركـز ، يلا نروح له ..
ثم هتف متوعدًا :
-علشان شريف أبو العلا ولد الـ *** لو عملها المرة دي ومشلش هارون من راسه هأخد فيه إعدام ..
تمتم واعظًا وهو يتأهب للرحيل معه ، وبنبرة منفعلة:
-يااااا لله .. ألفاظ خارجة ببيته!!
لا تُكن فظًا غليظ القلب متسرع الحُكم .. سنستنبط الأمر أولًا .
وبخه أخيه بغـــضــــب يتقاذف من بين أنيابه :
-مش وقت حكم ومواعظ وأنا عارفك لا هتحل ولا تبر معاي ، شريف أبو العلا لو ملمهاش هرجعه بلدهم فـ قُفة يا هلال .
***
يروق لي دائمًا وصف نزار عن حبيبته :
“أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ.. ووردةُ كلِّ الحرياتْ.
يكفي أن أتهجى اسمَكِ.. حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ..
وفرعون الكلمـ.ـا.تْ.. يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ..
حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ.. وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..”
ولكن سيظل الأجمل بالنسبة لي رسالـة أحدهم التي لخصت كل القصائد وكلمـ.ـا.ت الغزل :
-أنتِ حُلم كُل رجل ، أنتِ إمراة لا يأتي بها الزمان إلا مرة واحد ..
ثم استعان بوصف نزار مرة آخرى وقال :
“أشهد أن لا إمراة إلا أنتِ .”
#نهال_مصطفى .
•••••••
تحمل صفيـة مائدة الطعام المعدنية التي تحوي على أطباق ممتلئة بالجُبن والعسل والبيض الغارق في السمنة الفلاحي .. ألقت عريضة أوامرها على الفتيات العاملات قبل رحيلهن وهي تُفارق المطبخ بخطوات متمهلة متجهـة نحو غرفة السيدة ” أحلام ” ضُرتها والزوجة الأولى لخليفة العزايزي التي عاشت معه عشرة سنوات حتى حسـم الطب مصيرها بالإنجاب وأنها إمراة عاقـر لا يمكنها أن تُنجب ، حينها أُجبر زوجها أن يتزوج من صفية ابنة عمهما صاحبـة السادسـة عشـر من العُمر وهو صاحب الخامسة والثلاثون عامًا .. تسير صفية على مهلٍ حتى طرقت الباب بخفوت مستئذنة ففتحته وهي تقول لضُرتها السيدة أحلام :
-قلت ألحق اتعشى جارك قبل ما تنامي يا عمة .
سلمت السيدة أحلام الجالسة فوق المقعد على يمينها ويسارها لتختم صلاتها وقبل البدء في أذكار نومها قالت :
-بت حلال يا صفية ، كُنت لسه هشيع لك .
وضعت صفيـة صنية العشاء على الطاولة وقالت باهتمام:
-خيـر يا عمـة ، عاوزة حاجة مني ؟
شرعت أحلام في نزع وشاح رأسها وهي تشكو لها :
-تعالي سرحيلي شعري ، البت لكتـه إكده ومشت ، محدش عيريحني غيرك .
أردفت صفية بسعة رحب وهي تحضر فرشاة الشعر :
-من عيني .. أنا عارفاكي مفيش غير ضفيرة صفية الـ عتريحك .
ما كادت أن تخطو خطوة وتراجعت مقترحة :
-ما نتعشوا الأول قبل الوكل ما يبرد ! دا أنا عملاه عشانك .
أومأت أحلام موافقة اقتراحها ثم قالت متسائلة :
-ألا هارون فين ، له يومين مافاتش عليّ !! الواد دي اتعلم الجفا مـ.ـيـ.ـته !!
قربت صفيـة مائدة الطعام منها وقالت :
-وهو لو جفا على كل الخلق ، عمره ما يجفى عليكي يا عمة .. يلا مدي يدك عشان تأخدي دواكي ، وهخلي البت ترنلك عليـه ويفوت عليكِ قبل ما ينام .
••••••
‏” كل الليالي التي يزورها الحُب ، آمنة ودافئه ”
تنام على يسـارها متأملة ذلك الرجل الذي استمد لون بشرته من سنابل القمح .. والتي تختلف تمامًا عن لوني وجهه ومرفقيـه القاتمة والتي غازلتهم الشمس حتى طبعت بصمتها فوقهـم .. أخذت تمرر أطراف أناملها فوق تقاسيـم جسـده الرياضي صَلب البُنية ، وعيناها تتلألآن بالتسلية التي يغلفها الحُب حتى تمتمت بصـوتٍ خفيض :
-هشومي !!
أتاها صوتـه المفعـم بالنوم وهو يجذبها لحـ.ـضـ.ـنه ، مع ابتسامته السـاحرة :
-منمتيش ليـه ؟!
-مش عايـزة أضيع دقيقة واحدة من غير ما أملي عيني وقلبي منـك حتى وأنتَ نايــم .
ثم همست بصوت لاذع:
-ليه ما ينفعش نكـون مع بعض من غير بُعد !! ليـه حـ.ـضـ.ـنك ميكونش أول وآخر حاجة في يومي !!
انقلب مستلقيًا على جانبه وهو يداعب خصلات شعرها الغجري بجفون يثقلها النـوم ، وأردف مغازلًا :
-وانتِ ليـه مش مبطلة تحلوي ، وكُل يوم بشوفك أحلى وأجمل من الـ قبله .
همست بصوت حنـون :
-صُحابي متجمعين فـ كامب .. تيجي ننزل لهـم ونرجع الصُبح !!
عقد حاجبيـه وكأن الفكرة لم ترق له:
-أنتِ عارفة أنا مش بنسجم مع صُحابك المجانين دول ، بس لو حابة تروحي يلا .
تحمست نبرتها وهي تحاول اقناعه :
-هنقعد لوحدنـا ، بعيد عنهم خالص ، أنا وأنتَ وبس .. بليز يا هاشم اتخـ.ـنـ.ـقت من جو البيت .. أنا بحب أخرج معاك وأعرف الناس كلها إني متجوزة سيادة الرائد “هاشم خليفـة” .
وافق على مضضٍ:
-طيب قومي أجهزي وأمري لله يا ستي ..
-حالًا …
لم تُصدق نفسهـا من شـ.ـدة الفرحـة ، طبعت قُبلة سريعة على وجنتـه كوسام شُكر ثم ركضت بحماس الطفلة لتستعد لرؤية أصدقائها اللذين لم تلتق بهم منذ ثلاثة أشهر تنفيذًا لأوامره .. تقلب في فراشـه وهو يجلب هاتفـه بضيق منعكس بأنفاسه وبنبرته الصعيدية محدثًا نفسه :
-أنا مش عارف فين أهاليهم صحابها دول اللي حياتهم كُلها كامب ومليطة !!
••••••
وصلت ” ليلة ” لقسم الشُرطة الذي يعمل فيه “شريف أبو العلا” بعد كثير من إستعلامها عن الطريق من المارة واتباعها أجهزة التتبع الخاصة .. وصلت لمكتبه بالدور الأرضي وسألت أحد العساكر وهي تحمل حقائب التيه فوق ملامحها والغُربة :
-لو سمحت يا كابتين، مكتب شريف فين ؟!
فسرعان ما وضحت هدفها مستفهمة :
-قصدي يعني الرائد شريف أبو العلا ؟!
أشار لها العسكري والغرابة تحاصر ملامحه حول هيئتها التي لا تدل إنها تنتمي لمركزهم :
-أخر الطُرقة على شمالك هتلاقي مكتبه .
شكرته بعجل وهي تحمل حقيبتها الواسعة التي تحمل بها العديد من الأشياء الغير مبررة وكأنها حقيبة أم لثلاثة أطفال ، طرقت الباب عنـ.ـد.ما وجدت خلاء المكان من أي عسكري فأتاها صوته غاضبًا :
-ادخل ..
فتحت الباب ودلفت بخطواتها السريعة المحملة بالأعذار والعتب :
-يعني يا شريف سايبني في بلد لوحدي معرفش فيها حد وكمان قفلت موبايلك ولا حتى فكرت تتطمن عليا !! وكمان بتزعق لي !!
وثب شريف الذي يحمل نسر رُتبته كرائد ، مندهشًا :
-إنتِ جيتي هنا أزاي !! وأفرضي مكنتش موجود ولا في مأمورية !! ليلة أنتِ لحد أمتى هتفضلي تتصرفي من دmاغك كده ولا كأن في حد في حياتك أنتِ مُلزمة منه !! أنا مبقتش عارف اتعامل معاكِ !! بقول لك يمين بتروحي شمال!! دي مابقتش عيشة !
وبخته بتعجب :
-كل ده عشان نمت من تعب السفر !
انفجر بوجهها غاضبًا :
-ومفكرتيش في الحمار الـ قلب الدنيا عليكِ لحد الساعة ١٢ مستني الطيارة وفي الآخر أنت مجتيش فيها !!
أغــــرورقت عينيها بالعبرات التي تنهار أمام الصوت العالي وأي نبرة تحمل العنف وهي تضع أصابعها على آذانها كمن يُعاني من صدmة نفسية مزمنة :
-شريف وطي صوتك ، حصل معايا ظروف وبدل ما تتطمن عليا وتعرفها واقف بتزعق وكل الـ هامك مصلحتك وأزاي تفضل مستنيني في المطار لحد الساعة ١٢ .
بكل ما أوتى من غـــضــــب ، فجهر بنبرته الغاضبة الممزوجة بتلك الضـ.ـر.بة القوية التي سددها فوق سطح المكتب وقال :
-تصرفات العيال دي !! كل الناس غلط غلط وأنتِ بس الـ صح ، أنتِ عمرك ما هتتغيري يا ليلة !!
ترف جفونها بسرعة غير مصدقة:
-أنت عايز توصل لايه !! كل ده عشان منزلتش عـ الطيارة يعني وجيت بالعربية ! ما أنتَ عارف أنا بحب السواقة والسفر .. حاجة مش جديدة يعني !
وبخها مكملًا :
-حكمتي رأيك ونزلتي بالعربية ، وقفلتي موبايلك لتاني يوم حتى من غير رسالة تطمني وكذبتي يا ليلة !! وجاية تقاوحي وحتى مش بتفكري تعتذري عن غلطك !!اختفاء غير مبرر موبايلك على طول سايلنت .. بتظهري بمزاجك وتختفي بردو بمزاجك ..وأنا مش قادر اتحمل المزاجيـة دي .
تفوهت بثغرها المشـ.ـدوهة من هول الصدmة :
-أحيـه !! أنا لو مش عاجبك كده .. مكمل معايا ليه !! مين أجبرك عليا .. بص لي يا شريف هنا وو
هنا قطع فصل شجارهم المتكرر يوميًا صوت العسكري الذي يقف ورائه هارون العزايزي متواريًا خلف الحائط .. فأردف العسكري قائلًا :
-جناب العمدة وصل يا شريف بيه .
بقبضتين مضمومتين يحاول تمالك أعصابه ، فـ أشاحت أعنيه لعندها وقال بنبرته التحذيرية وهو يشير نحو الأريكة السوداء التي تبعد قليلًا عن مكتبه :
-اتفضلي أقعدي هنا ومسمعش نفسك يا ليلة .. أنتِ فاهمة !
اكتفت بإصدار زفيرًا قويًا وهي تحمل حقيبتها وتجلس حيثما أمرها على مضض، عاد هو الآخر لمكتبه لمواصلة عمله وأمر العسكري بضيق:
-دخله أما نشوفه هو كمان .
جلست ليلة على تلك الأريكة وهي تهز في ساقيـها المتـ.ـو.ترة وتقضم بأصابعهـا ثم أخرجت هاتفها لتغتال به كافة مشاعرها المضطربة كعادتها .. وفي تلك الأثناء دخل هارون وهو يرتب عباءته الصعيدية متحمحمًا بصوتـه الأجش وقبل أن يسمح له شريف بالجلوس ، سحب المقعد المجاور لمكتبه وقال :
-خيـر يا شريف بيه !! كُل يومين لازمًا تبعت لي نتسايروا ! أنتَ مش وراك غيري اياك ؟!
رفع شريف جفـونه نحو العسكري :
-شوف هارون بيه يحب يشرب أيه ده بقى صاحب مكان .
-ولا حاجة .. مش جاي اضايف ..
رفع كفـه معترضًا وهنا تعلقت عيناه بذات الأعين البندقية التي التقى بها ليلة أمس .. شبح ابتسامة خبيثة رُسـم على محيـاه ثم عاد للضابط شريف كي ينجز مهمته الثقيلة على قلبه :
-في ايه يا شريف بيه المرة دي!
-متقلقش كده يا عُمدة ، كلمتين على الماشي وهتروح ..
تأرجحت عيني ليلة صوبهم وهي تتأكد مما تراه ، صُدفة جديدة للقدر ليجمعها بذلك الشخص الذي التقت به قبل أن تبحث عنه وكأنها خطة مجهولة من الأقدار لا تعلم عـ.ـا.قبتها ، ترف جفونها بسرعة غير مصدقة حيث وجدته جالسًا مع خطييها الذي لا يعرف السبب الحقيقي لمجيئها هُنا بل خدعته وقالت أنها ستلتقط بعض الصور للمعالم السياحية بالمكان لتقرير صحفي مميز .. وبعينيها اللاتي تتلألآن بالقلق غمغمت لنفسها بتيـهٍ :
-أحيــــه !!
بدأت أن تتابع حديثهم بفضول بعد ما فتحت التسجيل الصوتي على هاتفها ، رأته يدير الخاتم ذو القبة السوداء بإصبعه ويقول :
-قصدك أيه يا بيه !!
احتدت نبرة شريف قليلًا وقال بصوت مبطن بالاتهام :
-بيت سويلم مقدmين بلاغ أن رجـ.ـالتك ضـ.ـر.بوا عليهم نار إمبـ.ـارح في فرح أخوهم .. أيه رأيك في الكلام ده يا عمـدة ؟!
يحدق بوجهها ميلا حيث تلاقت أعينهم لجزء من الثانية ، مازال محافظًا على ثباته وهو يدب بسبابته على سطح المكتب بهدوء وأجاب بثبات :
-محصلش طبعًا .
هز شريف رأيه غير مقتنعًا بإنكاره إثر علمه بالخلافات القائمة بين العائلتين ، اتكئ على مقعده وهو يطالع العسكري الذي يكتب بجانبه :
-ممكن تقولنـا كنت فين إمبـ.ـارح يا عمده !!
رفت جفونها بخــــوف من أن يكشف سرها ليلة أمس وهي تحبس أنفاسها ، رد هارون باختصار :
-أي ساعة بالظبط ؟!
رد شريف بمكر مصرًا على إثبات التهمة عليـه :
-من أول اليوم .. ممكن تقولنا .
عقد حاجبيه محاولًا استعادة شريط اليوم الماضي وقال بفظاظة :
-كُنت في سوهاج بخلص مُصلحة .
بنظرة اتهامية سأله :
-ورجعت أمتى ؟!
-قُرب العشيـة .
لم تتوقف كفوفها عن الحركة وهي تراقبهم بذعر يتقاذف من مُقلتيهـا .. لم يتوقف شريف عن أسلوبه الاتهامي وأكمل :
-ضـ.ـر.ب النار حصل الساعة ٩ بالليل .. معني كده كُنت وصلت البلد يا هارون بيه !!
حدجه هارون رافضًا اتهامه بعصبية :
-حد فيهم قال لك أنه شاف هارون العزايزي ضـ.ـر.ب عليه نار !! هاتهولي وأنا اخزق لك عينيه .
قفل شريف جفونه للحظة كي يتخذ نفسًا ويفكر قليًلا في كيفية التعامل مع ذلك الرجل الثُعباني الذي لم يستطع إدانته حتى الآن، فقال :
-أهدى يا هارون بيه إحنا هنـا بندردش بس وانتَ مش متهم ، دي إجراءات لابد منها ..
جهر بعصبية :
-وأنا جاوبت وقولتلك كُنت في سوهاج وبعدها كان عندنا مجلس في المندرة ..
رمقه شريف بنظرة محتدة :
-المعلومـ.ـا.ت الـ عندنا بتقول أنك وصلت المجلس متأخر الساعة ١٠ بالدقيقة .. وأنتَ لسه بتقول رجعت العشا !! يعني كان في ساعتين مجهولين والـ حصل فيهم نوش وضـ.ـر.ب نار !! كُنت فين الساعتين دول يا هارون بيه ، ده لو مكنتش مع رجـ.ـالتك فـ الفرح!!
أصدر صوتًا متفهمـة وهو يُجاري ذلك الضابط الذي لم يتوقف عن محاولات توريطه ، ومع ابتسامة غامضة وهو يطالع ليلة التي تفاقم تـ.ـو.ترها :
-ما تقول إكده من بدري !!
ثم عاد ليطالعه:
-مع إنه ما يخصكش ، بس هقول لك عشان نقفلوا على الحديت ده من أبو آخر ..
مال شريف مستندًا بمرفقيه على سطح مكتبه وبنبرة خافته خارجة من وراء فكيه المنطبقين ، كرر سؤاله :
-كُنت فين يا عُمدة من ٨ لـ١٠ بالليل ؟!
كان معصوب العينين وعلى محياه تلك الضحكة الخبيثة التي لا تُفارقه مع كل جولة ينتصر فيها وبنبرة مُغلفة بالأريحية وهو يُشر ناحية ليلة الجالسة بكتفين متجمدين و ركبتان تصطكان ببعضهما وبأعين متسعة ، أكمل :
-كُنت برحب ضيفتي الجديدة ..
ثم دار بجسده نحوها وأكمل بثقة لا تقبل شكًا :
-المذيعة ليلة الجوهري .. اتعشينـا وحكينا وخدت واجبها ووصلتها لحد اللوكاندة بنفسي .. وأهي قاعدة عندك واسألها .
-أحيـه !
نوبة من الشلل المفاجئ بعقلٍ يتلوى بجمجمتها من شـ.ـدة الصدmة وتلك التهمة الجديدة التي زادت الأمر سوءًا بينها وبين شريف الجالس وهو يأكلها بأعينه الغاضبـة ، شهقت ليلة محاولة تبرئة نفسها ، فوثبت كالملدوغة وهي تنفي كل ما قاله بثرثرة :
-لالا !! الكلام ده محصلش .. شريف أوعي تصدقه !!
وقف أمامها متحديًا وهو يجلي حلقه ثم قال :
-هو أيه الـ محصلش يا استاذة !!
ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها الأرض وهي تتوسل له بأعينها كي يصمت :
-أنتَ كذاب .
ضـ.ـر.ب كف على الأخر ، مكملًا مسرحيته إثر جهله بصلتها مع شريف ولم يعٍ حقيقة كونها خطيبته :
-خيرًا تعمل شرًا تلقى !! يابت الناس أنتِ مش كُنتِ معاي إمبـ.ـارح !! أنا كدبت في أيه ؟
ثم غمز بطرف عينه بمكر الثعالب :
-بأمارة سندوتش الكُفتة الـ عجبك من عند تـ.ـو.فيق مشاوي !! أنتِ الـ مش عاوزة تقولي الحقيقة ليه هتورط في مصـ يـ بـةبسببك !!
بعجز تام ثرثرت :
-اسكت !! ممكن تسكت .. أنت متعرفش حاجة أنت !!
ثم غمغمت بحسرة :
-كُل حاجة باظت !!
أدركت فشلها الذريع في الجدال معـه ، فتوجهت نحو شريف الذي أمر العسكري أن ينصرف وهو يتوقد في حقل غـــضــــبـه .. اقتربت منه متضرعة :
-شريف أنتَ مش فاهـم .. مشي الجدع ده وخلينا نتفاهم!!
تجاهل شريف حالتها الهستيرية التي حلت بها ونظر لهارون وهو ينزع سلاحه من خصره ويلقيه بالدرج وسأله بصرامة :
-وأيه يثبت أن الاستاذة كانت معاك إمبـ.ـارح ، في شهود ؟!
رفع هارون ساقه اليسرى فوق المنضدة الصغيرة التي تتوسط المقعدين الل ، واستند عليها بمرفقه وقال بفظاظة مستمتعًا بحربه معها :
-طبعا ، عندك موظف أمن اللوكاندة ، والكاميرات ، وكمان دنقل الميكانيكي طبعا عارفو كان بيصلح لها عربيتها طول الليل .. وغير كل ده والأهم …
ثم حدق بها ولا يرمش مبتسمًا وهو يضع مفتاح سيارته على المكتب :
-محفظة الاستاذة نسيتها إمبـ.ـارح في عربيتي ولو بعتت عسكري لبره هيلاقيهـا في الحفظ والصون .
تنظر إليه نظرات محمومة ، وهمهمت:
-الله يخربيتك .. !!
ثم انفجرت منادية بنفاذ صبر وهي تتشبث بمعصمه كي يلتفت إليها :
-يا شريف !!
صرخ شريف مناديًا على العسكري بصوته الذي ينافس صخب الرعد ، فـ لبى العسكري النداء على الفور :
-تاخد متفاح عربية جناب العمدة ..
ثم أشاح بنظره لهارون على أملٍ أن يُكذبه :
-قوله هيلاقيها فين !!
حدجهم هارون محاولًا معرفة صلة القرابـة بينهما ولكنه سرعان ما نفض غُبـ.ـار فضوله مغيرًا هدفه بأن يُغطي على جريمته والتي كان ورائها بالأمس .. مد المفتاح للعسكري ووصف له مكان حافظة النقود الخاصة بـ ليلة التي شرعت أن توضح ما حدث لشريف جنبًا ولكن رفض قطعًا سماع أي جُملة قبل إنهاء تلك المهزلة وما الذي يجمعها بشخص مثل هارون العزايزي المعروف بمكره ودهائه .. سيل من النظرات المتنوعة يتدفق بينهم .. هناك أعين تحمل وميض الظفر ، وأعين تحمل العتاب والحسرة وآخرى مدججة بالغـــضــــب التي يتطاير منها .. مرت لحظات قليلة حتى عاد العسكري وبيده حافظة ليلة الشخصية التي سقطت بسيارته ذلك اليوم .. ووضعها على مكتب شريف الذي انحنى ملهوفا وهو يفتش بها .. إذن ببطاقاتها القومية والبنكية وصورة أبيها
تبادلت النظرات الحارقة بينهم .. تراجعت للخلف وهي تقضم في أظافرها حركتها المعتادة عنـ.ـد.ما يحل بها كابوس التـ.ـو.تر الذي تتعالج منه ، كان الغـــضــــب يتطاير من عيني شريف الذي طأطأة رأسه أمام هارون وعاد موبخا لليلة :
-ايه دي ؟!
احتضنت دmارها كي تقف بوجه التيار وشـ.ـدت الحافظة من يده :
-بتاعي ، كانت ضايعة .
-والله !! وبتاعتك بتعمل أيه فـ عربية هارون العزايزي ؟!
لقد وقعت ضحية مخالب مكره .. رمقته بعتب وما كادت ان تتفوه فقطع حديثها قائلًا:
-طيب دي مسائل عائلية أمشي أنا يا شريف بيه .. ولو عوزتني عارف هتلاقيني فين !
تكورت يده متحكمًا بأعصاب .. دار نحوه قائلًا بتلك النبرة الغليظة التي تحمل التهديد والتوعد وأن الجولة لم تنه هنا.. رمى له صورة المحضر المكتوبة وقال باختناق :
-أمضي هنا ..
لم يمسك بقلم شريف الرديء بل أخرج من جيبه العلوي قلمًا من الفضة محفور عليه اسمه صُنع خصيصًا لأجله .. وقع على المحضر بإمضته المميزة ثم قفل قلمه ورجعه بمكانه :
-استئذن أنا عاد ..
امتلأت شقوق ملامحها بالقلق وهي تمسك بحقيبتها وتضع الحافظة بداخلها متعمدة أن تذهب كي تلحق بذلك المتغطرس الذي تركها على حافة الهاوية ورحل وهي تغمغم بنـ.ـد.م :
-وأنا الـ قولت عليك جدع وشهم .. طلع ندل بصحيح !! كل حاجة باظت فوق دmاغك ياليلة !! أهو هو ده الـ مش عاملة حسابه .
ثم أسرعت لتناول بعض الأقراص المهدئة مستعينة بقارورة الماء الموجودة على مكتبه هذه الأقراص التي تواظب عليها طوال الأربعة أعوام منذ رحيل والدها .. قفل شريف باب المكتب دون أن يلتفت لما فعلته ثم انقض على رسغها بعنف لتقف أمامه كالطير المبلل بسيـل الغيوم الضبابية التي انصبت جميعها فوق رأسها :
-أحكي لي أيه علاقتك بالزفت ده يا ليلة !!
عاندت إثر صوته المرتفع الذي يعرف جيدا بإنه يرعـ.ـبها ولكنه دومًا ما يستهين بتلك الأعراض ظنًا منه بأنه دلال زائد منها :
-أنت بتشك فيا ؟! وصدقت كلام المـ.ـجـ.ـنو.ن ده ؟!
رفع حاجبه محدقا بها :
-الله !! يعني الـ قاله مش صح !!
ردت بثقة ممزوجة بالبراءة :
-طبعا بيكذب .. أنا مأكلتش معاه كفته ده بيألف من دmاغه .
بدأ غـــضــــبه يتصاعد مجددًا :
-ليلة !! بلاش أسلوبك المستفز ده !! ت عـ.ـر.في هارون العزايزي من أمتى ؟!
تفاقم تـ.ـو.ترها وهي تعارضه مصرة ألا تضعف أمامـه وأمام اتهامـ.ـا.ته :
-انت بتصرخ في وشي عشان حاجات تافهة ، متستاهلش الصراحة..ودي مشكلتك عمرك ما حاولت تسمعني للاخر دايما أنا غلط وكل حياتي غلظ ومش عاجباك .
قالت جملتها وهي تشيح بظهرها وتحمل حقيبتها فأوقفها :
-أنتِ رايحة فين !! مفيش مشي من هنا غير لما أعرف ت عـ.ـر.في الزفت ده أزاي ومن أمتي ؟!
تأففت على مضض:
-أنت مش عايز تصدقه !! اتفضل صدقه يا شريف .. مش هو ده ال عايز توصله ؟؟
صرخ بوجهها فأجبرها على الإنصات إليه :
-محفظتك في عربيته كانت بتعمل أيه يا ليلة ؟!
-أكيد وقعت وهو بيوصلني إمبـ.ـارح .. لان عربيتي عطلت على الطريق وعرض عليا يوصلني وبصراحة الرجل كان منتهى الشهامة والجدعنـة .. معرفش استندل ليه هنا ؟؟! وده الــ لازم اعرفه ؟!
وقف على نصل حماقتها :
-هو ده كل الـ هامك ؟! وكل ده بسببك وسبب جنانك .. وبصراحة كده الفيلم العربي ده ما دخلش عليا ؟!وهكلم عمتي دلوقتي وتقول رأيها في الجنان ده .
أربكتها سيرة والدتها حادة الطباع.. فانحنت شوكة تمردها :
-شريف أنتَ لازم تسمعني !! معقولة هتصدق كلام المـ.ـجـ.ـنو.ن ده وتكذبني !!
بنبرتها الانفعاليـة التي تحمل التبرير أردفت جملتها الأخيرة وهي تقف أمامه رافضـة فكرة ذهابه قبل أن يستمع إليها، حدجها شريف بنظرته الاستكشافية وهو يمسك كفها الخالي من محبس خطبتهمـا :
-فين دبلتك يا ليلة ؟!!!!
-ماهي كلمت بقا ؟!
غمغمت بحسرة وهي تفحص أصبع يدها اليمنى :
-أحيـــة !!فين الدبلة يا شريف؟!
ثم نظرت له بتوجس وأعين متراقصة :
-شكلي نسيتها في اسكندرية !!
اكتفى شريف قائلًا وهو ينزع دبلتها ويضعها بكفها الرقيق :
-خلصت يا ليلة .
ثم جهر مناديًا على العسكري الذي أمره قائلا:
-توصل الهانم للفندق بتاعها .. والصبح تعدي عليها توصلها المطار عشان ترجع لبلدها ..
~بسيارة هارون ..
“دع الندامة لا يذهب بك النـ.ـد.م .. فلست أول من زلت به قدm ..هي المقادير والأحكام جارية ”
مهما مرت المواقف عليه لم يتخلى عن الشعر الذي يونسه دومًا .. ألقى على مسامعه تلك الأشعار الخاصة بابن معصوم المدني .. كي يخمد صوت ضميره المتصاعد عما فعله مع هذه المسكينة !! ربما يكون أخيها ابن خالتها ؟! قريبهم .. أو حبيبها ؟!! هنا سقطت أنظاره على دبلتها المندسة نصفها بزاوية معقد سيارته.. أمسك بخاتم خطبتها الصغير وكأنه ينتمي لطفلة لست إمراة جميلة مثلها وهو يديره أمام عينيه يحدق به ولا يرمش .. ابتسامة شاحبة رُسمت على محياه ولكنها مؤلمة :
-شكلها مُرزقة وتستاهل!!
مازال واقفًا أمام قسم الشرطة ففاق هارون على صوت هيثم المتأهب لدخول حربه مع شريف ، حيث هتف متحمسًا :
-شريف أبو العلا لازم يتربى يا هارون .. المرة دي مش هنعديهالـه زي كُل مرة ..
رمى دبلتها بداخل جيبه الصغير وفتح باب سيارته وهبط منها قائلًا بتفاخر :
-لا المرة دي أنا الـ علمت عليـه .. ولسه ، هيفضل ينخور في حفر ورايا ، هدفنـه فيها بالأخير .
تدخل هلال الذي يحمل سبحته الخشبية وسألته :
-ما الأمر يا هارون !
عقد ذراعيه أمام صدره متكئاً على سيارته:
-بيحاول يوقعني بس مش هيقـدر ..
هتف هيثم متهامسًا لأخيه كي لا يصل اتفاقهم للشيخ هلال:
-بردو سيبني أعلم عليه ، وأجيب رأسه الأرض .. ده تعبان ومش هيجيبها لبر أنا عارفو .
“منذ رحيل والدي بات اليوم بطول عام ، مضى زمن طويل وأنا أمضي معه .. بمنتهى الحماقة سقطت مني أحلامي وأمنياتي وقوتي التي أهش بها على أوجاعي ، انتهت قصتي مع ذلك الرجل الذي ظننت أنه سيعوضني عن حـ.ـضـ.ـن أبي ، لم يبقى لي حـ.ـضـ.ـن واحد لأرتمى به ، حتى أمي حـ.ـضـ.ـنها جاف صلب لا يكلفني إلا أوجاع جديدة ..
بات الخــــوف يسكن خلايا جسدي أمضي هكذا وفي صدري أوهام كثيرة ومخاوف مرضية أخاف أن أقف فأسقط، أخاف أن أسقط فلا يلتقطني أحد، أخاف أن أمضي فيمضي الزمان معي.. ولا أصل أبدًا … ”
خرجت من قسم الشرطة تجر في ذيول خيبات يومها ، لقد خسرت نفسها للمرة التي لا يمكن إحصاؤها ، خسرت حلمها الوحيـد الذي قطعت أميال لأجله .. وآخيرًا تخلى عنها ذلك الرجل الذي كانت تحتمي بكتفه حتى ولو كذبًا حتى ولو لم يلفح قلبها بدفئ الأمان يومًا ما .. توقفت لبرهة لملمت فيها شعرها المموج للخلف وما سقطت عينيها على هارون الواقف مع رجلين يحملان يشبهونه قليلًا .. رمت حقيبتها بيد العسكري واندفعت بكل شرورهـا نحوه ، هتفت بوجهه صارخة:
-أنت عملت كده ليـه !! دي مش أوصول ولا مرجلة على فكرة !!
ما أن اخترق صوتها مسامعهم ، طأطأ هلال وجهه بالأرض منغمسـًا بلف سبحتـه بعجـلٍ ، أما عن هيثـم الذي دار لهـا وهو يتفحصها من رأسها للكاحل مع صوت صفيره المسموع متمتمًا باندهاش :
-أوعى تقول أن دي المجرجراك على القسم !! أنا ممكن اتجرجر وراها لأبو زعبل عادي..
رمقته ليلة بخــــوفٍ يملأها إثر نظراته الفاضحة ، وهي تتراجع للوراء موبخه :
-أنتَ مين أنت كمان !!
أخترق هارون صف أخوتـه وسحبها خلفه ممسكًا بمرفقها بخفة :
-تعالى ..
غرق هيثم في جمالها الذي لم يراه على أنثى من قبل .. اقترب من أخيـه مشـ.ـدوهًا ذائبًا في تفاصيل تلك الجميلة التي سرقها أخيهم من بينهم ، كانت ترتدي فستانًا أسود من الصوف ينحت تفاصيل جمالها يصل لتحت ركبتها ويغطى فراغ ساقها ذلك الحذاء الطويل باللون الأحمر .. يعلوه سترة قصيرة من الجينز الأزرق وحول عنقها شالًا منقوشًا .. تنهد ذلك الهيثم يشكو صبابته لأخيه الذي دار وجهه عنها :
-أنا أتاكدت أن عمري ما شوفت بنات قبل كده يا هلال يا أخويا !! أيه الإصدار ده ده أول مرة ينزل نجع حمادي !!
تحمحم هلال واعظًا بخفوت :
-لك النظرة الأولى وعليك الثانيـة .. اتقي الله يا هيثم وغض بصرك ، هذه فتنة للقلب .
هام هيثم بخصلات شعرها المتطايرة وهي تتحدث مع أخيه :
-طيب خُد الأولى بتاعتك وملي عينك عشان تعرف أنا بتكلم عن أيه ، وسيب لي التانية والتالتة ولأخر عمري واقف اتفرج عليها فِرجة .. البت كيف القمر .. لا هي تقول للقمر قوم وأنا هقعد مكانك .. دا أحنا معندناش حريم يا جدع !
لم يتحمل هلال سماع المزيد ، فـ جهر مُعلنًا :
-ياااا لله !! لا تسهب البصر ، فهو أول بوابة للشيطان .. كُف عن ذلك الله يُنير قلبك ودربك !!
-دي من المحرمـ.ـا.ت في عُرفنا يا أخ هلال يعني نتفرجوا عليها براحتنـا .. هو لا وكل ولا بحلقة ؟!!
أتكئ هيثم بمرفقيه على السيـارة متنهدًا :
-كراميلا .. حتة بسبوسة بالقشطة..
ثم جهر متمردًا على أعرافهم :
-روح يا اخي منهم لله العزايزة ، يسـد نفسهم زي ما سادين نفس الواحد عن الحريم الحلوة دي ..
كاد هلال أن ينصحـه فقطعه هيثم بنفس النبرة الهائمة :
-أنا حاسس أن الكراميلا دي هتبقى هي حُب عمري الحقيقي !!
ضـ.ـر.ب هلال كف عـلى الأخر بعجز في إرجاع أخيه عن غزله الصريح :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم أشار محذرًا :
-أن لم تصمت عن حديثك الخادش للحياء سـ ..
قاطعه هيثم متفهمًا :
-اتخرست .. هتفرج وأنا ساكت ..
غرزت سبابتها بصدر هارون وهي تعاتبـه بلوم :
-سؤالي واضح !! رد عليا من غير لف ودوران لو سمحت .. ليه عملت كده !! أنا عملت لك أيه لكُل ده ؟!
رد بإيجاز وهو يتحاشى النظر إليها :
-كُنتِ هتعملي وجاية وناوية على خراب ..
كادت أن تفقد عقلها من برودة أعصابه ونبرته الجـ.ـا.مدة التي يتحدث بها :
-متجننيش !! طيب على فكرة بقا أنتَ مطلعتش جدع ، ولا شهم .. ولا بتحفظ السر .. وكمان كذبت عليا وفهمتني أنك بتشتغل عن جماعة تانيين وأخدت كُل معلومـ.ـا.تي وماقولتش إنك العُمدة الـ هنا !!
ثم ازدات نبرتها حدة من شـ.ـدة غـــضــــبها منه :
-وكمان بسببك أنا وخطيبي سيبنا بعض !! يعني شغلي باظ وكمان فرحي الـ كان بعد كام شهر بقا مفيش فرح خالص !! مرتاح أنتَ كده !!
عقد حاجبيـه متسائلًا بفضول :
-شريف أبو العلا يبقى خطيبك !!
ظلت ترمقه بنظرات خرساء ثم تأففت بنبرة موشكة على البكاء :
-أيوة يا سيدي ، مفاجأة مش كده !! وبعدين تعالى هنا !! أنا مأكلتش معاك كُفتة !! دا أنت حتى ما عزمت عليا بكوباية مية من أصلو .. قلت له كده ليه طيب !! بتكذب وتقول حاجات محصلتش ليه !!
ثم التفت لهلال صاحب الزي الأزهري .. فهرولت نحوه بخطوات واسعة تابع هارون خُطاها مناديًا ولكنها لا تُلبي النداء حيث كان يقود خُطاها غــــرور الصبا .. لكزه هيثم بمرفقه بقلب يتراقص فرحًا :
-ولاه يا هلال !! حتة القشطة جاية علينا يا ولاه .. طيب بص بصة وصوم كفارة تلات أيام .. يخربيتك متبقاش فقري ..
بدّ على ملامحها الضيق من نظرات هيثـم الهائمة .. تجاهلته تمامًا ثم أشارت لهـلال :
-باين أنك شيخ وتعرف ربنـا .. لو سمحت احضرنا وأحكم بالحق عشان الجدع ده شكله أونطجي ..
زفر هارون بامتعاض :
-كانت ليلة سودة يوم ما قابلتك يا شيخة ..
ثم هتف مناديًا كي تصمت :
-أنتِ يا ست !!!
تدخل هيثم معاتبًا :
-هما بيجوا للساكت ويكلموه ليه !! أنا ممكن أحكم عادي وبعرف أخذ وأدي في الحديت. ..
-خليك في حالك أنتَ .
زفرت باختناق وهي تلوح له بكفها فـجاء هارون وأبعد أخيه المائل نحوها وحدجه بنظرة تحذيرية ، حيث هتف قائلًا :
-ما خلصنا يا سـت ، شوفي أيه يرضيكي وأنا أعمله وفُضينا عاد !!
نظرت له بحزم :
-لما اتكلم مع فضيلة الشيخ تسكت خالص .. ولا عشان عارف بغلطك مش عايز تتفضح !!
تحمحم هلال بإحراج وهو لم يرفع عينيه عن الأرض وقال:
-يا الله !! ربنـا ما يجيب فضايح .. ما هو الأمر الذي فيـه تستفتيان !!
وبخه هيثم باهتمام وهو يدنو منها قائلًا :
-هو أخويا هارون عمل أيه !!
صرخت ليلة بوجهه :
-قُلت خليك في حالك أنتَ ..كلامي مش معاك .
حدجه هلال كي يصمت ثم عادت أعينه متدلية بالأرض متحدثًا بلهجتهـم :
-أخي هارون عمل لك أيه ؟!
ثم عادت لهلال وأتبعت بغـلٍ:
-الـ عاملينه عُمدة ده طلع شخص مش محترم ومش أد كـ …
قاطعها هيثم مستفهمًا :
-متهم تـ.ـحـ.ـر.ش!! ياريت ؟! ده خايب وميعملهاش؟! بس أنا أعملها عادي .
بكُل ما أوتيت من نيران دارت نحو هيثم كي تضع له حدًا :
-مش أنا قلت لك خليك في حالك !!
زفر هلال بنفاذ صبر أما عن هارون اتكئ على سيارته وأشعل سيجارته كي ينفث بها صوت ثرثرتها .. تفوه هلال بملل من عبث أخوته الذين اعتادوا على فعل تصرفات لا تروق له ، وقال بهدوء وعينيه لم تفارق تلك البؤرة التي صنعها حذائه :
-بالعقل ، أخويا هارون عمل أيه ، لعل وعسى يكون فيه سوء تفاهم .
رمقته بغل فوجدته غارقًا في سُحب دُخانه الذي أشعل المزيد من الغـــضــــب بجوفها وقالت بيأس :
-أخوك خرب بيتي يا عم الشيخ .
تدخل هيثم مندفعًا بالحوار وهي يدنو منها :
-يخربيت أبوه !! على طول كاسفنا ..
فأتاها صوت هارون ساخرًا من تصرفات هيثم التي تضحكه دومًا وقال بفظاظة متعمدًا إثارة غـــضــــبها :
-طيب على فكرة أنتِ طلعتي زي القطط الـ بتاكل وتنكر .. يعني نسيتي توصيلة إمبـ.ـارح ، وكمان تصليح عربيتك الـ مخدش حقـه ، وواقفة تشتكيني زي العيال لأخواتي !
قطعه هيثم مُتفاخرًا بشهامة أخيـه :
-ما هو الرجل صلح لك عربيتك أهو زعلانة من أيه بس !!
ردت بإحباط إثر اتفاق الأخوة عليها وقالت بنبرة ساخرة :
–والله !! أخوك ده كتر خيره ، صلح عربيتي وبوظ حياتي.
تدخل هُنا العسكري الواقف جنبًا يحمل حقيبتها :
-يا استاذة الوقفة دي متصحش ، شريف بيه ممكن يجازيني فيها !!
رمقته بنظرة توحي بقبول طلبه ثم تجاهلت الجميع ووقفت أمامه رافعة سبابتها بوجهه ، وهي تطرد الحروف من قاع غـــضــــبها منه :
-اسمع يا هارون العزايزي أنت .. أنا مش عايزة أشوف وشك تاني ، عشان لو شوفتك مرة كمان صدقني هتزعل .
أشاح بوجهها في استهانة ثم ظهر الإنشراح على أساريره ، فألقى السيجارة من يده ثم سحقها بمقدmة حذائه جاهرًا وهو يُطيل النظر بعينيها التي أعلنت عليه الحرب :
-يلا بينا يا هيثـم !!
تدخل هيثم معترضًا :
-يلا بينا على فين !! والله ما يحصـل .. الست واقعة في مشكلة ، ومحدش هيحكم فيها غير الحج خليفة العزايزي والشيخ هلال !! ولا ايه ؟!!
ثم اقترب من ليلة خطوة إضافية :
-أنتِ تركبي العربية معانا ونروح على البيت ونحلو خلافك مع كبيرنا !! قولتي أيه ؟! يلا بينا على المندرة !! وتاكدي حقك هيرجع تالت ومتلت فوقه ألف بوسة مني.
عصفت بها سلسلة احاسيس متتابعة من الغـــضــــب ، فاكتفت بنبرة ساخطة لا تختلف قليلًا عن تلك التي طالعت هارون بها .. ودارت ظهرها ناظرة للعسكري :
-يلا أنت كمان ..
جهر هيثم نادmًا :
-طيب اسمك أيه على الفيس بوك ابعت لك طلب صداقة !!
يأس من ردها فدار على شماله وجد هارون استقل سيارته .. كاد هلال أن يركب مع أخيه فأوقفه :
-أنت رايح فين يا هيـلو .. خد كده مفاتيح عربيتي وحصلنا وانا هركب مع هارون ..
ثم أدخل رأسه من نافذة السيارة قائلًا :
-يا هرن تحكي لي قصة البت دي من طقطق لسلامو عليكو .
-لو قلت هِرن دي تاني !! هدوسك بعربيتى ، وحل عن سمايا الليلة دي يا هيثم .
قفز هيثم بداخل سيارته :
-وربنا ما هحلك غير لما أعرف ، ده أنا وزعت هلال عشان ناخدو راحتنا .
•••••••
امرأة تنتمي لنسل الفراشـات ، جمالها خفـة روحها أن حلت بمكانٍ زادته بهجـة .. بألوانها الخلابة التي تلف الأنظار مثل رونق ملامحها المتميزة التي توحي بأنها من سُلالة جميلات البدو .. جاءت رغد المتمسكة بمرفق هاشـم بوجهها الضاحك مما جعل كل الأنظار تلتف إليهـا ، مرتدية فستانًا باللون الأبيض طويل ذو أكمام طويلة بناء على رغبته ، وتعقد فوق رأسها وشاحًا بالطريقة السيناويـة، ضمت ذراعه لصدرها وقالت بسعادة وهي تتفقد المكان الصحراوي المُطل على البحر :
-مش متخيلة إنك وافقت .. الله يا هاشم ، أنا ليـا هنا ذكريات جميلة أوي ، بس تعرف كل ده ولا حاجة قصاد إننا سوا ..
تحمحم بخفوت وهو يتهامس بأذنها ناصحًا :
-رغد ، تقعدي جمبي ومتتحركيش ، ومش عايز ضحك ومرقعة وتفضلي ساكتـه ، عشان صحابك دول كُلهم شمال وأنا مش بالعهم .
توقفت معارضة على أعتاب ” الكامب” :
-والله ، طيب والـ يكلمني بقا !! مردش عليه ؟
رد بحزمٍ وهو يعض على شفته السُفلية بتوعد :
-مترديش عليـه ، هرد أنا ..
وقفت أمامه ورفعت أصابعها الأشبه بسلة رود وداعبت وجنته بضحكتها الساحرة كي تُلطف الأجواء :
-قلت حاضر ، فُك التكشيرة دي بقا وبلاش العرق الصعيدي يطلع النهاردة عشان خاطري ..
فتاةٌ مثلها معجونة بماءِ اللُطف ، وطحين الحُب ، مُحمَرّةُ الخُدود ، عليها سبعون ألف رشّة أُنوثة .. استطاعت أن تُلجم غـــضــــبه الثائر بهدوئها الذي ختمته بإعترافها :
-بحبك على فكرة .
اكتفى بطبع قُبلة رقيقة على أطراف أناملها وقال موبخًا :
-مالها قعدة البيت مش فاهم !! أحنا كمان عندنا بحر على فكرة ..
على الجهة الأخرى لكزت شاهندا فؤاد الجالس أمام ” البـ.ـار” يرتشف مشروبًا من النبيذ وقالت بتخابث :
-فؤاد شـوف مين جاي عليـنا !
دار فؤاد بفضول لمعرفة هوية من انضم إليهما فوجدها رغد ، تلك الفتاة التي رفضت حبه بدل المرة عشرة .. حاول بشتى الطُرق أن تكون له رغم ثرائه الفاحش إلا أنه لا يمكنه إغوائها .. تبدلت ملامحه بامتعاض :
-وكمان جايباه وجايه بيه هنا !! صحبتك جاية تغـ.ـيظني يا هانم .
اتسعت ابتسامة شاهندا وهي تطالع هاشم العزايزي ذو الوسامة الطاغيـة والملامح الحادة وعيناه الثابتة والواثقة .. بنيتـه القوية خطواته الهادئة ورأسه المرفوعة التي تحمل الغــــرور مال نحو رغد المتعلقة بذراعه كالطفلة وأشار لمكان هادئ :
-هناك مفيش حد .. تعالي !
حدجته بتردد:
-طيب على الأقل نسلـم !!
رمقها بنبرة المدججة بالغيرة :
-أنا قولت أيه !!
وافقت على مضض:
-الـ تشوفه يا هاشم .. تعالى .
سار الثنائي كحمامتي سلام كل منهما يرتدي اللون الأبيض ، بسط مفرشًا بالمكان المختص وجلسا يديران ظهرهما عن الجميع متأملين موج البحر .. تغلغلت يديها بذراعه ومالت على كتفـه وهي تطالع نجوم السمـاء وكأنه تعلن صبابتها للموجودات الكونية لتشهد على حبها :
-“لقد وقعتُ في حبِ رجلٍ جعلني اعيدُ النظر في أن العالم كُله قد يباع لو كانَ ثمنهُ دقيقةً بجواره ”
ثم غمغمت بهدوء :
-أخبـ.ـار شغلك أيه !!
رد بإيجاز كعادته عنـ.ـد.ما تسأله عن عمله:
-كله تمام ..
ثم غير مجرى الحديث وقال بإمتعاض :
-هرجع من البلد الإجازة دي واخلص شرا البيت .. مش كل شوية يجي الأفندي ده ويخبط عايز الإيجار .
عقدت حاجبيها بإعتراض:
-هاشم سعر البيت كتير وأنا مش عايزة أكلفك ، نشوف شقة أو نروح عند ماما نعيش معاها !! أنتَ ليه مُصمم على البيت ده !!
مسح على رأسها وقال بحب :
-مفيش حاجة تغلى عليك يا ست البنات ..
طبعت وسام عشقها لذلك الرجل بقُبلة طويلة على عضلات ذراعه التي أوشكت أن تفجر القميص وقالت له :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي !! تعرف ، مفيش قصة حُب كاملة دي الحقيقة ، بس لما بقعد أفكر مع نفسي يا ترى أيه الـ مش كامل في قصتنا ، مش بلقى جواب .. حبنا متفصل على مقاسنا بالملي !! يعني أنا عشت عمري كله رافضة الارتباط لاني متأكدة مش هلاقي الموصفات الـ بحلم بيها في أيه حد ..
ثم أسهب النظر بعيون التي لا ترى غيرها وأكملت :
-معرفش ، وقابلتك أنت !!
قاطعها وهو يحوى كفها الصغير بداخل صَدفة كفه الخشنة وتمتم بصوت خفيض منسجمًا معها مُكملًا غناء ” سيرة الحُب ” لأم كلثوم حتى شاركته الكلمـ.ـا.ت على الفور :
-وقابلتك أنتَ لقيتك بتغير كل حياتي ، معرفش أزاي حبيتك ، معرفش أزاي يا حياتي ..
توقف عن الغناء ليستمتع بملامح عصفورته المُغردة بسماء الحب ، والتي أكملت دندنة الكلمـ.ـا.ت بصوت لا يشاركه غيرهما :
-من همسة حُب لقيتني بحب وأدوب في الحُب ، صُبح وليـل على بابـه ..
ذاب بحبها أكثر ، فـ همس مقترحًا :
-ما تيجي نلم بعض !!
عقدت حاجبيها متسائلة إثر مصطلحاته الصعيدية الغريبة عنها :
-يعني أيه ؟! مش فاهمة !!
وشوش لها بلهجته الصعيدية :
-يعني نرجع بيتنا وألــمك في حُضني لحد ما يطلع علينـا نهار ..
-“رغد أنتِ هنا مش معقولة !! أيـه المفاجأة دي ..”
جاء صوت شاهندا من الخلف ليقطع صفو ضحكة رغد التي ملأت المكان بصُحبة مجموعة من أصدقائهما المشتركين ، جلست شاهندا بدون إذن وتابعها مجموعة من الأشخاص، شباب وفتيات معاً مما أشعل نيران الغيرة بصدر هاشم التي ربتت عليه رغد بخفوت كي يهدأ ويعدي ليلتهم على خير.. حلقة مُنعقدة من الأشخاص شاركوا الثنائي مجلسهم .. فأكملت شاهندا التي لم تتزحزح عينيها عن هاشم :
-القُبطان هاشم خـ.ـطـ.ـفك مننا يا ديدي !!
بادلتها بابتسامة مجاملة ، وتعمدت القُرب من هاشم أكثر متجاهلة النظر لفؤاد الذي يحرقها بأنظاره :
-سيادة الرائد خـ.ـطـ.ـفني من العالم كله ، وبصراحة دي أجمل خـ.ـطـ.ـفه حصلت لي .
تدخلت شاهندا بفضول متعمدة إثارة غـــضــــب فؤاد الذي يتجرع النبيذ بُزجاجة عصير :
-قوليلي مفيش بيبي في الطريق ، مش هبقى خالتو قُريب ..
فتدخلت رحمة مُكملة :
-واو بجد !! رغد الشيمي الـ كانت رافضة الجواز والأرتباط ، هتكون مامي وتربي أطفال كمان !
فأكملت عُلا :
-أنتو متجوزين ليكم أد أيه يا رغود ..
تفوهت بثقل وهي تخشى تصرفات وردود فعل هاشم الغير متوقعة :
-سنة وشهرين بالظبط .. وعقبال العُمر كُله وأحنا سوا .
اشتعلت الغيرة في صدور الفتيات اللاتي يحقدن عليها وعلى زواجها من شخص مثله ذو سيط كبير وشُهرة بمرسى علم .. تدخل فؤاد متعمد جر إشكاله :
-وأنت منين يا هاشم بيه ، سمعت إنك صعيدي .
تحمحم هاشم بخفوت وقال بإختناق :
-من قنـا ..
هز فؤاد رأسه وعيناه يلتهب منها الحقد :
-ليا معارف كتير في قنـا ، قولت لي من عيلة مين في قنا ؟!
رد بجمود :
-ما قولتش .. ومش هقول ، لإنه ميهمكش يااا ..
عرفه بنفسه :
-فؤاد العمري…اكيد سمعت عن العُمري جروب .
-مش بسمع أي حاجة من صوت الرصاص الـ بضـ.ـر.به طول اليوم .
ثم نظر لرغد المرتعشة بجانبه خــــوفًا من تهوره :
-يلا يا رغد !!
جُملة هاشم الأخيرة أثارت ضحك الجميع مع نظرات الانبهار المنبعثة من مُقلتي شاهندا إليه ، أحس فؤاد بالضيق ، فوثب قائمًا بملامحه المنكمشـة وهو يبتعد عن مجلسهم بغل خاصة بعد ما قلل هاشم منه أمام الجميع .. وقف بعيدًا وهو يحرق بنظراته ذلك الرجل الذي سرق حبيبته منه ويراقبهما عند مغادرتهما للمكان ، فأجرى مكالمة تليفونية مع أحد معارفه قائلًا بغلٍ :
-اسمعني ، في حتة ظابط هنا اسمه هاشم خليفـة ، عايزك تجيب لي قراره …
يبدو أن نزار كان متنبًا بمصـ يـ بـةهارون عنـ.ـد.ما وصف سيدتـه قائلًا :
-“قـدر أنتِ بشـكل إمراة .. ”
ومن نسيج اللقاء الأول سطر القدر الحكاية ..
ومن تلك الليلة الغامضة التي فَتحت أبوابها دعوة أم بنية مُخلصة ؛ ماذا سيكون بعدها مصيره !!
ستكون قدره الجميـل !
أم
قدره المُعـ.ـذ.ب !!
#نهال_مصطفى .
••••••
“”قـدر أنتِ بشكــل إمرأة “”
~ببيت خليـفة العزايـزي .
-أؤمريني يا عمتي ؟!
أردف ” ضيا ” سؤاله بعد ما قَبل رأس صفية وجلس بجوارها ناطقًا بتنهيدة يخالطـها المَلل ، أمتدت أنظار صفية بعتب :
-وبعدهالك يا ضيا !! مزعل هيـام ليه ؟! أنا مش هخلص من مشاكلكم .
تلون بالحديث كعادته ليكسبها ككل مرة :
-الـ يزعل هيام ما يوعاها يا عمتي ! وبعدين دي هي اللي مزعلاني وأنا جاي اشتكي لك منها ، برن على محمولها ليل نهار ولا بتكلف خاطرها وتسمعني صوتها .
عادت مستفهمة :
-يعني ما قولتش حاجة تزعلها !!
رد باندفاع يخالطه دهاء الذئاب :
-يتقطع لساني قبل ما أقول كلمة تزعلها ، دي هتبقي مرتي وكرامتها من كرامتي ..
غلف عقل السيدة التي خُلقت على الفطرة بكلمتين فقط ، تنفست بـ.ـارتياح :
-يكملك بعقلك يا حبيبي ..
ثم لمحت هيـام متدلية من أعلى ، فجهرت منادية :
-وأهي هيام جات ، تعالي يابتي ..
وختمت حديثها وهي تميل على مسامعهُ ناصحـة :
-هقوم أعملكم حاجة تشربوها .. عايزة ارجع ألقى ضحكتها منورة وشها .
كانت تقطع الأرض بخُطى عسكري .. خطوات ثابتة واسعة وبوجه متصلب التعابير ، زفرت باختناق شـ.ـديد وهي تقف مستندة على ظهر المقعد المُذهب :
-والله !! وكمان جاي تبلف أمي بكلمتين يا ضيا .. قولت لك الـ عندي ، وفضها سيرة .
-وبعدهالك يا بت بطني !!
حدجتها أمها كي تتوقف عن تلك الأفعال الطفولية التي لا تَليق بابنة خليفة العزايزي وقالت وهي تتأهب مغادرة :
-هعملكم حاجة تشربوها .
وقفتها هيام مُصرة على رأيها:
-خليه يطـ.ـلقني ياما وأحنا على البر .. قبل ما تبقوا حكمتوا عليّ بالمؤبد .. أنا مش عايزاه..
-ما أنت بس لو تقوليلي عمل أيه !! لكنك ساكتة والراجـ.ـل وِلد أصول وشاري .
تدخل ضيا بحوارهم بأسلوبه الثُعباني :
-ورب المعبود شاري ..
هتفت صفية بنفاذ صبر :
-أنا هسيبكم تخبطوا في بعض بس عايزة أرجع ألقاكم اتصالحتوا .. عدوا ليلتكم يا ولاد واخزوا الشيطان ..
انتظرت حتى غادرت أمها ، فرمقته بتحدٍ ولم تتراجع عن موقفها :
-طلقني يا ضيـا ..
شبح ابتسامة خافتة رُسم على محياه إثر إصراره على كتب الكتاب قبل ستة أشهر ، كي يضمن بقاءها ، كي يحافظ على طُعم أهدافه المُضللة :
-شكلك نسيتي العادات !!
ثم داهمها بمكر أعينه اللامعة وأكمل:
-معندناش طـ.ـلا.ق يابت الحج خليفة ، جوازاتنا جوازة نصارى يا قلب ضيا .
وبختـه بتمرد على حديثه :
-يعني أيه !! أنتَ عتقول أيه أصلًا ؟!
زفر ثاني أكسيـد كيده وقال متخابثًا :
-شكـل العلام لحس مخك ونساكي تقاليعنا ..
-لا ، أنا عارفـة عاداتنا يا ضيا ، أنا لساتني مرتك على ورق وبس ، يعني من حقك تطلقني في أي وقت !!
وفي نفس اللحظة تحولت نبرته الدنيئة محاولًا لمس كتفها فأبت قطعًا :
-ضيا متقربش مني !!
-حشـ.ـتـ.ـيني و  ، وخلاص حقك عليا ، وحياتك ما هتتكرر تاني آخر مرة .
تأرجحت عينيها بالمكان كي تتأكد من خلاءه ، دنت منه خطوتين وهي تخرج الحروف من وراء فكيها المنطبقين مشيرة بسبابتها بنبرة منخفضة :
-دي مش أول مرة يا ضيا تغلط في هارون أخويا ودايما حاطط راسك براسه ، ومش أول مرة تهلفط في الكلام عن أخواتي .. أخواتي دول الـ لو شموا خبر عن السواد اللي جواك ناحيتهم صدقيني مش هتشوف نهار .
مضغ شفته السُفلية بغـل وهو يكبح غـــضــــبه عنها :
-وه ! متخنيش رأسك ، دول مكانوش كلمتين .. عديها المرة دي ومش هتتكرر ، تعالي نتكلموا في فرحنا ..
ثم غير نبرتها لتلك النبرة المتحمسة:
-يابت خلاص جيه اليوم اللي حلمنا بيه وهيتقفل علينـا باب واحد !! فُكي التكشيرة دي بزياداكي نكـد .
ثم دنى منهـا أكثر وهو يمسـح علو وجنتها بمكر مخادع :
-أنتِ عارفة إني رايدك ومقدرش أستغنى عنك .. أنتِ حبيبة القلب يا بت ، طيب افتكري لي حاجة زينـة تشفع لي ..
ثم تمطق كأنه يستعيد مذاق الماضي :
-طيب حتى افتكري اترفضت كام مرة لحد أبوكي ما زهق مني ووافق !!
نجح في رسم الضحكة على وجهها الشاحب المتنبئ بمصيرها المنتظر ، تجاهلت صوت إحساسها وعقلها وأتبعت هوى كلمـ.ـا.ته المعسولة التي دومًا ما يذوبها بمحلول خبثه ويحقنه بوريدها .. ما أن رأي ضحكتها ألتوى ثغر الصعلوك بابتسامة الظفر وقال :
-أيوة كده .. عليا النعمة بدر منور في سماه ..ومش كل عركة تقولي طلقني ومش هتجوزك يا ضيا ..
ثم جهر معلنـًا :
-بدل الشاي خليه شربات يا أم هارون ..
-دا أنا وشـي حلو على كده !!
فأتاهم صـوت ” نجاة العزايزي ” التي دخلت من الباب وبيدهـا طفل ذو الثمانية أعوام في ثوبها الأسـود الطويل وحجابها الذي يسطع بياض وصفاء بشرتها والوجه البشوش الذي يضخ زهور الحياة من ثنايا ملامحها ..هذه الفتاة التي تزوجت قسرًا بعمر العشرين عام من رجل لا تُريده ولم يكن لديها أي رغبة فيـه وباليوم التالي من كونها أصبحت أم لطفـل توفى عنها زوجها إثر حادث أليم وتركها أرملة وهي بعامها الواحد والعشرين تعول طفل لوحدها ..
ما أن رأتها هيام ، ركضت لعندها لتُرحب بمجيئها وهي تعانقها بلهفة :
-نجاة !! أيه الغيبـة دي ، تعالى تعالى .. أقول لك أيه ، أنت بايتـه معانا الليلة أنا مش هعتقك ..
ثم تنهدت بوجهها معبرة عن مدة اشتياقها لابنة عمها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي يا نجاة .
••••••••
وصلت ليـلة لغُرفتها بالفندق وهي تتحدث مع أصدقائها بواسطة ” الفيديو كول ” ، انتعلت حذاء قدmها بعشوائية على باب الغُرفة وهي تروي لهم تفاصيـل مصائبها الاعتيادية التي لا تفارق حياتها .. ثم زفرت وهي تلقي الحقيبة من يدها :
-بس هارون ده طلع ندل بصحيح ، مع إنه يبان عليه مرجلة وابن بلد .
ما كادت أن تخطو خطوة فتعرقلت بحذائها الأخر الذي رمته بفوضوية قبـل أن تغادر الغرفة ، صرخة أخرى اندلعت من جوفها مصحوبة بضحكة ساخرة :
-كل ما أجيب سيرة الجدع ده بتحصل لي مصـ يـ بـة.. اسمه فاتح شهية للمصايب .
اندلع صـوت ضحك كل من جوري وفدوة فتدخلت الأخيرة بفضول :
-لي لي ، أنا عندي فضول أشوف صورته ، من كلامك عنه بحاول اتخيل شكله مش عارفة .
تحمست جوري للفكرة :
-وانا كمان ، لي لي اتصرفي و ابعتي صورته بجد ..شوفي له أكونت اخبـ.ـار على جوجل ..
مال ثغرها ناحية اليسار بيأس :
-مش معايا صورته للاسف كنا حفلنا عليه بضمير ..
اتكأت فدوة على وسادتها وقالت بلهفة فتيات عنـ.ـد.ما يُذكر اسم رجل أمامهم تحاصره التساؤلات:
-طيب هو عامل ازاي ! أوصفي لنا شكله .
نزعت ليلة جاكتها القصير بعد ما رمت الهاتف على الفراش ، ثم قفزت بخفة بمكان نومها بتلك الغرفة التي قلبتها رأسًا على عقب ، شبح ابتسامة ساحرة رُسم على محياها وبرقت عينيها رغم غـــضــــبها الشـ.ـديد منه وشرعت في وصف ذلك النمر البري على حسب وصفها ، كانت نبرة الدلال والغنج تحتل صوتها :
-هو طويل أظن فوق الـ١٨٠سم بشوية .. مش أبيض ومش أسمر ، حاجة في النص ما بينهم .. ملامحه حادة وتخض ، عنده شنب و دقن خفيفة خالص ، وفي غمازة في خده الشمال ، عنده جـ.ـر.ح صغير تحت حاجبه اليمين .. المرتين الـ شوفته فيهم كان لابس جلابية صعيدي مش بتكرمش خالص على طول مكوية واستريت كده ، ريحة البرفيوم بتاعه لذيذ ، بس مش عارفة نوعه .. وبس.
-وبس !! كل ده من مرتين وكانوا بالليل !!
صاحت جوري متحمسة أكثر للتعرف على تلك الشخصية التي جنت عقل رفيقتها بيوم واحد :
-أوووه المهم !! handsome!! مش كده .
ألقت ليلة بسلة المهملات المجاورة لها بعض الأوراق ورمت معهما غـــضــــبها الثائر من ذلك الرجل الذي هدm الحاضر والمستقبل فوق رأسه وقالت بلمعـة النجوم بعينيها وهي تقضم شفتيها بخفة بوصفٍ عبثي يعكس تهورها :
-بصراحة هو جـان منكرش ، لون غريب ولذيذ عن اللي بنشوفه عندنا ، مش باد بوي بس هو قليـل الأدب .. لطيف بس عصبي ولسانه أطول منه وعايز قطعه .. مغــــرور بس باين عليه حنين .. عيونه تربك بس عايـزة تبصي فيهم كتير !!
قطعت ضحك وصياح رفيقاتها بإمتعاض واستنكار :
-بنات في أيه بجد !! أنتوا متخيلين لينا ساعة بنرغي على اللي اسمه العزايزي ده !! لا وكمان قاعدة أمدح فيه بعد ما بوظ لي كل حاجة في minute .
ذكرتها جوري لـ تُنيم ضميرها قائلة :
-ياستي بقا بقيتي سينجل زينا خدي راحتك ، اللي اسمه شريف ده كان كاتم على نفسنا الصراحة !!
دقت نسائم الحرية بـ قلبها إثر سماعها تلك الجملة، فتدخلت فدوة متسائلة :
-طيب ناوية تعملي أيه يا لي لي دلوقتِ !
بلمت مُفكرة في مصيرها وحلمها الذي تحول لسراب، فردت بيأس:
-ولا حاجة، بكرة هرجع اسكندرية وأحاول أقنع صاحب القنـاة بأي فكرة جديدة .. ويارب يقتنع .
فعادت متأثرة :
-يعني خلاص مش هتشوفي هارون ده تاني!!
هبت مندفعة متناسية مدحها فيه قبل لحظات :
-أحيه !! أنا لو شفته تاني هفتح دmاغه الناشفة ، مستفز لأبعد الحدود ، فوق ما تتخيلوا ..
ثم ختمت جُملتها بدmدmة غير مقتنعة بما تقوله :
-ولا تاني ولا تالت ، ومش عايزة ألــمحه أصلًا .. يوم مهبب يوم ما قابلته .
أشاحت ابتسامة تكهنيـة من فدوة :
-مش عارفة ، حاسة أن مش النهاية ، وحاسة إنكم هتتقابلوا تاني ، اللي بيحصل ده تحسي أنه بداية حكاية مش نهايتها خالص ، أو يوم وهيعدي ! ولا أيع رأيك يا جوري!!
أكملت جوري مقدmة اقتراحاتها :
-معقولة !! هتحب الـ اسمه هارون ده !! أدفع نص عمري وأشوف الميكس الغريب ده !! أحيـه بجد !!
-أنتوا مجانين مش كده !!
صوت الأقدار كان يصدح متنبئًا بداخلها مقدmة بعض الاقتراحات ؛ ‏ربما غدًا أو بعد غد، ربما بعد سنينٍ لا تعد.. ربما ذات مساءٍ نلتقي، في طريقٍ عابرٍ دون قصد أنا وأنت أيها الصفيق !! .. تدخلت ليلة معترضة بجملتها الأخيرة وهي تنفي أحلامهم الحمقاء ، فأتبعت بشكٍ :
-احب مين بس !! ده حبه يودي عند عمو عبده التُربي ..دول عيلة مُتخلفة وأعرافهم متـ.ـخـ.ـلفة زيهم !! ولما أحب حد هحب الـ اسمه هارون ده !! ده لو آخر رجل في الدنيا ؛ مستحيـــل .
ختمت جملتها بشهقـة عاليـة :
-أحيـه !! مامي بتتكلم آكيد شريف اشتكى لها .. هروح اتهزأ وأرجع لكم .
أنهت المُكالمة بعجـلٍ مع رفيقاتها ، وردت على والدتها بصوت خافض سابقة بالشكوى :
-مامي شوفي الـ شريف عمله !!
استقلت نادية أبو العلا سيارتها متأففة من مواضيع ابـ.ـنتها التي لا تنتهي منذ رحيل أبيها وقالت موبخة :
-عرفت يا لي لي ، وبصراحة شريف مش غلطان وحقه ، يعني لما يعرف إنك في عربية رجل من أشـ.ـد أعدائه وبلطجي كمان ، له حق يعمل كل ده !
-على فكرة بقا ، الرجل ده مش بلطجي ولا حاجة ولو عرف يمسك عليه حاجة كان سـ.ـجـ.ـنه .. وهو مكذبش ده قال الحقيقة عشان يطلع من التهمة بتاعته لانه كان بيوصلني فعلًا .
فجأة وجدت نفسها بدون إرادة منها تدافع عن ذلك المجهول الذي حطم حياتها ودmر كل شيء ، للحظة ابتلعت بقية كلمـ.ـا.تها كأنها أدركت جريمتها الفادحة وهي تضع أطراف أناملها على صغرها كي يصمت ، فاندفعت أمها قائلة بحدة :
-شوفي يا ليلة عايزة تسيبي شريف سيبيه ، بس مش و أنتِ غلطانـة ، مش تربية سامح ونادية حد يستجرى يغلطهـا في العيلة .. هما كلمتين و تنفذي من غير مقاوحة بكرة الصُبح قبل ما ترجعي تكونوا اتصالحتوا ، مفهوم ؟!
كادت أن تعترض ، فقاطعتها نادية بحزم :
-لي لي مش عايزة أخسر أهلي بسببك وبسبب غباوتك ، وبعدين أنتِ عارفة باباه بيخلص لي إجراءات المركز الجديد مش عايزة كمان شُغلي يتعطل بسببك، بكرة تكلموني أنتوا الاتنين سوا .. وبعدين نشوف حوار جوازكم ده كمان .
ثم ختمت حديثها الذي لا يقبل الجدال :
-خدي دواكي ونامي .. واتغطي كويس.
دmدmت باستسلام لانها غير مستعدة لأي جدال آخر مع أنها :
-حاضر يا مامي .
‏ظننت أنني تخلصت قليلاً من هذا العبء،الذي أحمله في داخلي دون أن أتمكن من التحدُثِ بِه أمام أحد حتى أمي ، شعرت أن هذا الرجل المدعي بهارون هدية القدر لقلبي لقد جاء ليخلصه من مشاعره المزيفة ومن محبسك الذي يخـ.ـنـ.ـق أصبعي و كل الأشياء المؤذية التي أحملها وحدي بعد ما رحل عني أحن رجل بالعالم ، لقد كانت أزمتها الحقيقية في إيجاد كتف تستند عليه ، كتف يرفع رأسها المنكـ.ـسرة .. اتصال أمها زاد الحِمل فوقها وماذا ستفعل كي لا تؤذى أمي بسببها ككل مرة ، لم تجد حلًا سوى لتلك الأقراص التي تُدخلها في غيبوبة لساعات طويلة وبتصالح فعلي مع حقيقة اضطرابها النفسي تبتلع القُرص بابتسامة غريبة وكإنها تُخبر المرض ؛ ها أنا عُدت إليك يا عزيزي .. تستعين بتلك الحبوب كي تهرب من أفكارها ، من ضغوطات الحياة ، أحساس الفشل المُلازم لها !! لم تهتم حتى بتغير ملابسها بل ارتمت بحـ.ـضـ.ـن النوم وأخر ما تتذكره هو حديثها الأحمق عن ذلك الرجل .. فصرخت متمردة على أوامر أمها :
-وأخبط دmاغك في الحيط يا شريف !!
•••••••••
-“بس مالكش حق يا هارون في اللي عملته ، البت باين عليها بت ناس قوي .”
دلف هيثـم من سيارتـه وهو يوبخ أخيه عما فعله مع تلك المسكينـة متبعًا خُطاه لأعتاب البيت ، فأردف هارون باختصار :
-البت باين عليهـا خبرتها قليل في الدنيـا ، كان لازم تتعلم الدرس عشان تنشف شوية .. مش كل حد تشوفه تدلدق في الكلام .
صفق هيثم ممجدًا أخيـه :
-عليا الطلاج استاذ ورئيس قسـم ..
ثم هام مجددًا بجمال تلك الفتاة وقال بصوت خفيض:
-أنا هلحن ألف قصيدة على حس جمالهـا .. جهز نفسك عشان اسمعهم لك الصُبح .
توقف هارون عن السيـر وهو يحدجه بمكر وعيون ضيقة :
-وحب عمرك ، ورحاب بت عمي وهدان راحت فين ياحنين !
رد هيثم باندفاع :
-قصدك تقصف العُمر ، دي بوزها يجيب الفقر .. خلينا في القشطة.
ربت على كف أخيه بقوة وقال متعمدًا استفزازه :
-لا القشطة دي من حق شريف أبو العلا .
-بركة أنهم فشكلوا !! هي كانت مستحملاه كيف برخامة أمه دي ؟! هارون استنى ..
رمى جملته الأخيرة ودار متجهًا للبيتهم الذي حمحم على أعتابه مستئذنًا ومرحبًا بنجاة ابنة خاله وصغيرها الذي تولى تربيتـه منذ لحظة وفاة ابيه وصاحب عُمره .. أصفر وجه ضيا وهو يقف ليرحب به :
-كيفك يا وِلد عمي ؟
تجاهل سؤاله ومال بشـ.ـدقه كي يطبع قُبلة على رأس أخته الجالسـة متمتمًا :
-مختفية فين أومال ليكي كذا يوم !
اقترب ضيا منهم وقال متعمدًا إثارة غـــضــــبه :
-عروسة عاد مش فاضية لك يا هارون دلوك .. جيه الـ ياخدها منك .
رمقه بنظـرة نافرة :
-ما عاش ولا كان اللي ياخد أختي مني .. لولا بس هي الـ رايداك كنت هقعدها جاري العُمر كله ..
وثبت هيام بعد ما طبعت تلك القُبلة الخفيفة على كف أخيها وسألته بنبرتها الحنونة :
-طمني عليك يا حبيبي ، صحتك زينة !!
تدخل ضيا في حديثهم كي لا يمهلهم فرصة للحديث سويًا :
-تقعدها جارك كيف لامؤاخذة !! أنت مش عايز تشوف عيالها يتنططوا على كتافك إكده ويقولولك يا خال!!
بدّ غـــضــــبه يتصاعد مجدد متأففًا ، فنظر إليه وقال بحدة :
-اللي يهمني أشوف الفرحة تتنطط على وشها مش عيالها على كتفي !!
ثم دنى منه خطوة رافعًا سبابته :
-عشان ورب الكعبة لو حصل غير كده يا ضيا ، العزايزة برجـ.ـالتها بقوانينها مش هيرحموك مني .
اهتزت شفته بابتسامة شاحبة يملأها القلق والتوعد عما ينتويـه لهم ذلك الناقم على مُلكهم للعزايزة والذي سم مخ هذه الفتاة بحديثه المعسول حتى اقنعت أبيها بالزواج منه رغم اعتراض أخواتها.. لاحظت هيام حِدة الحوار بينهم فتدخلت لتُلطف الأجواء كي لا تحدث مشكلة جديدة كعادتهم وهي تربت على كتفه :
-يديم حسك في الدنيا يا أخوي وأفرح بيك وأشوف عيالك مالين علينا البيت .
ثم رمقت ضيا بنظرة تحذيرية إذ لم يتوقف عن جنونه متفاخرة بحماية أخيها لها ؛ فقالت بسلبية كعادتها :
-ولا أيه يا ضيا !!
على الجهة الأخرى تهامست صفية لهيثم الذي تظنه مخبرها السري عن هارون :
-كُنتوا فين ياهيثم أنت وهارون .
مال على آذانها متهامسًا مغيرًا مجرى الحديث :
-انا شفت حتة بت النهاردة يا صفية جمالها يحل من على حبل المشنقة !!
عقدت صفية حاجبيها باكتراث:
-شوفتها فين وتطلع بت مين دي في العزايزة نخطبوها لهارون !!
-هارون مين بس !! لا هي اسكندرانية .. مش من إهنه ، أنتِ لو شوفتيها هتحبيها قوي .
عادت مستفسرة بكهن :
-وهي دي اللي روحتوا تشوفها أنتَ وهارون أخوك .
رفع حاجبه مندهشًا ثم عاد النظر إليها متخابثًا :
-مش سهلة أنتِ يا صفية .. أقول لك أيه ، البت دي ولدك عك في حقها جـ.ـا.مد يرضيكي !!
ضـ.ـر.بت على صدرها بلهفة :
-ياضنايا يابتي أيه وقعها في طريقه !!
-حظها المنيل ، ولدك البكري دايمًا كاسفنا ياما ومخرب سيرتنا ، أنا لو عزمتها على الغدا بكرة فيها حاجة وأهي نلم سيرتنا اللي تبعترت ياما !!
هتفت صفية متحمسة :
-وماله يا حبيبي ، دي ضيفة وتتشال على كفوف الراحة ، هاتها وأنا أحب على رأسها عشان الـ عملو هارون !!
ثم عقدت حاجبيها متسائلة :
-بس هو عمل أيه !!
حك برأسه وعلى محياه ابتسامة ظفر متأهبًا للرحيل بعد ما نال مُراده :
-مش فاكر ، لما افتكر هبقى أقول لك ….
في تلك الأثناء انصـرف ضيا وصعدت نجاة لغُرفة هيام لتقضي الليلة معها ، لوح هارون لأمه مُلقيًا عليها تحية ما قبل النوم .. اقتربت هيام من أمها بوجه راضي عن الأول ، فسألتها :
-خلاص عقلتي يا بت بطني !
ردت بتوجس وهي تجلس بجوارها :
-ادعي لي ياما ، ادعي عشان أحساسي بيقول حاجات كتيرة مطمنش .
ربتت على كتف صغيرتها :
-ده الشيطان يا عبـ.ـيـ.ـطة عايز يبوظ ليلتك ، اطرديه من راسك و افرحي وفرحي قلبي معاكي .. ٦ عيال مفيش حد فيهم فارحني ياهيام .
هزت رأسه متقبلة نصيبها مع ضيا الذي مضغ عنادها وتمردها بكلمتين زائفتين ؛ فتراجعت متسائلة :
-أحنا ليـه معندناش طـ.ـلا.ق ياما !! ليه عاداتنا مخالفة لشرع ربنا !
اتسعت عيني صفية بدهشة :
-أعوذ بالله !! العُرف ملهوش دعوة بالدين يا بتي أنتِ هتكفرينا ليه ده مرجع وده مرجع !! الفكرة كلها في أنه ما ينفعش تنامي في فرشة واحد وبعدها تطلقي تنامي في فرشة وِلد عمه دي فيها جُرس وفضايح !! فهمتي .. يلا قومي أقعدي مع نجاة خليها تعقلك شوية وخفي جنان .
•••••••••
~بسيـارة هاشـم .
(قبل عامين)..
تقف رغد بـ المحل الذي ورثته عن أبيها في صناعة التُحف النحاسية والتي تُصنع كلها يدويًا حيث أحبت الزخرفة والأشغال اليدوية وغيرها .. لديها اسمها المميـز بالسوق للذي يتوافد لعنده السياح من كُل صوب وحدب ، حيث ذهبت بذاكرتها لهذا اليوم الذي اعترف فيه بإعجابه لها وتحولت كل شكوكها حول هوية ذلك الرجل المتردد يوميًا على محلها يتعمد خلق الكثير من المواضيع التي تُجبرها أن تقف معه دون غيره من الزبائن بالمكان ..
كانت يومها تقف مع سيدة أجنبيه تشرح لها فنيات القطعة النادرة فجاءت إليها مساعدتها بالمكان وهمست لها :
-بصي كده مين هناك !!
أشاحت بنظرها لعنده فكان واقفًا متكئًا على أحد أعمدة المحل عاقدًا ذراعيه أمام صدره بفظاظة مرتديًا زيه العسكري وعنـ.ـد.ما ألتقت أعينهم التي تحمل مشاعر مُختلفة فدmدmت :
-طيب خليكِ مع الزبونة وأنا هشوفه .
اقتربت منه بشعرها الغجري وفستانها البسيط فسألتـه بتلك النبرة المتأففة لكثرة تردده عـ مكان عملهـا الخاص ونظراته المتكررة :
-حابب تشتري إيه النهاردة !!
اتكئ مرفقه على ظهر أحد المقاعد النحاسيـة مردفًا بهيام يتوقد من مُقلتيـه :
-مش جاي اشتري المرة دي .. أنا لا غاوي تُحف ولا انتيكات ولا ليـا فيهم من أصلو !!
ثم أرسل لها غمزة خفيفة وأتبع :
-وده سر بيني وبينك !
تعجبت من صراحته وكأنه يعرفها قبل زمن ، رُفع حاجبها بإعتراض وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-كُنت حاسة ، يبقى حبيبتك بتحبهم عشان كده بتيجي تشتري من هنا كُل يوم !أصل مش معقولة ولا هو رمي فلوس على الأرض وخلاص !
يجلي حلقه وهو يقول بتلك الابتسامة الساحرة :
-ياستي لا عندي حبيبة ولا غاوى تُحف ولا تماثيـل ، بس هاوي عنيكي الحلوة دي .. ينفع !!
إنّ الهوى شريك العمى .. ومن يومها وهي وضعت تلك الشريطة السوداء على أعنيها وسلكت معه دروب الحُب بكُل ما تحملها من مشقة وعناء ، ‏تعمق هواه بداخلها للحد الذي تظن فيه أنه يُشاركها ذات الجسد والنبضات ، كأن حبه أصبح روحًا ثانية وُضعت بوريدها ليسكنها دائمًا.
رفعت رأسها المائلة نحو نافذة السيارة عند عودته من المتجر حاملًا بيده الكثير والكثير من الحقائب البلاستيكية الممتلئة بالمقرمشات والعصائر والحلوى التي تفضلها .. ترك الحقائب بالخلف ثم عاد ليجلس بمقعد القيادة راسمًا على محياه ابتسامته التي لا تُفارقه أبدًا معها :
-شايفك سرحتي ، سرحتي في أيه !! بتحبي جديد !
داعبت أناملها خصلات شعرها بتلقائيـة ودارت إليه :
-هكون بفكر في مين غيرك !! وهحب مين بعدك ، أنت قبضت على قلبي يا حضرة الظابط .
-دي أهم وأعظم عملية أنا عملتها فـ حياتي !! أنا جيت لك وأنا شايل كفني على أيدي ، وياقـ.ـا.تل يا مقـ.ـتـ.ـو.ل في حُبك !
انفرجت شفتيها بضحكة مسموعـة محاطة بالجهل التـام عما يقصده ويُشير إليها حول أعراف عائلته ، فأتبعت مردفة بحب وهي تغازل وجنته بإبهامها :
-مش للدرجة دي !! معايـا هتعيش وبس ، هتعيش الحُب بكُل أشكاله يا هاشم .. بوعدك .
تحمحم متأهبًا للقيادة :
-طيب عشان الكلام الحلو ده يستاهل مفاجأة اللي محضرها .. اربطي الحزام .
نفذت أوامره بدون إلحاح منها على معرفة المفاجأة التي بباله ، تركت نفسها مع ريح السعادة ليتركها أينما يشاء ، تنهدت بهدوء ثم قالت :
-كنت خايفة كلام فؤاد يقفل لنا اليوم وتكشر وتفضل تعاتب فيا و أنا السبب !
عقد حاجبيه متسائلًا بجدية :
-فؤاد مين !!
زام ثغرها بدهشة لانكاره :
-هاشم !!
أطلق ضحكة ساخرة وهو يُدير مقود سيارته وقال :
-ولا تشغلي بالك ، ده عيل فاضي فرحان بفلوس أبوه .. المرة الجاية فكريني أرنه علقة نسى أبوه يدهاله .
ضحك ملء فمها :
-أنتَ فظيع بجد !! بطل بقا .. ماشي تُجر شكل مع خلق الله !!
رمقها فى غفلة منها وهي تطالع الطريق فـ أجابها بشموخ :
-اللي مش متربي نربيه أحنا يا رغود .. أومال أحنا هنا ليـه !
-ياجـ.ـا.مد !!
ثم مالت في جلستها جهته وهي تغرق في كينونة حبهـا الثائر ؛ وقالت بملل :
-هارون أخوك مش ناوي يفرجها علينا ويتجوز بقا .. عايز اتعرف عليهم يا هاشم ، هما أشقية كده زيك ! احكي لي عنهم .
ازداد وجهه بشاشـة عند ذكر اسماء أخواته ، فقال بطـ.ـلا.قة :
-هيثم ده  الصـ.ـايع بتاعنا ، كُل يوم جايب عروسـة لصفية وعايز يتجوزها .. وكل مرة يصمم ويحلف أنها حُب عمره .. الناس تصحى تقول صباح الخير ، هو يصحي يقول عايز اتجوز .
ثم نظر لها مُكملًا بنبرة مشحونة بحبها :
-فنان زيك ، يحب العزف والقصايد والغنى .. متأكد أنكم هتبقوا صُحاب .
كانت تستمع له بمتعة رهيبة ، فتبدلت نبرتـه مُكملًا حديثه عن أخوته :
-هلال بقا عكسه تمامًا ، الشيخ بتاعنا .. في حاله، مدرس لغة عربية في الأزهر وبالليل في الجامع بيحفظ قرآن.. مش بيضحك غير معانا وبس ، أول ما يشم ريحة بـ.ـنت يتجنن ووشه يجيب ألوان .. هو وهيثم ناقر ونقير طول الوقت ..
أشاحت بنظرها بفضول وقالت مهتمة :
-طيب وهارون !!
-هارون ده حكايـة .. جدع وضهر متين تتسندي عليـه عمره ما يميل ، هو دخل كلية الحقوق وكان حلمه يبقى مستشار عسكري ، حلمنا كان نشتغلوا في مكان واحد في الجيش .. وعمل كده فعلًا ، أربع سنين الأول على دفعتـه .. وخلص جيشه وقدm وعدى كُل الاختبـ.ـارات، كان عاملها مفاجأة لأبوي عشان يفرحه ويقوله ولدك بقا مستشار .. وقتها أبويا مسكه كُل شغل المحاجر والمصانع والأرض .. ولما النتيجة ظهرت والبلد كلها عرفت أن هارون اتقبل ، أبويا عاند معاه وكان فاكر أنه بيلوي دراعه لما قدm من وراه ولانه ولده الكبير لازم يمسك العُمدية بعده ده القانون .
تعالت ملامح الشفقة على ملامحها :
-يا حـ.ـر.ام ، واستغنى عن حلمه بالسهولة دي !!
-من وقتها وهو زي التور اللي بيلف في ساقية ، اتقفل من الحياة واللي فيها ، بقى يخاف يحـب حاجة ويتعلق بيها تروح منه زي حلمه ، حس أنه مش من حقه يحلم !! بقيت كل حياته شُغل ومشاكل .
غمغمت بأسف :
-حقيقي زعلت عليه أوي .. عشان كده بيعـ.ـا.قب كل اللي حواليه ومش عايز يتجوز !!
-اللي عايز حاجه يا رغد يأخدها من حبابي عينين الدنيا ويستقــ,تــل عشانها حتى ولو هيمـ.ـو.ت بعدها ، كفاية يمـ.ـو.ت بشـرف ، هارون اشترى رضا أبويا على حساب نفسه !! ولو على الجواز مفيش مفر هيروح فين من صفية ، مش هتسيبه .
تبدلتها نبرتها متدللة :
-طيب وهاشـم !! احكي لي عنه !
دار مقود سيارته أقصى اليسار متجهًا لأحد الشواطئ وهو يصف عربيته بقرب البحر وقال بهدوء :
-هاشـم طماع ، ضحك على الدنيـا ومد أيده في قلبها وغرف منها كُل اللي يبسطه وبس .
-مش بحبك من فراغ والله ..
تفقدت المكان حولها :
-أحنا وقفنا هنا ليه ؟!
-مش نفسك في كامب !! هعملك أحلى كامب لوحدنا هنا ، سما وبحر وقمر _قال كلمته الأخيرة قاصدًا وجهها الجميل وهو يرسل لها تلك الغمزة المعتادة من طرف عينيه وأكمل _ أنا جبت كُل حاجة شوفي كده لو في حاجة ناقصة !
دار نحو الباب وفتحته بدون سابق إنذار وهي تركض للجهة الأخرى من السيارة قبل أن تفتح بابه ، سبقها وقبل أن تلمس قدmه الثانية الرمل تحتهم كانت بين يديه بسعادة بالغة كمن لفح بعطور الجنة .. انفرطت مشاعرها أمامه وهي تعانقه بنيران اللوعـة :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي في حياتي يا هاشم ، أنا خدت نصيبى الحلو كُله من الدنيـا فيك .
••••••••
~في السادسـة صباحًا .
فرغ هيثم من ارتداء ملابسـه الإفرنجيـة ، بنطال باللون الأبيض ويعلوه جاكيت من الجينز الأزرق القاتم وتحته سترته بيضاء وحذاء رياضي باللون الأسود والأزرق معًا ، صفف جدال شعره ونثر عِطره المفضل ، مصفقًا بحماس :
-جيالك يا قشطة !
أخذ مفتاح سيارته وحافظة نقوده وغادر غُرفته ركضًا .. قطع درجات السُلم بعجل وهو يستمع لصوت صفية التي تتحدث مع فردوس مُفكرة في وليمة الغد وتجمع أولادها كُل شهر :
-١٠ أجواز حمام !! قليلين يا فردوس .. ده هارون مش بيقضيه جوزين لروحه .. خليهم ١٥ خلي الحبايب تاكل وتتهنى.. هاشم بيحب البط اتوصي بيه يا فردوس الواد شقيان وطالع عينه من وكل الجيش يا حبة عيني !! ومتنسيش الرقاق عشان بيحبه .. وبلاش أرانب عشان هلال مش بيحب يشوفها على السفرة .
تدخل هيثم معترضًا :
-مسمعتش اسم هيثم يعني !! ولا أنا لقيط في البيت ده !!
ردت بعدm اهتمام :
-ابقى كُل من الموجود ، خير ربنا كتير !!
-يعني أنا اكل الموجود وهما يتعملوهم الوكل مخصوص !! ده في شرع مين ده ؟!
دارت له صفية متناسية أمر الطعام وهي تتفقد ملابسه الجديدة :
-أنتَ رايح فين من النجمة بالحلاوة دي !
شـ.ـد طرفي جاكته بتفاخر:
-نازل البندر .. تعوزي حاجة !!
-هتعمل أيه في البندر يا هيثم !!
رد بإيجاز وهو يتأهب للذهاب :
-لحقتي تنسي يا صفية !! هجيب لك القشطة زي ما اتفقنا إمبـ.ـارح .
ثم لوح هاتفًا بعجلٍ :
-سلام ياما وابقى افتكرينى الله يرضى عنك مش واقع من قعر القُفة أنا !!
ضـ.ـر.بت كف على الأخر واشتكت همها لفردوس :
-ولاد خليفة هيجننوني يا فردوس .. كل واحد فيهم ماشي بدmاغـه ..
ثم تجولت عينيها بالمكان ودmدmت :
-اُسكتي مش هارون ريح قلبي ووافق اخطب له زينة !! يجي هاشم بس ونروح نخطبها من أبوها .. أوعى حد يعرف يا فردوس خليهـا في الستر لحد ما تتم !
هللت فردوس بحماقة :
-يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك ، الله أكبر ، ده طلع الحجاب سره باتع .
-حجاب أيه يا فردوس !!
وصل هيثم للفندق الذي عرف اسمه من هارون والذي تُقيم فيـه ليـلة ، ظل واقفًا أمام البوابة بعد ما تأكد من وجودها بالداخل .. مرت قرابـة الثلاث ساعات حتى دقت ساعة يده أعتاب العاشرة صباحًا .. دلفت ليلة من الفندق بعد ما عملت إخلاء تام منه .. تجر حقيبة فشل حلمها ورائها وهي ترتدي نظارتها السوداء كي تخفي آثار كدmـ.ـا.ت الخزى من أعينها ، خرجت من البوابة فساعدها موظف الأمن في حمل الحقيبة ، مجرد ما لمحها هيثم اندفع إليها هاتفًا بغزل :
-اللي ربى شكله كان بتاع مربى عشان يجيب الحلاوة دي كُلها .
دارت إليه مُدافعة عن أبيها :
-لا ياخفيف كان لواء ، ولو كان لسه عايش كان زمانه منيمك في الحجز .
ثم نزعت نظارتها الشمسية بدهشـة ساخرة :
-هو أنت !!!
تحرك أمامها بخفة وبتلك الضحكة التي لا تفارق ملامحه :
-اتحجز فـ حُبك أنا راضي ، حتى أرميني في بير غويط و احدفي ورايا دينامـ.ـيـ.ـت تطلعلك روحي تقول لك أنا هنا يا عفريت.
خفة روحها المرحة لم تتحمل أن تكتم الضحك بوجهه ، اكتفت بابتسامة عريضة وقالت بسخرية وهي تخطو خطوة للأمام :
-لا دا أنت روش بقا !!
تابع خُطاها مواصلًا أسطوانات غزله :
-لا أنا أعجبك أوي !!
توقفت عن السيـر وسألته مستفسرة :
-أنت هنا بتعمل أيه أصلًا ؟!
-شغلوني حارس اللوكاندة الجديد عشان اخلي بالي من القمر .
-لا ياشيخ ! أخوك الـ باعتك ؟
رد بنفس النبرة الهائمة :
-يكش ما أوعى أشوف جمالك تاني ، مايعرف إني هنا !
زفرت بإمتعاض :
-وأنتَ هنـا عشاني يعني !
-انا هنا عشانك من ٥ الصبح .. طول الليل ماشفتش عيني النوم !
-أبقى غفل شوية الضهر .
ردت بنبرة ساخرة وهي تحمل حقيبة يدها على كتفها مستعدة للرحيل ولكن لم تنكر ملامحها المبتسمة استمتاعها بفُكاهة هيثم ، فأكملت :
-وبعدين مش كفاية الـ عملوا أخوك جاي تكمل المسيرة بتاعته !!
شـ.ـد النظارة التى تلوح بها من يدها وعلقها بداخل ياقتـه ، وقال بنبرة تحمل اعتذارًا :
-لا جاي أصلح الـ هببه أخوي .. بيني وبينك انا سرسبت هارون وعرفت المشكلة .. وطلع غلطان من ساسه لراسه واللي يقول غير كده ميفهمش ، وأنا جاي اقدm لك اعتذار بصفة رسمية مني وأقول لك تقبلي دعوتي على الغدا النهارده .
رفعت حاجبها مستهزئه وبصوتٍ ساخر :
-لا مش عايزة حاجة منك ولا من النصاب أخوك بتاع الكُفتة .
-قولت لك وحياة العيون الحلوة دي مايعرف .. وبعدين مش ظُلم ده تأخدي الطايع بذنب العاصي ليه !! دانا قاصد خير ..
-عندي سفر ولازم اتحرك دلوقتِ .
أصـر بإلحاح:
-مش هيحصل لحد ما نراضوكي .أنا جاي هنا بأمر من الست صفية بجلالة قدرها .
عضت على شفتها بنفاذ صبر وهي تسحب نظارها المُعلقة بياقة سترته :
-قلت لي اسمك ايه؟!
شـ.ـد طرفي جاكيته بفظاظة :
-محسوبك هيثم .
-أنت وأخوك مش عايزة أشوف وشكم تاني يا هيثم.
رمت قذيفـة جُملتها وسارت بخطوات واسعة نحو سيارتها المصفوفة أمام الفنـدق ، تلقى الصدmة لبرهة من الزمن ولكنه لم ييأس ، لحق بها ركضًا وهو يقفل باب السيارة الذي فتحته :
-مش هتنـ.ـد.مي ،دي صفية عليها شوية حمام محشي هيخلوا صحتك حديد .
دارت له متأففة وقبل أن تنطق كلمة أسرع قائلًا :
-هلففك قنـا شبر شبـر ، وأفرجك عليها وصوري براحتك .. متأكد إنك هتحبيها ، خُديني مرشـ.ـدك السياحي هنا .
ثم وشوش لها بحذر :
-أنا عارف موضوع الصحافة والإعلان ، لو جيتي معاي هفضح لك العزايزة نفر نفر ..
راقت لها الفكرة ، فاتسعت ابتسامتها تدريجياً عاقدة حاجبيـها وبدون إداركها لسبب قبولها عرض هيثم ، ربما أحست أنها بحاجة لرؤية المدعي باسم هارون مرة ثانيـة ، ربما انساقت وراء فضولها وعروض هيثم المُغرية ، فسألته باهتمام :
-قولت لي صفية بتعمل حمام محشي جـ.ـا.مد أوي يعني!!
على الجهـة الأخرى هناك أعين تتلصص النظر إليهما ، ما استقلت السيارة بجوار هيثم قابلة دعوته على الغداء ، أجرى العسكري التابع لشريف مكالمته معه وأخبره :
-شريف بيه ، ليلة هانم خرجت من الفندق ، بس ركبت العربية مع هيثم العزايزي !
ذات مـرة صادفني نصًا لنزار يقول فيـه :
-” رُبما كان من الغفلة والغــــرور ..يُدعى الإنسان أن الأرض لا تدور ، والحُب لا يدور ”
•••••••••
في ليـلة من ليالي الشتاء ذات البرودة القارسة ، الغيوم الضبابية متراكمـة فوق بعضها البعض .. كانت السمـاء تدوي بصـوت قعقعة الرعد المُخيف والذي يتبـعه وهج البرق الأشبـه بماس كهربي أغدق خد السمـاء وكأنه جاء كستار ستر يخـ.ـطـ.ـف الأبصار إليه لبعض القلوب الخائفـة التي تختبأ تحته .. اختبأت الناس بحجورها حول بؤرة النيران المشتعلة التي تدفأ ليلهم .. الشوارع خالية تمامًا لا يَدب بها إلا أقدام أوراق الشجر المتساقطة والمُحملة بالأمطار والتي غسلت الأرصـفة ، كرات من الثلج تهبط من السماء وتضـ.ـر.ب الأرض ، لأول مرة تُمطر هكذا بالمناخ الصحراوي ، حدث لا يتكرر إلا مرة واحدة فقط من عشرات السنين .. قصف الرعد مرة ثانية قصفًا شـ.ـديدًا دوّى صوته بأرجاء الجبال ، تناثرت أشعة البرق الحمراء مُجددًا .. وهناك رجل ملثـم يحمل رضيعة بيده يدسها بحـ.ـضـ.ـنه كي يحميها من غدر الطبيعة كما ستغدر بها عائلتـه إن عثرت عليها .. لمست أقدام الرجل صاحب الثلاثون عامًا الطريق العمومي للنجع الخاص بهم _نجع العزايزة_ ظل يهذي ويلهث ، يواسي طفلتـه التي تتضور جوعًا بيده ، التي لم تكُف عن البكاء ، أطرق مواسيًا :
-سامحيني يا غفران يا بتي ، سامحيني ..
لمح أضواء السيارة الوحيدة التي مرت على الطريق حينها ، ركض بكل ما أوتي من لهفة أمامها وهو يلوح مستغيثًا .. زادت الإضاءة وهدأت سُرعة السيـارة تدريجيًا حتى صف صاحبها جنبًا .. نزع اللواء ” رفعت الجوهري ” قبعته العسكرية وحمل سلاحه وهبط من سيارته موبخًا بنبرته القوية :
-أنتَ مـ.ـجـ.ـنو.ن !! أنت أزاي تقف في نص الطريق كده .. أنتَ مين ؟!!
أقبل الرجل لعنـده ونزع غطاء وجهه متوسلًا :
-رفعت بيه أنا في عرضك .. بتي هيقــ,تــلوها .
تعجب سيادة اللواء من استغاثة الرجل الذي يرمي تلك المضغة بين يديه ؛ فأكمل :
-أنا ماهر العزايزي .. صدر حكم من مجلس العيلة بقــ,تــلي أنا ومرتي ، بتي ملهاش ذنب يا رفعت بيه ، اعتبرها أمانتك قدام ربنا .. خلي بالك منها ابعدها عن هنا ، لو ليا عُمر هرجع وأخذها منك .. بتي اسمها غُفران ..
” غفران ماهر العزايزي . ”
لم ينتظر رد الرجل الغارق بصدmته ، ترك له صغيرته الباكية ورحـل ، ركض لمصيره المنتظر وهو المـ.ـو.ت .. وقف رفعت مشـ.ـدوهًا ، مكبل اليدين مغلول العقل ، يُطالع تلك البريئة التي لا تعرف بأي ذنب ستُقتـل .. حائرًا ماذا سيفعل بهذه الفتاة التي لا حول له ولا قوة ، من سيرعاها معـه وزوجته المتـ.ـو.فية وابنه سامح الذي تزوج قبل عامين ويقيم بالإسكندريـة مع زوجته !! احتد صوت الرعد وزاد المطر وزاد معه صُراخ وارتجاف الصغيرة .. لم يجد حلًا سوى الاحتماء بالسيارة كي تدفأ من صقيع الجو ..
تسلل ماهر بين الأشجار كاللصوص ، كي يلحق بإمـ.ـر.اته المُلطخة بدmاء الوضع ، كانت هناك أعين تراقبه .. وتراقب خُطاه وكيفية تستره على جريمته حتى باغتته وصدرت فوهة السلاح أمامه قائلًا :
-هتهرب لحد مـ.ـيـ.ـتة يا ماهر !! مفيش مفر .. أخواتك قابلين الدنيا عليك والعزايزة مش هيعدوها .
دنى منه ماهر ورفع الوشاح عن وجهه ، إذن بخليفة العزايزي يعوق طريقه ، توسل له ماهر :
-سيبني ألحق مرتي بتمـ.ـو.ت في الجبل يا خليفة ..
رق قلب خليفة وسأله :
-عطيت ولدك للأغراب يربوه يا ماهر .. مـ.ـو.ته أهون !
لهث ماهر كلمـ.ـا.ت حـ.ـز.نه :
-بت كيف القمر يا خليفة ، تشبه أمها .. وحياة عيالك لو حصلي حاجة وصيتك بتي .. بتي مع رفعت الجوهري ، ملهاش ذنب تمـ.ـو.ت معانا .. بتي أمانتك قصاد ربنا لحد ما نتقابلوا يا خليفة.. احفظ سري ربنا يخلي لك عيالك .. سيب بتي تعيش بعيد عن العزايزة وظُلمهم .
ثم ربت على كتفه بعجل كي يلحق بتلك المريـ.ـضة ببيتها بالجبل وهو يوصيـه مؤكدًا :
-مرتي بتمـ.ـو.ت لازم ألحقها .. بتي غفران أمانة في رقبتك يا خليفة ..
بعـد ثمانية وعشرين عامًا من تلك الليلة التي سُمية ليـلة باسمها .. فاق ” خليفة العزايزي ” من شروده على نداء زوجته الأولى ؛ السيدة أحلام :
-يا حج خليفة !! مالك سرّتت “سرحت” في أيه ؟!
تنهد وهو يشكو همه لحافظة أسراره :
-خايف يجي أجلي وأقابل ماهر ولما يسألني عن بته هقوله أيه ؟! أنا ماصُنتش الأمانة يا أحلام .
ربتت أحلام علي كتفه :
-متشيلش نفسك فوق طاقتها يا أبو هارون .. أنت قلبت مصر حتة حتة ، وماوصلتش ليهم ، كأن الأرض انشقت وبلعتهم .
ضـ.ـر.ب الأرض بمؤخرة عكازه:
-وِلد الجوهري خد البت وفُص ملح وداب .. قدm استقالتـه من الداخلية كلها عشان محدش يعرف يوصله .
ثم أشاح بحـ.ـز.ن وخيم :
-دmنا ولحمنـا اتربوا في حـ.ـضـ.ـن الغُرب يا أحلام .
شاركته أحلام الهموم ، فقالت مقترحة :
-طب ما تخبر هاشم ولا هارون هما خطوتهم أوسع منينا ، البت ليها حق لازم يوصل يا خليفة ، أرض أبوها اللي كتبهالك بيع وشرا ومخدش مليـم واحد منك .
رفض قطعًا معرفة أولاده لذلك السر :
-هارون مستحيل يعرف، لو عرف حكمه للعزايزة هيتهز ، مش هقدر أرفع عيني في عينه بعدها .. هاشم سره مع أخواته ، صفية رابطة الأربع رجـ.ـا.لة في عُقدة واحدة .. معندهمش سر على بعض .
ثم زفر بحـ.ـز.ن وخيم :
-والبت لو لقيناها وسرها اتكشف هيقــ,تــلوها يا أحلام !! يبقى معملناش حاجة غير إننا سلمناها للمـ.ـو.ت .
دmدmت متحيرة :
-والحل يا حج خليفة !!
تنهد مستسلمًا :
-ربك رب أقدار يا أحلام ، والحق بينادي صحابه لو بعد خمسين سنة .
•••••••••
من أهم وأول قواعد الحياة ؛ أنك ستضطر أن تتنازل عن بعض أحلامك .. حتى تعيش واقعك ، حتى تعيـش الحياة بما تحويه من مآسي ..
على غير العادة نهض في وقت متأخر من الصباح ، في التاسعة صباحًا بجسـد مثقل بالمتاعب ، يصدح منه صوت قرقعـة الألــم بعظامه .. يشكو من ثِقل الحِمل وحَمل المشاكل فوق عاتقـه .. فرغ من أخذ حمامه الدافئ وخرج كي يكمـل جولة ارتداء ملابسـه .. وقف بصدره العاري أمام المرأة يجفف رأسـه المبلل بالمـاء ثم سقطت عيناه على صورة شهادته الجامعية المُعلقة بالحائط والتي تنعكس صورتهـا بالمرآة .. لفح الفوطة على كتفـه ثم سار لعندها بخطوات تلك الأقدام القِتال في سـاحة أعرافهم والتي قــ,تــلت كل آماله ، يخشى أن يحلم ، يتمنى ، يتعلق .. فيرحل عنه الشيء مرة ثانية ويعيش نفس الألــم مجددًا ، كحلمه الذي لم يحلم غيره ودعه قبل أن يناله ..
رُفعت جفونه لأعلى وقرأ اسمه عليهـا ” هارون خليفة العزايزي ” ثم وقعت عيناه على النسبة المئوية والتي كانت ٨٦ بالمئة.. وبجوارها كلمة الترتيب ” الأول ” ثم خيمت معالم حـ.ـز.نه على وجهه الذي استقبل و.جـ.ـعه بسخرية :
-اربع سنين قسموا الضهر عشان أخرتك تتعلقي على الحيط !!
ثم ختم جملتـه بتلك الابتسامة الساخرة وهو يحاور حلمـه المفقود :
-صباح الخير يا أحلام !!
ما كاد أن يخطو خطوة نحو مسار حياته اليومي .. تعرقلت قدmه الحافية في ذلك الشيء الصغير الذي أوقفه ، تدلت جفونه بالأرض فوجده ” خاتم ” يدها الذي وقع من جلبابه وهو يخلعه قبل النوم .. ذلك الخاتم قدmه القـدر إليه ، ربما كان يُريد تنبييهُ لحدث عظيم سيلتقي به فيما بعد !! انحنى كي يمسكه بنفس السخرية التي لا تُفارقه وهو يُقلب خاتمها أمام عينه :
-وبعدهالك عاد يا ست ” ليـلى ” !! مش خلصنا ؟!
رمى الخاتم بخفة بالهواء ليسقط براحة يده مرة ثانية ثم فتـح خزانته الخاصة ورماه بداخلها، تصرف غريب منه لا يدرك سببه !! لِمَ أراد أن يحتفظ بخاتم رجل آخر تنتمي إليه !! لِمَ لم يسعى لرد الأمانات إلى أهلها كعادته !! ما الشيء الذي أغراه به ليُقرر أن يكون ملكه !! جميعها أسئلة يطرحها العقل البشري تفتقر الجواب والمنطق !!
••••••••
~ بسيـارة هيثـم .
لأول مرة تُصادف شخصًا ثرثرًا أكثر منها ولكنها كانت مستمتعة جـدًا بالحديث معـه على عكس أخيه الذي تتقاطر الكلمـ.ـا.ت من شِدقه بالكلمة .. انسجمت في الحوار مع هيثم بفضول يتقاذف من مُقلتيها حول هويتهم وأعرافهم .. وعنـ.ـد.ما يُذكر أمامها اسم هارون تعتدل بجلستها ويتزايد اهتمامها أكثر .. فرغت من تناول قطعة الخبز المحشية التي أحضرها لها وأجبرها أن يتناولان فطارهم سويًا .. ارتشفت كوب من الماء ثم سألتـه :
-أخوك ده الـ اسمه هارون ، مش ممكن يضايق منك لو اتفاجئ بيـا في البيت من غير ما تعرفه! .
ثم غمغمت مستفسرة :
-المفروض إنه العُمدة يعني ويكون عنده علم بكل حاجـة بتحصل في بيته !
أشاح بنظره لها مجيبًا بتوجس يبطنه الضحك :
-أنا وأنتِ هنكون في حمى صفية .. متخافيش .
صاحت موبخة وهي تلومه بضحك :
-أحيـه !! أومال ايه الد.خـ.ـلة بتاعت الصبح وتعالى وفي حمايتي دا أنتِ ضيفة .. وفي الأخر هنتحامى في مامتك !! روحني يا عم ، عشان أخوك لو قال لي أزيك هفتح دmاغه.. ما بالك عاملني بسخافته !!
-يخربيتك يا هارون !! للدرجة دي شايلة ومعبية ؟!
ظلت تقضم بشفتيها متحيرة من أين تبدأ بعد ما استعانت بأصدقائها التي سردت لهم ما حدث برسائل نصية على أحد مواقع التواصل الإجتماعي ، فاندفعت بتلقائية بسؤال فدوة التي اقترحته عليها :
-أخوك هارون ده متجوز ؟!
ثم بررت موضحة سبب سؤالها بخُبث:
-قصدي يعني لو متجوز الله يعين مـ.ـر.اته على عصبيته ونرفزته طول الوقت !!
قال بعـ.ـبـ.ـط المغــــرور ، وفي عينيه نظرة متحفزة:
-مش متجوز ، وادعي له ربك يفك عقدته عشان ده موقف حال ٣ رجـ.ـا.لة كيف الورد .
زامت شفتيها بفضول حول تفاصيل ذلك الرجل الذي أفسد حياتها :
-أزاي !! أفهم بقا ؟!
-صفية ياستي ، حالفة إيمانات المُسلمين ما قعر طبل يرن لواحد فينا قبل ما تفرح بهارون .
أردفت غير مقتنعة :
-مش فاهمة !! اللي حابب يتجوز ، يتجوز .. لنفترض مثلًا أخوك مش حابب يتجوز من أصلو !!
-لا ماهي صفيـة مديله مُهلة لأخر السنة دي !! لو معملهاش هتهمل العزايزة وهتج على رأسها .
فاندفعت بفضولها الغير مُبرر :
-وهو هيختار عروسته ولا أعرافكم بتجبره على واحدة معينة !
-والله على حسب هو رايد مين !! بس في الغالب صفية هتجبره على اللي تختارها لانه مش ناوي يختار في سنته المقندلة دي ..
كانت تبحث عنه في وريقات اسئلتها الفضولية ، فأتبعت باهتمام شـ.ـديد :
-هارون ده مُتعلم !! لو شخص متعلم وواعي آكيد مش هيقبل يتجوز بالطريقة دي !!
تنهد هيثم وهو يناظرها :
-هارون أخوي ده حكايته حكاية ، حِمله تقيـل قوي ..
-ازاي !! ده حتي يابن عليه جِبلة ومش بيحس !!
فانفجر اللفظ من عفويتها بدون رقابة ، فألتفت لها هيثم ضاحكًا ثم هدأ سرعة السيارة عند اقترابه من نجع العزايزة ودار برأسه لعندها متغزلًا بجمال عينيها الرمادية باستخدام العدسات اللاصقة .. كاد أن يُكمل حديثه عن أخيه ولكنه تعرقل بجمال عيونها فقال متغزلًا بلطافة :
-عيونك حلوين ، يا ترى تفكيرك حلو زيهم ؟!
تقبلت عزله بصفي نيـة ، فأجابت بنبرة تحمل السخرية والتهديد معًا وهي تحدق بعينيـه :
-لو عرفت اللي بيدور في دmاغي هتتخض و تهرب مني .
تراجع هيثم متفهمًا نظرتها الحادة التي استقبلها بابتسامة خفيفـة وعاد النظر للطريق مغيرًا مجرى الحديث وهو يشير بسبابته للخارج يستجدي رضاها كي لا تسيء الظن فيه :
-ده يا ستي نجع العزايـزة ..
ثم انكمشت معالم وجهه باستياء وأكمل ممازحًا :
-النجع الملعون ..
هبت مع رياح خــــوفها تتساءل:
-ليه!! فيه عفاريت ؟!
-لا فيه بني آدmين .
رمقته بعتب وهي تدير وجهها نحو النافذة :
-خضتني ..
ثم مالت نحوه بنفس الفضول الذي يلتهب من مُقلتيها :
-هو هارون …
فقاطعها هيثم معترضًا بمزاحٍ:
-هو كله هارون هارون !! مفيش مرة هيثم ولا أيه ؟!
أحست بإنه كشف أمرها وأدركت أنها تمادت حول معرفتها ذلك الشخص الذي شغل تفكيرها طوال الليل ، بادلته بابتسامة مترددة :
-هاه !! انا هتفرج على الطريق ….
بوابـة ضخمـة من الرُخام على جانبيها تمايثل ذهبيـة على هيئة ذئاب رافعة رأسها تعول بالسماء .. يعلـوها بالخط العريض الاسم ” نجـــع العزايزة ” ، أخرجت رأسها من النافذة فداعب الهواء ملامحهـا مع نسائم رائحة التُربة والزرع والحياة الريفية .. صفوف لا تُحصى من النخيل على الجانبين ، أشجار فارعة الطول تُغازل سُحب السماء عن طريق الطيور التي تحمل رسائلها وترفرف بها لأعلى ولأعلى كي تبلغ منها السلام والحُب .. طريق طول لا نهايـة له من الأراضي الخضراء المزروعـة ، ترعـة ممتدة على يمينها ، عدد قليل من العمالة صادفهـا .. الهواء البـ.ـارد يداعب قلبها مُرحبًا بعودتها لحيث ما تنتمي ، لمكان أصلها ودmها الذي عاشت بعيدة عنه لمدة ثمانية وعشرون عام ..
بدأت المنازل المصفوفة تظهر أمامها عن بُعد ملحوظ ، بيوت لا تتجاوز الثلاثة طوابق جميعها تحمل نفس اللون نفس التصميـم ، جميعها على صف واحد ويعلوه خيمـة مثلثة الشكل من اللون الأحمر القاتـم والجدران المصبوغة باللون الرملي .. خرج من شِدقها المزمزم بانبهار وكأن الجمال أيقظ فيها وطنًا تعرفه :
-وواااوو !!
ثم دارت لعنده مذهولة مما رأت :
-هيثـم !! أيه الجمال ده !! أحنا في الجنة !! أنا مش مصدقة الجمال ده !! أنا زورت أماكن كتير عُمري ما شفت مكانٍ بالعظمة دي !! كل حاجة جميل !!
ثم تحمست أكثر وقالت بجزل طفولي:
-المكان يهبـل !!
مسد شعره المُغطى بالجل وقال معجبًا بفرحتها :
-أهي دي عيشتنا وحياتنـا يا ستي .. هنـا عالم جوة العالم .. المكان ده على كــد ماهو جنـة لكن قوانينه من جهنم ..
أتبعت بإثارة :
-طيب أزاي أنتوا كده !! أنتوا مين ؟!
دار بمقود سيارته على الطريق المرصوف لينحدر بدرب أضيق وأتبع موضحًا :
-اللي فهمته من أحلام ..
قاطعته :
-مين أحلام !!
اتسعت ابتسامته عند سماعه اسمها :
-دي بركة بيتنـا .. هعرفك عليها لما نوصلوا .
لمع بريق الحماس بمقلتيها :
-متحمسة جدًا .. كمل بقا ، أحلام قالت لك أيه !
اخفض من سرعة السيارة حد الهدوء منتظرًا مرور كـ.ـلـ.ـب صغير من أمام سيارته للجهة الأخرى وقال :
-قالت لنـا أن الموضوع بدايـته من حكم الانجليز لمصـر و ..
ثم نظر إليها ضاحكًا متراجعًا عن حديثه:
-حاسس إنه كلام كبير ومش لايق عليّ .. هخلي أحلام تحكي لك براحتها ، هتجيب لك أصول العزايزة من طقطق لهارون .
ضحكت ليلة إثر سماعها لـ اسم هارون فقالت مقترحـة :
-هيثم ، ممكن نتفق على حاجة ؟!!!!
رد مُرحبًا بعرضها متحاشيًا مصطلحاته الصعيدية قليلًا كي يسهل عليها فهم الكلمـ.ـا.ت :
-أنا هنا عشان انفذ كُل اللي تؤمري بيه …
•••••••••
~مرسى علــم .
وضعت بذلتـه الميري المكوية على طرف السرير وهي تخفي عبراتها التي تتقطر من عينيهـا بتلك اليد المرتجفة تزيح عن وجنتيها آثار الدmـ.ـو.ع .. خرج هاشم من الحمام بعد ما فرغ من غُسلـه الصباحي خرج كي يستعد للعودة لوحدته العسكرية قبـل الرجوع لبلدته .. شرع في ارتداء ملابسـه فتراجع عند رنيـن صوت تليفونه ، التفت إليه و رد بنفس النبرة المتحمسـة :
-رؤوف باشـا ..
أتاه صوت الرائد رؤوف ابنه عمه والذي يكبره بعامين بعد ما فرغ من ارتداء بذلتـه بأحد المساكن العسكرية بالجيش ؛ موبخًا بنبرته الفُكاهية :
-هاشم بيـه لو مفيهاش إزعاج في تأخير ساعة و فيها جِزا ..
قهقه هاشم ضاحكًا وهو يدنو من تلك التي تتحاشى النظر إليه منغمسة في تجهيز حقيبته :
-والله يا رؤوف ياباشا شوف الجِزا اللي استحقه وأنا معاك ..
ألتف ذراعه حول خِصر الفتـاة المنحية وهي ترص ملابسه البيضاء، فتلاقت أعينها الباكية بأعينه المتأرجحة بصمت وتتساءل عن سبب شحوب وجهها ، اكتفت بوضع رأسها الصاخب على صدره وعاد ليُجيب على سؤال رؤوف الحائر :
-همـ.ـو.ت وأعرف بتغطس فين باليومين وتقب فجأة .. وحياة صفية حاسس أن وراك مصـ يـ بـة!!
ضم جميلتـه لحـ.ـضـ.ـنه وقال متغزلًا بمزح :
-بس مصـ يـ بـةكيف القمـر !!
ألجمه رؤوف بحذر :
-والله ما مطمن لك .. ساعة بالكتير وتكون قِدامي عشان نمضي طلب الأجازة .. ونشوف مصايبك اللي هتودينا ورا الشمس .
بدون أي إطالة أنهى مكالمتـه مع رؤوف الذي سيشاركه سفـره للعودة لنجع العزايزة .. رمى الهاتف من يده فوق الأريكة وألتفت لتلك الباكية بحضـنه فسألها بلفهة وهو يمسك بذقنها ويرفع وجهها إليه :
-ما أحنا كُنا حلوين !! ليـه الدmـ.ـو.ع دي !!
انبثقت دmعة من طرف عينيها وهي تشكو مخاوفها :
-قلبي مقبوض أوي من الأجازة دي يا هاشـم .. مش حابة أنك تنزل ، حاسة في حاجة هتحصـل .
احتوى كفها المرتعش وبيده الاخرى مسـد على شعرها بحنانٍ ، فقال مواسيًا :
-أنتِ بس اللي مش عايزاني اسيبك وأمشي .
تنهد بحرقة وهي تتحسس نبض قلبها ، لتُجيبه بصوتها المهزوز :
-لا يا هاشم المرة دي قلبي مش مطمن ، في حاجة هتحصـل ، حاسة بحاجة هتاخدك من حـ.ـضـ.ـني .. بلاش تنزل البلد قولهم عندي شغل وخليك معايا .
عارضتها بلُطفٍ بعد ما قَبل كفها ؛ مستردًا أوصوله الصعيدية :
-ودي تيجي بردو !! محضرش فرح أختى ؟؟ أومال مين هيطلع عينين العريس .
أومأت متفهمة ولكن بدون اقتناع ، فتوسلت له :
-طيب عشان خاطري خليك معايا كمان شوية بلاش تنزل دلوقتِ .
عقد حاجبيه وقال مداعبًا ليُلطف الأجواء المشحونة :
-ورؤوف هيصدق ما يلاقي يكتب فيّ مذكرة ولا أعرف احضر فرح هيام الغلبانة ولا أشوفك تاني .. وأبقوا هاتولي عيش وحلاوة .
بابتسامة متقنة إخفاء حـ.ـز.نها قالت وهي تجلي حلقها :
-تمام يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك ، وكلمني على طول ، ولما أكلمك ترد يا هاشم متقلقنيش عليك .
النظرة الواحدة منها لا تساويها إلا القُبل .. قُبلات سقطت للتو من شجرة كرز يغرف منها كما شاء له .. خديها الوردية التي زينهـا بثمرات حـبه لصاحبة الشعر الغجري والعيون البُنيـة التي جعلت قلبه يتمرد على قبيلتـه .. لم يتجاهل تلك الشفاة المرتعشة التي ضمهـا كي تهدأ ، وكان النصيب الأكبر ليديها التي خُدشت من الحياة فجاء حاملًا باقة من القُبل ليعتذر منها .. فهمست له بصوت لاذع وهي تبتعد عنه مُجبرة :
-حبيبي يلا عشان تحلق شُغلك .
قرقرة بطنه معلنـة جوعه لجميلتـه ، لم يسمع ببُعدها عنـه بل واصل سيـل حبه الذي بدأه معها ، فذكرته قائلة :
-هاشم ،و رؤوف هيكتب فيـك مذكرة !
-يكتبها على أقل من مهلة .
إن جاء سُلطان الهوى ، فكُل أوامره نافذة ، فاضت منها الأوهام فأستقبلته برحب ربما يكون عنده دواء قلبها المتشائم هذه المرة .. عانقته وهي مُغرمة بـ رحابة الروح التي بين قلبين جمعهما القدر ، أقبل عليها بشوقه و أتت إليه محملة بأشياء غير مفهومة ليُترجمها ، أتت لتنفض أتربة القلق من فوق روحها ، أتت بطمع كي تحمل ما يمكنها حمله من لحظات قُربهم الشحيح ، أتت منبهرة بأسلوبه وكيف يحاول جاهدًا أن يعوضها عن أيام الغياب .. مد لها يدًا ، وقلبًا ، وأذنًا تصغي لها دائمًا ، حتى أحبته وأحبت الحُب بهِ ..
••••••••
~قصـر العزايزة .
وصلت عجلات سيارة هيثم لبوابة منزلهـم ، ما فتح له أحد الخفر ، فأخرج رأسه من النافذه متسائلًا بحسه الأمني :
-مين جوه ..؟!
أجابه الخفير على الرحب:
-الحج خليفة ، وهارون بيه لساته طالع .. والشيخ هلال ما ملمحتوش من ساعة ما جيت .
سحب نفسه وعاد لقيادة سيارته في دهليز البيت المرصوف بالبلاط حتى وصـل لمدخل البيت ، صف سيارته وهو يمتد بصره للخارج من نافذتها مُشيرًا لها :
-اللي قاعد هناك ده أبوي الحج خليفة .. واللي لابسه أبيض دي أحلام .. تنزلي متقوليش ولا حاجة سيبيني أنا اتكلم .
هبط هيثم من سيارته بخفة ثم تابعته ليلة بخطواتها المُثقلة بالغرابة والفضول وهي تتفقد تفاصيل بيتهم الأشبه بالريف الأوروبي .. بخطوات واسعة وصل هيثم لأبيه الذي انحنى وقبل يده وألقى التحية عليه ، ولم ينسى أحلام الجالسة بجواره ، قبل رأسها ثم أشار لليلة أن تقترب منهم .. همس بأذان أحلام وهو يجلس على حافة مقعدها البلاستيكي ويلفح كفتها بذراعه متوسلًا :
-أحلام ، غطى عليّ قُصاد الحج خليفة وخليكي جدعة المرة دي !
تفحصت أحلام تلك الفتاة الأشبه بفراشة متنقلة تقترب إليهم ، مرتدية جاكت باللون الأبيض بأكمام طويلة وتحته سترة بيضاء قُطنيـة وبنطال من الجينز الأزرق ولم تنسى ذلك الوشاح المنقوش الذي يحاوط رقبتها .. فطالعت هيثم بمزاح وهي تشـ.ـد أذنه :
-أنت متعرفش تيجيلنا ويدك فاضية أبدًا !! مين دي ؟!
توسل لها ضاحكًا :
-غطي عليّ أنا في عرضك .. هيثم حبيبك .
ثم وثب من جوارها وقدm ليلة لهم :
-يا جح خليفة ، دي المذيعة ليلة جاية قنا تصور برنامج ، وأنت عارف أحنا مش عنقصروا مع ضيوفنا واصل !
رفع خليفة جفونه المنكمشة ببطء وهو يفصح تلك الغزالة التائهة التي تقف أمامه فأومئ مُرحبًا :
-يا مرحب يا بتي !
برق لها هيثم أن تنحني وتُقبل يده لكنها هزت كتفيها بجهلٍ تام واكتفت برد التحية ببسمة تائهة:
-أهلا بحضرتك يا عمو الحج .
كادت أن تُبرر سبب زيارتها المفاجئ ولكن رمقها هيثم مندفعًا بالحوار كي لا تُفسد مخططه :
-ودي أحلام اللي حكيت لك عنها .
نظرت لها بفرحةٍ :
-أزيك يا طنت ؟!
رحبت بها أحلام :
-نورتينا يا بتي .. تعالي أقعدي ،واقفة ليه !
تدخل هيثم موضحًا بدون اتفاق معها :
-هتقعد وهترغي كتير يا احلام ..
ثم رمق أبيه مستئذنًا :
-بعد إذنك يا حج خليفة ، هنضايفوا الأستاذة عندِنا كام يوم لحد ما تخلص .. بدل قعدة الفنادق .. أيه قول لك !!
تدخلت ليلة معترضة باندفاع :
-لا لا !!!!
ألجمها هيثم بنظرة فجعلها تبتلع بقية الكلمـ.ـا.ت بحلقها ، نظر خليفة لأحلام بإعتراض على طلب ابنه، فعارضته أحلام قائلة بترحاب :
-فوق راسنا يابتي ، تنورينا ، بيت خليفة العزايزي مفتوح للكل .. ولا أيه يا حج خليفة !
ثم رفعت جفونها نحو هيثم الواقف خلف أبيه والذي يُرسل لها قُبلة بالهواء متحمسًا :
-ينصر دينك يا أحلام يا عسل أنتِ ..
~بغُرفة هارون .
خرجت صفيـة من الغرفة بعد ما قلبتها رأسًا عن عقب وأخرجت الشيء الخارج عن الدين الذي وضعته زينة تحت وسادته ، ظلت تبحث وتُفتش بجميع أركان الغرفة ربما تعثر على شيء آخر حتى تركت الغُرفة لفردوس آمرة :
-الأوضة دي تتغسل بمية وملح يا فردوس ، وهارون لو سألك قوليلو عنضفوا .. وبعد ما تنضفي تبخري وتشغلي فيها قرآن .. خلي عُقدة الواد تتفك .
ثم غمغمت متوعدة :
-أما وريتك يا زينـة !!
ما هبطت على درجات السُلم فوجدت زينـه أمامها ، كزت على فكيها وقالت مغلولة :
-جيتي لقضاكي يا زينة !!
استقبلت عمتها بثغر مبتسم وهي تنزع وشاح رأسها كعادتها :
-يسعد صباحك يا عمتي .. جمعـة مبـ.ـاركة عليكي ..
هرولت صفية لتمسك بذراعها بقوة وتسحبها تحت السُلم بملامحها الغاضبة ، غمغمت زينة بذهول:
-مالك يا عمة !! أنا عملت ايه ؟!
رفعت تلك الورقة المطبقة أمام عينيها :
-أيه ده !!! أنتِ هتعقلي مـ.ـيـ.ـتة ؟! أعمل فيكي أيه ؟!
تراجعت زينة مبررة وتدافع عن نفسها :
-والله يا عمتي ما فيه أذية لهارون متخافيش .. أنا كنت عايزاه يتجوزني بس .
قرصتها بذراعها بغلٍ :
-فين عقلك عايزة أفهم !! حـ.ـر.ام تروحي للناس دي يا بتي .. أعقلي وحطي عقلك في راسك .
ثم صاحت بوجهها متحيرة :
-طيب اعمل فيكي أيه !! أمـ.ـو.تك وأخلص منك ومن همك..
قبلت عمتها بلهفة وهي تقسم لها بإنها لن تُكررها مرة ثانية ، ثم طوت دفتر وعودها وفتحت دفتر توسلاتها :
-بس جوزيني هارون ، رايداه وحباه يا عمتي .. أنا مش عايزة اتجوز غيره .. عارفة لو متجوزتوش همـ.ـو.ت لكم نفسي .. ويبقى ذنبي في رقبتك .
ضـ.ـر.بتها صفية على رأسها كي تصمت :
-طب اظبطي ولمي نفسك ، وبكرة العشية جايين نطلبوا يدك لهارون ..
كادت أن تصيح غير مصدقة فوضعت صفية كفها فوق فم زينة كي تصمت محذرة :
-وكتاب الله لو حد شم خبر ما هجوزك الواد يا زينـة .
لمعت الفرح ازدهرت بمقلتيها وهي تكتم نفسها بكلا كفيها وهي تهز رأسها نافية محاولة استيعاب الخبر ، ثم عادت متسائلة بعدm تصديق وهي تجلي حلقها :
-يعني هو هو قال لك بلسانه إنه رايدني .. رايد زينة ياما .. أحب على يدك يا عمة قوليلي قالها كيف وفرحي قلبي .
جاءهم صوت هلال متحمحمًا :
-أحم يا ساتر .. راسك يا زينة!
قال جملته وهو يدور للخلف كي يتحاشى النظر إليها ، فـ ردت مستنكرة تحت سطو فرحتها :
-مالها راسي يا هلال !!
لم يرفع جفونه المتدلية بالأرض وقال ممتعضًا :
-غطيها .
مالت على مسامع عمتها متهامسة :
-هو لساته معرفش إني هبقى مرة أخوه !!
-تعالى أهي غطتها ..
فقرصتها عمتها بغل جعلتها تتأوه صارخة ، فتدخلت صفية متسائلة حول ثوبه الأبيض:
-مش لسه بدري على صلاة الضهر ؟!
دار هلال لعند أمـه ولم يرفع رأسـه صوب زينـة التي تهذي من شـ.ـدة الفرح ؛ فقال بسماحة وجه :
-إن الله يُحب أن يأتيه عبده قبل أن يُناديه ..
ثم قبل يدها وأتبع :
-ناقصك شيء يا أم هارون !!
-ناقصني لمتكم حوليـا يا حبيبي .. روح ربنا يرضى عنك دنيا وآخرة ياابن بطني .
كاد أن يجيب أمه فتدخلت زينة قائلة بفرحة الأبله :
-قوليلو يا عمه إني هابقى مراة أخوه ..
عقد هِلال حاجبيه مطالعًا أمه التي تضـ.ـر.ب كوعها بجنب زينة كي تصمت :
-متحطش في بالك يا حبيبي ، زينة اتهطلت !!
هنا جاء هيثم يتراقص من بعيد وهو يُغني بحماس ” فكهاني وبحب الفاكـهة ، وبمـ.ـو.ت في الموز والمانجا ” ، قفل هِلال جفونـه متنهدًا بنفاذ صبر على عبث أخيه :
-يااااا لله !!
ثم دار إليه واعظًا وعلى الجهة الآخرى تتوعد صفية لزينة بأنها ستعيد تربيتها من جديد وستنفذ تهديدها ؛ أردف هِلال بنبرته الهادئة وهو يُرشـ.ـد أخيه :
-يا حبيبي رطب فمك بذكر الله والصلاة على الحبيب ، هذه الكلمـ.ـا.ت تُصدي القلب وتطفئ الروح .
عبر هيثم عن فرحته قائلًا بمزاح :
-بذكر نعم ربنا يا جدع !! فيها حاجة دي ؟!
ثم لف ذراعه فوق كتفه وقال بحذر :
-وبعدين لو عرفت مين بره هتعذرني .. ورب الكعبة أخوك معذور ..
تدخلت صفية في حوارهم :
-ما تُصلب طولك يا واد أنتَ !! شكلك من الصبح مش مريحني ، وعامل عملة !! قول لأخوك نلحقوا نلموها !!
ترك أخيه واقترب من أمه وهو يوشوش لها بفرحة عارمة :
-عارفة مين بره !!
ردت بجهلٍ :
-هو في حد بره غير أحلام وأبوك !!
هام مُعبرًا عن فرحته بمجيئها :
-والقمر يا صفية !
كاد هلال أن يرحل ولكنه تمسك بيده كي يتراجع:
-على فين ،أحضرنا يا مولانا …
ثم نظر لأمه وأكمل :
-ولدك البكري إمبـ.ـارح كنا جايبينه من القسم ،بس كان قاطر حتة بت ، فلجة قمر يا صفية .. حتى اسألي الشيخ هلال!!
جحظت عيناي هلال غير مصدقًا إثر تمادي أخيه في الوصف ، ندبت صفية على صدرها ما الذي يفعله ولدها بالقسم :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال أخوك كان يعمل أيه فى القسم !
فتابعتها زينة بنفس الصدmة ولكن كان خــــوفها يدور حول فكرة اقتراب فتاة منه :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال،مين البت دي !!
رمقهم هلال بذهول حتى باغته هيثم قائلًا :
-قول شهادة حق يا مولانا ! أوصف ابداع ربك في خلق الجمال ! واحكي لصفية عن الآنسة ليلة .
تحمحم هِلال معترفًا :
-لم أسمع إلا صوتها .
هيثم مسهبًا في الحوار :
-طب احكي لصفية على صوتها !!
جحظت عيناه مذهولًا من وقاحة أخيه المعتادة :
-لا يجوز ، صوت المرأة عورة .
-ليـه هو صوتها خالـع براسه !!
لن يليق بسفههُ إلا الشتائم ، عض هلال على شفته وهو يلعنه قبل أن يفقد السيطرة على نفسه :
-ويحك أيها السفيه !!
ثم نظر لأمه :
-بالإذن يا أم هارون ..
تمسكت زينة التي جن جنونها بمرفق هيثم :
-مين البت دي يا هيثم !
سحب ذراعه مُعارضًا :
-بس بس متقوليش عليها بت الأول !!
اغــــرورقت الغيرة من عينيها :
-وعايزة أيه اللي مـ.ـا.تتسمى دي من هارون !! انطق يا هيثم ؟!
فتدخلت صفية مستفسرة :
-أي حكايتك أنتَ وأخوك يا هيثم ، اتكلم يا واد !!
دmدm بصوت مسموع بينهم بتفاخر :
-الاسكندرانية اللي كلمتك عليها امبـ.ـارح ، مستنياكي بره ومستنية تاكل حمام .
اندفعت زينة بإعتراض :
-جاتها حِمى في بطنها !!!
انكمش وجه هيثم معارضًا :
-شالله أنتِ وهي لا !! دي خسارة في العيا .
تدخلت صفية لتتأكد :
-أنتَ يا زفت !! صوح جايب البت دي بره .
-وهتقعد معانا أسبوع بحاله .
صاحت زينة بقلة حيلة :
-عمتي  عـ.ـر.في هيثم أن هارون هيخطبنى ..
لقد فاضت رأس صفية من تحمل رصاص عبثهم ، فانفجرت بوجه كل واحد منه على حدى :
-يخربيت أمَك _ثم نظرت لزينة مشيرة بكفها بغل _على بيت أمِك أنتِ كمان .
وتركتهم ورحلت وهي تثرثر بصوت مسموع :
-يارب أنتَ اللي عالم بحالي ، ربنا بيدي المـ.ـجـ.ـنو.ن عشان العاقل يتجنن .. كان مستخبي لي فين كل ده بس يا ربي !!
••••••••••
-طيب أهدى يا شريف وفهمني !!
أردفت نادية التي فاقت من النوم على صوت رنين جرس المنزل المتكرر بعد ما فقد شريف أمله أن ترد عليه بهاتفها .. فكرر شريف جملته بغـــضــــب متزايد :
-بعتت العسكري يوصل ليلة على المطار ، لقى الهانم ركبت جوة عربية هيثم العزايزي ومعرفش راحت على فين !
ثم رمى السيجارة بفمه كي يفرغ بها طاقة غـــضــــبه :
-عمتي أنا لحد هنا وجبت الناهية مع ليلة !! هو سامح الجوهري يدلع ويبوظ وأنا أشيل !!
زفرت نادية بضيق وهي تسب ابـ.ـنتها سرًا ثم عادت متسائلة :
-كلمتها على تليفونها !
-طبعا كلمتها مش بترد !!
ثم صاح ليشعل الأمر أكثر :
-عمتي العزايزة دول جماعة شمال ونوش وكل شُغلهم شمال !! وبـ.ـنتك كمان رايحة لهم برجليها !!
تسرب القلق لقلب نادية ثم قالت :
-طيب والحل يا شريف !! أنت هنا في اسكندرية ازاي ممكن أوصلها ؟! شريف ، خد البوكس وروح هاتها من بيتهم عشان البـ.ـنت دي قربت تجنني وحسابها معايا لما تيجي !!
رد بحزم :
-ساعتين بـ.ـنتك لو مردتش على تليفونها هروح أجيبها من قلب بيتهم ومحدش هيهمني .
••••••••
~قصـر العزايزة .
-هيثم ، أنتَ طلعت بحوار البيات ده منين !! أنا هرجع الفندق ، مامي مش هتوافق .
تابع خُطاها :
-ياستي أديني حق الفندق وأنا راضي .. بس مش هينفع تروحي ، مندرة الضيوف مفتوحة للكُل ، وكمان تحضري معانا فرح هيام!!
ضـ.ـر.ب كف على الأخر :
-هيثم ، أنا أول مرة أقابل حد أجن مني ..
مال نحوها بإعجاب :
-عشان ت عـ.ـر.في بس إننا فولة وانقسمت نصين !
تحمحم بحذر وهي تسبقه الخُطى ؛ وتنبهه :
-أنتَ على طول كده ناسي أعرافكم ! فوق .. دا أنت أخوك العمدة .
جهر ضاحكًا :
-طب بتفكريني ليه !! سبيني أحلم!!
وصلت ليلة لأسطبل الخيول مع هيثم الذي تولى مهمـة إرشادها بالمكان ولكي ينقذها من شرور زينـة التي فقدت عقلها عند رؤيتها ، دخلوا من باب الياخور وهي تُراقب الكثير من الأحصنة .. كل منهم بمنزله الخاص ، لم تلتفت للأحصنة التي يتكون لونها من الأسود والبني ، بل جُذبت من ياقتها لذلك الفرس الأبيض كالغيـم و المنفي عن
كل الخيول كأنه رئيسهم ، ركضت لعنده وهي تُشيد بجماله وهي تُداعب شعره :
-تحفه!! الخيل ده يجنن .
اقترب منها وقال :
-دي ” غيم ” فرس هارون .. وابعدي عنه عشانه مـ.ـجـ.ـنو.ن كيف صاحبـه .
اسمه حرك نهر فضولها وقالت بفلسفة :
-مفيش خيل مـ.ـجـ.ـنو.ن وخيل هادي ، بابي كان بيقول الخيل بيحس بقلوبنا وبيعاملنا على أساسها .
ثم فتحت الباب الحديدي ودخلت منه متجاهلة تحذيرات هيثم لها :
-لا يا ليلة متتجننيش .. محدش بيعرف يسيطر عليه ، اطلعي عقول لك .
شرعت بالتعامل مع الخيل كيفما علمها والدها حتى كسبت ثقته ، كان غيم هادئًا على عكس عادته ، مُرحبًا بلمساتها الحنونـه وكأنه كان ينتظرها عنـ.ـد.ما أحس بقلب صاحبه الذي ألتقى بها من غيره ، شرعت أن تروي عليه قصـة خيلها القديم وتحدث الخيل وهي تُطعمه براحة كفها :
-تعرف إني خوافة جدًا ومستحيل أقرب من أي حـ.ـيو.ان ، لحد ما بابي كـ.ـسر جوايا الخــــوف من ناحية الخيول ده وعرفني على الخيل بتاعه كان اسمه “حلم ” حبيته جدًا ، واتعلقت بيه أوي .. بس للأسف من زعله الشـ.ـديد على بابي هو كمان اتوفى بعده بأسبوع .. أنتوا الاتنين تشبهوا بعض جدًا ، كان أبيض زيك ..
ثم نظرت لهيثم الذي يستمع لها باهتمام شـ.ـديد وهي تضع السياج فوقه :
-أنا ممكن أركب !!
أبي هيثم بإصرار :
-لا ، استنى لما هارون يعاود ، غيم محدش بيعرف يتعامل معاه غير هارون ده مدبوب .
اسمه بث وميض العناد بصدرها وقالت بسخرية وهي تتأهب لركوب الخيل بعد ما فكت رباطه:
-هارون أخوك ده مبيعرفش يتعامل مع بني آدmين !! هيتعامل مع أحصنه ..
ثم أتبعت بثقة وهي تستريح فوق ظهر الحصان :
-أنا هعرف اتعامل كويس ..
ثم شـ.ـدت اللجام وتحركت فندب هيثم على وجهه وهرول ليخرج حصانه جاهرًا وهو يقفز فوق ظهره :
-يا وقعة سودة !! هارون هيطين عيشتي !!
صعد فوق حصانه ثم لحق بها حتى أصبح موازيًا لها قائلًا :
-لفي لفتين ونرجعه عشان هارون بيتعصب لما حد يقرب من غيم .
مالت على رقبة الحصان وهي تداعبه براحة كفها :
-أنا وغيم بقينا صُحاب خلاص !! مش كده يا غيم .
ثم اعتدلت مرة ثانية وسألته :
-هارون ده أخوك ، فين دلوقتِ !!
شـ.ـد لجام حصانه ليقترب من حصانها أكثر :
-في المحجـر .
-ده قُريب من هنا !!
أشار نحو الطريق الخلفي للمنزل الذي يطل على الجبل فقل :
-لو دخلنا من هنا ، عشر دقايق ونكون هناك ..
دارت بحصانها جهة ما أشار دون أن تلفت نظره عن رغبتها في الذهاب إليـه ، فقالت لتلهيه بالحديث :
-أنا جات لي فكرة برنامج ، هعمل برنامج واسميه “حكاوي ليـلة” .. بس لسه مش عارفة هحكي أيه وممكن المكان هنا يساعدني أزاي !!
راقت له الفكرة ثم أكمل مقترحًا :
-عارفة مين ممكن يساعدك بجد ، هارون أخويا .. ده قاري كل كُتب التاريخ والقانون .. الجدع دmاغه ذرية وهتعجبك .
تأرجحت عينيها بمكر :
-لا مش عايزة حاجـة منه .. وبعدين هارون ده أنا مش عايزة اتعامل معاه خالص .. خلينا بعيد .
التوى ثغر هيثم بمزاح :
-ومفيش أبعد من إكده !! دا أنت راكبة حصانه ..
تجاهلت تلميحاته ثم قالت متحدية :
-نتسابق !!
راقت له الفكرة على الفور :
-ما بلاش ، هتخسري .
شـ.ـدت لجام الفرش وانطلقت كالصاروخ الجوي ، فلحق بها هيثم ، تارة تغلبه ، تارة يغلبها .. أجواء من المرح تناسب فيها أمها ورفقاتها وشريف واسكندرية تمًا ، حتى أنها تناسب أمر أقراصها المهدئة ..
على الجهة الأخرى يقف هارون بين العمالة يشجعهم بصوته القوي وهو يصفق آمرًا :
-شـ.ـدوا حيلكم يا رجـ.ـا.لة ، عايزين نحملوا العربيتين دول قبل الصلاة .
ثم ألتفت للوراء بعد ما أخذ نفسًا من سيجارته ، أجرى مكالمة تليفونية وعينيه تجوب بالمكان بحرية كمن يبحث عن شيء لا يعلمه .. رد عليه هاشـم الجالس مع رؤوف بالوحدة :
-يا هِرن ، كيفك ؟!
تحرك ببطء نحو سيارته المصفوفة :
-هو علمك الزفت ده !! فينك !
ارتشف رشفة من كوب القهوة المتروك على المكتب وقال :
-قاعد مع رؤوف ولد عمك اهو ، وبالليل هنتحركوا على قنا .
جهر رؤوف الذي يشكو من هاشم :
-أخوك غلبني يا عم هارون .. لولاك بس أنا كنت هحبسه وملهوش أجازات عندي.
فتح هاشم مكبر الصوت ؛ فأردف هارون قائلًا :
-مزعلك ليه هاشم باشا!
-جاي الوحدة متأخر ساعتين يا عمدة ! لولا عارف وضامن هاشم كُنت قولت الواد ده متجوز من ورانا .
رد بصرامة :
-اللي اتعود يرفع راس العزايزة عمره ما ينزلها واصل ..هاشم ده خليفي في الملاعب .
تحمحم هاشم ليغير مجرى الحديث قائلًا بتفاخر :
-تربيتك يا هِرن .
-أول ما تطلع على الطريق طمني يا هاشم وخلي بالك من روحك .
رُفعت جفونه لبعيد فلمح طيف ” غيم ” شرد دون الالتفات لسؤال هاشم الذي لم يجيب عليه وقال بإمتعاض:
-هاشم !! أقفل دِلوق .
-في حاجة يا هارون !!
رد بإختصار وهو يُحاول يركز بالرؤية :
-في حد خرج غيم من بيته .. هشوف وارجع لك .
ثم عاود الاتصال بسرعة بالمنزل فردت عليه صفية التي سألها على الفور:
-هو حد طلع غيم يا ما !!
ردت صفية بتوجس وعدm تأكد :
-وه !! تلاقيها البت المصراوية وهيثم المـ.ـجـ.ـنو.ن !! بس غيم واعر كيف طلعوه ده يا ولدي !!!!
-بت مين دي!!
رمى السيجارة من يده عنـ.ـد.ما لمحها من بعيد وهي تتدلل فوق حِصانه دهس عود التبغ بقدmه وقال متوعدًا:
-هيثم البغل !!
ليلة الـ جابوك مش فايتة !!
كفى ووفى نزار عنـ.ـد.ما اختصـر جميلتـه بـ :
<-كم هو رائع أن تصبـح إمراة ” قضيـة ” !! >
هل تعلم أن للقلب قوانينه الخاصة التى لا تُناسب أراء العرف والقانون ، ومن نسل اللقاء الأول خُلقت قضيتـه معها ، وبدأت أول مرحلة لكونه متهمًا لدى سُلطان الهوى و الذي أصدر أمرًا بضبط وإحضار قلوبهم التائهة في خضم الحياة ودروبها ليجمعهما تحت غيمة القدر الذي انتظرهما أربعة وثلاثين عامًا .. فما هي القضية بعد !!
وكيف سيتعامل مع قضيته رجل القانون وحامي ومحامي أعرافهم !!
وما سيكون حكم سُلطان القلب يا ترى ؟!
#نهال_مصطفى .
••••••••
” قضيـة أنتِ ”
ما أن تأكد هارون من هوية أخيه وتلك الفتاة التي ساقها القدر لطريقه دون إرادة منه .. واليوم باتت فوق ظهر حصانه فدوى غـــضــــبه برأسه فجعله يستقل سيارته كالمـ.ـجـ.ـنو.ن وينطلق إليهم وهي يتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه … كانوا على مسافة لا بأس بها قطعها منحدرًا من أعلى بسيارته الهمر في أقل من دقيقتين .. وعلى الجهة الأخرى ؛ نصحها هيثم الذي يصدر ظهره للجهة المُقبل منها أخيه بنبرة الخــــوف التي تتسابق بحلقه:
-كفايانا ..تعالي نعاودوا قبل هارون ما ياخد باله مننا .
شعور الحرية بسط ذراعيها بالهواء كالعصفور المتحرر للتو وهي تستمتع بالنسيم البـ.ـارد الذي يداعب ملامحها .. تنعم بأول لحظات الحرية بدون أوامر أمها الصارمة .. تحكمـ.ـا.ت شريف المقيدة لحريتها دائمًا .. ملأت صدرها من نسمـ.ـا.ت الحرية التي لم تتنفسها منذ أربع سنوات .. رفعت جفونها إثر جملة هيثم التي عكرت صفوها وقبل أن تنطق ببـ.ـنت شفة عقدت حاجبيها بفضول:
-في عربية جاية علينا من هناك..!
ترنح هيثم فوق حصانه ليديره للجهة التي تٌشير إليها ومن أن لمح سيارة أتيه ناحيتهم و بتلك السرعة التي جعلت عجلات سيارته تتعارك مع حبات الرمل المتطايرة حولها .. فهتف مشـ.ـدوهًا :
– ياوقعة سودة !!ده هارون .
خطى حصانها خطوة وهي تتمتم بحماقة :
-أحيــه !! اتأفشنا ؟!
-على قولتك أحيه !بالإذن أنا يا ليلة نتقابلوا على سفرة الحمام ده لو لينا عُمر .
كرر كلمتها بنفس النبرة وهو يأخذ وضع الانطـ.ـلا.ق والهرب ..فألتفتت إليه بدهشة :
-أنت هتروح فين ؟!
-مش هقدر أواجه هارون وأنا جعان .
شـ.ـد لجام حصانه وفي لمح البصر ذاب من حولها كذوبان فص الملح بالماء .. وحلت محل أقدام فرسه عجلات سيارة هارون التي صنعت نقشًا دائريًا حولها وهي تتفقد المكان بكل صوب وحدب وخلوه بعد تخلي هيثم عنها فلم يبقى أمامها غيره .. ثار غيم عند رؤية صاحبه .. تمسكت بكل قوتها وهي تهتف له أن يهدأ وتترجاه أن يُكف غـــضــــبًا .. تصارع كي لا تسقط من فوقه تشبثت كفوفها باللجام وهو يثور هنا وهناك مصدرا صهيلًا مزعجًا .. هبط مندفعا من سيارته متناسياً أمر بابها المفتوح وأقبل بإقدام نحوه وهو يصيح باسمه محاولا لمس وجهه :
-غيم غيم اهدا .. خلاص .
تمسك برابطة عنقه بقوة وأخذ يمسح على رأسه كي يكف عن جنونه ونوبة الفزع التي أصابته .. بدت بوادر الطاعة من الحصان فهبطت ليلة بسرعة من فوق ظهره بمهارة وقالت ساخرة قبل أن ينفجر بوجهها :
-سبحان الله .. مش بس أنا اللي كل ما أشوفك بتعصب .. واضح حتى حصانك مش طايقك وأنت محتجزه بالقوة .
كانت جبهته مسنودة على جبهة حصانه الذي يداعبه براحة كفه ويتنفس معه ويشعره بوجوده كي يهدأ .. اتسعت عينها وهي تحاول فهم ذلك السر والرباط القوي بينه وبين حصانه كاثنان رفاق يتقاسمان الهم معًا .. كان ساكتاً صامتاً لا أحد يعلم من بداخله غير ذلك الحـ.ـيو.ان الأليف الذي هدأ تماما وانصاغ لشكواه .. رفع هارون رأسه عن فرسه سحبه خلفه بهدوء وقيده بمؤخرة سيارته .. تابعت خُطاه بعد ما تناولت فاتح شهية للكلام معه وأتبعت بسخرية :
-واضح كمان أن الندالة وراثة في عيلتكو !!
ثم غمغمت بصوت مسموع مبطن بالسخط :
-هيثم الندل سابني وهرب !!
ثم أشاحت بمقلتيها التي تقصده بالحديث وأكملت بنفور وهي تٌرجع خصلة شعرها المتطايرة للوراء:
-مش هيجيبه من بره يعني !!أخوه سبق وعملها وسلمني تسليم أهالي في القسم .
نفر أنفاسه بغـــضــــبٍ محاولًا كتم مشاعره الثائرة وهو يكور يده على جمر التوعد لهثيم .. فقال من وراء فكيه المنطبقين:
-انت ايه اللي جابك !!
ردت بتلقائية :
-جيت مع هيثم .
قاطعها بتلك النبرة الغاضبة التي جعلتها تتراجع خطوة للوراء وهتف مستخدmًا مهارته القانونية ودقة تعبيراته :
-بقول ايه اللي جابك مش مين الزفت اللي جابك !!
لوحت بكفها وهي تنظر على يمينها ويسارها وتفحص المكان حولها متجاهلة سؤاله هي تخطو بعبث أمامه :
-أنا اروح أزاي من هنا ؟!
-استنى هنا !
مسكها من مرفقها ولفها كالحلزون حوله فاتخذت من سيارته مسندا لظهرها شاهقة :
-أنت مـ.ـجـ.ـنو.ن!! ..سيب إيدي .
-شهادة لله أنا ماشوفتش أجن منك !!
كان يطوف الغم والسخط بملامحه ، فأتبع موبخًا وهو يسبح بفضاء عينيها المتأرجحة ،فحانت منها التفاتة سريعة الى عيناه وهو يقول :
-وبعدين قوليلي ، انت كيف تأمني على روحك تركبي مع راجـ.ـل غريب وتجي معاه لإهنه !
امتصت غـــضــــبه هازئة :
-هو ده مش أخوك !!
دmدm مغلولًا من حماقتها:
-أخويا دا رجل ولا رجل كنبة !! أنتِ أي حد اكده يقول لك تعالي تقومي شبطانة و رايحة معاه ؟!!
قال جملته الاخيرة وهو يلوح بكفه بوجهها ،لمعت بعينيها عبرات الأوامر التي هـ.ـر.بت منها بالاسكندرية،الجميع يطـــعـــن بصحة تصرفاتها دوما محل عتاب لكل من حولها .. نفس النبرة المُلامة اغـ.ـتـ.ـsـ.ـبت خلايا مخها .. فقالت مدافعة عن نفسها :
-انا مش عيلة صُغيره عشان تكلمني بالطريقة دي ولا أروح مع أيه حد كده !!
ثانيا ده أخوك، وأنا سبق وركبت معاك ولقيتك محترم ومتربي ، قولت أكيد أخوك متربي زيك!
تلقى جملتها بهزئ :
-مين قالك ان هيثم متربي !
أجابت بفطرتها القـ.ـا.تلة لكل ثعابين المكر بروحها :
-أحساسي ، وأنا بصدقه في كل حاجة .
ارتاد فكره ساحات الحيرة حول تلك الطفلة البريئة صاحبة الجسد الأنثوي المتكامل والتي لا يلفح قلبها دخان غدر البشر فهي ما زالت بعقل طفلة لم تتجاوز السبع سنوات .. هتف معارضًا وهو يشير بسبابته صوب رأسها :
-وعقلك اللي ربنا خلقه ضيف شرف !! ولا مش موجود من أصلو ؟!
-اقولك حاجة ، أنت كمان شكلك مش متربي .. !!
-نعم !!
قطع خطوة لعندها فتراجعت لتصطدm بسيارته بخــــوف مبررة كي تنفذ نفسها من شره بهذا الخلاء :
-مش متربي ازاي تتعامل مع بنات الناس .
فرت من أمامه كفرار غزالة من بطش حـ.ـيو.ان شرس كضحية له ولكن سرعان ما أفشل مخططها وهو يلحق بها ؛ جاهرا:
– جبل وصحرا ..هتهربي فيهم تروحي فين ؟! أنتِ قاصدة تجننيني ؟!
ما يحرض أسهم غـــضــــبه نحوها سوى حماقتها التي جننته أكثر من تصرفات أخيه العبثية .. وقفت أمامه تتأمل ملامحه عن قُرب وهي تٌقايض القدر الذي جمعها به ،فاشتعلت بشهوة إطالة النظر بعيونه البندقية التي تتطابق تمامًا مع لون عينيها الذي تبغضه معترضة ؛ لٍمَ لم تخلق عينيها بلون عيني أبيها الخضراء !!..
لذلك دوما ما كانت تلجأ للعدسات اللاصقة كي تحقق أمنيتها الزائفة كي تصبغ صفة نسب واحدة بينها وبين أبيها .. ولكن من تلك اللحظة وبالأخص عنـ.ـد.ما ألتقت بتلك الأعين البنية اقتنعت بجمال عينيها الذي وصفه لها أبيها مرارًا وتكرارًا ..تحمحمت بخفوت مستردة وعيها الذي شرد معه :
-طيب ممكن متزعقش .. عشان الصوت العالي بيتعبني .
-يبقي تعقلي وتقولي كلام يدخل الراس !
أدرك أنه تمادي في معاملته الجافة .. فزفر ذرات غـــضــــبه وقال :
-مين سمح لك تقربي من غيم !
ردت بلا مبالاة وهي تهز كتفيها :
-أنا سمحت لنفسي عادي ..
-يا صبر الصبر !!
ابتلع جمر غـــضــــبه وجزعه الذي لم يعتاد كتمانه وقال بحنق وهو ينفر بقوة:
-أيه جابك ..؟!
-هثيم !
فانفجرت ضاحكة إثر نظرته التي كانت ستبتلعها بداخله ، فجاءت ضحكتها كالغيم المُمطر على أرض قالحة ..سرعان ما داوت الأمر بخفة روحها ، قائلة :
-بهزر والله ، أنت أصلك بتحقق معايا كإني متهمة عندك ، هو ده كرم الضيافة عندكم !! نتكلم بجد خلاص .
سرت قشعريره إعجاب خفيفة تجتاح جسده ولكنه سرعان ما دفنها برمال الصحراء تحت قدmيه وقال :
-ياريت .. عشان أنا خُلقي جايب أخره ..
شرعت بسرد اتفاقها المزيف مع هيثم والذي عقدته معه حيث استردت شخصيتها الثرثارة التي اكتشفتها معه :
-بصراحة أنا كنت جاية عشان نخلص الحساب اللي ما بينا .. وقابلت هيثم أخوك بالصدفة طبعا .. وهو اللي جابني وعزمني على حمام محشي .. وأنا بمـ.ـو.ت في الحمام المحشي أصلا .. قال لي مامتك بتعمله حلو أوي ، أنت أيه رأيك مامتك بتعمله حلو فعلاً ولا هيثم بيشتغلني !!
بومة تُغرد فوق مسامعه جعلت رأسه كقنبلة موقوتة موشكة على الانفجار .. تمسك برأسه ليدور نصف دائرة حول نفسه ثم عاد لعندها هاتفًا بجزع :
-يا صبر الصبر !!أنتِ ضاربة على الصبح ؟!
ردت بعفوية بحتة :
-فول وفلافل .
-إكمنِ راسك عمرانة !
تمتمت بإعراض :
-ممكن متغيرش الموضوع ؟!
رد متعجبًا وهو يسب هيثم وحياته كلها بسره :
-أنا !!
فأتبع مسايسا وهو يتكئ على مقدmة سيارته بملل :
-متأسف مش هغير الموضوع اتفضلي كملي .._ثم غمغم بتوعد_أما وريتك يا زفت !
دنت منه خطوة وقالت بهدوء:
-لما فكرت طول الليل عرفت أني ليا حق عندك .. وأنت ليك حق عندي .
رد بفظاظة :
-أنا ماليش حقوق عند حد ، عشان بخلصها أول بأول .
ردت بثقة :
-لا طبعا ليك .. تمن تصليح عربيتي يا حضرة .. أنت هتبكشش عليا ولا ايه !
أحس أن الحوار سيطول .. فلجأ للفافة التبغ كي تهون عليه مرارة ما سقط بقعره ..رمى السيجارة بفمه وهم بإشعالها وهو يقول :
-ياستي وأنا مسامح ، بجملة الخساير .. مش عايز حاجة .
-لا طبعا حقك لازم تاخده و
ثم سحبت السيجارة المشتعلة من فمه وألقتها بالأرض :
-وبعدين ميصحش تدخن كده وأنا بكلمك .
رد بجمود لتطاولها واقترافها لذلك الفعل الذي لا يجرؤ عليه أحد ، متقبلا بلاءه الذي حل فوق رأسه بسبب أخيه :
-ده ليه ؟!
بدون منطق أردفت :
-عشان أنا عايزة كده .
رفع حاجبه الأيمن :
-لا ياشيخة ؟!
ثم وقفت أمامه متحجة بحقها عنده والذي لا يُعنيها ربما كان مقصدها أن الكلام معه يطول لا أكثر :
-و .. حقي بقا، أنت هتيجي معايا دلوقتي وتحكي لشريف على كل اللي حصل وتبرأني قدامه .. وكده تبقى الحقوق رجعت لصحابها ومش هتشوف وشي تاني .. قلت ايه ؟!
لم تمهله الفرصة ليتحدث بل أكملت :
-لو أنت مسامح في حقك المادي ، أنا مش هتنازل عن حقي المعنوي يا عمدة .
-إكده هيرجع لك يعني؟!
ردت بعفويتها الفطرية :
-ومين قال لك إني عايزة ارجع له.. أنا بس عايزة أبقي أنا اللي سيباه مش هو اللي سايبني .
حك ذقنه وهو يفحصها باستهزاء من رأسها للكاحل .. حتى تفوه بنبرة هادئة عكس العواصف التي تسكنه ، أشار صوب سيارته :
-شايفة العربية دي ؟!
ردت مستهزئة :
-مش عمية أكيد !
-اركبي فيها ..
نبثت بتوجس خشية من أن يطاوعها وينفذ أمرها الذي اختلقته بدون أي رغبة منها بحدوثه :
-هنروح لشريف ؟!
رد بنبرته الحازمة :
-هتروحي مندرة خليفة العزايزي تاخدي واجبك وترجعي على بلدكم طوالي .. مفهوم .
كادت أن تعارضه ولكنه ألجمها محذرا:
-ولحد ما نوصل مش عايز اسمع النفس .. هاه !!النفس .
•••••••••
-بزياداك يا هثيم ؟! رايح جاي قصادي زي خيال المآتة .. خبر ايه مالك !!
أردفت أحلام جملتها بضيق إثر فرط حركة هيثم الذي يدور حولها كالدبور ..رسى تحت أقدامها وقال بقلق :
-هارون ولد صفية مش هيحلني يا أحلام !!
ثم أكمل وهو يحك بجدار عنقه :
-وأنا كمان استندلت مع البت وخدت توبي في سناني وجريت !! معرفش عملت إكده كيف !! بس هارون تفتكري عمل أيه في البت ، هو مرجعش بيها ليه !!دي مش قده يا أحلام ؟!
وبخته أحلام الجالسة تحت ظل الشجرة وقالت :
-يعني ورطتها وخلعت !! بصراحة حلال فيك اللي هيعملوا هارون .. أنا مش هدافع عنك النوبة دي .
تمتم متوسلا:
-أحلام دانا هيثم حبيبك !! حد بيرفع لك السكر غيري ؟! ده فيه اختراع جـ.ـا.مد نازل السوق قلت لازمًا تدوقيه قبل أي حد .
لوحت بكفها خافية عشقها للحلويات التي دوما ما يستجدي بها رضاها .. وقالت :
-هارون محلفني ماكلش حاجة مسكرة ؟! وبَعد عني عايزة اسمع خطبة الشيخ هلال !
-أنتِ مش جدعة يا أحلام !!
ثم وثب متذكرا:
-الصلاة !! أنا هروح ادس بالجامع ولو هارون جيه وسأل عليا قولي إنك مشوفتنيش .
-مش هكدب لا .. ما أنت زي القرد أهو قصادي .
جاءت زينة حاملة ثلاثة أكواب من الشاي على مائدة معدنية وهي تتدلل بخطاها كعادتها والفرحة ترفرف بقلبها :
-أحلى كوبايتين شاي يا أحلام .. _ثم مدت لها مسبحتها الخشبية_وسبحتك لقيتها جوه ، خدي سبحي وادعي لي ربنا يحقق المراد .
أخذ هيثم كوب الشاي وارتشف منه رشفة فانكمشت ملامحه :
-ألف مرة نقولو يا زينة أنت ما عت عـ.ـر.فيش تعملي شاي .. شاي ديه ولا تكفير ذنوب !!
سحبت منه الكوب الزجاجي بامتعاض :
-طب والله ما أنت شارب !!
ثم ولت لأحلام وهي تشكو منه :
-قوليلو يحترمني شويه يا أحلام !! أنا هبقي مراة أخوه بردك ؟!
ارتسمت ضحكة ساخرة على محياه متعجبا :
-أنا مش خابر فين عقل هارون وهو هيقع الوقعة المهببة دي !!
تفوهت بغل :
-شاهدة يا أحلام !!أول ما يجي هارون هقوله يربيك ..
تمايلت أحلام ضاحكة :
-وهارون مش محتاج توصية !! ده هيعلق رأسه على بوابة النجع .
جلس بقربها متفاخرا بافعاله :
-حلاوتي وانا منكد على حريم أخوي !
ضـ.ـر.بت الغير برأسها :
-حريم مين يا هيثم ؟! أخوك يعرف حريم غيري !!
ضحكت أحلام على جنونها وتمايلت لتبوح بالسر الذي أمنها عليه هيثم :
-الوا.طـ.ـي ورط البت مع هارون وخلع ..
-بت مين ؟! يا وقعة سودة !! البت البحراوية اللي كانت هنا مع هارون لحالهم ؟؟!
ثم نهضت لتقف فوق رأسه وتلكزه بكتفه :
-كلم أخوك شوفه فين !! قوله تعالى دلوق صفية عمتي بتمـ.ـو.ت يلحقها ..اخلص يا هيثم .
جاءت صفية حاملة المبخرة وهي تقرأ المعوذات .. فانكمشت ملامحها إثر كلمة زينة الأخيرة :
-مـ.ـو.ته في قلبك يا بت صالح .. بتفولي علي وعايزة تمـ.ـو.تيني وانا اللي مجوزاكي الواد !! طب قابليني لو شوفي طيفه .
دارت نحوها زينة حاملة قربان اعتذارها :
-ورب الكعبة مااقصد يا صفصف .. يرضيكي هارون مع البت البحراوية لحالهم في الجبل !! لازم حاجة تجيبه على ملا وشه !
وضعت صفية المبخرة على الطاولة وهي توبخها :
-تقومي تمـ.ـو.تيني !!
جثت زينة على ركبتها :
-ينقطع لساني!! بس أحب على يدك كلميه يجي البت دي من ساعة ما شوفتها وأنا مش بالعاها .. بت مايعة وسهتانة إكده
وبختها أحلام وهي ترتشف كوب الشاي بتخابث :
-يمكن عشان أحلى منك .. البت كيف حتة الملبن .
-دي حتي معصعصة وكلها تركيب .
صفق هيثم بمرح :
-حلاوتك يا حُلم وأنتِ ماشية معاي على الخط .. بقول أنا أخوي هارون هيتورط .
ثم وبخ زينة قائلا :
-يابت خفي صفار هتمـ.ـو.تي يخربيتك !!
على الجهة الأخرى ، فرغ هارون من ربط فرسه بمكانه متجاهلا تلك التي ترافقه كظله .. نهض من جلسته متأففا وسار بخطواته الواسعة وهو يتوعد لهيثم جهرا :
-طيب يا زفت ..
ودعت ليلة غيم بعجل كي تلحق بصاحب الخطوة الواسعة :
-باي باي يا غيم !! قبل ما أمشي هاجي أودعك .
توقف أثر جملتها التأملية وبنظرة اعتراضية مع رفعة حاجبه الأيسر .. أقبلت نحوه ركضا فتحاشى النظر لها وأكمل بحزم :
-متقربيش من غيم .. أنت فاهمة ؟!
تمتمت مدافعة عن نفسها :
-مادام مشي معايا وحبني .. أنا وهو بقينا صحاب ، خليك في حالك أنتَ بس .
قهقه ساخرا :
-انت ماشية تصاحبي خلق الله إكده !! لا عاتقة بشر ولا بهايم !
غمغمت بخفوت ولكنه وصل مسامعها :
-وبأمانة نفسي اتعامل مع بشر .. أنا من وقت ما جيت هنا مش بتعامل غير مع بهايم على قولك .
اكتفي بـ.ـارسال نظرة نارية لعندها جعلتها تركض أمامه كالغزالة الهاربة من صيادها بخــــوف وابتلعت كل الكلمـ.ـا.ت المتجمعة بحلقها ، أكمل سيره بالحديقة الخلفية حتى لمح تجمعهم .. غير مسار سيره التي اتبعته بدقة وبخطوات أشبه بالركض حتى ذاع صوته معنفا :
-وكمان قاعد تتساير إهنه .. وحياة أمك ما هحلك يا ولد صفية .
قفز هيثم من مكانه محتميا بظهر أحلام الجالسة :
-ولد حلال لسه كنا جايبين في سيرتك .. تعالى يا عريس شوف عروستك ، يا زين ما اخترت والله .
اقترب منه ورياح غـــضــــبه تهب هنا وهناك :
-ورب الكعبة لأربيك من اول وجديد .. صبرك عليّ ياهيثم .
فاقتربت منه ليلة وهي تحفر سبابتها بكتفه :
-على فكرة أنت طلعت ندل أنت كمان !! وأنا غلطانة إني وثقت فيك .. كده سبتني وهـ.ـر.بت !
تمايل معتذرا :
-على عيني والله !! وبعدين أنت مجرتيش وراي ليه !!
تأرجحت عينيها المهزوزة ناحية هارون :
-وأنا ههرب ليه !! هيخــــوفني مثلًا !
توسطت له أحلام :
-صل على النبي يا هارون واقعد ريح رجلك .. هتعمل عقلك بعقله!!
أشار بسبابته متوعدا :
-اللي عملته مش هيعدي وأنا هخليك تقول حقي برقبتي !
تدخلت صفية وهي تربت على كتفه :
-حقك عليّ يا حبيبي .. أقعد أما ابخرك .. روحي يابت يا زينة هاتي جلابيته البيضة عشان يلحق الصلاة .
جلس هارون على مضض متجاهلا همسات ليلة مع أخيه الغير مفهومة .. نال كوب الشاي وما ارتشف رشفة رجعه مكانه نافرا :
-حتى الشاي ما يتشربش !
جهر هيثم ممازحا:
-كل المؤشرات عتقولك أهرب من الوقعة دي ياخوي !!
رد بحدة :
-مسمعش حسك ..
شرعت صفية أن تقوم بتبخير ابنها فتزحزحت أنظار زينة عن تلك الفتاة التي ملأت قلبها بالغيرة وتغنجت لتأخذ المبخرة من عمتها وهي تطيل النظر بعيني ليلة المتعجبة من نظراتها اليها :
-عنك أنتِ يا عمتي !!
أخذت البخور وشرعت أن تلفه فوق رأس هارون الجالس ينفث دخان غـــضــــبه متعمدة مداعبة كتفيه بدلال وكإنها تعلن صك ملكيتها له وهي تقول بحقد موجه لتلك التي تجهل كل تصرفاتها :
-رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ومصلتش على النبي يا هارون يا بن صفية ..
تحمحمت ليلة بخفوت وهي تهمس لهيثم الواقف بجوارها :
-هي بتعمله كده ليه !!
دmدm متهامسًا معها :
-باين له محسود !!
حركت كتفيها مستنكرة :
-هيتحسد على ايه يعني مش فاهمة ..
اختنق من رائحة الدخان :
-فُضينا يا زينة !
مالت زينة لمستوى مسامعه بنبرة صوتها التي تعمدت أن تصل لمسامع ليلة :
-تؤمر بحاجة ياسيد الناس .. اشر بس وزينة تنفذ ..
هبت عواصف الغيرة بصدر صفية وهي تتهامس مع أحلام وتستمع لهمها ليلة التي كتمت ضحكها مع هيثم :
-اهو ده دلع الفقارة اللي يقفع المرارة يا أحلام !!
فأتبعت وهي تكز على فكيها :
-أنا جيباها تكيدني ولا ايه !!
تحمحم هارون وهو يعتدل في جلسته :
-تشكري يا زينة .. الجلابية يااما قبل هلال ما يقيم الصلاة .
لبت زينة طلبه على الفور :
-غمض عينك وفتحها تلاقي الجلابية عندك .. حمامة .
نظرت أحلام لـ ليلة التي تقف ورائها :
-واقفة ليه يابتي أقعدي .. هشيع لك على هيام ونجاة يقعدوا معاكي وهتحبيهم قوي .
تدخل هارون في حوارهم بجفاء :
-ضيفتنا تاخد واجبها وزيادة يا صفية وبعدها خلوا جابر يوصلها لمكان ما تحب .. و يابخت من زار وخفف .
تدخل هيثم مدافعا عن ليلته :
-كيف ده !! دي قاعدة معانا أسبوع ؟!
-مين سمح لها بإكده ؟!
-أنا !! وخدت إذن ابوي ومعندهوش مانع !!
رد بفظاظة :
-إذا كنت أنت أصلا هتروح تشوف لك حتة تنام فيها !!
تدخلت أحلام بعتب وهي تتشبث بيد ليلة :
-عيب عليك يا هارون .. البت تتشال جوه عنينا وفوق الراس .. وبعدين دي ضيفتي أنا مش ضيفة حد تاني !
رمق تلك التي أحمر الاحراج بملامحها وضاق الحـ.ـز.ن بصدرها وأتبع :
-وبعدين نلاقوها فضحانا على التلفزيون ..واللي ما يشتري يجي يتفرج .
كانت كلمـ.ـا.ته أشواك تتناثر على مسامعها فغمغمت ملتمسة له العذر :
-لالا .. حضرة العمدة معاه حق .. هيثم ممكن ترجعني الاوتيل ؟!
تدخلت أحلام معترضة :
-كيف يابتي !! وبيتنا مفتوح لك .
جثت لمستواها :
-معلش يا طنت .. هابقى اجي ازورك اكيد .. أنا حبيتك أوي بس لازم امشي.
تدخل هيثم بشجاعة :
-يبقى محدش يوصلها غيري .. وروح يا هارون يابن صفية ينكد عليك زي ما انت منكد عليا ..
تمتم بحزم وهو يأخذ عباءته المكوية من زينة :
-قولت جابر يوصلها وأنت اسبقني على الصلاة ..
ختم جملته بصوت عربة الشرطة التي يدوي صداها بكل مكان .. نهض هارون من جلسته وهو ينظر نحو الخفير الذي جاء ركضا لعنده .. غطت زينة شعرها على الفور وهتف هارون متحيرا :
-في ايه بره ؟!
-حكومة .. وعايزين هيثم بيه !!
هتف هيثم مذهولا :
-أنت بلغت عني يا هارون !!
رمى العباءة من يده ثم تحرك بعجل ليري ما الأمر لحق به هيثم ثم ليلة التي ركضت خلف فضولها وورائها صفية وزينة ..وصلوا جميعهم للبوابة فإذن بشريف ومعه الضابط محسن .. جاءت نجاة وهيام من الداخل يركضن متوارين خلف الجدار .. تفوهه هارون بنفاذ صبر :
-في ايه تاني يا شريف بيه ..!!
ارتعد قلب ليلة إثر نظرات شريف الحادة فهتف محسن بخجل :
-هارون بيه في بلاغ من نادية هانم أبو العلا وشريف بيه أن هيثم أخوك خاطف الأستاذة ليلة سامح الجوهري .
أقبلت ليلة نحوهم بشجاعة وهي تحتمي بكتف هارون :
-ده جنان !! مين قال الكلام ده ؟! أنا مش مخـ.ـطـ.ـوفة وانا هنا ضيفة وبتعامل أحسن معاملة ..
اشتعلت النيران بقلب شريف الذي تطاولت يده اليها محاولا الإمساك بها :
-ليلة اتحركي فدامي .
فوجد ذراع هارون حصنا منيعًا أمامه يعيق تنفيذ بلطجته فـ انتابتها عاصفة من الخــــوف رجت قلبها تحديدًا وهي تصرخ مستغيثة :
-انت اتجننت ؟!!
دفعها هارون للوراء برفق ووقف وجهًا لوجه أمام شريف مُدافعًا عنها :
-سمعت !! قالت لك ضيفة هنا واللي أنت بتعمله ده هو اللي يعارضه القانون .
وبخه شريف بغـــضــــب يتقاذف من مُقلتيه :
-وأنتَ مالك يا جدع أنتَ ، خطيبتي وجاي أخدها !!
صرخت ليلة المحتمية بصفية وهيثم :
-وأنا مش هروح معاك في حتة .
و ازدردت ريقها برعـ.ـب :
-أنت ملكش دعوة بيا خلاص بعد النهاردة ..
كاد أن يدفع هارون ويتهجم على تمردها ولكنه فوجئ برد ذلك الرجل الذي غلت بعروقه الشهامة ممسكًا بياقة بذلته الميري ، محذرًا :
-خطوة كمان مش هعمل حساب للدبورة اللي على كتافك .. خليك محترم ولم رجـ.ـالتك وامشي من إهنه ..
تدخل محسن كي يُلطف الأجواء:
-هارون بيه ممكن نحلها ودي !! شريف بيه من حقه ياخد خطيبته .
قطم الكلام معه بحزم :
-كانت خطيبته وفضوها سيرة مش مرته يعني !! ومفيش نص في القانون يشير بأن المفسوخ يتهجم على بيوت الناس بالقوى عشان ياخد واحدة مش عايزاه .
ثم نظر لشريف الذي يشتغل شعر رأسه غـــضــــبًا وجهر بكل قوته :
-يالا يا ليلة وبلاش فضايح وإلا …
قاطعه هارون بشموخ :
-وإلا !!! وإلا ايه ؟! دي اللي عايز اسمعها عشان أعرف هتعمل أيه في واحدة ضيفة هارون العزايزي وفي بيته وفي حمايته !!
فتقدm هيثم من وراءه مدافعًا :
-هي مش قالتلك محدش خاطفها !! ما تزوق عجلك من هنا وتورينا جمال خطوتك !! ولا هو تلقيح جتت والسلام !
تدخل محسن متهامسًا لرفيقه :
-شريف بيه !! كفاية كده !
صرخ شريف بكل قوته وهي يدفع هيثم عن وجه بعنفوان هيج صراخ النسوة فقبض هارون على دبر كتفه وأوقفه صارخّا وهو يلكمه بوجنته :
-أنت محدش مالي عينك !! بقولك لو قربت منها هكـ.ـسر رجلك .
نشبت معركة طاحنة بين هارون وشريف الذي تشابك فيها رجـ.ـال الشرطة والخفر كي يفصلان بين الاثنين ، صوت صاخب من الضجيج والصراخ والجمهرة جعل شريط ماضيها يدور أمامها .. نفس المشهد المهين الذي كان يتكرر أمام عينيها يوميًا ، دوى صوت صراخ أبيها المدافع عنها دومًا :
-بـ.ـنتي وانا حر يا نادية !! واللي مش عايزاه مش هجبرها عليه !! ومين شريف ده كمان !! الولد المدلع ده اللي شايف نفسه !!
فناطحته نادية مدافعة عن رأيها :
-شريف أنسب حد لليلة ، بيحبها من زمان ومقدر حالتها .
انفجر سامح بوجهها:
-حالة ايه !! أنتِ مصدقة نفسك ؟! سبت لك البـ.ـنت تربيها عقدتيها في حياتها وكمان طلعتيها مريـ.ـضة !! أنتِ ازاي بتعالجي الناس وأنتِ اول واحدة عايزة تتعالج .
صرخت معاندة ومدافعة عن آرائها العقيمة :
-دي بـ.ـنتي وانا عارفة ازاي اربيها واقوي شخصيتها عشان تطلع واحدة مسئولة !! كفاية دلعك اللي بوظها وأدينا كلنا بندفع الثمن ..
رفع سبابته محذرًا كي يختم الحوار الثائر بينهما :
-ليلة خط أحمر يا نادية !! نظرياتك العقيمة دي طبقيها على المرضى بتوعك مش في بيتي .. وبـ.ـنتي مش هتتجوز غير الشخص اللي تحبه ويحبها ، غير كده أنا اللي هقف لها ، أنتِ فاهمة!!!!
استردت وعيها وهي ترى ضباب سيارة الشرطة تتقهقر وتغادر منزلهم ، فحلت برأسها تلك النوبة النفسية التي تُلازمها عند كل صدmة عصبية لا تتحملها ، امتزج الماضي بالحاضر ، تداخل بآذانها صوت أبيها المدافع عنها وذلك الرجل الغريب الذي أنقذها من بطش الطامع بأموالها قبل أنانيته وملكه لها الذي غرسته عمته برأسه .. انسابت ساقيها وتراقصت جفونها لا تسمع إلا همهمـ.ـا.ت بشرية حتى خرت مغشيًا عليها بالأرض .. دار الجميع حولها يتهاتف بفزع ، تقدmت نجاة الدارسة لقسم التمريـ.ـض لتفحصها فغمغمت ملهوفة :
-دي قاطعة النفس !!
ندبت زينة على وجنتها :
-مـ.ـا.تت !!
دفعها هيثـم وجثى على ركبته وهي يربت على وجنتها برفق وقال:
-دي ما بتنطقش !! اتصرفي يا نجاة .
ضـ.ـر.بت صفية على صدرها بشفقة :
-يابتي !! لسه في عز شبابها ..
جاءت نجاة مقترحة وهي ترفع تلك المغشية عليها من كتفيها :
-ساعدني يا هيثم ندخلوها جوه وارمح هات الدكتور اللي في الوحدة ….
ألــم حارق يتوهج دخانه من عينيه وهو يُراقبها مرمية بالأرض لا حول لها ولا قوة ، بدون أي إرادة منه أوقف أخيه عن حملها وقال بهدوء تام :
-روح هات الدكتور ..
ثم انحنى متحاشيًا التطلع لملامحها النائمة ، تغلل ذراعه تحت ساقيها والأخر تحت كتفيها وحملها بدون أي مجهود يذكر ، توهجت النيران بقلب زينة وهي تراقبـه بسخط :
-ضهرك يوجـ.ـعك يا هارون .. على مهلك..
ركض بها للداخل فاتبعه الجميع ما عدا زينة التي وقفت توبخ هيثم :
-أهو كله من تحت راسك!! افرض مـ.ـا.تت دلوق هندخلوا في سين وجيم !!
رمقها هيثم مستنكرًا وهو يهم لاحضار الطبيب :
-ان شاء الله أنتِ يابعيدة وهي لا ..
أشاحت له بسخط :
-بعد الشر عليّ ،وأنا لسه في عز شبابي ..
ثم دارت متوعدة وهي تضـ.ـر.ب على فخذيها بغيرة :
-ابتدينا في كهن النسوان بتاع بحري ….
بس على مين ،دانا زينة !!!!
“كل ما أعرفهُ:
-أنّ الحُب عنـ.ـد.ما يمتزج بـقلب المرء ويجري بهِ مجرى الدm يكون كانتشار لرذاذٍ ذهبي ‏اقتحم العالم فجأة ، كأنها حبات عظيمة من النجوم رُشت بفضاء الليل لتونسه وحشيته وتُنير عتمته .. وتحوله من مكانٍ تملأه الكآبة لأكثر مكانًا تغمره البهجة والأحلام ..
‏وحين يفارقـه ؛ ‏كما لو أن هناك طفلًا ‏نفخ في عين الشمس فأطفأ شمعتها وروحها وبريقها بدون سابق إنذار …
وكلاهما شعوران لا يمكن إخفاءهما مهما حاولنـا ذلك ”
فلقد لخصها نزار قائلًا :
-فلا الليـل يخفي -لو أراد -نجومه
ولا البحر يخفي -لو أراد -المراكبا
#نهال_مصطفى .
••••••••
‏”أنا الشخص المتردد جدًا ، الشخص الذي يصل إلى عتبة الباب المقصود ثم يستدير ويعود بخُطى ثابتة، لأنه شعر بأن لا الوقت مناسب ولا الباب يستحق الطرق بصرف النظر عما أهدر من الوقت كي أكون هنا ”
لقد تصالحت مع حظها الشحيح مع الحياة ، مع تلك الأبواب الموصدة التي تُقفل بوجهها بعد سكة سفر طويلـة ، مع وحدتها وضعفهـا ، تقبلت بكُل قلبها وصف أمها لها _أنتِ فاشلة يا ليلة_ أمها لم تكذب أبدًا “هي فاشلة” ، منذ تلك السنة السوداء التي رسبت بها إثر مرضها الشـ.ـديد ، إثر رفض القنوات الفضائية لها دومًا لأنها فقدت سلاح قوتها و سندها ، ترك خطيبها لها واتهامهُ بأنها مزاجية غير مسؤولة .. حتمًا أنهم يرون بها ما لا تراه هي بنفسها ..هي بالحق فاشلة بنظر الجميع ؛ اتستسلم لتقيمـ.ـا.تهم أم تُغير تلك المرآة المزيفة التي تنظر بها دائمًا !!
ترقـد بفراش الأغراب متغيبـة لا حول لها ولا قوة ؛ ولم يكف هاتفها عن الرنين .. جفون مُغلقة لا ترى إلا قطعة سوداء من القماش لا تختلف كثيرًا عن حظها الفقير .. فرغ الطبيب من فحصها وعلق بيدها تلك المحاليـل الطبية .. فتقدmت نجاة لعنده وهي تفتش بحقيبتها بناءً على طلب الطبيب إذا كانت تتناول أي أدوية ، مدت له بعض زجاجات المهدئات بخيبة أمل :
-لقيت الأدوية دي .
فحصهم عمار فتحققت ظنونه :
-زي ما توقعت ، نوبة عصبيـة ..وواضح أنها بتعاني من حالة نفسية مش مستقرة .
ثم رماهم فوق الكمود المجاور لمهدها وقال :
-نجاة خليكِ جارها ، أنا عطيتها حقنة مهدئة ساعتين وهتفوق ..وتصحى تاخد علاجها .. ولو حصل أي حاجة كلميني ..
شـ.ـدت هيام الغطاء فوق تلك النائمة والتي لا تشعـر بشيء ثم دار لها عمار والتي خـ.ـطـ.ـفت رقتها أنظاره منذ أن جاء ، فقال قاصدًا فتح أي حوار معها كي يسمع صوتها :
-ومش هوصيكي عاد ، توكلوها زين .
تمتمت هيام دون النظر إليه :
-طبعا هنوكلوها ..
ثم ولت ظهرها إثر نداء أمها الجالسة بجوار أحلام :
-يعني هتـرد زينة يا عمار يا ولدي !!
اتسعت ابتسامته وهو يلملم عدته مودعًا تلك الفتاة التي لم يراها من قبل والتي تخلو يدها من أي محبس خِطبة وذلك لأنها تعاني من حساسية الذهب ، مستخدmًا لهجته الصعيدية التي لا يمكن التجرد من عباءتها مهما تغرب المرء عنها :
-هترد كيف الحُصان يا عمتي .. اطمني .
ساعدت نجاة عمار الذي عاد من غُربته الطويلة بعد دارسته للطب بأحد الدول الأوروبية والذي يحمل نسل العزايزة ، لقد جاء قبل شهر وتعين بالوحدة الطبية الخاصة بالنجع والتي ترافقه نجاة كمساعدته الأولى .. رافقته نجاة لباب الغُرفة المُطلة على الحديقة و التي كان أمامها هيثم واقفًا فأقبل نحوه بقلق :
-طمني يا عمار … ؟! هتبقى زينة !
هز عمار رأسه بالإيجاب :
-أنا عرفت نجاة تعمل أيه .. ساعتين إكده وهتفوق .
كان يجلس بعيـدًا عنهم ، على مقعد الطاولة البلاستيكية المجاور لغُرفة الضيوف التي ترقد بهِا ليـلة ، رغم هدوئه المعتاد وعدm شغل رأسه بالأمر إلا أن مسامعه كانت تمتد لحديث عمار بتركيـزٍ شـ.ـديد ، انتظر حتى فرغ من كلامه فوثب قائمًا متحمحمًا وبدون ما يصاب بلعنة الفضول للسؤال عنها يبدو أنه سمع ما يرضيه ، قال ممتنًا :
-تعبناك يا عمـار وفوتنا عليك ضُهر الجِمعة ..
رد الأخير بعرفان :
-مفيش تعب يا عُمدة ، ديه واجب.
مد هارون يده ليُصافحه ؛ وأردف داعيًا :
-نورتنا يا داكتور عمار ،خلينا نشـوفك في فرح هيام أختي يوم الخميس الجاي .
أحس قلبه بهوية الفتاة الذي يُدعى على حفل زفافه حتى جاءت نجاة لتقطع حبال الشك باليقين ؛ موضحة :
-هيام اللي شوفتها جوه يا داكتور عمار ..
تركت له الصدmة والحلم الذي انتهى قبل أن يبدأ وأتبعت موضحة لهارون وهيثم :
-أصلو الداكتور عمار غايب عن إهنـه له عشر سنين ولساته بيتعرف على العزايزية من أول وجديـد .. يعني اللي سابهم صغار رجع لقاهم عرايس .
‏إعتاد على عدm لمسه لشيء أبدي ، منذ تلك الفتاة التي أحبته وفارقها إثر أعرافهم المُظلمة ، وأمه التي تأمل أن يعود من غُربته فيجدها تنتظره ، وأخته الوحيدة التي تزوجت وتركته بمفرده ، ظن أنه للتو عثر على من ستشاركه قلبه وحياته وفراشـه الموحش ولكنه تقبل الأمر معتادًا على الوداع ؛ ابتلع غصة آماله المتحطمـة بابتسامة مؤسفة وطأطأ رأسـه مستئذنًا :
-بالإذن أنا يا عُمدة ، وأي حاجـة جديدة بلغني رقمي مع نجاة ….
بعد ما انصرف عمار وعلى كتفيه أحجار الخيبة وهنـا لقد عاد الحج خليفة متعكزًا على ابنه “الشيخ هلال” الذي رمق أخيه بنظرات ساخطة وأردف معاتبًا :
-إكده يا هارون !! يعني الفاسق ديه _مُشيرًا لهيثم_ ومفيش منه رجا وأنا رمـ.ـيـ.ـت طوبته !! أنتَ بردك تفوتك ضُهر الچِمعة !!
ثم نظر واعظًا :
-دي الصلاة عماد الدين والقلب .
تدخل هيثم مدافعًا :
-كُنت في جِهاد و عمل خيري أنا كَمّان !! احكي له يا هارون أنا عملت أيه !!
-لا ونعم الجِهاد !! ما بلاش إنتَ !!
ثم حك هارون ذقنه القصيرة وقال متوعدًا :
-سيبهولي يا هِلال وأنا هعرفه كيف يكون جهاد الصوح !!
ثم وضع كفه على كتف هيثم المترقب مصيره وقال آمرًا بعنفوان :
-قصاد أبوك أهو ، أحضرنا يا حج خليفة الله يرضى عنك .. الأوضة دي لو شُوفتك معتب من قصادها هكـ.ـسرلك رِجلين الاتنين ، البت المذيعة دي لو قربت منها ولا حدتتها يا هيثم هقطع خبرك عن النجع كله .. تنسى أن فيه ضيفة إهنه من أصلو !!
وبخه هيثم معترضًا :
-يعني ايه !! انا اللي جايبها وماينفعش انجس معاها وأسيبها لروحها !!
بنبرته المبطنة بالسخرية:
-لا ونعم الشهامة اللي خلتك تسيبها في عرض الجبل وتهرب زي الأرنب ! _ثم تهامس معه محذرًا بنبرة لا يفهمها سواهم _ اظبط روحك معاي .
مازحه قائلًا :
-ما سمعتش عن المثل اللي يقولك الجري نص الجدعنة !! ما تحضرنا يا حج خليفة !!
تعكز أبيه على رسغ هلال وقال :
-نفذ كلام اخوك بالحرف يا وِلد ، عليك بيه يا هارون يا ولدي .._ثم نظر لهلال_دخلني لجوه يا هلال ما جادرش .
انتظر هيثم حتى انصرف أبيه ودار طالبًا العفو من أخيه الثائر والمقيم الحد عليه :
-افهم بس ، ليه يعني ولا احدتتها ولا أهوب من جارها !!
رد الأخير بثقة :
-لإني خابرك زين رطاط و ماشي تحب على روحك ، ومش هورطك واسلمك للمـ.ـو.ت بيدي وترجع تقول لي رايدها يا خوي .. وهي حُب عمري هي كّمان .
تنهد هيثم بـ.ـارتياح واردف :
-انا اتورطت واللي حُصل حُصل ..انت مش واعي للبت !! دي تتأكل وكل يا هِرن ياخوي .
-ورب الكعبة هقــ,تــلك بيدي !! .
ثم عض على شفته باغتياظ وبنبرة لا تقبل الجدال بحاجبيه المنكمشين :
-تطلع من إهنه على المِحجـر متفارقهمش غير لما يحملوا آخر عربية ، وتنزل تشق على الأرض والمحاصيل وتكلم التُجار يجيوا يحملوا الغلة .. ولو خلصت كل ديه قبل ما يحل الليل والنجع يتقفل تفضل تلف لحد ما راسك تو.جـ.ـعك وترجع تتخمد طوالي .. مفهوم !! ومن طلعة الشمس هتلف نفس اللفة من اللول لحد ما البت دي ترجع بلدهم .
تفوه معارضًا :
-هارون متهزِرش !! أقولك طاه جوزني وارتاح من همي ، ستر الولاية مطلوب ، أنا مش ههدا غير لما اتجوز .
حدجه بغل :
-وبردك مش هتتربى ، ديل الـ*** عمره ما هيتعدل .
توسل له ممازحًا :
-طب جربني !! ولو متربتش جوزني تاني لحد ما نقفلوا الشـرع يمكن ربك يتوب عليّ في الرابعة ..
ثم مال نحوه بغمزة خفيفة وهمس له :
-هخليك عـم من أول سبوع اسمع مني ..
-أنت لو ما انشكت من وشي هرنك عقلة تخليك تقعد جار صفية عمرك كله لا هتنفع في جواز ولا غيره .. انقلع من قصادي يا هيثم مش طايقك ، ولا طايق مجايبك الكحلة ..
انفجر ضاحكًا وقال بسخريـة :
-انا مجايبي كحلة !! دي كيف القشطة ، اسم الله على مجايبك ، زينة يا هارون !! طب أيه اللي عجبك فيها !! اكمنها فرعة هبابة يعني !!
كاد أن ينزع حذائه مغلوبًا على أمره :
-بالمركوب فوق راسك ، عشانك شكلك اتدبيت على الآخير ..
استحلفه ضاحكًا محاولًا أن ينصحه :
-أمركم شورى بينكم بصوت الشيخ هلال ، هدي روحك !! بقلبلك نور يكش تفوق !! أنتَ بس لو ركزت هبابة مع القشطة اللي جوه دي هتعرف أنا هتكلم عن أيه !!
ثم غمغم على عجل كي يهرب من بطش نظرات أخيه الثاقبة :
-هنفذ كل أوامرك بالحرف ! ولو افتكرت اي تعليمـ.ـا.ت جديدة رن على الحُمار ينفذها ..
ما كاد أن يخطو خطوتين فدmدm :
-طب فكر تاني !! زينة يا هارون !!!
-غور يا بن ال***** .. ابو تربيتك الـ**** ..
••••••••
مر ساعات اليـوم بدون أي جديد يذكر ، قضت هيام ونجاة نهارها فوق رأس ليلة النائمة لرعاياتها .. عادت صفية للبيت مع أحلام لترى نواقص جهاز ابـ.ـنتها التي سينتقل لبيتها الجديد بعد يوميـن .. وعادت زينة لمنزلها لتستعـد وتجهز نفسها لكونها عروس جديدة لفتى أحلامها الذي لم تتمنى غيـره من وقت ما رأت ضياء الشمس حتى لهذه اللحظة ، أما عن هارون الذي لم يشغل رأسـه وفكره إلا مهام العزايزة وأعمالهـم .. خرج كي لا يمر من أمامه طيف الفتاة التي تشعل عود من الكبريت برأسه لا يزيده إلا غـــضــــبًا …
“بأحد الملاهي الليلية المشبوهة ”
يجلس ضيـا زوج هيام برفقة معتـز ابن عمه وصديقـه وأكبر عدو لهارون العامل المشترك اللذان اجتمعا عليه ، لا يبغض أحد مثلما يبغضه .. في تلك الغيمة المنعقدة من الدخان المتصاعد الذي ينفخونه ممزوجًا ببعض المواد المُخدرة والتي تُعد محرمـ.ـا.ت بعُرف العزايـزة قبل الدين والقانون .. نفث معتز دخان شـره وانتقامه وقال متوعدًا :
-عايزين نخلصوا من حكم خليفة وعياله ، إحنا مش عبيد عندِهم ! جبروتهم لازمًا له حد .
قهقهه ضيا ساخرًا :
-ولو خلصنـا منيـهم ، فكرك مجلس العزايزة اللي ما عيرحمش هنفلتوا من يده !! قدرنا إكده .. بس خليفة وعياله مش قدرنا ومش مجبرين نرضوا بيه .
فعارضـه معتز بحسم وقلب يعتصر على فارق حبيبته التي رفض هارون نسبها قطعًا :
-بس لازمًا يتغير ومش هيتغير غير لما الحكم يطلع من بيناتهم .. هارون واعر وأوعر من أبوه ، واللي جاي سواد فوق روسنا كلنا .. هو شغال يتمسكن لحد ما هيتمكن ..
ثم شـ.ـد معتز من يده خرطوم الشيشة وشـ.ـد نفس طويل منها واتبع بنفس النبرة بحقدٍ :
-و أنت مين كدك ، نشنت وغرفت من قلب بيتهم ، وريحت راسك ، الدور والباقي عليّ ، وما ليك عليّ حلفان تاري مع هارون العزايزي ما هيخلص ولو فيها مـ.ـو.تي !
قهقه ضيا بضحكة الثعلب الماكر :
-يتلقـوا وعدهم مني .. راس خليفة وعياله مش هيرفعوهـا تاني بينات الخلق .
-انتَ ناوي على ايه يا ضيا!
زفر دخان شروره وقال:
-خليفة وعياله يهملوا الحُكم والعُمدية ، واللي جاي على كيفي أنا وبس .. كلها أيام والضحك هيبقى على الدقون .
~عودة لمنزل خليفـة العزايـزي .
“كُل الأماكن خطرة ، فـ لا تأمن مكانًا يعطيك أُلفته من أول مرة .”
وشوش بأذن حِصانه الذي أغرقه بنظرات العتاب طويلًا حتى أردف هذه الجمـلة بتلك الثقافة اللغوية التي أحبها وتعلمها من دراسة القانون أولًا ثم من حُب أخيه لها ، همس له وكأنه أراد أن يذكره بالعهد الناشب بينهما .. ثار الحِصان رافعًا ذراعيه بالهواء لبرهة محدثًا صوتًا نافيًا أم معتذرًا !! يعارضه أم يصدقه القول .. تصرف غريب من ” غيم ” الذي اعتاد أن ينفذ تعليمـ.ـا.ت صاحبـه بدون تمرد ، ماذا حدث له تلك المرة ؟! ما الذي يتنبأ غيم بحدوثه لصاحبه الوحيد مُستقبلًا !!
حدق النظر بعيني حِصانه بعتب:
-بتقاوحني يا غيم عشانها !!
ثم شُقت ابتسامـة خفيفة على ثغره وهو يداعب شعره :
-أوعاك يكون هيثم عضك !! بقيت زيه أي بت حلوة تريل عليها زي الأهبل ..
نفس الصوت الاعتراضي والغـــضــــب ثار به ” غيم “كي يضع حدًا لتمادي صاحبه الذي انفجر ضاحكًا :
-وه وه !! أيه في حديتي مش عاجبك يا عم غيم !! لا أنا إكده هبتدي أقلق عليك !! هي قلبتك عليّ !! دي يومها مقندل معاي .
ثم أقام عليه الحد :
-أقول لك !! كنت ناوي امشيك هبابة ، بس قفلتني .. خليك إكده مكانك لحد ما انسى خيانتك .. أنا ماشي .
~بغُرفـة الضيوف .
توسلت نجاة لليلة أن تتناول آخر لقمة من طعامها ولكنها أبت بضعف وهي تتنفس بصوت مبطن بالتأوه :
-مش قادرة بجـد ، كفاية عشان خاطري ، تسلم أيدك .
رمقتها نجاة بعدm اقتناع :
-وفين الوكل اللي كلتيه !!! دي أحلام موصياني تخلصي الصحن كله .. هعاودلها الوكيل زي ماهو كيف !
ابتسمت ليلة بإحراج :
-أنا زي الفـل والله ..
ثم التفتت لتبحث عن أشيائها :
-فين شنطتي وموبايلي ، آكيد مامي قلقانة عليـا !!
ثم اعتدلت لتلمس أقدامها الحافيـة الأرض الرُخامية وقالت :
-لازم أمشي .. ممكن بس حد يجي يوصلني!!
جاءت هيام حاملة بيدها دورق الميـاه ، فلم يروق لها حديث ليلة :
-يادي العيبة !! عاوزة تروحي وأنتِ لساتك عيانة !! محدش هيوافق لك بالجنان ديه .
ترجتها ليلة بضعفٍ:
-كفاية مشاكل كده لحد كده .. أنا لازم أمشي .
وقفت نجاة أمامها :
-طب وقفي وخدي نايبك صبر ، الصباح رباح .. خليكِ إهنه الليلة دي والصُبح ربك يحلها .
بوادر الاقتناع خيمت ملامحها ولكنها تذكرت تحذيرات أمها فوثبت متحيرة وهي تفتش بحقيبتها :
-أنا مين جابني هنا !! أنا فاكرة أن شريف كان بيتخانق وصوت عالي .. بعدها مش فاكرة حاجة.
تدخلت هيام وشـ.ـدت الحقيبة من يدها :
-اولًا محدش هيسمح لك تمشي دِلوق ..
غمغمت بتوجس :
-كفاية مشاكل وعشان هارون أخوكي ، ده طردني قدام الكل ، لالا انا مستحيل أقعد هنـا مش ناقصة إهانة منه ..
امتزج صوت ضحك كُل من نجاة وهيام ، فأكملت الأخيرة مدافعة عن أخيها :
-هارون !! ده مفيش في بياض وحلاوته قلبه ، ده هو اللي قَلِك على يده وجابك لحد إهنه .. يهينك كيف لالا أنتِ ظالمة هارون !!
شهقة طويلة اختتمت بكلمتها الاعتراضية المعتادة :
-أحيــه !!
ثم تقاسمت معالم التـ.ـو.تر والارتباك والصدmة ملامحها وأحمر خجلًا وهي تتحرك بفوضوية بجميع أنحاء الغرفة ، خطوات عبثية غير محسوبة :
-يعني ايه هو اللي قَلِك وجابك هنا، هو اللي شالني !! فهمت صح ، أيووهّ !! لا أحيــه !! هو الباب منين !!
خطت أقدامها بصخبٍ وهي تسحب البـاب الجرار الموجود بعرض الحائط والمُطل على حديقـة بيتهم ، ما كادت أن تلتف لنداء نجاة وهيام ففوجئت به أمامها ، بنفس النبرة التي لا تختلف عن سابقتها مردفة بعفوية تامة وأعين جاحظة بصدmة :
-أحيـــه !! هو أنتَ !!!
-ياصـبر الصبـر !!
رغم جمال وعفوية الكلمة من شِدقها لكنه تمتم جملته وهو يزفر بضيق ويقفل جفونه إثر سماعه تلك الكلمة التي حذرها منها كثيرًا والتي تثير غـــضــــبًا مبهمًا برأسه ، أطرقت وجهها بخجـل وهي تتراجع للخلف لتحتمي منه بظهر هيام يبدو أنها أدركت خطأها للتو .. رفعت نجاة حاجبها بتعجب :
-شوفتي عفريت أياك !! ده هارون وِلد حلال زين إنك جيت .
مازالت عينيها ثابتة جاحظة نحوه لا تتحرك عكس شفتيها المرتعشة ، فأكملت هيام كي تورطها أكثر :
-يرضيك يا هارون ، ضيفيتنا عايزة تروح دِلوق ..
عقد حاجبيـه متسائلًا باستغراب:
-ده ليه !!
تدخلت مدافعة عن قرارها بنبرتها المهزوزة :
-هقعد ليه !! أنا خلاص خدت واجبي وكرم الضيافة وتعبتكم وألف شكر يا حضرة العُمدة .. مش ده كلامك ..
ثم امتدت بنظرها للخارج وكأنها تبحث عن شخص ما لا تعرفه :
-ممكن تنادي حد يرجعني الأوتيل ..
تحمحم بهدوء بعد ما ألقى عليها نظرة واحدة والأخرى كانت طائفة بالمكان :
-خفي مُحن وخُشي نامي ….
قال جُملته الأخيرة وتركها في هول صدmتهـا محاولة استيعاب إهانته ، اكتفى بنظرة سريعة لأخته ترجمة معناها على الفور وهي تكتم الضحك :
-هخليني جارها متعتلش هم .
ثم دارت لتلك الصامتة التي مازالت تحت سطو صدmتها ؛ فقالت :
-سمعتي بودنك أهو ، قال لك خشي نامي وعيننا حرس عليكِ كمان !!
غمغمت بسهوٍ :
-ده بيقول لي خفي محن !! هو على طول كده ولا قلة الذوق دي معايا أنا وبس ؟!
لم تتوقف هيام عن الضحك ثم أجابتها قائلة :
-هو على طول إكده ، متتوقعيش ردوده ، ياستي عوقنا يلا نناموا والصباح رباح .. بكرة هعرفك على هاجر وهتت عـ.ـر.في على هاشم ..
فانضمت نجاة لحوارهم :
-أنا هروح أجيب مازن ولدي ، واجي أنام جاركم.
فقبلت على مضضٍ:
-تمام ، بس لازم أكلم مامي الأول .
~بغُرفة الحج خليفـة ..
رفعت صفيـة الوعاء الممتلئ بالماء والملح بعد ما غسلت أقدام زوجها جيدًا وجففتهمـا بالمنشفة ثم أقبلت إليه وهي تخبره :
-اتفقت مع صالح العشية هنروحوا نُطلبوا يد زينة لهارون ، ويد نغم لهاشـم .. البت نغم يتيمة وتستاهل كل خير ، ايه قولك يا حج خليفة .
يتكئ على عكازه الخشبي كي ينهض متجهًا لمرقده :
-القول قولهم ، شوفي رأي هاشـم اللول ياام هارون ، لازمًا الواد يختار بنفسه ..
شخللت بأساورها الذهبية التي تملأ معصميها وهي تساعده في رفع الغطاء لتفسح له مجالًا للنوم :
-هاشم واثق في ذوق أمه ومش هيكـ.ـسر لي كلمـة ، متعتلش هم أنت يا حج .
ثم تنهدت بـ.ـارتياح وهي ترسم مستقبل أولادها :
-اخيرا يا حج هيريحوا قلبي ، واطمن عليهم ، والسنة اللي وراها نفرحوا بهلال وهيثم .. ونختموا بهاجر أخر العنقود .
ثم مددت بجوار زوجها معبرة عن سعادتها :
-كلهم كوم وفرحتي بهارون كوم تاني .. هارون يا كبد أمه مفرحش ومشفش يوم حلو .. جيه آوانه انه يرتاح مع البت اللي قلبه اختارها ..
تمتم الحج خليفة بيقين :
-قدmي المشيئة ياام هارون ، يكش نفرحوا بيهم كلهم في شهر واحد ، ده يوم المُنى .
عارضته بحزم :
-شهر كيف !! أحنا ناقصين قر ونِقم يا حج خليفة !!
••••••••
~القســم .
-وشرف أمي يا محسن ما هعديهاله ..
رفع شريف قربة الثلـج من فوق عينه المزرقة التي كانت أحدثت كدmة إثر لكمة هارون عنـ.ـد.ما تجاوز حدوده بمنزله ، فعاتبه النقيب محسن :
-شريف بيه ، معاليك غلطت ، مكنش له لزوم العنف .. وأهو واقفين مش عارفين ناخدو موقف .
ضـ.ـر.ب شريف على سطح المكتب بغل:
-انا هعمله محضر دلوقتي ، والله ما هعديهاله يا محسن ده اتجنن يمد ايده عليا !! .
عارضه محسن بعتب:
-للاسف ، القانون في صفه ، أنت اللي اتهجمت على البـ.ـنت وكنت هتاخدها بالقوة ..وهو كان بيدافع عن ضيفة في بيته وقالت لك أنها مش مخـ.ـطـ.ـوفة .
-أنت عايزني اسيبها في بيته يا محسن !! ليلة دي عيلة مـ.ـجـ.ـنو.نة ودmاغها على ادها وبتتعالج ماينفعش تتساب ، دي واحدة عيانة .
بنبرته المعنفة أردف جملته الأخيرة التي تحوى الإهانات لخطيبته السابقة بشكل غير لائق جعل محسن يستصغره كثيرًا ، فأتبع شريف متوعدًا :
-حسابك تقل معايا ياابن العزايزي ، أنا هعرفك مين هو شريف أبو العلا .
ثم خبط على مكتبه بغـــضــــب يتطاير :
-انا مش هسيبه يا محسن ولو هقعد في بيتنا بعدها .
••••••••
~في الخامسـة فجرًا .
لا تشعر بالحياة الحقيقية فـ صورتها النقية إلا مع نسمـ.ـا.ت كُل صباح بعد ليلة شتوية بـ.ـاردة ، تلك اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار وهي الفجر ، الناس نيام ، هدوء عجيب يُغلف القلب .. الأنفاس صافية العقل متيقظ .. جميعها تفاصيل نادرة وتائهة في خضم الحيـاة الطاحنـة .. فتحت جفونها فتعثر بهيام النائمة على الأريكة بجوارها .. وبالغرفة المجاورها لها ترقد نجاة مع طفلها .. أخذت تتنفس بـ.ـارتياح وهي تتأمل السقف وتتمنى أن لا تُفارق هذا المكان البعيد عن دوشة المدن ودوشة الحياة عمومًا ..
عبث بهاتفها ففتحت تلك الرسالة النصية المُرسلة من أمها :
-ليلة ؛ أنا مش موافقة على الجنان ده .. اتفضلي ارجعي وألا هجي لك أخدك من عندك بنفسي ..
زفرت بملل ورمت الهاتف من يدها وفارقت مرقدها بتلك الأقدام الناعمة ذات اللون الوردي تخطو على طراطيف أصابعها بعد ما تناولت شالًا من الصوف ووضعته على كتفيها ، فتحت الباب بحذر شـ.ـديد كي لا تُزعج هيام النائمـة .. فتحة صغيرة من الباب المتحرك كانت كافية أن تمر منها .. لمست أقدامها الحافية الخضرة تحتها وداعب الندى وجنتيها .. تنفست بـ.ـارتياح وهي تفرد ذراعيها تحت السماء وكأنها طير حر يستمتع بحريته التي لا يُقيدها أحد..
‏”الأيام التي يطمسها الضباب ما هي الا خطوات لبدء تشكيل انسانٍ ما .. لتهيأهُ لمواجهة ظروف ما !! ”
مع مطلع الفجر وبعد عودته من الصلاة مع الشيخ هِلال وأبيه .. فارق النوم عينه وعاد ليجلس تحت ظل شجرته التي دومًا ما تجمعـه مع هيثم وصوت عوده .. ولكن اليوم كان بيده كتاب ” البداية والنهاية ” لـ ابن كثير .. تعمق بين طيات الكتاب متبعًا عشقه للكُتب التاريخية التي يكتسب منها حكمته في الحُكم ، شيء ما متعطش بداخله حول التاريخ فيرويه بالكُتب ..
قفل الكتاب واستند على جذع الشجرة خلفـه وما يشغل عقله الشغل لا شيء غيره .. جاءت من خلفـه بخطواتها المتشردة ، التي لا تدرك غايتها بل أصيبت بلعنة فضولها للسير من ذلك الطريق فاتبعت أحساسها ككل مرة ترافقه .. لمحت كتفـه المتواري خلف الشجرة من بعيد تمتمت لنفسها _أحيه !_ .. وسرعان ما دارت للجهة الأخرى وركضت عكسًا ، ما لبثت خطوتين ثم توقفت تلوم نفسها بحماقة وهي تقوي نفسها :
-أهدي !! اهدي وبطلي غلبة ، مش لازم يحس إنك هبلة ..
ملأت رئتها بالهواء ثم دارت صوبه وأكملت سيرها بتلك الخطوات المترددة حتى وصلت لعنده ، وجدت جفونه منغلقة ورأسه مستندة على الجذع خلفه وبيده سواك صغير .. إطالت النظر بملامحه ببلاهة ، بدون استيعاب بأنها تتغلغل بالبحر وهي لا تجيد العوم .. انه طريق موحي بغرق ما .. النظر إليه كان كافيًا بإخماد ثورةً أفكارها ومخاوفها منه ، تحدق النظر به وكأنه طريقها الوحيد للنجاة من هذا العالم .. فركت كفيها ببعضهما ثم تمتمت بتوجس :
-صباح الخيـر !!
فتح جفونه معتدلًا بجلسته وهو يرتب شاله :
-فايقة بدري يعني !! منمتيش زين اياك !
ردت بـ.ـارتباك بينّ ، وفتحت نشرة الأخبـ.ـار خاصتها فوق آذانه :
-لا نمت .. نمت كويس جدًا ، بس ممكن عشان مغيرة مكاني .. صحيت بدري ، وكمان شكل الخُضرة والندى والجو .. كل الأجواء دي أنا بحبها وبحب أصحى بدري عشان ألحقها .. خاصة في الشتا .
ثم بللت حلقها وأتبعت وهي تنتقل لتجلس بجواره :
-أنتَ بقا شكلك منمتش وقاعد هنا في الجو ده !! أنا أخدت بالي إنك مريح شوية !! أنت تعبان ولا منمتش من امبـ.ـارح !! ولا مابتنمش زينا ولا ايه !!
لعن حظه سرًا لبدء ثرثرتها التي كانت تنقصـه ، ولكنه قدر حالتها المرضية وقال مغيرًا مجرى الحديث:
-عاملة ايه دِلوك !!
-بقيت أحسن الحمد لله .
ثم ملأت رئتها من روعة المكان وأكملت بامتنان :
-بجد مرسي ، انا مش عارفة اشكرك ازاي ..
-تشكريني على أيه !!
ردت بحماس:
-البنات قالولي إنك شلتني وجبتني للأوضة ، وكمان عشان وقفت قُصاد شريف وحمـ.ـيـ.ـتني منه ..
كادت أن تواصل ولكنه قاطعها بنبرته الجافة :
-أي حد مُطرحي كان هيعمل اللي أنا عملته .
قفل مداخل الحديث بوجهها ، أخذت تتجول بأنظارها يمينًا ويسارًا وكأنها تُفتش عن موضوع جديد حتى اتسعت ابتسامته وهي تراقب قطرات الندى فوق الزهور حولهم ، فلجأت لعالم الأساطير الذي تهواه :
-أنت عارف …
فألتفت لها باهتمـام مما جعلها ترتبك فـ تنظر بعيدا عن مرمى أعينه وأكملت :
-في أسطورة بتقول ؛ أن قطرات الندى دي اللي فوق الورد ، جوابات حُب من النجوم .. وفي حد تاني قال أنها قُبلات مُرسلة …. أنا بقا شايفاها غير كده خالص ..
ثم عقدت ساقيها وولت وجهتها لعنده ، كان يستمع لها بتعابير وجهه المتصلبـة التي لا تعى ما تلك الخُرافات التي ترويها على رجل يافع ،عاقل، واقعي مثله لا يُغريه الخيال مثلها ، بللت حلقها ومازالت محتفظة بتلك الابتسامة الزاهية وأكملت بنبرة متأثرة :
-شيفاها دmـ.ـو.ع ، وحـ.ـز.ن .. وعجز ، هما الاتنين واقعين في غرام بعض بس محدش عارف يوصل للتاني .
شُلت مدارك عقله التي لا تعي من الثقافات إلا التاريخ والحروب ، انعقدت ملامحه مستفهمـة :
-هما مين عدm اللامؤاخذة!!
أجابته بثقة عارمة وهي تلوح بكفها :
-الورد والنجوم ..
تأكد من داخله أنها حقًا فاقدة للأهلية حسب وصفه القانوني ، فتأوه مؤيدًا متبعًا قول _أن ليس على المريـ.ـض حرجًا_ودmدm باستهزاء :
-اااه ، النجوم والورد .. صلاة النبي أحسن !!
لم تلحظ سُخريته واستهتاره بحديثها ، فأتبعت بنفس الشغف :
-ودي فيها حكمة لقلوب البشر .. وأن مش كل القلوب العاشقـة بتتجمع في قلوب مصيرها زي النجوم والورد اكتفوا من الحُب أنهم يراقبوا بعض من بعيد لبعيد فاقدين الأمل في القُرب ، بس عمرهم ما فقدوا الأمل في الحب ، بس لما بيجي عليهم ليل بيفـ.ـضـ.ـحهم عشان يعـ.ـيطوا ويعرفهم حقيقة عجزهم .. ودي الدmـ.ـو.ع اللي بنشوفها على خدود الورد ..
ثم تنهدت بحماس :
-الطبيعة بتحكي أسرارنا بس البني آدm عامل نفسه مش واخد باله ، عشان كده هتلاقي الكُل تايه ..
لم تمهله فُرصة للرد بل أكملت :
-انا متعلقة جدًا بالطبيعة وبحب اسمع لها وتسمع لي .. أنا وهي صُحاب جدًا ..
-حتى دي معتقتيهاش !!!
رفع حاجبه متأكدًا بوصفه لها من قبل وقال متبعًا لفضوله :
-والأساطير دي أنتِ مخترعاها من راسك ولا في الكُتب !! مصـ يـ بـةلتكون في الكتب !!
ردت بثقة لا يمكن أن تهتز :
-الأغلبية من تأليفي طبعًا ، أنا كل كلام الكتب بـ.ـنتقده ، مش بيعجبني .. جرب تسيب قلبك للطبيعة وهي هتدلك على الحياة الحقيقية .
-ياحلاوة !!!
لم تمهله الفرصة لاستكمال حديثه بل امتد ذراعها بفضول نحو الكتاب المجاور له وأخذت تُقلب صفحاته بـ غرابة :
-ايه الكتاب ده!!! ااه نسيت ، هيثم صحيح قال لي إنك بتحب كُتب التاريخ والقانون .. بس أنا حسيته بيلمعك قدامي مش أكتر ..
-عيلمعني !!!
ثم عض على شفتيه متوعدًا له وأكمل :
-وهيثم الأرعن ديه يجيب فـ سيرتي معاكي ليه من أصلو !!
كان كل تركيزها بالكتاب الذي تقلبه بيدها وقالت بعفوية :
-لا أنا اللي كنت بجيب فـ سيرتك مش هو ..
لا يعلم أن يشفق على سجيتها أم يغـــضــــب أم يضحك ويتجاوز الأمر ، اكتفى بضـ.ـر.ب كف على كف بخفة مبتلعًا تلقائيتها بابتسامة لطيفة وقال :
-وتجيبي في سيرتي ليه !!
قفلت الكتاب بعفوية وغيرت جلستها لتجيو على رُكبتيها :
-كُنت بقوله أد ايه حياتي باظت بسبب أخوك ، حتى فكرة البرنامج وأملي الوحيد أخوك ضيعه ، فهو اقترح عليا فكرة ، وبصراحة عجبتني .. ولما فكرت قولت أيه المشكلة لو نعمل معاهدة سلام سوا ..
اتكئ على جذع الشجر وثني ركبته التي سند عليه مرفقه وقال ساخـرًا :
-طلعتي عتفكري زينا !! وياترى طلع أيه في راسك!
تحمحمت بحماس وشعور من الألفة غلف قلبها كأنها مع شخصٍ تعرفه من زمن آخر :
-اسمع يا سيدي .. أنا خلاص غيرت فكرة البرنامج بتاعي ومش هفضحكم ومش هفضح الناس عشان حـ.ـر.ام ..
-يكملك بعقلك ياشيخة ..
فأتبعت بنفس اللهفة :
-جات لي فكرة برنامج جديد ؛ حكاوي ليلة .. البرنامج ده هيحكي قصص متنوعة ، أول فكرة جات في دmاغي الأماكن .. كل مكان له قصته وحكايته ..
رد بجمود :
-وأنا مالي بالحديت ديه !!
-هقولك أهو .. مش اللي بيبوظ حاجة بيصلحها !! وأنت بوظت برنامجي بسبب غبائي ، ما علينا .. المهم هيثم قال لي عليك بتحب التاريخ و آكيد عندك أفكار كتير ممكن تساعديني بيها لحد ما أعمل تقرير إعلامي محترم اقنع بيه صاحب القناة .. حتى فكرة موضوعين بس اقنعه بيهم .
شبح ضحكة ساخرة رُسمت على محياه:
-وحد قال لك إني فاضي للحكاوي دي!!
تمتمت بتأمل :
-هتفضي نفسك، دول هما يومين بس يا كابتين ومش هتشوف وشي تاني غير على التلفزيون باذن الله .. وتبقى عملت معايا حركة جدعنة تمحي كُل استندالك معايا اليومين اللي فاتوا .
وجد في حديثها مُتعة راقت لقلبه ؛ فغمغم بجدية :
-وأنا هستفيد أيه من المشوار الهابط ديه اللي يخليني ااخر مصالحي يومين !
أصدرت صوت إيماءة عالية وهي تُفكـر :
-فلوس يعني !! خلاص هديك ألفين جنيه على كُل فكرة ومكان تقول لي عليه هنا ..
-تصدقي فكرة وأنا في عرض أي قرش اليومين دول .
هبت فرحة لا تُصدق مسامعها :
-يعني وافقت بجد !!
لأول مرة ينفجر ضاحكًا عند سماعه لعرضها المُغري ، شيء ما بداخله أجبره أن يقبل حديثها العبثي رغم عدm اقتناعه به لكنه وافق على عكس رغبته ، صوت ضحكته الأجهر لفت انتباه قلبها لتبتلع ما تبقى بفمها من كلمـ.ـا.ت ، تلك أول مرة ترى وجهه خاليًا من معالم السخرية ، عادت لتجلس بهدوء بجواره مسهوبة بجمال ضحكته وتفاحة آدm التي تتوسط حنجرته تتراقص فتزيده وسامة لا يقاومها قلب الأنثى ؛ حيث نظر إليها رافعًا حاجبه متقبلًا طلبها :
-اتفقنــا ، وأنا اشتريت .
تأرجحت عينيها فوق سُحب الحيرة المُضللة عليهم ؛ متسائلة بحماقـة :
-اشتريت ايه !! أنا مش معايا حاجة ابيعها !!
وقف هارون عاجزًا أمام ضباب غبائها الذي قيد لسانه وشل مدارك عقله مكتفيًا بضـ.ـر.ب كف فوق الآخر متأففًا :
-يا صبر الصبـر !!!
وقفت مثله فلم يمنحها فرصة للجدال فقال نادmًا على قبوله لطلبها متأهبًا للرحيـل :
-أنا عارف جبت و.جـ.ـع الراس لروحي !!
اوقفته صارخة :
-وانا عملت ايه طيب !! انا ساكته اهو مفتحتش بؤي من الصبح !!
رد بنفاذ صبر :
-قفلتينى ، كل ما اقول اهي عاقلة .. تلغي الفكرة من نفوخي .
•••••••••
-الأيام بتربي الواحد عَلى الهادي يا رؤوف .
مع دقات العاشـرة صباحًا لمست عجلات سيارة رؤوف بوابات محافظة مركز نجع حمادي .. أردف هاشم الجالس بجواره جملته الأخيرة بعد ما أرسل رسالة نصيبة لرغد التي لم تُفارقه للحظة طول رحلته .. قفال الهاتف ليلتفت لحديث رؤوف :
-بقا هاشم اللي مقضي حياته بالطول والعرض عيقول إكده !! أومال إحنا نقول ايه !
ضحكة حزينة خيمت فوق ملامحه وأتبع :
-أحنا المـ.ـو.ت محاصرنا يا رؤوف .. على كد ما تقدر اتبسط اليومين اللي انت عايشهم .
ثم فتح ” تابلوه” السيارة وفرغ لفافة تبغ بيده وأشعلها فأكمل متعجبًا :
-أنتَ من دور هارون أخوي ولساتك متجوزتش ليه !! ولا تكنش لعنة في جيلكم .
التوى ثغر رؤوف الذي يظلل عليه شاربه الأسود كسواد أيامه وقال مشيرًا لقلبه :
-اللعنة اللي بجد ده ، ده ياهاشم .
عقد هاشم ملامحه بصدmة :
-رؤوف لساتك رايد نجاة بت خالك !!
شبح ابتسامة مؤسفة :
-ولا عمري هريد غيرها ، أنا لفيت مصر بضواحيها عيني مشفتش ست في جمالها يا هاشم ..
-دا أنت واقع !! طب والعمل ؟! هتسيب العمر يسـ.ـر.قك إكده !! لا أنت طايل لا جنة ولا نار!
دار بمقود سيارته أقصى اليسار وأتبع :
-وهي واقفة في النص ، بين ولدها وقلبها.. لو اتجوزتها ناس جوزها هياخدو ولدها مش هتشوفوا تاني .. وأنا مش هيهون عليّ أشوفها متعـ.ـذ.بة ومش قادر اهون عليها .. هفضل شايل ذنبها وذنب ولدها لآخر عمري .
تأرجحت عيني هاشم مقترحًا :
-منا عندي فكرة ، طالما أنتوا الاتنين رايدين بعض ما تتجوزها في السـر وبعيد عن العزايزة وعيش بدل ما أنت موقف حياتك على سراب .
هتف رؤوف برفض قاطع :
-مش رؤوف العزايزي اللي يعمل حاجة في السر .. أي حاجة في السـر عمرها قصير ولازمًا هتتكشف يا هاشم، ووقتها هتبقي خسرت نفسك واللي حوليك وهخسرها هي بقية حياتي ، حتى الأمل اللي متعلق بيـه هيمـ.ـو.ت .. بس آكيد في حل ..
تحمحم هاشم وكأن الحديث كشاف إنارة ضـ.ـر.ب بقلبه ليُريه مصيره مستقبلًا ، فأتبع رؤوف قائلًا :
-هتحدت مع هارون وأشوف رأيه ، يمكن ألاقي عنده الحل .
••••••••
~المحطـة .
يقف هِلال على رصيف محطة القطار المقبل من أسيـوط منتظرًا أخته بعد إلحاح طويل من صفية إثر انشغال هيثم بالمهام التي كلفه بها هارون .. يرتدي بنطالًا جينز باللون الأسود ويعلوه قميصًا باللون الرملي مع بشرته التي تشع نورًا وإيمانًا والتي ورثها من أمه ولحيته القصيرة التي تطفو عليه الهيبـة والوقار .. نظر بساعته وهو يطالع القِطار القادm من بعيد ، فتنهد بـ.ـارتياح بعد تأخره لساعة عن موعده .. هنا وصلت رسالة من هاجر تبلغه برقم العربـة الجالسة بها ..
دقائق محدودة توقف فيها القطار وتوافد النزلاء والرُكاب .. الجميع يصطدm ببعضه من شـدة الازدحام .. صعد العربة ليحمل الحقيبة عن أخته وبدون سلام مسك كفها وسحبها خلفه وهو يحاوط عليها من اصطدام المارة كألا يلمسها أحد .. هبط الاثنان من القطار فسحبته لمكان أقل ضجيجًا على الرصيف وعانقته بلهفة معبرة عنّ شوفها:
-وحـ.ـشـ.ـتني يا هلال !! أيـه الحلاوة دي ، صحتك رادة على وكل صفية !
لم يرق له الحال بل ابعدها عن حـ.ـضـ.ـنه وهي يتفقد أعين المارة حولهم معاتبًا :
-كيف تحـ.ـضـ.ـنيني قصاد الخلق والناس عيونهم مفنجلة عليكِ !!
لم يخلٌ وجهها من البشاشة :
-وفيها ايه يعني مش أخوي وأحـ.ـضـ.ـنك واحبك على كيفي !! حدش له حاجة عندينا .
كاد أن يتمسك بمرفقها مستردًا لهجته :
-لنا بيت يا أوختاه ..
-وحـ.ـشـ.ـتني قوي أختاه منك ..
لم تتحرك خطوة ، فتوقفت وهي تجوب المكان بأعينها باحثة عن شخص ما :
-استنى يا هِلال .. رقية راحت فين عشان نوصلوها في طريقنا !!
-منّ رُقية !!
ردت بعفوية وهي تمتد بنظرها هنا وهناك :
-رقية بت عمي أبو الفضل الله يرحمه ، ماهي معاي بالكلية .. ملقيتش حجز في الكرسي اللي جاري ..
حدجها معارضًا :
-ومين هيوصلها !! أنا مبخر العربية ومش هركب فيها حريم يا هاجر .
تجاهلته هاجر وهي تبحث عن رُقيـة هنا وهناك وتحاول التواصل معها بالهاتف ، متغاضية عن رفض أخيها القاطع ؛ فأشرت إليها بعفوية :
-اهي رُقية جات أهي خلاص .
على سهوة منه وبدون أي نية لرؤيتها انحرفت عيناه لتلك الفتاة التي تقترب منهم مرتدية فستانًا باللون الأبيض وفوقه خمارًا حديثًا باللون ” الكشمير ” الهادي وتجُر حقيبتها ورائها .. تسمرت عيناها وكأنه يُراقب بدرًا في ليلة تمامـه .. فتهامس له القلب بتلك الكلمـ.ـا.ت التي قرأها لأبو قاسم شباني :
-كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ أو تَحْلُمُ
بالنُّورِ، بالهوى، بِالنّشيدِ
ولكن سرعان ما عاد له رُشـ.ـده ودار الجهة الأخرى وهو يستغفـر بلسانٍ لاهث ، يذكر الله بسره وبقلبه وبلسانه المعتذر عما بدى منه بنظرته الأولى التي لم ينتويها أبدًا .. اقتربت منهم رُقية متسائلة :
-هيثم لسه مجاش !!
أشاحت هاجر نظرة نحو أخيه الواقف بظهره :
-جيه هلال يا ستي .. حظنا هنركبوا معاه .. عارفة هيثم وخوته ، هِلال عاد عكسه تمامًا .. هتقولي الاتنين مش أخوات ..
تأرجحت عينيها بفضول أن تُطالع ذلك الرجل الباخن ذو الأكتاف العريضة الواقف مصدرًا ظهره لهما غارقًا في حلقة من الذكر عما اقترفه من خطأ في حق قلبه .. ربتت هاجر على كتفه :
-حبيبي يا خوي ، يلا بينا !
غمغم شاردًا بين ذنبه وكيف سيُكفر عنه :
-لأين !!
-البيت !! هتوصل رقية الأول وبعديها نروحوا ..
عقدت رقية حاجبيها بدهشة ثم تدخلت مقترحة بإحراج :
-أنا ممكن أخد عربية للنجع وأكلم حد يتلقاني على الطريق !
عاتبته هاجر بنبرتها الحادة كي يتحرك :
-ودي تيجي كيف !!! هِلال !! يرضيك تركب عربية مع راجـ.ـل غريب؟!
تحمحم بخفوت ثم قال مجلجلًا :
-حالًا سأحضر لكما عربة أجرة ..
لكزته هاجر بكتفه :
-هلال!!! مش وقته وحياة أبوك !!
فتفوه من خلف فكيه المنطبقين:
-مش هركب إمراة أجنبية عربيتي يا هاجر .
قرصته بخفاء كي يتراجع عما يقوله ووضعت الحقيبة بيده ثم شـ.ـدت حقيبة رُقية كي تُجمل الموقف الذي وضعها فيه أخيه وقالت بابتسامة اعتذار :
-يلا عاد اتأخرنا .. خد شيل دول ..
زفر على مضض وهو يحمل الحقائب دون ان يلتفت للوراء على عكس مزاح وخفة هيثم المتواصلة معهمن ، كان النقيض تماما بهلال الذي جر الحقائف وأخذ يغمغم بأذكاره كي يشغل قلبه عن ذلك الآثم الذي سيقترفـه .. وصل لسيارته السوداء التي يفوح منها رائحة الطيب والمسك .. وضع الحقائب بالخلف وما زالت رأسه بالأرض لم تتزحزح إنشًا .. فتح باب سيارته وجلس بمقعد السيارة ، جلست هاجر التي تكتم الضحك بجواره واتخذت رُقية من المقعد الخلفي لسيارته مجلسًا .. وهو يشغل سيارته الفخمة أخذ يردد بصوت مسموع :
-الله اكبر الله اكبر .. سبحان الله سبحان الله ..
“سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ”
بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت رُقية من حين لأخر تخـ.ـطـ.ـف نظرة إلى المرآة التي ينعكس فيهـا صورته ، شاب مُلتحي ، ذو وسامة تسحر أي فتاة تراه ، ملتزم متشـ.ـدد لم يرفع عينيها إليها أبدًا .. أخذ الفضول يتأكل برأسها حول شخصيته وشخصية هيثم الذي يصنع الضحك ومعهم وصوت الغناء واللهو لا يُفارق سيارته ، والحلوى والمشروبات التي يستقبلهن بها .. تناقض عجيب ولذيذ يفوز به صاحب الأكثر هدوئًا والأكثر رزانة .. تحمحمت هاجر بجواره لتقطع الصمت السائد بينهم :
-هِلو ، عطشانة ..
رد باختصار :
-ابقي اشربي ببيتكم !!
-ليه هو حـ.ـر.ام اشرب في الشارع ؟!
ود بنبرة تحمل السُخرية خالية من أي جدية وهو يمازحها بوقار :
-لعل وعسى يراك شابًا فُيفتنه شربك للماء !!
ردت بنفس نبرته الساخرة :
-وهو مستنيني أشرب ميه عشان يتفتن !! انزل هات لنا عصير وفطور .
-صفية عاملة وليمة لمين !!!
تلقى مداعبة أخته ببسمة خفيفة شقت النور بسواد لحياته لاحظتها رُقية فأشعل نوعًا آخر من الفضول حوله .. تحمحمت بخفوت وعزمت الأمر على ألا تُطالعه مرة ثانية ، على أن تتمادي وتتجاوز حدودها في مراقبته وهذا لا يتناسب مع نشأتها الأزهرية وختمها للقرآن الكريم تامة ، استغفرت الله بسرها ثم عادت لتناظر الطريق من النافذة .. كانت عيناه كل ما تُراقب الطريق من المرآة الأمامية يتعثر بملامحها الشاردة .. تكرر الأمر مرة واثنان وفي الثالثة أدرك لعنة ذلك العضو أن اتبع هواه و الذي دعا الرسول لأجله متبريًا من ذنبه قائلًا :
-ربي لا تلمني فيما لا أملك ..
أوقف سيارته فجاة فثارن الفتيات برجفة انتابتهم ، وقالت هاجر بفزع :
-في أيه يا هلال !!
تحمحم بخفوت وبأنظاره المتدليـة أردف بلكنته الفصيحة :
-أخت رُقيـة !! من فضلك انتقلي للمقعد الخلفي لهاجر !
تدخلت هاجر بعد فهم :
-ده ليه يعني !!
تنهد بلفظ الجلالة وقال متحججًا :
-العجلة الناحية دي نايمة !!
هبطت رقية من السيارة وهي تلعن ذلك الحظ الذي جمعها به وبعقده النفسية ، وقبل أن تنتقل للجهة الأخرى فحصت الإطار الذي يحتج به سليمًا لم يمسه خدشًا ، فغمغمت متحيرة :
-ماله ده كمان !!!!!!
تهامس مع أخته في ظل انتظار لعودة رقية التي هبطت لتنتقل للجهة الثانية :
-شايفة أهو بسببك اللعنة حلت على العربية .
مازحته أخته التي اعتادت على الضحك مع هاشم وهيثم والدلال على هارون ، وبخفة ظل دmدmت ساخرة :
-حقك علينا ، أبقى وديها زار .
-كله من الفاسد هيثم !!
برقت عينيه بغـــضــــب لا ينتهي ولكنه زفر مُتبعًا نصيحة الرسول صل الله عليه:
-إن غـــضــــب أحدكم فليصمت وليستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
•••••••••
~عودة لمنزل العزايزة ..
تقف ليلة تحت ظل الشجرة تتوسل أمها مرارًا وتكرارًا والعبرات تترقرق من مُقلتيها متجاهلة الضجة الكبيرة المُخيمة على المكان وتترجاها :
-مامي افهميني ، أديني اسبوع واحد بس .. والله أسبوع هأخد شوية صور وهرجع ، دي فرصتي الوحيدة ، بليز يا مامي .. سيبيني أجرب وبس المرة دي .
فرغت نادية من ارتداء ثوبها الطبي وقالت :
-انا مش واقفة ضدتك يا ليلة ، أنا اعتراضي على البلطجية اللي أنتِ قاعدة عندهم .
حاولت توضيح الفكرة لأمها :
-والله دول طيبين جدًا ، وأنا لو كنت حاسة بأي مشكلة كنت ههرب ، لكن دول مرحبين بيا وهيساعدوني ، بليز يا مامي .. ممكن تسيبيني المرة دي وبس..
فكرت نادية لبرهة ثم عقدت اتفاقها مع ابـ.ـنتها بحزم كعادتها وشروطها المعهودة التي تبدأها بـ:
-تمام يا ليلة جربي ، بس لو فشلتي المرة هترجعي وتتجوزي شريف ومش هقبل أي دلع .. اتفقنا .
غمغمت على مضض غير مقتنعة ولكنها قبلت التحدي معها تلك المرة بشغف :
-بجد !! مامي وانا موافقة .. ان شاء الله مش هفشل انا قلبي حاسس إني هنجح وهشرفك وهابقي أشهر مذيعة في الوطن العربي ..
عادت نبرتها بنفس الحدة :
-اتفقنا يا ليلة ، فشلتي هترجعي لشريف ومفيش حلول تانية ..
انتهت مكالمتها مع أمها بـ.ـارتياح ، أخيرًا انزاحت الغُمة و أمامها سبعة أيام فقط لتتبدل حالها من حال لحال .. اقترب منها هيثم بوجهه المُغازل :
-ما ليكي عليا يمين ، بيتنا عمره ما شاف النور والحلاوة دي غير بوجودك ..
ثم دار حولها بدون ما يمهلها فرصة للرد مُكملًا كلمـ.ـا.ته المحفوظة :
-يا صباح الخير متأخر ، يا عود والع متبخـر .. سألت عليك القمر قالي طول الليل نايم تشخر .
بضحكتها العالية التي دوت بساحة منزل العزايزة متناسية نفسها وهي تتمايل بدهشة ، كان هارون يبعدهم بمسافة كبيرة ولكن صوت ضحكتها جعلت رأسه تلتفت لعندها بأعينه الجاحظة خاصة عنـ.ـد.ما رأس أخيه يتساير معها :
-هيثم أنت قديم ولوكل !!! بس فظيع بجد !
شـ.ـد ياقة جلبابه :
-عجبتك الد.خـ.ـلة !! عندي منها كتير كل يوم هسمعك واحدة !
لم تفرغ من غيبوبتها التي غرقت بها ، فأردفت بتنهيدات الضحك :
-أنتَ ازاي مش مرتبط لحد دلوقتي ، بجد في بنات كتير الجو ده بياكل معاها .
مد ذراعـه مستندًا على جذع الشجرة خلفها لتجد نفسها محاصرة تمامًا بينهمـا وهو يقول :
-وأنا مش عايز غير جوك ، جو اسكندراني على أبوه .
تصلبت تعابير وجهـها وبرقت عينيها عنـ.ـد.ما وجدته هارون واقفًا خلفه وهي ينفث دخان غـــضــــبه ، تناست كيف تكون الكلمـ.ـا.ت كيف تحذره ، كل ما فعلته التصقت بالشجرة خلفها ؛ فأتبع هيثم يبث شكواه من أخيه :
-هِرن ولد الـ*** قال لي لو قربت منك هيقــ,تــلني ، فـ أحنا نتخاصموا قدامه عشان أنا متعودتش أكـ.ـسر كلمة كبيرنا ..
اتسعت ابتسامته حتى أكمل حديثه بنفس النبرة :
-يخفي هارون من قدامنا أنا كلي بتاعك يا أحلى ليلة في عمري .
غمغمت باسم وهي تراقب الشرار المتقاذف من أعين أخيه ، كادت أن تُخدره :
-هيثـم …
أكمل بحماقة :
-يا أحلى هيثم سمعتها في حياتي ..
أدركت أنه سيتمادى بالأمر فانحنت هاربة من تحت ذراعه الممتد كي تهرب من سطوه ، دار هيثم ليصطدm بأخيه الواقف كالصخرة وهي التي تراقبه بخــــوف يتقاذف من مُقلتيها ، رفع حاجبه متسائلًا بثقة :
-هِرن أنتَ هنا من مـ.ـيـ.ـتى !!
لم يجد ردًا من أخيه الذي طفح كيله من تصرفات أخيه العبثية ، فنظر لليلة معاتبًا :
-وأنتِ سيباني أبعبع زي الأهطل !!
ثم شـ.ـد ياقة جلبابه متلقيًا عقـ.ـا.ب أخيه :
-هِرن أنا مش هتربى غير لما اترن العلقة .. انا قدامك أهو .. اقــ,تــل فيّ لحد ما يبانلي صحاب.
انفجرت ليلة ضاحكة وهي تكتم الضحك بكفها فأشاد بإعجاب :
-الصلاة على الصلاة ..
تمالك هارون أعصابه بصعوبة واكتفي بنظرته الحادة وهو يأمره لانه لم يعتاد أن يمد يده على أخيه تحت أي ظرف :
-أنا قُلت ايه !!
ثم زفر بضيق واكتفي برفع حاجبه الأيسر الغاضب:
-حسابي معاك بعدين ، أمشي .
ثم دار لـ ليلة التي لم تتحمل تلك النظر من عينيه وقبل أن يبث ببـ.ـنت شفة وهي تقف على هبوب خــــوفها قائلة :
-هيام .. هيام مستنياني في المطبخ .. هروح أشوفها ..
فرت من أمامه كالارنب فزفر دخان غـــضــــبه :
-هي ليلة غبرة على هارون واللي جابوا هارون .
ثم دار لهيثم الذي يتغزل بجمال ليـلة وبراءتها جاهرًا وهو يشمر أكمامه :
-هو دبور و زن على خراب عشه !!
~بالمطبخ ..
تغنجت زينـة متفاخرة وهي تضـع يدها بخصرها وتتمايل بين الخدm خاصة بعد انضمام ليلة لهما :
-والله الرك على النيـة ؛ ونيته ومراده واللي معششة جوه قلبه وعينه هي أنا ..
ثم أطالت النظر متعمدة إعلان ملكيتها له أمام ليلة :
-طلع دايب في حُبي وممبينش .. مش سهل هارون بردك .
رمقتها صفيـة بسخط متبعـة غيرة الحموات وهي تقرصها :
-خفي نبـر ، عشان شاريـة رضا الواد عنك بكوباية شاي .. إحنا ما صدقنا .
فتدخلت نجاة غير مصدقة :
-يعني خلاص !! العُقدة اتفكت وهنفرحوا بهارون يا عمتي !! طلع وشك حلو علينا يا ليلة .
مشاعر متشتتة خيمت على قلب ليلة لا تفهمها ولم تعٍ ترجمتها اكتفت بابتسامة هادئة ، كانت صفية مشغولة بقطف الملوخية على السُفرة ، فتنهدت بـ.ـارتياح :
-العشيـة هنروحوا نتقدmوا لزينة .. وربنا يحلها .
هنـا دخلت نغم التي استقبلتها زينة بكيد أنثوي :
-بت حلال يا نغم ، تعالي .. اسمع
لقـد عرف نزار معنى الهوى قائلًا :
“أن تتحكم إمراة بأقدار الرجـ.ـال ..
ولكن شيئًا فيكِ سريًا !!!!”
ولكن ما هو الشيء السري الخفي الذي كان يشغل بال نزار حينها و.جـ.ـعله ينجذب إليها خصيصًا دونًا عن غيرها !! ما هو الشيء الفريد من نوعه الذي خُلق بالمرأة كي يصنع من رجل ذو جاه ووقار ليكون بين يديها برقة نسيم الفجـر ، يتحول صوته الرخيم لتلك النبرة الهادئة التي يخشي أن تُؤذيها .. مهما تعددت الأقاويل وتنافس الفلاسفة لن تكون بعمق تلك الحقيقة الثابتة والراسخة لهذا الترابط الروحي لانجذاب الرجل لإمراة بعينها ، تلك العاطفة التي تُضاهي عاطفة الأمومة بين الأم وصغيرها ، فالرجل مثلها تمامًا ؛
“فـ كما ينسل من أرحام النساء أجنـة ، يُنسل من أضلع الرجـ.ـال أحبة . ”
#نهال_مصطفى ❤️
•••••••••
-” يسـعد صباحك يا حچ خليفـة .”
أردف هارون جملته الأخيرة وهو يشـ.ـد طرف عباءته التي خلعها في حضـرة أبيه ، جلس جاره فوق الأريكة الخشبية الموجودة بجانب مدخل الباب الخلفي للمنزل ومكان أبيه المُفضل الذي اعتاد المكوث فيه ، رد عليه ذلك الرجل الذي أصابه الهرم والمستند على عُكازه :
-يجعل الخير كله بين يدك يا هارون يا ولدي .
ثم أتبع أبيه متسائلًا :
-عملت أيهِ فـ شغل مِصنع السكر ، حليت الأمور ؟
تنهد برتياح :
-والله يا حچ مش هكدب عليك ، المُصنع ديه مشاكله كترت ومبقاش چايب همـه .. بفكر أشوف له بيعـة بدال و.جـ.ـع الراس اللي چاي من وراه كُل يوم .
شبح ابتسامة معاتبة بدت على وجهه كأن الأمر لم يرق له ؛ فأردف واعظًا بحكمته المعهودة :
-وأنت كُل ما يوجـ.ـعك ضِرس هتقِلعه ، بعد كام سنة خشمك هيفضى بالحال ديه !! ما ينفعش يا هارون يا ولدي ، اتعلم تعالچ المشاكل من چِدرهـا حتى ولو فكرت تبيع ؛ تبيع وأنتَ كسبان ومكسب غيرك .
-أنا هعيش عمري كُله اتعلم منك ومن حكمتك يابا .
فأومئ متفهمًا وجهة نظر أبيه ، فهز رأسه بالموافقة :
-أوعدك هشـوف يا حچ ، بس أنا كتت عاوزك في موضوع تاني .
-قول يا هارون يا ولدي ..
تحمحم بحيرة من أين سيبدأ حديثه مع أبيه ، حك ذقنه الخفيفة بتردد :
-بخصوص البت الصحفية اللي چايبهـا هيثم ..
ثم غمغم بسره :
-مجايبه المقندلة زي وشه ..
رمقه أبيه باهتمام :
-مالهـا يا ولدي ، باين عليهـا غلبـانة ولو محتاچة مساعدتنا نساعدوها .
-فاهم يا بوي ، بس أنت خابر هيثم ولدك ملهوش أمان ومينفعش يتساب مع البت دي لروحه يدبسنا في ورطة إحنا مش قِدها ، وفي نفس الوقت على قولك اللي محتاج مساعدة نساعدوه !
أيده أبيـه متفهمًا :
-عداك العيب يا ولدي ..
ثم أتبع هارون متجاهلًا تلك النغزة التي تُحذره من شم هواء بحرها الذي أن لفح قلبه سيغرقه بها ، وأكمل بتوجس :
-هي قالت هتقعد إهنه أسبوع بكَتيره ، فـ أنا هساعدها لحد ما تاخد مُصلحتها وتهملنا وكّمان عشان منصغرش هيثم مع ضيوفه .
-عين العقل يا ولدي ، وخير ما عملت .. هيثم أخوك مدبوب وراسه مريحاه على الآخير خلينا بعيد عنِه..
ثم استند على عكاز لينهض ، فساعده هارون في ذلك وأكمل موصيًا :
-خليك مع الضيفة لحدت ما تخلص مصالحها ، وأكرمها مش عايزين حد يمسك سيرتنا يا هارون ولا يقصر رقبتنا.. بيت خليفة العزايزي مفتوح للغرب قبل القُرب .
تابع السير مع أبيه وهو يسنده :
-على خيرة الله ، أنا قُلت أخد إذنك قبل أي شيء .
تمتم ذلك العجوز صاحب السبعين عامًا بهدوء:
-ربنا يكملك بعقلك يا ولدي .
ما خطت أقدامه أعتاب المنزل ، فأردف :
-قولت لصفية تأجل روحتنا لصالح لبكرة العشية ، يكون هاشم ريح ضهره من السفرية وقعدتوا مع بعضكم هبابة من غير خوتة .
ضـ.ـر.ب على رأسه متذكرًا ذلك الأمر الذي تنساه :
-صفية دي ما عضيعش وقت واصل ، دي ما صدقت عاوزة تخلص مني قوام قوام .
ضحك خليفة بخفوت :
-عايزة تفرح بيـك يا هارون ، وأنا كّمان عاوز أشوف عيالك قبل ما أقابل وجه كريم يا ولدي .
-بعد الشر عنك يا أبو هارون .. حسك في الدِنيـا .
أحس بتورطه في الأمر ولا يوجد مفر حتى ولو لم يلزمه ، سواء زينة أو غيرها فهو لا يميل لأمور الزواج وزيادة حِمله في هذا التوقيت بالذات ، ولكنه عقد كلمته مع أمه ولا يمكنه التراجع عنها مهما حدث ، فـ غمغم على مضضٍ :
-اللي فيه الخير ربنا يقدmه يابا.
•••••••
-“اكـسر شمالك يا هلال ، بيتهم اللي بالأزرق ده ”
أردفت هاجر جملتها الأخيرة وهي تصف له طريق بيت رُقية ، فامتدت عينيه للطريق الضيق الذي يحاصره الخضرة من الجانبين ؛ فأوقف السيارة معترضًا :
-لو دخلت لـ چوه مش هقدر أطلع .. والعربية هتتغبر .
ثم تأفف باختناق متحدثًا بلغتـه التي لا يجد نفسه إلا عنـ.ـد.ما ينطق بها :
-يكفي بهذا القدر ، يمكنها قطع تلك المسافة القصيرة سيرًا .
وبخته هاجر رافضة قطعًا :
-هِلال !! هيثم كان يدخل ويطلع عادي ، متعقدش الموضوع .
رد بإيجاز :
-أنا أعلم بأمر الطريق وأمر سيارتي ..
فاض صبـر هاجر منه ، واكتفت بإرسال نظرة اعتذار لصديقتها ثم جاءت مقترحة :
-طيب روح وصلها الشنطة لحدت باب البيت ، طالمـا مش هتخـش لچوه .. الشنطة تقيلة ومش هتتجر في التعاتير دي .
عض على شفته بامتعاض وهي يبرق لأخته كي تصمت :
-اتقوا شر الشُبهات ، لا يجوز يمكنها حَمل حقيبتها بنفسها ..
كادت هاجر أن تحتد في نبرتها فتدخلت رُقية التي قالت مغلولة من تصرفاته العبثية الغير مفهومة :
-خلاص يا هاچر ، سيبيه على راحته .. أصل شيل شنطتي شُبهة بالنسبة له ..
ثم وضعت يدها على مقبض الباب وأكملت مندهشة بنفس النبرة المغلفة بالسخرية :
-أتتبع دينًا جديدًا يا مولانا !!
ثم هبطت من سيارتـه التي قفلت بابها بغـ.ـيظ ، فحدج أخته مضطربًا لصفع باب عربيته التي لا يتحمل عليها الغُبـ.ـار :
-هل هذا جزاء المعروف !! هل هذا رد الجميل !
ثم وقفت رقية أمام نافذة السيارة جهة هاجر لتلقي جُملتها الأخيرة متعمدة وصولها لأخيها صاحب الحكم والمواعظ التي لا تروق لها ؛ وأردفت بتخابث :
-على فِكرة عچلة العربية سليمة ومفيهاش حاچة يا دكتورة هاچر ،  عـ.ـر.في فضيلة الشيخ أنُ الكِدب كمان حـ.ـر.ام ؛ شكله نساي .
ثم تركته مشـ.ـدوهًا متسع العينين ، يتجلجل بالكلام لا يعرف ماذا سيقوله غير أنه وجه أسهم عتابه لأختهِ ، عاد للهجته الصعيدية مواصلًا بحـدة ممتزجة باللوم :
-أنا قولتلك مش هركب حريم يا ستي في عربيتي ، بدل ما تشُكرني جاية تعلمني الأدب !! وكّمان طلعتني كاذب .. أنا كاذب !!
بطش الغـــضــــب بملامحه ثم هبط من سيارته بعد ما فتح الباب الخلفي للسيارة وترك هاجر في غيبوبة ضحكها ، اتجه لعندها وهو يتجلجل موضحًا موقفه وعينيه بالأرض مشيرًا بسبابته :
-بأي حق تتهميني بالكذب يا أخت رقية !! اتعلمين ما بسيارتي أكثر مني !!
وقفت أمامه متحدية وكأن راقت لها فكرة الانتقام من تشـ.ـدده بالدين وتعسره المُبالغ فيه حد التطرف :
-طبعا أعرف !! وآكيد مش هتهمك بالباطـل لان فعلا العچلة سليمة .
أحمرت وجنته من شـ.ـدة الإحراج إثر كشف كذبته البيضاء ، فكيف كان عليه أن يخبرها بأن عينيها يُثيران الفتنة بقلبه المؤمن ، أن ملامحها البريئة المعكوسة بالمرآة لم يتحمل مقاومتهما وتجعله ينحرف عن طريقه .. بلل حلقـه باختناق وهو يسحب لها الحقيبة كي ينتهي ذلك الحوار المنهزم به ولأول مرة يهزمه أحد كما فعلت هي :
-استغفر الله !! زهرًا تزرع شوكًا تحصد …هذا هو طباع البشر .
ثم كادت أن تأخذ حقيبتها منه إثر نداء هاجر المعترضة :
-ما تخلصونا في أم يومكم ديه !! عاوزة أروح لأمي .
رفض أن يترك لها الحقيبة التي يحملها بل قفل باب السيارة وأسرع الخُطى صوب المنحدر الذي ينتهي ببيتهم وهو يذكر الله جهرًا متجاهلاً ندائها المتكرر خلفـه ولم يلبٍ ندائها إلا برفع صوته المهلل بالذكر حتى وصل لأعتاب بوابة بيتهم وترك الحقيبة بضيق هاتفًا بلطف خفي :
-إهانة مقبولة يا أخت رقية .. اشكرك.
لم ينتظر ردها بل هرول كي لا يستسلم لرغبة قلبه المُلحة بالنيل من ملامحها الهادئة ولو لمرة واحدة ، تجاهله لها جعلها تضـ.ـر.ب الأرض غـــضــــبًا وهي تجُر حقيبتها نحو الباب :
-ديه شيخ ازاي ديه !! ديه يروح يتعالج .
لم تخطٌ خطوة ففوجئت بتلك اليد الملعونة التي توبخها بقسوة:
-في أيه بينك وبين هلال العزايزي يا بت عمي !!
جذب ذراعها باعتراض وهي تنهره بعنفوان :
-سيب يدي يا بكر !! أنت مچنون ولا مبلبع أيه على الصُبح !!!
ثار بركان الغـــضــــب بملامحه :
-وأنتِ لساتك شوفتي چنان !! هلال العزايزي كان يعمل أيه إهنه يا رقية!!!
صرخت بوجهه كي يكُف عن طريقها الذي يتبعه كظلها :
-وأنت مالك !! أنت مالك يا بكر ، ولآخر مرة عقولهالك بالذوق ابعد عن طريقي وإلا هروح لهارون العزايزي وهو يتصرف معاك ومن بلطجتك .
قالت جملتها الأخيـرة وهي تدفعه عن طريقها كي يبتعد عنها ، كي لا يقف بوجهها مرة آخرى ، لم تتزحزح خطوة فكان أمامها كالسد المنيع مهددًا :
-وأنا إكده هتهت وأكش ! يكون في معلومك أنا إهنه مكان المرحوم عمي .. وطول ما هو مش موجود تبقي في حمايتي وتحت طوعي ومن حقي أعرف كل حاچة عنك !
اختنقت من تحكمـ.ـا.ته الزائدة عن الحـد :
– بصفتك مين !!
تلونت ملامحه الخبيثة وهو يقف أمامها بنظراته الشرانية :
-ولد عمك الوحيد وجوزك وقدرنا مكتوب في السما قبل الأرض يا ضكتورة .. ده العُرف اللي متخلقش اللي يغيره .
-ده عشم أبليس في الجنة يا بكر يا بن عبير .
كانت نبرتها قوية ولكنها مهزوزة ، خالية من أي سند ، سندها الوحيد فارق الحياة وتركها فريسـة لبكر ولعرف العزايزة الذي يمنح الأولوية لزواج الفتاة الوحيدة لابن عمها الشقيق دون غيره ؛ هنا خرجت أمها من البيت إثر صوتهم المرتفع ، فلم يُهنئها باستقبال ابـ.ـنتها التي تُعد لها أشهى المأكولات:
-خير يا بكر !! حسك عالي ليه ؟! البيوت ليها حُرمة.
كعادته قلب السحر على الساحر مرتديًا وجه الطيبة :
-يرضيكي قِلة القيمة اللي فيها رقية دي !! هِلال العزايزي موصلها لحد باب الدوار ، دي الأصول يا مراة عمي !!الخلق كلو وشنا .
وقفت أمها أمامه كالسد المنيع الذي يحمي ابـ.ـنتها من أي اتهامـ.ـا.ت:
-اقطم يا بكر كلمة زيادة هقِل منك في قلب دارنا ، أنا بتي بمليون راجـ.ـل ومحدش يستجرى يرميها بالباطل ، شكلك نسيت روحك ونسيت أن اللي قدامك دي تربية أبو الفضل العزايزي ..
ثم اقتربت منه رافعة سبابتها بنبرة تحذيرية :
-أبعد عن بتي يا بكر ، أنا معنديش بنات للچواز ، بتي وهقعدها چاري ليك عِندينا حاچة.
حك بكر ذقنـه وهو يخـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة من تلك التي تحتمي بظهر أمها ، وقال بتخابث:
-شكلك أنتِ اللي ناسية يا مراة عم ، أن بتك بورثها بمالها كِلياتهم من نصيب العبد لله ، ده العرف والشرع لإنك مجبتيش الواد الليِ يعصبها (يمنعها ) من قدري معاها.
هتفت رقية بقوة رافضة تلميحاته السخيفة :
-ده بعينك يا بكر ، المـ.ـو.ت عندي أهون ولا أنك تطول شعرة مني ، ونصيبك في حق أبوي لو عرفت تثبته ابقى خُده ..
ثم غادرت حِما أمها ووقفت أمها لترمي قذيفتها بوجهه بنبرتها القوية لا تخشى أحد :
-وأثبت ، أبوي كاتب كل أرضه بيع وشرا ليّ أنا وأمي ، واللي معرفش يديهولك مجلس العزايزة وريني هتاخدو كيف !! ويلا جُر عجلك من إهنه وقصاد أمي لو قطعت طريقي تاني يا بكر هقِل منك ومن اللي جابك .
بنظرات الثعلب الذي لا ينوي إلا الغدر رمقها من رأسها للكاحل وعلى محياه تلك الابتسامة الماكرة التي تعني أنه لا يستسلم ولم يتنازل عن مطامعه بهذه المسكينة التي أخدت منها الحياة كُل شيء وحتى المال استكثرته عليها …
يجلس هِلال بجوار أخته بعد ما اشعلت فتاة الكبريت النيران برأسه وهو يستغفر تارة وتمتم طورًا حتى انفجر بوجه أخته غير مصدقًا :
-أخرتها كذاب !! أول وآخر مرّة هجيبك فيها من المحطة يا هاچر .. أنتن تستاهلن هيثم وأشباهه.
رمقته هاجر الغارقة بالضحك على حاله ثم قالت :
-صراحة أنتَ زودتهم يا مولانا !! أنت قارش مِلحة البت ليه مش فاهمة !! دي غلبـانة .
رفع حاجبه مستنكرًا ومعترضًا على طيبتها فقال وكلمـ.ـا.تها تتقاذف كحبات الفِشارة برأسه :
-لكنها سليطة اللسان .. وناكرة للمعروف .
ثم نظر إليها مبرقًا كإنه غير مصدق ما رمته بهِ :
-أنا كاذب !!!!!
تخفي الضحك خلفها كفها الموضوع على شِدقها وأعينها اللامعة وهي تسأله بتخابث :
-بالحق !! أنتَ ليه خليتها تغير مكانها وعچلة العربية مفيهاش حاچة !!
هتف مرتبكًا :
-الأمر لا يعنيكِ ..
-يعني أيه ؟!
عاد للهجته التي كُل ما يضيق به الأمر يستعين بها قائلًا بتـ.ـو.تر بينّ بكلمـ.ـا.ته :
-يعني أقطمي أنتِ كّمان لحدت ما نوصلوا يا هاچر .
••••••
~بمرسى علم .
-” أنا أهو قصاد بوابة النجع بالظبط ، يلا قومي نامي وبطلي غَلبـه ”
أرسل لها صورة على موقع التواصل الاجتماعي الذي يربطهم في فترة غيابه كاتبًا جُملته الأخيرة لتلك التي قضت ليلتها معـه تتابع خطواتـه ، شرعت بتسجيـل رسالتها الصوتية بصوتها العـ.ـذ.ب الذي يشـ.ـدو بتنهيدات عشقها الغير متناهي وقالت :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك وأول ما تعرف تكلمني كلمني في أي وقت يا هاشم ، صوتك وحشني .. اتصور كتير وابعت لي .. بحبك .
ثم قفلت هاتفها وتدلت أقدامها الحافية بالأرض لترتدي نعالها الفرو وتُجر في أقدامها لغُرفة النوم بمنزل أمها .. ما كادت أن تخطو خطوتين ففوجئت بأمها التي تتأهب للخروج ، نظرت لها بأعينها التي تحاوطها غيمة القلق السوداء وبصوت مُرهق :
-صباح الخير يا مامي.
حدجتها سامية بلوم :
-أنتِ لسه صاحية منمتيش يا رغد !! ليه يا بـ.ـنتي بتعملي في نفسك كده .
رفعت جفونها النائمة بصعوبة بالغة :
-لازم اطمن على هاشم يا مامي هو وصل وبيسلم عليكِ ..
ثم تثاوبت مُعلنة عدm قُدرتها على تحمل المزيد من السهر :
-هدخل انام بقا .. خلاص مش قادرة .
لم يرق لأمها الحال فلجأت للصمت لأن أي كلام غير مُجدي معها ، فتمتمت بملل :
-طيب نامي وأنا نازلة النادي أفطر مع صُحابي .
أومأت كالسكيرة وهي تتجه لغرفتها ولكنها تذكرت شيء جعلها تعود لأمها مرة ثانية:
-مامي استنى بعد إذنك ..
عادت لغُرفة الجلوس التي كانت تقطن بها وأمسكت بعلبـة أقراص منع الحمل وعادت لها :
-ممكن بس تصوري دي على موبايلك، عشان خلصت ومكسلة أطلبها .. هاتيها وأنتِ وراجعة بليز .
تناولت سامية العُلبة من ابـ.ـنتها وقرأت الاسم فغلت الدmاء بعروقها وهي تلومها :
-أنتِ لسه بتاخدي الحبوب دي يا رغد !! وبعدين ، أنا بدأت اتخـ.ـنـ.ـق من الحال ده ..ده كلام ميرضيش حد.
غمغمت بتعب :
-حال أيه بس يا مامي !!
-حالك أنتِ وهاشم ، فات سنة وشهرين ولسه معرفش أهله ، وبيتعامل معاكي كإنك شقة مفروشة يجي يريح فيها كام ساعة ويختفي بالأسابيع .. المهزلة دي لازم تنتهي يا رغد ..كفاية .
-يا مامي والله ما متحملة اسمع كلمة زيادة ، بجد الصداع هيفجر دmاغي .
لم تهتم أمها بحالتها ، بل واصلت حلقة عتابها وبنفاذ صبر :
-لا يا رغد ، الحُبوب دي أنتِ مش هتاخديها تاني !! ولو هاشم مش هيعلن جوازكم قُدام أهله بالذوق ، يبقي لازم يعلنه بالعافيـة .
تشبثت برأسها التي تصدح من قلة النوم :
-يا ربي !! مامي أنا هروح أنام وأول ما أصحى نتكلم ونتخانق على راحتنـا ، بس بليز متنسيش تجيبيها .. يلا Have a nice day …
تركت أمها التي تحمل قُفة الجزع فوق كتفيها وعدت لغرفته وارتمت على السرير ولا يشغل رأسها شيء إلا النوم .. رمت سامة علبة الدواء بحقيبتها متوعدة :
-طيب يا رغد ..
غادرت سامية منزلها وأول مكان ذهبت له صيدلية الدكتورة إيمان رفيقتها المُقربة ، دخلت لعندها بملامح وجهها الغاضبة وقالت بدون سابق إنذار :
-إيمان أنا محتاجة مساعدتك ..
تركت إيمان ما بيدها وألتفت لصديقتها :
-سامية !! مالك يا حبيبتي ..
أخرجت عُلبة الدواء من حقيبتها ووضعت على سطح المكتب :
-شايفة العلبة دي ،عايزة واحدة زيها .. وعايزة أبدل الأقراص اللي فيها بأي نوع ڤيتامين مشابه .. اتصرفي يا إيمان لو ليا خاطر عندك …
•••••••
~نجـع العزايـزة …
تعجبت نجاة على حال نغم التي انسحبت فجأة من بينهم بدون كلمة وغادرت الدار قبل استقبال صديقتها المقربة هاجر .. فتدخلت نجاة متهامسة :
-هيام ، هي نغم مالها !!
انتهت هيام من لف وشاحهها الذي يتناسق مع لون عباءتها الأنيقة مكتفية بوضع لمسات خفيفة من الكُحل كي تتأهب لاستقبال إخوتها حيث قالت بحـ.ـز.ن وخيم وهي تدور لها :
-نغم عينها من هارون ورايداه ، أكيد لما سمعت إنه هيُخطب زينة متحملتش .
تنهدت نجاة بتلك النبرة الحارقة والتي يندس خلفها بركان من القهرة :
-ااه ، يا وچع القلب يا ربي !! الزمن بيعيد نفسـه يا هيام ، نفس الوچع كاس وداير على الكُل .. طيب وهارون أيه قوله !
جلست على طرف السرير حائرة في تلك النيران التي تلتهب القلوب :
-ماعرفاش يا نجاة ، ولا عارفة أيه في راس هارون أخوي .. عمره ما لمح أنه قلبه ميال لزينة .. لو چينا للحق ، نغم الأولى بهارون ، متعلمة ويتيمة وفي حالها وعتحب الخير للكُل ، لكن زينة عبـ.ـيـ.ـطة وبتلعب بالبيضة والحجر ..
استيقظ الجـ.ـر.ح النائم بقلب نجاة وهي تربت عليه بكفها كي يهدأ لتقول متأثرة :
-قلبي عندك يا نغم يا حَبيّبتي …
الخيال يسترد شيئًا لم يعد أبدًا ؛ تخيلت للحظة أن ولو الزمان لم يسن سيوفه عليها ويبتر كُل أجنحتها الوردية لتجتمع بحبيبها ، حيث أردفت بتلك النبرة اليائسـة :
-عارفة يا هيـام أصعب حاجتين على أي ست ، أنها تشوف حبيبها مع واحدة غيرها ، وتاني حاجة تنام في حـ.ـضـ.ـن رچل وقلبها وعقلها مع رچل غيره .. أنا اتكتب عليّ التانية ولسه ما دُقتش مرارة الأولى .. بس مفيش مهرب من الوچع ؛ هيچي اليوم .. ونغم يا حبة عيني هتدوق مُر الاتنين ..
أيدت هيام حديث صديقتها بالمثال الشهير قائلة :
-صدق المثل اللي قال أشوف حبيبي في مقبرة ولا أشوفه في حـ.ـضـ.ـن مرا .
ثم تمسكت بأيدي صديقتها المُثلجة بحنو :
-نجاة ، لساتك عتفكري في رءوف حتى بعد ما اتجوزتي !!
تفوهت بنبرة بقايا الحب الذي لم يتبقى منه أي شيء ألا الكلمـ.ـا.ت والحُلم ، سالت تلك الدmعة المحبوس من طرف عينيها وقالت :
-ولا عمري نسيتـه ، اتجوزت وخلفت وقضيت سنتين مع جوزي بس عمري ما اتمنيت غير رؤوف وكنت دايمًا بدعي لربنا يسامحني بس قلبي من چادر ينسى .
ثم جففت عبراتها المنسكبة وقالت:
-ت عـ.ـر.في، الفرق بين الجواز بحب والجواز الخالي منـه أيه !! كيف الفـرق بين أن قُدامك طبقين من نفس الصنف واحد فيهم عادm والتاني حايق ومّبهر .. أهو الحُب ده هو رشة الملح اللي على الوكل اللي بيطعمه ويحليه على لسانك ، تخيلي تتجبري على وكلة عدmانة ، هتاكلي منها لإنك چعانة بس عمرك ما هتكوني حاسة بمتعتها ، ولو غابت عنك سنين عمرك ما هتتوحشيها .
خيم الأسى على ملامح هيام متأثرة بهموم صديقها التي ظنت أنها تنسات حب عمرها وعاشت في كنف الواقع وتحت وطأة أعرافهم ؛ فتمتمت بشفقة :
-و.جـ.ـعتي قلبي يا نجاة ، ليه يا حبيبتي تعملي في روحك إكده وأنتِ عارفة طريقك مع رؤوف مسدود ، لو مازن مش معاكِ كُنت هقولك من حقك تحلمي، لكن ولدك قفل باب الحلم بضبة ومفتاح..
فغمغمت بأسف مبطن بالحسـرة :
-ولو قُلت يا جواز ، هيجوزوني واحد من أخواته .. يبقى بلاها أحسن ، أنا قفلت قلبي على رؤوف وولدي مازن ..
صوت قرع الطبـول التي تُعلن مجيء هاشم ختم جُملة نجاة الأخيرة وكأنها إشارة خير بأن مهما طال سواد الليل لابد من شمس الفرح تزيحه ، نهضت هيام راكضة نحو النافذة لتزيح الستار وتعلن فارحة :
-هاشم جيه ..
ثم انخفضت نبرتها بتوجس :
-نجاة !! ده رؤوف چاي معاه .
-متهزريش يا هيام !!
لفت وشاحهها بعشوائية وهي تتوارى خلف الستار لتصدق مسامعها التي نفت الخبر ، كان واقفًا بجوار سيارته مرتدي بذلته العسكرية ويخرج أشيائه .. تلصصت النظر له بجفون مرتعشـة وأيدي متشبثـة بالستار كأنها تقبض على جمر قلبها المحترق ، فـ يشـ.ـدو صوت الألــم كاشفًا عن همه بأحد الأبيات الشعرية التي تربت عليها ولا تعلم بأنها يومًا ستعيشها بنفس القدر من الألــمِ :
لن تستطيع سنين البُعدِ تمنعُنا
‏إنَّ القلوبَ برغمِ البُعدِ تتصِلُ
‏لا القلب ينسى حبيبًا كانَ يعشقهُ
‏ولا النجوم عنِ الأفلاكِ تنفصِلُ ..
ويبقى السؤال هُنا ؛ كيف يمكن للعقل إقناع القلب بواقعٍ لا يرغب فيه !!!
أنتفض قلبها مذعور من سطو أوجاعه وهي تعيش الحسرة بأشـ.ـد أنواعها وقالت :
-هيام أنا لازم أرجع بيتي ، مش هچدر أشوفه .
تشبثت بها هيام رافضة :
-هتروحي فين !! دانتِ جاية مخصوص تقعدي معاي لحد الفرح ، تقلي قلبك وواجهي يا نجاة الهرب مش حل يا بت خالي ..
ثم تمسكت بيدها :
-خليكي چاري وأنا مش ههملك واصل .
~بالحديقة ..
-خُدي بيدي يا بتي ، هاشم جيه ولازمًا استقبله بنفسي.
طلبت السيدة ” أحلام ” التي ترتشف الشاي مع ” ليلة ” بالحديقة وما كادت أن تفتح الحوار معها قطعهم صوت قرع الطبول والصخب بالخارج ، لبت ليلة طلبها ورافقتها الخُطى وهي تقول :
-هاشم ده أصغر من هارون ، صح كده !!
تسير أحلام بخُطاها المائل إثر خشونة رُكبها ولكن إقبالها على تربية يدها كان أهم من ألف و.جـ.ـع يعوقها، كانت تستند على ليلة وقالت :
-الاتنين بيناتهم ١١شهر بالتمام ، كنت شايلة هارون على يدي حتة لحمة حمرة ، جات صفية تندب لي ، ألحقيني يا عمتي أنا حِبلى ..
صعدت أحلام درجات السُلم بتأوه فأكملت:
-قولتلها خير وبركة وأهو الأخوات يرعرعوا مع بعضيهم وأنتِ خلفي وأنا هربي ومتعتليش هم .. ما صدقت مسكت في الكِلمة جابت ٧ بطون ورا بعض ..
فتدخلت ليلة مستفسرة :
-هما مش المفروض٦ بس !!
حملت أحلام على مرفق ليلة التي يسندها وهي تخطو تلك الدرجة الأخيرة بالممر :
-بعد هيثم جابت هدى ، بس اتولدت ناقصة ومتحملتش ومـ.ـا.تت الله يرحمها ..
ما طل طيفهـا من الباب فترك هاشم حقيبته التي يسحبها من السيارة وترك إقبال الجميع حوله من كُل صوب وحدب وأسرع الخُطى نحو أحلام تلك المرأة التي تربى على يدها .. مال على كفوفها و أغرقهم بالقُبل ثم ضمها لصدره متلهفًا لحـ.ـضـ.ـنها :
-تصدقي بالله ما حد عيوحشني قِدك في البيت ديه ، ولولاكي ما أعتبه واصل ..
تقهقرت ليلة لتبتعد عنه وتفسح لهم مجالا للحوار ، قطعت درجتي السُلم لتقف تحت ظل الشجر تُراقب فرحتهم الجميلة بحماس ، جاءت صفية من الخلف وهي تضـ.ـر.به بكتفه معاتبة :
– وأمك يا هاشم ! تصدق إنك وا.طـ.ـي ما طمر فيه الـ٩ شهور ، أنا مخلفتش غير هارون ولدي وبس .
فارق حـ.ـضـ.ـن زوجة أبيه وأمه الثانية معاتبًا :
-وه !! دايما ملبساني في حيط يا أحلام !! أهي اتقمصت ..
ثم دار لأمه وقبل كفوفها ثم رأسها قبل أن يعانقها بحب ؛ وكأنه يقدm قُربان اعتذاره :
-وأنا ليّ بركة غيرك يا صفيـة يا عسل أنتِ ، والله حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي ووحشني وكلك .
ثم همس لها ليسايس أموره وهو يُقبل يدها :
-جايب لك جوز غوايش أول ما شوفته قولت دول ناقصهم يد صفيـة ، اتعملوا عشانها .
قرصته بغلٍ:
-طب سيبني ألحق ازعل منك ، دايمًا واخدني في حديتك الحلو ديه وبتاكل عقلي بكلمتين !
غمز بطرف عينه :
-مبقاش هاشم ولدك لو معملتش إكده ..
على الجهة الآخرى ؛ يقف هارون الذي فرغ أعيرته النارية بالهواء مُرحبًا بعودة أخيه حتى فرغت خزنته تولى الخفر تلك المهمة عنه ، ثم انضم لـ الحج خليفة مُرحبين برؤوف ، تعانق الرفاق وقَبل رؤوف يد عمه المنكمشة من الهِرم وقال :
-يديم حسك في الدنيا يا عمي …
جاء هٍلال بسيارته من الخلف قاطعًا دهليز البوابة حتى وصل لجمعهم وفي نفس اللحظة جاء هيثم حاملًا معداته الموسيقية معلقًا الطبلة على كتفه وشرع باستقبال أخته بالقرع الصعيدي .. سب هيثم بسره لهاجر التي تتأهب للنزول :
-أخوكِ ديه هيعقل مـ.ـيـ.ـتى!!!
علقت حقيبتها وقالت بنفاذ صبر :
-إحنا عاوزين نبقوا مچانين يا اخي ، فكك مننا ..
رمقها بسخط :
-علمك السفه مثله .. الله يهديكِ .
جهر هيثم مُرحبًا بأخيه وهو يدق الطبلة :
-حِما وحِمـ.ـا.ت الوطن ، حظابط ، وتاني مرة حظابط هاشم بيه العزايزي اللي رافع راسنا بره وچوه وقايد النار في قلوب عدوينا.
جاءت هاجر راكضة لترتمي بحـ.ـضـ.ـن هاشم الذي لم تراه منذ شهرين ، فتلقى أخته الصغيرة وتربية يده بلهفة حبيب أو أب يستقبل ابـ.ـنته .. حملت يساره أخته وهو يقول :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي يا مفعوصة ..
فانضمت لهم هيام لتملأ فراغ يمينه مناديـه باسمه :
-هاشم !! حمدلله على سلامتك ..
لحظات من الحب والألفة وعودة الغرباء لأوطانهم لحيث ما ينتمون ، تعانقت القلوب والأيدي وسكنت الأرواح المغتربة بين الأخوة الذين لم يعتادوا الفراق منذ الصِغر ..
تعلقت عيني رؤوف الواقف بجوار عمه ، بعيني تلك الجميلة التي تتوارى خلف الجدار ، تحـ.ـضـ.ـن صغيرها وتتحاشى النظر إليه تمامًا ، رفرف قلبها بنظرة خاطفة اختلستها منه فتعانقت الأعين بدلًا من الأجساد ، دفئت القلوب من صقيع غُربتها فسحبت نفسها وفرت لتحتمي من نظراته بجدران المطبخ التي تخفي لهب قلبها المحترق عنه ..
في ظل الاحتفالات والضحك والترحاب ، مالت هاجر نحو هيثم لتشكو من أخيها:
-أنتَ ما جيتش ليه !! هِلال طلع مرارة اللي جابوني وخلي رقبتي قد السمسمة قصاد رقية .
شهق هيثم باهتمام :
-اياك يكون زعل رقية بت عمي أبو الفضل ، دي حُب عمري القديم !!
رفعت حاجبها متعجبة وعائمة على عومه :
-أنت بقالك حب عمر جديد من غير ما تقول لي !!
انضم هاشم لعندهم في تلك اللحظة التي يتطلعون فيها لليلة التي تتجلجل من الإحراج والخجل في ظل أجوائهم العائليـة ، فدخل متسائلًا وهو يفحصها من رأسها للكاحل :
-هي دي !! مين الطلقة اللي هِناك دي يا هيثم ، محيراني من الصُبح ..
تنهد هيثم مغازلًا :
-عشان إكده قلبي من ساعة ما شافها موجوع.
هاشم مستنكرًا :
-لا يا راجـ.ـل !
مسح على صدره بتوهم :
-ماهي طلقة صُح ورشقت في قلب أخوك .
فتدخلت هاجر بنفس الفضول :
-أيوة مين يعني العيار الناري الطايش ديه ! أخلص وقول .
فأتبع هاشم بفضول قــاتّل:
-أيوة مين الحلوة !! جاوب .
توسل له هيثم هائمًا :
-والنبي ابقى قول لاخوك لانه ناكر انها حلوة..
ثم تاه ببياض بشرتها الساطع كضوء الشمس :
-دي بتنور في الشمس ..
وأكمل بتنهيدة طويلة :
-وچوة قلبي كمان.
لاحظت ليلة نظراتهم المسددة لعندها فتفاقم تـ.ـو.ترها وانصب الخــــوف بقلبها و بعينين بريئتي كأعين أرنب مذعور أخذت تتحاشى النظر لهم ، فتحمحم هاشم متحمسًا وهو يرتب في ملابسه :
-سيبك منه ده ، أروح اتعرف عليها بنفسي ..
هتف هيثم محذرًا :
-هاشم ، ولاه .. تعالى هارون لو شافك مش هيحلك ..
فتدخلت هاجر بنبرة مُحقق قانوني:
-احكي لي دلوق مين دي وأيه قصتها !! انجز يا هيثم .
ما رأت هاشم يقترب منها فولت وجهها هاربة من سطو النظرات المربكة التي لم تتحملها ، ما خطت قدmها خطوة فنادى عليها قائلًا :
-على فين !! الكُل جيه ورحب بيّ إلا أنتِ ، قلت أما أجي أنا وأرحب بيكي بنفسي.
لملمت شتات قوتها ودارت لها والتـ.ـو.تر يعبث بكيانها:
-لا أبدًا ، أنتوا عيلة في بعض ، مش لطيفـة ادخل ما بينكم يعني ..
رفع حاجبه مستنكرًا وتلك الابتسامة لا تُفارقه متجردًا من لهجته الصعيدية :
-ولا لطيفة تُقفي لوحدك كده !!
ثم مد يده ليُصافحها :
-هاشم العزايزي… رائد جيش ، وأنتِ !
مدت يديها المرتعشة من هول الغُربة التي أحستها وهي تُعرفه بنفسها :
-ليلة سامح ، إعلاميـة ..
رفع حاجبه معجبًا:
-يا جـ.ـا.مد !! ماهما لو يجيبولنا القمر ده على التلفزيون أنا مش هتحرك من قدامه .
انضم هيثم لحوارهم وهو يلكزه منفردًا بساحة الحوار معرضًا نفسه بثقة :
-ديه هاشم أخوي .
غمغمت بقلة خبرة:
-ااه هو عرفني بنفسـه ..
فتدخل هيثم واعظًا :
-زين ، ابعدي عنه عاد لاني متعلم الصياعة على يده !! فهتلاقينا فول وانقسمت نصين .
حدجه أخيه برزانة وهو يدافع عن نفسه أمامها:
-متصدقهوش ده بيبوظ سُمعتي ، أنا جاي أرحب بس بضيوفنا واتعرف عليهم .
تمتم له هيثم ناصحًا :
-خف نحنحنة هارون هيولع فينا ..
رد من خلف فكيه المنطبقين :
-اسمها مجاملة لطيفة يا بئف ..هعلم فيك لمـ.ـيـ.ـتى !
تأرجحت عيني ليلة متحيرة لم تترجم صوت همهمـ.ـا.تهم وقالت مستفهمة:
-هو في مشكلة !!
-متجمعين عند النبي !!
أتاهم صوت هارون متحمحمًا من الخلف وهو يغطى كتفيه بعباءته الصعيدية وبنبرتـه الحادة ثم قال :
-خير ؟!
حك هيثم رأسه مردفًا لهاشم :
-جالك المـ.ـو.ت يا تارك الصلاة !!
ثم جهر هاشم مدافعًا عن نفسه وعن أخيه :
-أحم طبعا خير !! مش خير يا هيثم !!
ساير أخيه مؤيدًا وهو يغازل ليلة بأنظاره المهذبة في حضرة أخيه :
-خير طبعا يا هاشم ..ده خير الخير.
فحرك هاشم حاجبه مؤكدًا :
-قال لك خير أهو يا هارون..
تأرجحت عيني هارون الكاشفة لجميع تصرفاتهم العبثية وقال بـ خُبث :
-خير أنتوا يا ولاد صفية ..
هنا جاءهم صوت هِلال من الخلف الذي انشغل لجمعهم وقال متسائلًا :
-لعله خيرًا يا أبناء الخليفة..
طافت عيني ليلة حول الأربعة رجـ.ـال حولها رغم تشابه ملامحهم إلا أنهم يحملون طباع مختلفة تمامًا عن بعضهم .. ابتسمت بخجل وأحمر وجهها حتى تعلقت بأعين هارون المتوعدة وهي تهز كتفيها بتحيـر ثم شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت لهم بحماقة قبل أن تفر من سطو نظراتهم كالغزالة الهاربة من صيادها :
-خير !!
نظر كُلا من هاشم وهيثم لهِلال إثر فرار ليلة من بينهم بعتب حتى جهر هيثم ساخطًا :
-هو إن حضرت الملائكة غابت الشياطين !!
فرُسمت ضحكة مزيفة على وجه هاشم لهِلال :
-منور يا مولانا .. واحشني .
عض هارون على شفته السفلية بامتعاض مُشرًا لهاشم وهيثم بتحذير وعينيه يغازلها شعاع الشمس :
-هتلموا روحكم ولا ألــمكم بمعرفتي !! ما تحضرنا يا شيخ هِلال !!
فجر هِلال واعظًا :
-وجود تلك الفتاة بالبيت فتنـة ولابد من رحيلها على الفور يا حضرة العُمدة .
حدجه هاشم مستنكرًا وهو يغادر :
-اسكت .
وبنفس الأسلوب وبخه هيثم وهو يلحق بهاشمه وقدوته :
-ياريتك ما اتكلمت .
فعاتبه هارون بمزاح :
-عقولك لك أحضرنا ، مش تصرفهم .. بالإذن يا مولانا ….
•••••••
~عصـرا .
فرغ الرجـ.ـال من تناول سفرة الغداء الممتلئة بأشهى الأطعمـة اللذيذة والتي ذات طابع صعيدي الذي يميّزه بالدسامة والروائح الفجـة .. تعمدت نجاة ألا تلتقي برؤوف المتلهف لرؤيتها قبل رحيله .. جلس السيدات بالغرفة الأخرى لتناول غدائهن ، اجتمعن الكُل في أجواء عائلية يملأها الضحك والألفة فلم يعد للغربة بينهم مكانًا .. شيئًا فشيئاً تفرقت جماعتهم كُل منهما ذهب لمفترقه ، صعد كل من هاشم وهاجر لغرفتهما كي ينالان قسطًا من الراحة ، غادر رؤوف بعد ما خاب أمله في الظفر بنظرة من عيني حبيبته .. ذهب هِلال لإقامة صلاة العصر بالمسجد ، وهيثم الذي غادر ليباشر بقية مهامـه الموكل بها من أخيه ..
تجلس ليلة بجوار أحلام يتسامران في أجواء دافئة حنونـة ، تفحصت أحلام معالم وجهها بعناية وهي تقرأهما :
-وشك مبدر كيف القمر وضحكتك حلوة بس روحك دبلانة يا بتي وشايلة حِمل جِبال .. سيبك من الشُغل واحكي لي همك اللول .
عقدت حاجبيها مذهولة من تعريها أمام تلك العجوز التي أصابت كلمـ.ـا.تها مُنتصف قلبـها :
-هو للدرجة دي باين عليـا !!
-الحـ.ـز.ن والحب كيف النار بالعين مهما حاولتي مش هت عـ.ـر.في تداري دُخانهم .
يبدو أن جلستها مع هذه السيدة التي تحاورها من كل قلبها أفيد من ألف جلسـة مع طبيبها النفسي ، حكت جدار رقبتها بتـ.ـو.تر فأحمر مكان أظافرها كإحمرار وجهها وقالت بحسرة :
-ساعات كتير بسأل نفسي ، ليـه بيحصل معايا كده !! ليه كُل العقد والكلاكيع دي في حياتي أنا ، ت عـ.ـر.في يا طنت .. أنا نسيت يعني أيه فرحة من وقت ما كان عندي ١١ سنـة .
قاطعتها تلك السيدة ذات خبرة طويلة بالحياة وقالت بحكمـة :
-هموم الخَلق مدارياها الحيطان ، محدش خالي .
ثم مسحت على رُكبتيها بلطف ؛ وأكملت :
-مش هتحكي لأحلام !! متقلقيش سرك في بير ليوم الدين يا بتي .. فضفضي يمكن لما تفضفضي ترتاحي .
تاهت في دروب ماضيها بين فراق جِدها ، وهجران أمهـا ومـ.ـو.ت أبيها ، واتهامها المتواصل بالفشـل .. بين تلك الليالي الطويلة التي عاشتها بخــــوف حتى اعتادت أن تكون خائفة .. بين شعور الوحدة الممـ.ـيـ.ـت الذي يسكنها .. كُل الدروب مظلمة ولكن من أين ستشرق الشمس لتُنير عتمتها !!
كان هذا سؤالها الآخير الذي ختم القدر جوابه عنـ.ـد.ما فاقدت من شرودها على جمهرة صوته متسائلًا :
-أنا طالع ، محتاجـة حاجة يا أحلام . ؟؟
-تِسلم يا حبيبي .. هحتاجك سالم غانم من كُل شر .
لم يتطرق بالنظر إليها تعامل مع وجودها كالمقعد الجالسة فوقه مما أشعل أحساسًا بالرغبة المُلحة بداخلها لفتح أي حوار معه ، ما أن ولى ظهره مُغادرًا استأذنت من أحلام على الفور وتبعت خُطاه ركضًا وهي تُنادي عليه :
-ممكن دقيقة !
توقف فلم تنتظر ليدور لعندها بل وثبت لتكون أمامها متطلعة بملامحه المُنكمشة ، فتأرجحت عينيها بحيرة لا تعلم من أين ستبدأ .. حتى تفوهت بدون نية بالسؤال:
-أحنا هنبتدي شُغل من أمتى !!
-حبكت دِلوق !
هزت كتفيها بتوجس:
-أنتَ كده معطلني على فكرة .. وشايفة المفروض تنجز يعني ، سامعة إنك هتخطب وأكيد مش هتكون فاضي لي .. هتكون مشغول مع خطيبتك الأيام الجاية .
عقد حاجبيه ممتعضًا وتأفف :
-العشية هفوت عليكي ونشوفوا موضوعك ..خلينا نخلصوا .
-وليه مش دلوقتي !! يعني نكسب وقت ليه نستنى بالليل ..
زفر بضيق:
-وراي شُغل .
تساءلت على سجيتها :
-والشغل ده فين !!
تلقت تلك النظرة الاعتراضية التي أدركت بها حماقتها وقالت موضحة:
-يعني زي ما حضرتك خايف على شغلك أنا من حقي أخاف على شغلي ..
ثم دنت منه خطوة وأكملت بنفس النبرة المهزوزة :
-قصدي يعني لو شغلك ده هيفيدني في حاجة ممكن أجي معاك ومنضيعش وقت .. ايه رايك ؟!
حافظ على ثباته وبدون تسلحه بأي معالم توحي بمشاعره الداخلية قال بهدوء:
-خشي أقعدي چار أحلام .
فتحت ثغرها متأوهة وكمن عثر على جوابه للتو ، فأكملت باندفاعية وبحديث لا تُدرك خارطته ، بل كانت رغبة مُلحة في الحديث معه لا أكثر .
-اااه ، أنا فهمت .. شكلك كده مش عارف تساعدني أزاي وهتطلع بؤ في الأخر ومش هلقى عندك معلومة ولا غيره .. ما تخليك صريح معايا وبدل المرجحة دي فهمني وأنا هتحترمك والله .. لكن مش كده !!! اعترف اعترف يلا .
-ده حتى عيقولوا ؛ زينة المرء منطقه !!
جحظت عيناه من هول وقاحتها معـه ، فكيف تجرؤ وتتحدث مع كبير قبيلة مثله وبمكانتـه بهذا الأسلوب ، أيعـ.ـا.قبها مثلما يُعـ.ـا.قب كل من يتجاوز الحد معه أم يتفهم عفويتها و تلقائيتها الزائدة ويمنحها صك الغفران لكونها إمرأة تجهله ، تأفف بغـــضــــب وهو يوبخها فأكمل :
-وانتي معندكيش فِلتّر !! يعني الكلام ما عيعديش من إهنه_مُشيرًا بسبابته نحو رأسها_يعني أقلها ياخدله وش نضافة قبل ما تُطلقيه علينا يا بت الناس !!
تأهب أن يرحل كي لا ينفعل عليها أكثر ولكنها أدركت خطأها الفادح ولحقت بتلك الخطوة التي قطعها مُتشبثـه برسغها :
-استنى ، بليز استنى .. أكيد مش قصدي ممكن متزعلش وتتعصب عليـا ، مش قصدي خلاص والله .. أنا أسفة .. هقفل بؤي خالص .
أسلوبها الطفولي جعل ساعة قلبه تقف عند تلك البراءة التي لم يراها على إمراة من قبل ، توقف على شفا جفونها المتفتحة كزهور الربيع تتوسلـه ، دق ناقوس الشعر برأسه وهو يهمس لقلبه :
‏”عيناكِ كنجمتان تسبحان في خواء أفلاكٍ
بين جفون شواطِئها
حيث يغرق فيهما المرء قرونًا
ولا يود أن يُفارقها .”
عاد له رُشـ.ـد بعد ما تأمل عينيها المتلون بزُرقة السماء فوقه رافعًا حاجبه متعمدًا أن يثير غـــضــــبها قائلًا :
-ربنا يشفيكي ..
-يعني أيه ربنا يشفيني !! أنا مش عيانة على فكرة .!
على الجهـة الأخرى جاءت زينة وبيدها كأس من العصير الذي اعدته لهارون بنفسها ، فسقطت عينيها على تلك الفتاة التي تقف بقربه يتعمقان النظر ببعضهما أن رآهم شاعرًا لكتب دواوينه من نسل تلك النظرات المبهمة والمتأرجحة بينهما ، فصاحت زينة والغيرة تأكل بقلبها:
-تعالى الحقيني يا عمة ! دي مكـ.ـلـ.ـبشة في يده كيف الجرادة …
••••••••
~قسم الشرطة.
-كل حتة يعدوا منها ولاد العزايزي يتحط فيها كمين يا محسن ، والله لاحبسكم واحد واحد .
كان يجوب خطاوي مكتبه بعشوائية وهو يتوهج نارًا من تصرف هارون الآخير معه ، فألقى قذيفة أوامره على مسامع معاونه حتى أردف بخزي :
-شريف بيه !! لو متعرفش هاشم العزايزي رجع النهاردة .. ولو كان هارون دmاغه داهية ، فهاشم ده دmاغه سم ، موجب مع رجـ.ـا.لة الداخلية قبل الجيش ، وحبايبه كتير ، منظنش إننا هناخد منهم حق ولا باطل .
نهره شريف برفض قاطع :
-يعني ايه يا محسن !! أنتَ عايزني اسيب حقي !! اخلى واحد زي هارون العزايزي يعلم عليا !! دانا افرغ مسدسي في راسـه وافضها شُغلانة .
وثب محسن كي يرشـ.ـده :
-اهدى يا شريف .. أهدى وكبر دmاغك منهم وبلاش تضيع مستقبلك عشان ، صدقني العزايزة دول لا قانون ولا حد يقدر يفرض نفسه عليهم .. نابهم سم .
هتف شريف متوعدًا وينتوي الشر :
-وانا وراهم والزمن طويـل يا محسن ……
••••••••
~اسكندريـة ..
قيـل :
أن الحياة عنـ.ـد.ما تكشف أقنعة الناس تكشفها بقسوة ، لدرجة أنك تحتاج وقتاً طويلاً لتستوعب بشاعة الوجه الحقيقي الذي تقاسمت معه ذكرياتك بشتى أنواعها …
فالحياة مفاجئات ، قد تأتيك من البعيد ، وقد تأتي من أقرب الناس إليك ..
. فهناك خذلان لا يغفر ، وفي النهاية :
“ليس هناك أناس يتغيرون ، بل هناك أقنعة تسقط من فوق وجوههم المزيفـة .
فارقت ناديـة فراش الزوجية الذي يجمعها بـ رُشـ.ـدي أبو العلا ، ابن عمها وأبو شريف وزوجها السري منذ عامين .. نهضت وهي تجُر ذيل روبها الحريري الذي ارتدته بملل وعقدت حزامه حول خصرها ونظرت لذلك الرجل الذي اتخذها زوجة ثانية له وقالت :
-تقدر تبات هنا ده لو عرفت تهرب من أميرة ، “ليلة” مش جاية اليومين دول .
اعتدل الآخير من نومته وهو يلجأ لسيجارته ويشعلها قائلًا :
-وبعدين ، إحنا مش هنخلص من موضوع البـ.ـنت دي ، وبعدين أيه العوج اللي هي فيه مع شريف .
قهقهت نادية بإغواء وهي تتمايل صوبه وتقول :
-متقلقش ، سيبها على راحتها تعمل اللي عايزاه وفي الأخر كلامي اللي هيمشي..
ثم تبدلت نبرتها وأكملت بصوت متخابث:
-رشـ.ـدي ، قول لابنك يعقل .. مش عايزين نخسر كُل حاجة .. كفاية الضـ.ـر.بة اللي ادهانا سامح ..
ضـ.ـر.ب رشـ.ـدي على بطنه العارية بإعجاب :
-فلوس ومشاريع بالملايين كُلها في حساب واسم ليلة ، اللي هي مش بـ.ـنته .. أنتِ ازاي مخدتيش بالك من كل ده !! ازاي يا نادية .
اتكأت على ظهر وسادتها وقالت بغلٍ:
-كان مفهمني إنه معندهوش غير مرتبه آخر كُل شهر ، طلع عامل بيزنس ومشتري أسهم في أكبر الشركات لا وكلهم باسم ليلة ، اللي هي مش بـ.ـنته ..
ثم نظرت له والحقد يتطاير من أعينها:
-أنتَ متخيل ، البـ.ـنت الغـ.ـبـ.ـية دي بيدخل في حسابها كل شهر ملايين .. والمصـ يـ بـةولا حاسة بقيمتهم ، ده لو قابلها حد محتاج قرشين ممكن تديله كل الفلوس اللي معاها وهي مبسوطة ..
انتبه رُشـ.ـدي لها بمكر :
-سيبي شريف عليا ، وأنتِ اسحبي منها على أد ما تقدري واتحججي بالمركز والمستشفى ، البـ.ـنت دي لو معرفناش نسيطر عليها ؛ هنخسر كُلنا ..
ثم قبـل كفها وأكمل بتخابث:
-حبيبتي كل الفلوس دي من حقك أنتِ ، حق انه وهمك إنك مش بتخلفي ودبسك في بـ.ـنت مش بـ.ـنته عشان يداري على عيوبه هو .. أنتِ صح والفلوس دي حقك وبس ..
عشش الحديث برأسها وأخذت تُقلبه على مراجـ.ـل من النار حتى تفوهت بعجز :
-أنا بس لو أعرف رفعت الجوهري جابلنا البـ.ـنت دي منين ومين أهلها !! الاتنين مـ.ـا.توا قبل ما يقولوا السر يا رشـ.ـدي …..
يبدو أن الحُب جمد قلب نزار ومنحه القوة الكافية لكي يطـ.ـلق وصفه الشعري على حبيبته عنـ.ـد.ما أقر معترفًا :
“-إن كان كُل إمراة أحببتها صارت هي القانون.”
سبغ عليها وصف القانون كناية عن إنه لا يتبع غيرها بعمره هي جهته ووجهته وخارطة دربه .. أمـا عن هارون ؛ هل سيتبع نهج نزار ويسلك دوربها مُتبعًا قانون قلبه الذي دق بالحب لأول مرة ، وسيضـ.ـر.ب الأعراف بسيف هذا القانون لأجلها !! أم سيضـ.ـر.ب ذلك السيف قلبه ويبتر آخر أمانيـه ورجاءه ليحيـا بهذا العشق المحكوم عليه بالمـ.ـو.ت قبل أن يولد !!
#نهال_مصطفى 🍒
••••••••••••••••
هُناك ضـ.ـر.بـة واحدة تأتيك بربيع عمـرك تجعلك بروح شيخًا بائسًا منتظر المـ.ـو.ت وأنت بالصِغر ، تُضيف عشرات السنوات لعمرك العشريني؛ تتورم عينيك كما تورم قلبك وفاض ألــمًا ، ينعقد حـ.ـز.نها بتجاعيد عينيها المنكمشة ، و بضبابـة سوداء تحتهما .. يحفر الدmع وديانًا على معالم وجهها المتشققة .. تجلس ” نغـم ” بساقيها المضمومة لصدرها تاركة جسدها فريسها للحـ.ـز.ن .. اليـوم اغتالت كُل أحلامها التي تجمعها مع الرجل الذي لم تكتب إلا اسمه بدفترها وحروف اسمه المتفرقة التي كانت تحفرها على الورق ..
يدها التي اعتادت أن تنقش حروفه على كُل مكان .. حيث كانت الهاء هدوء روحها عند رؤيته .. والألف الأمان الذي لم تشعر به إلا معه .. والراء رائحة عطره التي تجذبها من ياقة قلبها ولو عن بُعد أميال .. والواو ذلك الوعد الذي أخذته على عينيه أن لا يكون إلا لغيرها .. والنون تلك التي يبدأ بـ اسمها وينتهي باسمه ليكون بدايتها ونهايتها .. كُل الادلة كانت توحي بإنك لي بأننا خُلقنا لبعضٍ ؛ ماذا حدث ؟! من لعب بعداد الأقدار لتختار واحدة غيري وغير قلبي الذي أحبك !! بربك أخبرني كيف سأتحمل رؤيتك مع إمراة لم تكن أنا ..
تذكرت تلك السنوات الماضية التي كان يُرافقها فيها للجامعة ، كانت فتاة بأول سنتها الدراسية وكان هو ينهى دراسته العُليا بالجامعة ومُعيدًا بها ، ظلت تتذكر تفاصيل عامين لم يفترقا فيها أبدًا ، كان يُعاملها كأخت له ولكن قلبها المُغرم كان له رؤية ثانيـة ..
كفكفت عِبراتها بأناملها المرتعشة وأخرجت صورته الصغيرة من دفترها السري ، تلك الصورة التي اختلستها قبل ستة أعوام من ملف تقديمه بالجامعـة .. تأملت ملامحه الشبابيـة بعمر العشرين وهي تُعاتب القدر الذي فرقهما :
-يعني خلاص !! كُل أحلامي معك كانت أحلام وبس !! طب قول لي أعمل ايه في قلبي اللي حَبك يا وِلد خالتي !! دا أنا حتى تربية يدك وعارفة اللي يضايقك قبل اللي يسعدك !! هعيش وأشوفك في الكوشة مع واحدة تانية ! طب ليه حبيتك من اللول وأنتَ مش من نصيبي !!!! أهون عليّ المـ.ـو.ت ولا أشوف اليوم ديه يا هارون ..
•••••••••••
حل الليـل وعّم الهدوء على أرجاء البلدة رغـم صخب قلوبهـا .. تجلس رُقيـة مع أمها أمام التلفاز في ساعة صفـا يتناولون بعض المقرمشات التي أحضرتها معها من أسيوط فلاحظت الأم شرود ابـ.ـنتها وصمتها الطويـل وعلى ملامحها انكماشة غـــضــــب .. فتدخلت صفاء متسائلة بفضول :
-ايه اللي شاغل بالك يا بت بطني .. ؟!
توقفت حبة الفول السوداني على ثغرها المزموم وطالعت أمها متحيرة :
-ولا حاچة ياما ، بس بفكِر في وِلد خليفة العزايزي ، أنتِ عارفة هيثم مش إكده !
أشادت صفاء بشهامة هيثم :
-طبعًا ؛ وهو فيه فـ مرجلة وجدعنة هيثم ، مش بيعدي أسبوع غير لما يفوت عليّ ويشوفني عاوزة حاچة ولا لا ..
ثم أكملت مدح بأولاد الخليفة :
-شهادة لله أحلام وصفية مربيين أربع رچالة كيف الورد .. يا ريت كل العزايزة زيهم .
اعتدلت رقية في جلستها لتبدأ بفتح الحوار مع أمهـا :
-ت عـ.ـر.في هِلال !! أنا أول مرة شوفته الصبح .
ضاقت عيني صفاء باستنكار :
-معرفش غير هيثم و هارون ، هما اللي على طول في البلد وأخوهم الظابط ديه مش عيجي من أصلو ؛و هِلال ديه أمام الجامع بستنى خُطبته من الچِمعـة للچِمعة …
أرجعت خصلة ناعمة من شعرها وراء أذنها وهي تقول بإنزعاج منه :
-شخص غريب قوي يا ماا ، تصوري مكنش راضي يركبني عَربيته عشان مبخرها !!والله في حاچة في عقله .
ثم ختمت جُملتهـا بضحكة ساخرة وأكملت :
-وطول الطريق هو وهاجر ناقر ونقير .. كله حـ.ـر.ام وغلط وممنوع ؛ هو مين فهمه أن الدين بالعسر ديه !! حقيقي الله يعينه على راسه الجابسة دي …
لم توافقها صفاء الرأي :
-بس الحق هو مُحترم ، ومحدش قال في حقـه كلمة ، هيثم أخوه مجلع هبابة ؛ لكن الباقيين محدش بيقول عليهم كلمة مش زينـة يابتي ..
ثم غمغمت بحسـرة :
-لولا الملامة كان نفسي ربنا يرزقك بواحد منيهم ، بس أنتِ خابرة أكمنك وحيـدة اتكتب عليكِ قدر تاني .
حكمت رُقية رأيها:
-وانا مش هتجوز بكر ياما ؛ شالله أفضل چارك بايرة ولا يجمعني ببكر ديه فرشة واحدة …
هنـا صدح صوت قدرها المعاكس للهوى ، نادراً ما يأتي مُصاحب للقلب ، صوت طرق عنيف على الباب قطع حديث الأم وابـ.ـنتهـا ، شـ.ـدت رُقية الوشاح المُعلق برقبتها وغطت رأسها بفزع :
-مين چايلنـا السـاعة دي ياما !! خير يا رب .. خليكِ ياما هفتح أنا .
ارتدت نعالها البلاستيكي بسرعة وهرولت نحو الباب لعدm صبر الطارق:
-چايـة ؛ قولت چاية هو مفيش صبر !!
فتحت الباب الخشبي وتوارت من الخلف فظهر عزرائيل قلبها الذي لا يأتي بموعد وهو يغازلها قائلًا :
-شوفتي الدار نور كيف برجعتك ، ما كفياكي علام وأقعدي چار أمك .
تأففت بامتعاض :
-عايز أيه الساعة دي يا بكر !! أنت چاي لاتنين ولايه بعد العشية تعمل أيه ..؟!
تمسك بشاله الصوف المُلقى على كتفيـه وقـال هائمًا:
-چاي أخبر مراة عمي وأقولهـا أنا وأمي چايين بكرة العشية نُطلبـوا القُرب …
-أنتَ غاوي تهزيق !! يعني متكيفتش الصبح راچع تكمـل قلة قيمة اخر اليوم ..
ثم احتدت نظراتها التحذيرية:
-ومن غير يمين يا بكر ؛ لو چبت أمك وچيت لهطردكم قصاد الخلق ولا هيهمني حد .. سامع ؛ وأنتَ خابر رقية بت أبو الفضل لما تهدد عتنفذ ..
ختمت جُملتها وهي تقفل الباب بوجهه مستغفرة ربها ثم صاحت :
-تلقيح الجتت ده مش هنخلصو منيـه !!!
ركل بكر البـاب بقدmه معنفًا :
-أنت ليّ بالشرع والقانون ومحدش هيقدر يأخدك مني .. سامعة يا رقية بالذوق بالعافـ.ـية مش هتچوز غيرك ويا أنا يا أنتي .. وبكرة چايين ووريني هترفضيني كييف …
صرخت له وهي ترتمي بحـ.ـز.ن بحـ.ـضـ.ـن أمها :
-مـ.ـو.تي أهون يا بكر …
••••••••••••
~ببيت خليـفة العزايـزي .
اجتمعن نسوة البيت كلهن بغُرفة الجهاز الخاصـة بهيـام .. شرعت صفية بفرز ملابسها لترى ما ينقصهـا مع نجـاة التي كانت تساعدها بالأمر ، فرغت من عـد العباءات قائلة :
-٥٥ عباءية يا عمتي !!
تنهدت صفية بضيقٍ :
-قليـلين يا نجاة يا بتي لو كانت تطاوعني بس وتندلى نشتروا ، أقلها ٦٠ عباية حمـ.ـا.تها هتاكل وشنا .. والبشاكير طلعوا كام ؟!
-٧٠ بشكير بالتمام والكمال .. والمفارش ٥٠ ، شوفي الناقص نندلى نجيبوه الصبح ..
زفرت صفية بحنق :
-دي بت صديق داخلة بـ١٠٠ بشكير ، وأنا بتي مش أقل من حد .. اكتبي يا نجاة يابتي عندك ..
تدخلت ليلـة التي تستمع لحوارهم بذهول :
-هي الأعداد دي بجد !! هي هتتجوز ولا هتفتح محل .
أيدتها هيام :
-قوليلهم ؛ أهو حتى ضيفتنا مش عاجبها الكلام ، ياما زانين كبري مُخك عاد ..
فتدخلت هاجر بحديثهم ساخرة :
-وتبقى أقل من بت صديق !! لا مرضهاش لاختي .. اكتبي يا نجاة ناقص ٣٠ بشكير الصبح يتجابوا ..
وبختها هيام :
-حتى أنتِ هتعومي على عومهم .. ما تقولي حاچة يا ليـلة ..
تأرجحت عيني ليلة بدهشة :
-بصراحة مش عارفـة ، أنا ومامي كُنا بنشتري الحاجات ونوديها الشقـة على طول ، يعني على أد مساحة الدولاب والناقص بس .. لكن مش بالأعداد دي ..
ثم أكملت :
-مامي بتقول أن مش لازم نشتري كتير لان الموضة بتتغيـر ولازم نجدد كُل فترة .
فتدخلت هاچر بفضولها :
-هو أنتِ مخطوبة !!
انكمش وجهها بامتعاض عنـ.ـد.ما تذكرت تلك النقطة السوداء بحياتها :
-كُنت ..
ثم اتسعت ابتسامتها بتهيدة الحُرية :
-بس خلاص فركشت الحمد لله ..
شهقت هاجر بفضـول :
-لالا دا أنتِ تحكي لي ، سبتوا بعض ليه !
غمغمت بانشكاح :
-البركة فـ أخوكي .. هو السبب .
تدخلت زينـة في حوارهم لتأخذ الصورة من اهتمامهم المبالغ فيه لليلة وأنها فجأة الكُل يُعاملها كصاحبة مكان ، تمسكت بقطعة من ملابس النوم الخاصة بالعروس وهي تفرزها بغنج :
-سيبك من العِيبي والمفارش يا عمـة ؛ وركزي على الهشتكة والدلع هو ديه اللي بيمشي الجوازة مش البشاكير ..
ثم فتحت قطعة حريرية أخرى باللون الأصفر وأكملت :
-أهي حتة من دي هتدوخة وتوقع الراچل من طوله ..
ثم نظرت بغل لليلة التي تعاملها بقسوة والغيرة تلتهب بصدرها منها وأتبعت بدلال :
-ده أنا چايبة شوية حاچات لهارون على عجب العين والقلب ، لما يشوفهم عليّ هيتخوت ..
قطعتها صفية مدافعة عن ابنها :
-خوتة لما تخوتك بعد الشر على ولدي ، شالله أنتِ يا بت صالح ..
عّم ضحك النسوة بالمكـان حتى وبختها أحلام :
-يابت خليكي تقيلـة هبابة ، الرچل ما عيحبش البت الواقعة ..
-عحبه يا عمتي ، عحبه وريداه ومش عاوزه غير من الدنِيا ..
وثبت زينة من مكانها باندفاع وهي تضع تلك القطعة على جسدها وتتدلل أمامهم على أطراف أقدامها ؛ وفي تلك اللحظة جاء هارون الواقف أمام البـاب الموارب ليستمع لها وهي تقول بمياعة :
-يعني بذمتك يا عمة لما ألبس لهارون حتة من دول وارقص له إكده هيضل فيه عقل !! إكده يبقى خدت العقل والقلب لحسابي ..
ثم تنهدت بتمنى :
-مـ.ـيـ.ـتى بس يا هارون نتجمعوا تحت سقف واحد .. وأنا هوريك العجب والدلع .
أردفت ليلة على سجيتها ولا تعى أن سبب تلك الجملة شرارة الغيرة بقلبها وقالت ببراءة :
-مش المفروض الحاجات دي سيكريت وعيب نتكلم فيها قدام حد كده !! دي أسرار بينك وبين شريك حياتك وبس .
أحمر وجه ليلة خجلًا من جُرأة زينة الزائدة فلاحظت هاجر كسوفها فبدالتها الابتسامة الهادئة التي تعتذر لها عما بدّ من زينة وأنها لم تتغير أبدًا، وضعت زينة كفيها بخصرها :
-نعم يادلاعدي ، ليه هو مش هيبقى چوزي وحلالي !! ولا هو اللي عقوله ما ينفعش وأمشي اتشعـ.ـبـ.ـط في يده قصاد العالم هو اللي ينفع !
نهرتها صفية معنفة كي تصمت وتتراجع عن أوهامها السخيفة التي أقنعتها بصعوبة أن تتناسها ؛ فانفجرت زينة مغلولة :
-سيبيني أفضفض يا عمة دانا مقهورة وعلى آخري من كُهن البنات ديه …
بنظرات مغلفة بالحماقة تراقبهم ليلة كشخص أطرش في زفة عرس لا يدرك صخب ما حوله ؛هنا اقتحمهم صوت حمحمة هارون الذي توقد غـــضــــبًا من تعبيرات زينة التي لم ترق له ، طرق على البـاب هاتفًا :
-يا ساتر ..
ندات أحلام عليه :
-تعالى يا حبيبي ؛ مفيش حد ..
فتح هارون الباب الموارب وطل منه وهو يرمق زينة بنظرة حادة مردفًا بعدها وهو يستشط غـــضــــبًا :
-خفي حديت ماسخ وبطلي قِلة حيـا …
لم يمهلها الفـرصة للدفاع عن نفسها ثم أشار لليلة الجالسة بجوار أختـه بإيجاز :
-تعالى عاوزك ……
انتابت زينة عاصفـة شـ.ـديدة من الانفعال والغـــضــــب وقفت بمنتصف الغُرفة بأعين متسعة تتنقل يمينًا ويسـارًا تحول ضيقها من ليلة لغـــضــــب يأكل كل شيء ولا ينطفئ أبدًا .. بطرف عينيـه ألقى نظرة أخيرة وهو يفحصها من رأسها للكاحل وكأنه يواجه قلبـه بتلك الحقيقة المُرة التي يسلكها بكامل إرادته ، يواجه قلبـه بإنه يومًا ما سيكون معهـا تحت سقفٍ واحد كما سردت لهم ، ولكن ما أشعل غـــضــــبـه وأخجله أكثر كيف تتكلم عن حياتهم المُستقبلية الخاصة على الملأ ليكون حديث النسوة والألسـن .. ولى ظهره وغادر بدون كلمة إضافيـة فلحقـت به ليلة بدهشة تملأها .. حملت هاتفها وتابعت خُطاه كالقطـة الهاربة من وادي الذئاب .. ولت زينة لعمتها بكل غـــضــــبها :
-شايفة الهم اللي أنا فيه ياعمتي !! يعني يوم ما يقول يا جواز تيچي دي وتفقع مرارتي.
حدجتها أحلام بنبرة لا تقبل كلمـة زائدة :
-ما تقعدي وتتهتي إكده !! ضيفته وبيناتهم شُغل راسك مسوحاكي ليـه !! يا تساعدينا بِسكات يا تتكلي على بيتكم مش ناقصين خوتة ..
تمتمت بضيق وهي تشـ.ـد وشاح رأسها :
-تُشكري يا أحلام ، أنا ماشية بدل حرقة الدm دي ..
هـنا مالت صفية على آذان فردوس الجالسة بجوارها :
-فردوس عينك متندلاش من عليهم ، يلا قُومي شوفيهم هيروحوا فين …
وفي نفس اللحظة التي تتأهب فيها فردوس للمغادرة لمراقبة ليلة وهارون ، جاءها نداء هاجر التي رن هاتفها :
-خُديني معاكي يا فـردوس …
~بالحديقـة الخليفـة .
-هفضل أجري وراك كده زي الطفلة !!
أردفت بحنق إثر خطواته السريعة وكلمـ.ـا.ته الشحيحة معها وهي لا تفهم لِم جاء بها لهنا ، رد باختصار وهو يواصل سيره :
-قربنـا نوصلـوا ..
تابعت نفس خطواته ركضًا على مضضٍ وهي تتمتم سرًا وتذم في جفاءه ولم تكُف عن اتهامه بقلة ذوقه ؛ وصل الثنائي لغُرفة خشبيـة أشبه بالكوخ يحاوطه سورًا خشبيًا ويبعد قليـلًا عن منزلهم .. فتح الباب الصغير ثم قطع درجتين من السُلم الخشبي ليقف أمام البـاب الرئيسي للبيت الصغير .. أخرج مفتاح من جيبـه وهي تقف خلفه تتفقد المكان بعيونها المُتحيـرة ؛ فتح الباب ثم امتدت يده لاشعال الأنواع ، دلف للداخل متمهلًا وهي يزيح الباب فصدر منه صوت صريره ، اتبعت خُطاه متسائلة :
-أحنا هنـا هنعمل أيه .. ؟!
ما دلفت أكثر وفعت جفـونها لتتفقد المكـان ففوجئت بمكتبـة ضخمة تشغل جانبين من الغرفة ومنضدة متوسطة الحجم بمنتصفها ، وفراش صغير في أحد الزوايـا وبجواره كمود وبأبأجورة صغيرة ذات طراز قديم .. وعلى يسارها وبطول الحائط طاولة مستطيلة تسد فارغ المكان عليـها معدات القهـوة والشاي .. تفوهت بإعجاب :
-المكان في راحة نفسيـة متتوصفش ، الله بجـد !
أشعل كافـة الأنوار وونظر لها ليشرح لها تفاصيل المكتبة :
-دي المكتبة بتاعتي فيها أغلب الكُتب اللي هتحتاجيها القسم ديه خاص بالقانون ، واللي جنبه بالدين .. أما ده كله عن التاريخ من يوم نشأة الأرض لحد اليوم ..وفي قسم للجغرافيا .
تقاسم الانبهار معالم وجهها وهي تمرر اناملها على مُجلدات الكُتب وسألته بتلقائية مشيرة للطاولة التي تتوسط الغرفة :
-وده مكتبك ، كُنت بتذاكر هنـا ..
انكمش حاجبيـه باندهاش ؛ فأجاب مسايسًا :
-أيوة كُنت عذاكر إهنـه من ثانوي ..
دارت نصف دورة بالمكان ثم أردفت بسؤالها الأكثر حماقة عن الذي يسبقه :
-جينا هنـا ليه بقا … ؟!
غمغم بتكبد وهو يستعين بالصبر كي يمنحه صبرًا عن صبره ليتحملها وقال :
-يا صبـر الصـبر ..
-أي قولت حاجة مش لازم أقولها !!
تأفف بضيقٍ :
-أقعدي إهنه واقري وشوفي الموضوع اللي يعجبك وذاكريه واتكلمي عنه .. خلينا نخلصوا من الحدوتة دي .
عاتبـه باستهزاء :
-وأنا سايبة مكتبة الاسكندرية وكل الدنيا دي عشان أجي عندك هنا أقرا !! مين قال لك إني بحب القراءة أصلاً ..
رفع حاجبه كحركته الاعتراضيـة المعتـادة متلقيًا سُخريتها بسعة صدر :
-والله هو ده اللي عندي ، واللي أقدر اساعدك بيه !
-والحل ؟!
رد بسخافة :
-اتعبي روحك هبابة وأقري .. واتعلمي لك كلمتين ينفعوكي بدل ما أنت على الله إكده ..
-طيب ساعدني .
-لا …
غرست سبابتها بعضلة ذراعه مندهشـة بوقاحته وتلميحاته السخيفة :
-أنا ليلة الجوهري ؛ أنتَ ازاي تكلمني كده ؟!! انا مش بشحت منك .
-كانت ليـلة منيـ.ـلـ.ـة على راس اللي چابوني يوم ما شوفتك ..
صرخت بوجهه مفرغة آخر ذرة من صبرها :
-افهمني أنا لا عايزة اقرا كتب ولا حاجة ؛ كُل اللي عايزاه مكان مميـز محدش يعرفه هنا نصوره واحكي قصته للناس وبس شكرًا زي فكرة الدحيح أو الخيميائي وبدل ما هو برنامج على اليوتيوب يكون على التليفزيون والكُل يستفاد ، أنا مش جاية اذاكر وامتحن عند سيادتك..
ثم دنت منه خطوة إضافة وهي تُشير له بسبابتها التي يُزينها خاتم رقيق وأكملت :
-ولآخر مرة أنا هسمح لك تكلمني بالطريقة السخيفة دي .. أنا مش خطيبتك اللي اسمها ايه دي ومش هقبل أي إهانة منك .
ثم أشاحت بيعينها بعيدًا عنه وغمغمت :
-أنا مش عارفة هي فرحانة بيك على أيه أصلًا .. دي واخدة أكبر مقلب في حياتها !!
-عـتفهـم ..وعندِها نظر.
قال جُملتـه بعد ما هضم غـــضــــبه منها بتلك الابتسامة التي لا تتناسب مع الموقف ولكن هناك شيء ما رضى به غــــروره عنـ.ـد.ما أشعل نيران الغـــضــــب برأسها ؛ لوحت بيدها وهي تستعد لفرز الكُتب وتمتمت :
-أنا من ساعة ما جيت هنـا ماقابلتش حد بيفهم غير طنت أحلام ، والباقي كله كله غريب ..
ثم دارت لعنده كإنها تذكرت شيء ما وشرعت أن تشكو منه :
-دي حتى مامتك ، كل شوية تبص لي بصات غريبة وتتضحك لي ، ومرة تمسك شعري ومرة تقولي عينيكي حلوين ، وبعدين هي مضايقة ليه استر دراعاتي ولا لا !! أنا حُرة .. وأخوك ده أبو دقن كل ما يشوفني يبص الناحية التانية ويستغفر ربنا !! هو جاي يتوب عندي !!
ثم نزعت شالها الصوف بغل ووضعت على ظهر المقعد وأكملت :
-الغلط عندكم وجايين تدبسوني فيه .. هي ناقصـة جنان !! عيلة غريبة وكلها غلط في غلط ..
تمتم لنفسه سراً وهو يحك ذقنه :
-أنتِ وقعتي مع صفية !!
تجاهل كُل ثرثرتها و رد بنفس النبرة البـ.ـاردة التي يملكها والتي لا تتزايد إلا بوجودها :
-أقري على مهلـك وأنا هروح أقعد مع الرچالة برة .. ولو عوزتي حاچة رني .
ثم تحمحم ململمًا شتات أمره الذي تبعثر على يدها وبثرثرتها بوجهه التي لم يضع لها حدًا بل كانت ترضي غــــرور ما بداخلـه ، ما كاد أن يخطو خطوة ثم أوقفته منادية :
-استنى هنا ..
تقدmت خطوة لعنده بفتور :
-هـ رن ازاي وأنا مش معايا رقمك !!
سحب الهاتف من يدهـا وكتب رقـمه لم تمهلة الفرصة ليكتب الاسم فشـ.ـدته منه وضغطت على زر اتصال ، رن هاتفه بجيبه ثم قالت بنبرة حاسمة :
-سجله ..
رد بلا مبالاة :
-ربنا يسهل ..
-ياربي !! وانا بشحت منك .. اتفضل سجله ووريني هتسجله أيه ، معلش أصل الحاجات دي تهمني .
على مضض لبى طلبهـا وأخرج هاتفـه وشرع بتسجيله ، فوجئ بها تغرس أعينها بشاشة الهاتف لترى ما الاسم الذي سيسجلها به ، غمغم متحيرًا حول تسمـ.ـيـ.ـته على هاتفها مكتفيًا باسم ” الاستاذة ” .. خيم الاعتراض على ملامحها رافضة الاسم وهي تعبث بهاتفها لتسجل اسمه :
-الإعلامية ليلة الجوهري … سجله كده ، إيه استاذة دي إحنا مش في فصـل !.
طاوعها بنفس الابتسامة التي لم تفارقه منذ إن ظلل عليهم سقف واحد متناسيًا امر السقف البغيض الذي سيجمعه بزينـه ، امتدت أنظاره لشاشتها فوجدها أيضًا متحيرة في التسمية ، دنى منها خطوة وملامحه المشـ.ـدوهة أدرف مثلها :
-العُمدة هارون العزايزي .. سجليـه .
بعدت شاشة هاتفها عنه كي لا يراه وقالت بعتب :
-متبصش في تليفوني ، وبعدين ايه الاسم ده كُله انا هطلع لك بطاقة .. هو كفاية ” العمدة ”
-هو حلال ليكِ وحـ.ـر.ام عليّ!!
أيدها موافقًا ومعاملًا بالمثل مغيرًا الاسم ومكتفيًا بلقبها:
-الاستاذة ..
خطت اناملها بعناد :
-العُمدة ….
غادر المكان وهو يضـ.ـر.ب كف على الأخر حتى لمحت عيناه فردوس التي تتجسس عليهما حيث صاح غـــضــــبانًا وموبخًا :
-مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس !!
احتجت بوجه آذانها الحديدية التي تسمع خطوة النملة وقالت :
-عتقول أيه يا هارون بيه ، مش سامعاك السمع بعافـ.ـية ..
زفر ممتعضًا :
-روحي نامي يا فردوس وقولي لصفية نامي واتغطي زين …
••••••••••
تجوب ” هاجر ” ذهابًا وإيابا تحت الشجرة وهي تتحدث مع رُقية المنهارة من البكاء ، حاولت ان تهون على رفيقتها :
-طب هدي روحك وانا هقول لهارون يوقفه عند حده ، هو فاكرها سايبة ملهاش حاكم ولا رابط ..
جففت رقية عِبراتها مستأذنه إثر نداء أمها :
-هشوف أمي يا هاچر وأرجع أكلمك ..
-هاجر ..
دارت هاجر ملبية نداء أخيها هلال الذي يترقبها من بعيد بأعين متـ.ـو.ترة .. حائرة بين ضميره وبين ربه .. نظرت لها والضيق يتلبس بملامحها :
-خير يا حبيبي ؟!
حك ذقنه كعادته عنـ.ـد.ما يرتبك بالأمر وقال بإذلال:
-أريد الاعتراف بشيء ..
حانت منها نظرة متعجبة :
-ليّ أنا .. أنت متوكد ؟! فوق أنا هاجر ماعيتبلش على لسانها فولة ؟!
رد بأسف :
-أعلم وهذه مصـ يـ بـةأخرى .. ولكن لابد من الاعتراف ..
-طب قول .. تحب أحلف لك ماقولش لحد ؟!
رد ساخرا :
-على كل حال ستتحدثين .. لا داعي من القسم ..
ضحكت بفخر والفضول يتقاذف بمقلتيها :
-اعترف يلا سامعاك ..
-بخصوص الأخت رُقية .. أريد تقديم اعتذاري لها ..
أصدرت ايماءة طويلة وبأعينها المتخابثة تلاعبت على أوتاره المرتبكة :
-الأخت رقية .. قولت لي .. وياترى اعتذر عن أيه ولا أيه دي أنت خليت رقبتي كد السمسمة .
عاد لفرك ذقنه وهو يقول بخجل :
-لانني كذبت .. وطلبت منها تُغير مكانها بسبب صورتها المنعكسة بالمرآة ولست بسبب العجلة ..
أحمر وجهه من شـ.ـد الخجل وعيناه لم تتزحزح عن الأرض :
-تعلمين لا يحق إطالة النظر بإمراة أجنبية ..
-إمراة أجنبية جميلة .. ورقية سبحان من صورها يا مولانا .. صُح !!ولا ليك راي تاني ؟
كانت جملتها تلعب على أوتاره المتذبذبة متعمدة مداعبته مثلما اعتادت فعل هذا مع هاشم وهيثم ويبدو أنها وجدت طرف الخيط الذي ستجر به قلب أخيها هلال .. برقت عيناه بدهشة لوقاحتها فلم يتقبل جرأتها أو على الأغلب لم يتقبل أنها يصير مفضوحا أمامها لهذا الحد :
-تأدبي يا هاجر .. عيب .
كتمت الضحك براحة كفها :
-تأدبت .. والمطلوب ؟!
-اعتذري للأخت رقية وقول لها بأنني لست معقد أو متشـ.ـدد بالدين لأنها اتهمتني بالتطرف ..بالكاد لم تنم الليلة من قسوتي معها.
-لا ملهاش حق الصراحة .. وهي فعلا مش هتنام الليلة بسبب البئف بكر .. هي مش فاكراك أصلا ونسيت مصايبك اطمن ..
عاد للهجته الصعيدية التي لا يتجرد منها المرء مهما ذهب :
-قصدك أيه يعني ؟؟
-ياخي خلي البساط أحمدي .. وفكك أكده رقية دي جـ.ـا.مدة معاك بس لكن هي أغلب من الغلب ومش هتسيب بكر ولد عمها اللي مطفحها الدm وهتزكر معاك يا أبو أكذوبة ..
-هاجر .. تأدبي..
أدخلت يدها بمعصمه كعريس وعروسة وسار الاثنان معا بحديقة منزلهم وهي تروي له قصة رقية :
-والله زي ما عقولك .. هحكي لك … أصلو بكر ده عيل غتت ولازق لها بغيرة وهي مش عايزاه ..ما تساعدي يا هلال نوقفوه عند حده البت ملهاش حد ..
سحب ذراعه منها مستردا هيبته متجاهلا أمرها ومخالفا فضوله بأكذوبة جديدة :
-صديقتك لاتهمني ، كُل راعٍ مسؤول عن رعيته .. اذهبي لأخيكِ العمدة ليحل لها الأمر .
-ماشي ياهلال .. أنا هروح لهيثم وهو هيساعدها خليك أنت على إكده .. ومش هعتذرلها ..
انضم لهم هثيم الذي كان ينهي علاقته مع رحاب وهو يسبها علنا وقال :
-أنا سمعت اسمي .. مين عيقول هيثم ..
لم يكمل جملته فقاطعه صوت رنين هاتفه باسم رحاب الذي غير مجرى الحديث قائلا وهو يرفض اتصالها :
-ماشوفتش في رطك .. زن زن متفضيها سيرة عاد يا رحاب..
استغفر هلال ربه ثم رفع يده واعظا :
-ياخي ياخي لديك أخوات بنات .. تأدب لوجه الله كي لا يتوه قلبك وسط الزحام ..
كاد أن يجيبه فقطعه جرس هاتفه مرة أخرى فسبها قائلا بانفعال ورافضا حكمة أخيه :
-أحب على رأسك لو شوفتي يوم تايه في الزحام .. سيبني واعتقني لوجه الله عشان أنا أصلا طفشان منك .
ثم لوح بيده :
-أقولك أنا رايح أقعد جار هاشم وهارون .. متجيش ورانا .. أحنا شِلة الأُنس مش طالبة حكم ومواعظ ..
~بغرفة هيام ..
بأقذر أنواع الشتائم التي ذكر فيها أخيها وأبيها معًا وهو يلعنهم بالهاتف مما جعلها تنفجر بوجهه مرة أخري :
-اقطم يا ضيا .. علشان انت زوذتها على الأخير وأنا هروح أقول لأخوي هارون وهو يتصرف معاك ومع قلة ادبك ..
-فكرك هخاف يعني بالمدعوك هارون .. لما أرن عليكي الف مرة وماعترديش .. ايه بمزاجك أنا ..ديه تسميه أيه ..
قال جملته وهو يجلس على بأحد المقاهي الليلية بعد ما شـ.ـد نفسا طويلا من لفافة تبغه المحشية مما جعلته يثرثر بدون وعي مما جعلها تتساءل :
-ضيا أنت مبلبع أيه ؟!
-مبلبع المُر اللي هطفحهولك لو متعدلتيش معاي يا هيام .
قالت بغل وهي تتوعد له وتضـ.ـر.ب على فخذها :
-تصدق أنا غلطانة إني هاودتك طول المدة دي ؟! ورب الكعبة لأوريك يا ضيا .
*********
~في العاشـرة مساءً .
تجمع الأخوة مع بعضهم حول بؤرة النيران المشتعلة للتدفأة ، أرسل هارون لهاشم أخيه صورة لأحد التماثيـل الفرعونية التي عثروا عليا العُمال بالمحجر وقال له :
-عايزين نصرفوا دي يا هاشم .. العيال وهما عيكحتوا لقيوها
فتح الصورة المُرسلة له وكبـر الصورة وتأمل تفاصيل القطعة الأثرية :
-جات في وقتها، كُنت محتاج فلوس اليومين دول ..
-خيـر !! محتاچ كام ويكونوا عندك الصبح .
تأمل رأس التمثال بحرافيـة وقال دون النظر إليه :
-قَصادي بيت في مرسى علم عايز أجيبـه ، واهو فلوسه ادبرت ..
-ابعتها لحبايبك وشوف الدِنيا ، هي عندك في العربية قوم شوفها .. والله فكرتني عايز اشيلها من الشنطة ..
قفل هاتفه ورماه بجوار هيثم ومد يده فوق النيران للتدفأة :
-عال ، عال … الصبح نشوفها .
تدخل هارون مُتسائلًا :
-وايه أخبـ.ـار الشغل ؟!
-والله يا هارون ما عارف أقول لك أيه ، بس ربك يسترها ، ولاد الـ*** مزودينها وكل يوم يهجموا على كمين وفي حركة تنقلات جديدة وشامم ريحة سينا عتناديني .
-طب ما تقولش إكده قصاد صفية ولا أحلام هينصبولك الصوان .
-أقولهم اي !! دي مش هطلعني من قنا لو عرفت..
مال ليشعل لفافة تبغه من النيران المتقدة فتدخل هيثم متسائلًا بفضول حول ليلة :
-عامل أيه مع الكراميلا !!
رد هارون عليه بسخرية :
-هتجيب لي السُكر ..
فتدخل هاشم متسائلًا :
-أيه حكايتها البت دي يا هارون .. قلبي مش مطمن عليها وشامم ريحة تشبه ريحة سينا !!
قهقهه هيثم ممازحًا :
-دي ريحة المـ.وت .. تصدق يا هاشم وأنا كمان ما مطمن ، حاسس في حاچة كبيرة من تحت راسها ايه هي مش عارف .. بس البت حِلوة .
تبادل الثلاثـة الضـحك فجـاء صوت رنيـن هاتف هاشم بمكالمة من رغد المسجلة عنده باسم ” البكباشي ” ، وقع الاسم تحت أنظار هيثم وقال ساخرًا :
-قابل يا عم البكباشي بيتصل ، شكل سينا چات على السيرة ..
خـ.ـطـ.ـف هاشم هاتفه من جانب هيثم باهتمام ولهفة وعلى محياه تلك الابتسامة التي لا تُفارقه لمجرد رؤيته لاسمها يسطع بشاشته ، رد متحاميًا بنبرته الرسمية المستخدmة للعمل :
-معالي الباشـا ، اتفضل .
جلست أمام التسريحة وهي تضع القليل من الحُمرة على وجهها وتحدثه بتلك النبرة التي تتراقص حافية على عرش قلبه فتُشعله بالحب أكثر :
-وحـ.ـشـ.ـتني أوي ..
مازال محافظًا على نبرته الجادة بإصرار :
-لا اله الا الله؛ وإحنا لحقنـا يا فنـ.ـد.م !!
-ومكنتش هكلمك ، بس قول لي أعمل أيه في قلبي !!
رمق أخوته الجالس معهم بحذر ومازالت ملامحه منكمشة بجدية مزيفة :
-العمل عمل ربنـا يافنـ.ـد.م ؛ اللي معاليـك تأمر بيه يتنفذ .
راقت لها اللعبة لتتمادى بالأمر وهي تتدلل عليه ؛ طالبة :
-صالحني حالًا ..
-دِلوق يا فنـ.ـد.م !! ماينفعش نهائي.. الأمن مش مستتب .
-طيب قول لي بحبك يا رغود ..
تحمحم وهو بقمة الثبات الانفعالي وكأنه يحارب لوحده جيش من الأسود بداخله :
-كُلنا بنحب مصر يا فنـدm ..
انفجرت بتلك الضحكة التي رجت قلبـه بجوار أخوته فتحمحم متجمهرًا مع صوت سعال قوي أي شيء يخفي ورائه مصيبته ؛ فارقت مقعدها بغنج وبنفس النبرة الهادئة :
-كُنت طالبـة أوردر جديد ولسه واصل حالًا ، وحابة أخد رأيك .. عشان لو في حاجة مش أد كده ارجعها .
عقد حاجبيه متسائلًا :
-هو ينفع الكلام ده يا فنـ.ـد.م !! لما أرجع واعاين المكان بنفسي قبل أي قرار ..
-طيب ما تيجي يلا ..
-لو مصر أمرت أحنا حاضرين يا فنـ.ـد.م .
اتكأت على وسادتها القطنية وهي تحاوره بدلع :
-يعني مبعتش الصور ومش هتقول رأيك ..؟!
سعل مرة أخرى وقال :
-لا طبعا ابعت لي يافنـ.ـد.م كل التقارير المشتبه فيهم وانا هفرزها بمنتهى الدقة ..ولو في أمر يتطلب تدخلي من الصبح هكون عند معاليك ..
ثم رد على ضحكتها العالية بنبرة خافتة :
-دا أحنا دايمًا في الخـدmة يا فنـ.ـد.م ..
كان هيثم يتابع كل كلمـ.ـا.ته بمكر حتى فاض به الأمر متسائلًا بخبث ومستغلًا انشغال هارون بمكالمة هاتفية :
-وعلى اكده حلو البكباشي ديه !!
-خليك في حالك يا بئف أنت !!
رماه هاشم بقطعة من الفحم المنطفئ هاربًا من نظرات هيثم الكاشفة له ومازالت رغد على الهاتف تتابع حديثهم بضحكٍ ؛ فوثبت هاشم جاهرًا :
-تصبح على خير يا هارون ..
صاح هيثم طالبًا بمكـر :
-طب قوله هيثم باعت لك السلامـ.ـا.ت وحيلوة وطول وعرض وبدقن وشعر مسبسب ..
تمتم لرغد الواقعة من الضحك بهمس :
-عيل مترباش سيبك منه ، خليكي معايا ، أنا متربي .
••••••••••
مع دقات الساعة الثانيـة بعد منتصف الليـل ، ظل منتظرًا منها مُكالمة واحدة لتخبـره بأي شيء حتى ولو ستثرثر على مسامعـه وتقفل مرة أخرى؛ قطع حبال فكره المتواصل وهو يقطع تلك المسافة بينه وبينها حتى لغرفته ، امتد نظره لعندها من النافذه فوجدتها كطالب يحاول لم المنهج قبل الاختبـ.ـار بساعتين ، كُتب متراكمة على جانبيها ، ترتدي نظارات طبية وتتصفح الحاسوب بدmدmة غير مفهومة ممسكة بقلم بيدها وتكتب كلمـ.ـا.ت يجهلها .. يُطيل النظر لها ولا يدري بأنه يسلك ذلك الدرب الذي يُشبـه الجـ.ـر.ح ..
تسلل بهدوء ليطرق بابهـا الموارب بخِفة اكتفت برفع جفونها المنكسـرة لعِنده ثم عادت مرة آخرى لتمارس شغلها الذي لم تخرج منه بمعلومة واحدة .. نزع عن كتفيه عباءته البنية المُلقاة على أكتافه فظهر أمامها ولأول مرة مرتديًا ” بچِامته” الرياضية السوداء ؛ اكتفت بنظرة مسددة أسهم تشتتها على ظهره ذو الأكتاف العريضة وسرعان ما أغمضت جفونها لتنهي تلك اللعبة السخيفة وتركز بعملها .. وقف ليُعد فنجانين من القهوة بسكوت لا يقطعه إلا النظرات المختلسـة ..
انتهى من إعداد القهوة ثم وضع فنجان بجوارها وشرع في ارتشاف الأخر وهو يسألها بهـدوء :
-وصلتي لأيه !
رمت القلم من يدها بملل :
-لـ ولا حاجة طبعًا !!
ارتشف رشفـة أخرى من فنجان قهوته :
-ولا حاچة ولا حاچة !!
أيده قائلة :
-ولا أي حاجة ، هارون بيـه أنا أخدت الكلية فـ٥ سنين عشان كنت بكسل أقرا الكُتب واذاكر.
-مالك فخورة بروحك ليه !!
-لا ده اسمه تصالح مع النفس ..
ثم ظلت تعبث بالكتب وتشير عليهم بحيرة :
-انا قريت ده ، وده .. عناوين طبعًا ، وجوجل مقالش أي حاجة وأنا بجد هعيط ..
ثم سندت وجنتها فوق قبضة يدها وتأفف باختناق:
-انا مش عايزة أفشل المرة دي ، عشان لو فشلت مامي هتجبرني اتجوز شريف ؛ وأنا مش عايزة اتجوزه وعايزة انجح ، شوف لي حل بقى ..
فرغ من تناول فنجانه ثم وضعه جنبًا ولملم الكُتب المبعثـرة من أمامها ورصهم بمكانهم حتى دارت نحوه متسائلة :
-أنت بتعمل كده ليه !!
أجابها وهو يتجول بالغـرفة التي قلبتها رأسًا عن عقب :
-معابد دندرة .. طالما جيتي قِنا يبقى لازم أول حاجة تتكلمي عنيها .
تركت فنجان القهوة من يدها ووثبت حاملة على وجهها علامـ.ـا.ت الاستفهام :
-وأنتَ سايبني ٤ ساعات طالع عيني وفي الأخر عندك الحل أهو !! طيب وليه التعب من الأول ؟!
وضع الكتاب الذي يحمله بالرف وقال بثباته المعهود :
-قلت اسيبك تعتمدي على نفسك هبابة ، لكن شكلي كنت غلطان ..
-أنتَ بتعاملني كده ليه !! أنا هنا في بيتك ولا في إصلاحيـة للتأهيل النفسي؟! حد قال لك إني جايه اتعالج !
كان مشغولاً بالبحث عن كتاب المعالم الأثرية الخاصة بقـنا ؛ فـ رد دون أن يلتفت لها :
-محدش قال لي شُفت بنفسي ..
-والله !! أنتَ كده جـ.ـا.مد يعني ؟!
سحب الكتاب من الرف العلوي ووضعـه على المنضدة الدائريـة مكتفيًا بتلك النظرة الخبيثة من طرف عينيـه مما أشعل غـــضــــبها أكثر ، شـ.ـدت المقعد لتفسح لها مكانًا تقف فيه وأكملت :
-من وقت ما جيت وأنا بحاول أجمع فيك صفة واحدة تخليني أغير رأيي عنك ؛ صراحة مش لاقية ، كل كلامك شخط ونطر وبتعاملني ولا كإني شغالة عندك ، مفيش ذوقيات خالص كده !! كل حاجة فيك غريبة ومش مفهومة ، ولا حاجة فيك آدmية وحلوة .
اكتفى بإرسال نظرة اعتراضية جعلها تبتلع كل إهانتها وهي تشـ.ـد المقعد وتجلس فوقه بتوجس وترتشف بيدها المرتعشة آخر رشفة من فنجانها وتقول وهي تحت وطأة ذعره منه وقالت لتُلطف الأجواء :
-بس بتعمل قهوة حلوة .. عجبتني .
‏ألطف ما في خضم الحوار أن نتنقل بين المواضيع فجأة بطريقة أكثر لطفًا ، ذلك يلفت القلب بشكل أدق، وتركيز أكثف، وصورة شاعرية تُزين الكلمـ.ـا.ت والشخص نفسه ، شبح ابتسامة طفيفة رُسمت على محيـاه اربكتها و.جـ.ـعلتها تنظر هنا وهناك ثم تعاود النظر له ، قطع صمت النظرات بحمحمة عاليـة وهو يفتـح الكتاب الذي بيده قائلًا :
-الصبح هاخدك ونروحوا المعبد .. لازم ت عـ.ـر.في كُل المعلومـ.ـا.ت عنه ، المساحة مين بناه النقوش الاثرية اللي جواه ..
ثم أشار بيده ممارسًا مهنته الجامعية كمدرس مساعد بالكلية و التي تخلى عنها :
-ت عـ.ـر.في أن المعبد ده كانوا يتنبأوا فيه عن فكرة الكهربا عن طريق استخدام أشعة الشمس عموية وبزوايا معينة من خلالها المكان بيفضل منور طول اليوم من غير أي مصدر ضوء صناعي .. و
قاطعته بتركيز شـ.ـديـد وهي تسحب الحاسوب لعندها :
-استنى هدور على حاجة مهمة ، خليك أنتَ في الكتاب اللي معاك ؛ وأنا هدور على جوجل براحتي ….
ثم مدت له ورقة وقلم :
-اكتب هنا كُل المعلومـ.ـا.ت المهمة .. وانا كمان هعمل زيك .
سحب منها الورقة بصمت وعاد لتنفيذ ما اقترحته وهي أيضًا شرعت في البحث عما دار برأسها سكوت رهيب كل منهما منغمسًا بعمله لا يقطعه إلا صوت همهمـ.ـا.تها التي قطعتها عنـ.ـد.ما تذكرت أقراصها المهدئه فنهضت على الفور أخذت جرعتها من الدواء وعادت مرة آخرى لمكانها ..
مرت قرابـة السـاعتين فرفع جفونه لعندها وجدها غارقـة بالنـوم ، ذراعيها المثنية فوق الطاولة ورأسها التي تتوسطهما .. جفونها النائمة والتي تشبه جناحين مضمونين لفراشة سُكرت من رحيق زهرة الياسمين .. تلك الخصلة العنيدة التي تنتصف ملامحها فلم تسمح له بتأمل ملامحها بدقة .. فارق مقعده وأشعل المدفأة النارية بالمكان ثم تعمد أن يترك باب الغُرفة مفتوحًا .. عاد مرة آخرى لعندها حاملًا عباءته التي ألقاها فوق ظهرها المائل ثم عاد بهدوء ليواصل عمله الذي كلفته به ..
ما فرغ من قراءة أول سطر وجدتها فقدت قدرتها على الثبات وأوشكت ان تسقط من فوق المقعد .. نهض بلهفة محاولًا إفاقتها بحرص دون أي يلمسها فقال بتردد حول اسمها :
-يا ليلــى .. قومي .. هتتكفي على بوزك يا بت الناس ..
كانت بعالم آخر تحت تأثير أدويتها المهدئـة ، زفر بضيق محاولًا افاقتها من جديد لكن بدون جدوى ؛ لم يجد أمامـه حلًا سوى حملها ووضعها على فراشه الصغير .. رفع عباءته من عليها ومسكها بيده كي لا ينفـرد بلمس جسدها مباشـرة .. تسلل ذراعه المُغطى كُليًا بالقماش لتحت رُكبتيها وبذراعـه الأخر المُغطى التف حول ظهرها وحملها بحرص شـ.ـديد منه وهو يسب نفسه سرًا :
-طلعتِلي منين أنتِ بس !! استغفر الله العظيم من كل ذنب ..
تعلقت تلك النائمة بعنقـه كما اعتادت على حمل أبيها لهـا وهي تغمغم بكلمـ.ـا.ت غير مفهومـة حاول أن يُترجمها ولكنه فشل ، انحنى بحذر وهو يضعها بفراشـه حتى سمعها تهذي :
-بابي أنتَ جيت ، أنا مستنياك ليا كتيـر ..
امتزجت انفاسـه الغاضبة بأنفاسها النائمة إثر المسافـة القصيرة التي بينهم والتي يكاد ألا تُذكر .
تراقصت أمام عينيه الحائرة روعة الحياة
‏اختصرت جمال الكون في نظرة لها عن قُرب
‏لمح ظل أجنحة أحلامه تُرفرف على وجهها مما جعله يتساءل ؛ عما جاء بهم لهـنا ، ربما أنهم أجتمعوا على فُتات خُبز الحب الذي سيجمعهما مستقبلًا !! داعبت رائحة عطرها قلبـه فروضتـه على مشاعر جديدة لم تزوره من قبل ، فدق ناقوس قلبه متلهفًا لمُضغه فـ دبت بكيانه فطرته الذكورية التي خُلق عليها ودومًا ما تعمد قــ,تــلها بالتجاهل !! أغرق في بحور الدهشة وهو يلقى نظرة على ساقيها المثنية فضاع بصره بين الجمال والبراءة !! سحب ذراعيه ببطء من تحتهما وكفكفت يداه جبهته المتصببة بعرقٍ لا يعلم مصدره .. شـ.ـد فوقها الغطاء ودار وجهه سريعًا وهو ينفض غبـ.ـار تلك الهواجس التي انتابته فجأة ويشمر أكمامه متأهبًا للوضوء الذي يخمد تلك الثورة التي اندلعت ببدنه ولا يدرك سببها !! ظل يهلل بتسبيحات صاحب الحوت وهو يفتح باب الحمام الصغير ليستعد لقيام لصلاة الفجر ، وربما كان يستعد لتقديم تكفيـره عن ذنبه الذي اقترفه للتو :
-سبحان الله وبحمده ، لا حول ولا قوة إلا بالله .. استغفر الله العظيم الأعظم واتوب إليه …
فرغ هارون من أداء صلاته متحاشيًا النظر لها تمـامًا ، لف نفسه بعباءته الثقيلة وحمل المقعد الخشبي والكتاب الذي يقرأه وغادر الغُرفة كي لا تخونه عينيه بالنظر لواحدة آمنت على نفسها معه .. جلس بمحاذاة البـاب وهو يتعمق بالكتاب أكثر وأكثر وكل ما يزوره طيفها يقــ,تــله بالاستغفار متبعًا نصيحة هلال أخيـه ، ذكر الله يغسل القلب والعقل ..
مع تفتح قرص الشمس تفتحت جفونها لتجد نفسـها بفراشه وبغرفته ، وثبت تتفقد المكان الخالي منه بعيونها الحائرة حول من جاء بها لهنا .. تفقد ساقيها فمازالت مرتدية حذائها الرياضي .. لململت شعرها المتدلى وفارقت السرير وهي تجوب بتـ.ـو.تر بالغرفة حتى امتدت خطواتها للباب الموارب ولم تتوقع وجوده أمامه ، ما خطت خطوة فـ ثارت شاهقة :
-أحيــه!! أنتَ لسه هنا !!
لقد غلبه النوم لساعة قبل شروق الشمس ، استرد وعيه على الفور متمتمًا :
-يا فتاح يا عليم ، يا رزاق يا كريم..
بررت قائلة :
-دي أنا متتخضش .. صباح الخير .
رتب عباءته ووثب قائمًا فرفعت جفونها لمستوى الطول الفارق بينهما ، ألقى نظرة بساعة يده :
-زين إنك صحتيني .. يلا جهزي نفسك عشان نخلصوا مشوارك ، وراي شغل بعد الضهر ..
أومأت بطاعة :
-أنا جاهزة ، هغسل وشي بس ونخرج ..
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت بامتنان :
-هارون بيه ، من كل قلبي شُكرًا ليك بجد .. أنا تعبتك معايا .
تحمحم منزعجًا دون النظر لها متلبسًا بثوب هارون العزايزي :
-على الله يطمر بس .. هغير وادور العربية واستناكي ..
ضـ.ـر.بت الأرض بنفاذ صبر :
-ياربي منه !! قلة الذوق بتجري في دmه……
•••••••••
~بالمطبخ ..
-بقول لك قفشني يا ست صفية وقال لي مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس ..
أردفت فردوس جملتها وهي تعد في زيارة بيت صالح وتشكو من هارون لأمه التي ضـ.ـر.بت كف على الأخر :
-قلبي متوغوش يا فردوس ، أنا شغالة انوم في زينة ، بس قلبي مش مطمن ؛ البت نغشة وحلوة وتزغلل العين ومتجلعة .. وتوقع أجدعها شنب ..
-بس هارون عاقل يا ست صفية ..
-بس الشيطان شاطر يا فردوس .. بقولك ايه ؛ قراية فاتحته على زينـة الليلة ، خلي قلبي يطمن والبت دي ترچع بلدهم ..
~بالسيـارة..
فارق هارون منزلهم بسيارته السوداء حيث كانت تجلس بجواره وأول شيءٍ فعلته تناول قرص مهدئ حسب تعليمـ.ـا.ت أمها ، نظر لها من طرف عينه معارضًا :
-ما كفاياكي بلبعة ، عتبلبعي أيه على الصبح .
ردت بتصالح مع نفسها :
-ده علاج ، ولازم يتاخد بمواعيـد..
-ياستي سيبيها على الله ، الدوا ده بيمرض أكتر ما بيعالج .. أنتِ زي الفل .
خفق قلبها لشعاع الأمل الذي بثه بقلبه إثر جملته العادية ؛ ظلت عينياها تتأرجح متحيرة حوله حتى قطع حبل نظراتها قائلًا :
-الورقة دي احفظي اللي فيها لحد ما نوصلوا .. كتبت لك كل حاجة چواها .
تفحصت الورقـة بسخط وهي تتطلع عما بها وقالت باستنكار :
-ايه الكلام بتاع مدرسين التاريخ ده !! مين قال لك أنا هقول كده !!
ثم اعتدلت في جلستها لتدور بجسدها كله نحوه وأكملت متجاهلة نظرته الغاضبه :
-اسمع الجديد اللي عندي .. لما بحثت إمبـ.ـارح عنه ، طلع مشهور بإنه إله الجمال والحُب والأمومة ..
ثم ثنت تلك الورقة التي بيدها لنصفين وأتبعت بحماس :
-ومن أشهر الأساطير حولين المكان ده إنه لو واحدة مثلًا مش حلوة وعايزة جوزها يشوفها حلوة كانت تروح المعبد وبتقدm قرابين لإله الجمال ويجي الكاهن يحط على وشها زي حجاب كده وبيتقري عليها تعويذة تحت ضوء الشمس ، تعرف بيحصل أيه !
ألتوى ثغره ساخرًا ومستهزءًا بخرافاتها:
-ايه بيلاقيها زبيدة ثروت !!
-بصرف النظر عن انك بتتريق بس فعلًا جوزها بيشوفها حلوة وعلاقتهم بتستمر .. وحاجة كمان .. لو واحدة مش بتخلف وعايزة تبقى أم بتعمل نفس الطقوس قُدام إله الامومة وفعلًا كانت بتخلف على طول .
دار بمقود السيارة أقصي اليمين وهو يردف بسخرية :
-ياستي وحدي الله وبطلي تخاريف…
-اسمها اساطير ، وانت حر تصدقها ولا لا …
امتدت أنظاره للأمام فانكمشت ملامح وجهه قائلًا:
-طب اربطي الحزام ، في كمين ..
هدأ من سرعة السيارة تدريجيًا وهو يدخل على اللجنة التي قطعت طريقه .. صف سيارته فتأرجحت عيني ليلة بخــــوف:
-ده شريف !! ربنا يستر ..
-ولا يهزك .. أجمدي أنتِ مع هارون العزايزي..
قال جملته وهو يفتح نافذة السيارة حيث طلب منه الضابط المساعد:
-رخصك ..
مد له هارون البطاقات وقال بفضول :
-أول مرة يبقى في كمين إهنه !! في ايه ؟!
رد الضابط وهو يعطي له البطاقات :
-تعليمـ.ـا.ت يا عمدة ..
جاء شريف من الأمام وهو ينزع نظارته عنـ.ـد.ما لمحه ، وما كان يتأهب هارون للذهاب فأوقفه نداء شريف على العسكري :
-فتشوا العربية ..
ثم أشار له بنظرات انتقاميـة :
-انزل وافتح الشنطة ..
غمغم هارون بضيق:
-أهي كملت .. كانت ناقصاك .
رمقته ليلة بخــــوف وهو يمنحها مفتاح سيارته حيث شرع العساكر بتفتيش العربة وقال لها :
-الشنطة فيها آثار وشريف مش هيعديها .. تاخدي المفاتيح وترجعي البيت ، هت عـ.ـر.في .
وضعت كفيها على فمها وبأعينها المبرقة :
-أحيه !! أنت تاجر آثار .. والله كنت حاسة .
طل شريف من النافذة وهو يكشف القطعة الأثرية أمامـه وقال بشمـ.ـا.ته :
-وريني المرة دي هتطلع منها ازاي يا هارون بيه .. انزل لي ..
حدج ليلة بنظرة لا تقبل الجدال:
-سمعتي قولت ايه !! يلا انزلي .
هبطت من السيارة معه وركضت نحو شريف الذي يتوقد غـــضــــبًا فتدخل هارون بمنتهى الهدوء:
-سيبها تروح وأحنا هنحلوا مشاكلنا في القسـم ..
رمقها شريف بلوم :
-هو ده اللي انتِ ماشية معاه !!
ألقت نظرت عتاب لهارون وهي تقول بثبات محتفظة بجميله معها :
-على فكرة الآثار دي بتاعتنا إحنا الاتنين ..
ثم نظرت لهارون بحسمٍ:
-أنا هاجي معاك ..
خرج عن هدوئه
-ياستي هي رحلة.!!
جهر شريف بصوته المُرعد:
-ليلة اسمعي الكلام وأمشي .
لم تنصت له بل نظرت للضابط الأخر كي يضع الحديد بيدها متعمدة إثاره غيرة شريف ببسالة :
-أنا مش هسيبك تروح معاه لوحدك …..
لقد ساومَ نزار سيدته لتعترف بحبه قائلًا :
-“سأغير التقويم لو أحببتني ..
أمحو فصولًا أو أضيف فصولًا
وسينتهي العـصر القديم على يـدي
وأقيـم مملكة سيـدة النساء بديـلًا ”
يبدو أن الرجـ.ـال أن أُغرموا يفعلـوا أشياءً خارقـة عن الطبيعي لا يمكن للعاديين من جنسهم فعلهـا ، فـما سيكون مصيـر رجـ.ـال العزايزي الغارق كل منهم بعشق يرفضه العُرف والقانون ويحيط المـ.ـو.ت بكل عاصٍ منهم ، سيختارون الحياة بلا حُب كي ينجون من بطش الأعراف الظالمة ..
أم المـوت على سيف هذا الحُب المرفوض ؟!
أم سيتبعون نهـج نزار ” بعض الهوى لا يقبل التأجيلا ” ويسلكون دروب الهوى مهما كانت العـ.ـا.قبة ولو كان بالعمر متبقي ساعـة يقضونها في ظل هذا الهوى المحرم ويقــ,تــلون بشرف على يده؟! أم سيكون لديهم فجـرًا جديدًا يزيح غُمتهم .
#نهال_مصطفى .
••••••••••••••
‏خُلق الإنسان بطبعـه مُقـ.ـا.تلًا .. مهمـا بلغ قدرًا من النضج أو الطيش ؛ السذاجة أو الحكمـة لكن لديه الوعي الكافي كي يميز بين معركة يمكن أن تحقق أهدافها ولابد من قيامها .. و معارك لا جدوى من خوضها…
~ بالقسـم ..
مرت قرابة الثلاثة ساعات على حجز كُل من هارون وليلة بمكتب شريف ، كان هارون يجوب الغُرفة بعشوائيـة يخرج منه بدل النفس دخانًا يحمل نيران غـــضــــبـه .. ثنى سيجارته بقلب المطفأة متحاشيًا النظر إليها حتى فاض بها الأمر فتدخلت مستفهمة :
-ممكن أعرف أنتَ مضايق ليه !! مش إحنا هنا بسببك !!
-لا مش عشان بسببي ؛ عشانك ماعتسمعيش الكلام ، قولت لك روحي .. چاية معاي ليـه !!
ثم زفر غبـ.ـار غـــضــــبه المُشتعل محاولًا تهدئة روحه :
-اسمعي يا ليـلي ..
قاطعته بصوت حازم وهادئ بنفس الوقت مُعدلة لـه نطق اسمها :
-ليلة ….
-دي ليلة هارون الغَبرة !!
برق بعينيه وهو يأكل في شفته السفلية بنفاذ صبر ويتمتم سرًا بجملته الأخيرة مما جعلها تراجعت خطوة للوراء وأكمل مُشيرًا بسبابتـه :
-يجي الزفت اللي اسمه شريف ده ، وأنا هقوله إنك تروحي وأنت متفتحيش خشمك بكلمة واحدة مفهوم !
-ليه يعني ؟!
-ياستي تصفية حساب بين اتنين رچالة !! أنتِ مدخلـة روحك ليـه ؟! ها كلامي مفهوم ولا لا
أومأت بالإيجاب على مضض :
-مفهوم ، بس متزعقش .. أنتَ على طول نرڤوز كده !!
-يا مثبت العقـل والدين يا رب .
شـ.ـد أحد المقاعد المجاورة للمكتب وجلـس فوقه وهو يهز ساقه وكأن بداخلها غـــضــــب كمراجـ.ـل متقدة ؛ كان مخططه ألا يتم توريطها معـه ولا مرافقـته لتلك اللعبـة ، مهما كانت حربه مع شريف فهو لا يحبذ أن يتخذ سلاحًا رادعًا من إمراة .. بل جاءت بحماقتها لتهد كل شيء فوق رأسه وتناطح مبادئه ، سحبت هي الأخرى المعقد الثاني وجلست أمامه ، نظرات عشوائيـة تطوف حوله من مُقلتيها الخضـراء إثر انعكاس عدساتها اللاصقـة ، حانت منه نظرة غاضبـة ثم ارتفعت للساعة المُعلقـة لانه لم يتحمل رؤيتها وهي تقضم في أظافرها الناعمة بتحيـر ، بترت ساق النظرات المتراقصة بينهم وهي تسأله بفضـول :
-بالمـناسبة ؛ أنا نمت أزاي في السرير .. ؟؟
خمدت ملامحه الغاضبة منها وهو يتحاشي النظر إليها ليخفي كذبته الساطعة بعيونه وقال ليبرئ نفسه من جَريمته :
-اسألي روحك .. شكلك عـ تمشى وأنتِ نعسانة ..
تأرجحت عينيـها بتوجس وثغر مضموم على غصن الخيبة :
-بجد !! مامي كانت تقول لي كده دايمًا واضح أن كلامها صحيح ..
ثم رفعت جفونها التي تحمل ضبابة الآسى وتمتمت:
-بس بابي كان يقـول لي مصدقش الكلام ده ؛ هو اللي كان ينيمني في سريري ..
حانت منه نظرة شفقة محملة بالاعتذار عن كذبته مغيرًا مجرى الحديث مستردًا نبرته الغاضبة منها وكأنه يؤيد صدق قولها ولكن بطريقة أكثر دهاء :
-أنتِ ما عتسمعيش الكلام ليه !!
جاء شريـف حاملًا على كتفيـه عُقاب الانتقام الشرس بدل من عُقاب رُتبـه ، حلقـة من النيران تحاوطه وهو ينزع سلاحـه من وراء ظهره ويُلقيـه على سطح المكتب قائلًا والشـر يتقاذف من شَدقـه :
-ده أنا جهزت لك محضر ما يخرش الميـة يا هارون بيه … محضر للحبايب وبس .
ثم شـد مقعـده وجلس وهو يثني أكمامـه ويطالع ليلة بامتعاض :
-وأنتِ تحطي عقلك في راسك _ده لو فيكِ عقل_وتقومي تروحي من هنا !
غلت الدmـاء بعروق هارون التي برزت بقبضة يده المضمومة على سطح مكتبـه فلم يتحمـل أن يُهين ضيفتـه بهذا الأسلوب الوقح ، فنظر له بعد ما أرسل نظرة خاطفة لها وقال متعمدًا إثارة غـــضــــبه :
-ما تسيبك منها وخليـك معايـا ؛ ولا أنت ماعتتشطرش غيـر على الحريم وبس !!
أشار له شريف مهددًا ومنفردًا بمكانتـه :
-هنا الكلام بإذني أنا وبس ..
ثم عاد لليـلة بذلك الوجـه القاسي:
-سمعتي !! أنا لحد دلوقتـي عامل حساب لاسم سامح الجوهري ومجبتش اسمك .. أعقلي يا ليـلة وأمشي ..
دفاع هارون عنها لحظة اشتباكهم بقصـر العزايزي ؛ مساعدته لها وحملهـا للفراش ذلك اليوم المشؤوم .. سهره طول الليـل لمساعدتهـا والحرص على جمع كافة المعلومـ.ـا.ت التي ستحتاجهـا ، وآخيرًا وقوفه بصفهـا عند ملاحظته لإهانة شريف لها .. رمقت هارون بنظرة حاسمـة لقرارها فاستقبلها بالرفض القاطع ، تجاهلت أوامره وقالت بتحـدٍ :
-وأنا مش همشي يا شريف .
اتسع بؤبؤ عيني هارون من عنادها ، ثم وقفت جاهرة بتلك النبرة التي مازالت محتفظـة بالجميل :
-اسمع يا شريف ؛ أنا مش هروح أي حتـة .. ياما تحبسنا أحنا الاتنين سوا بس وقتها متنساش تكلم دكتورة نادية أبو العلا وتقولها أنا حبست بـ.ـنتك بنفسي … ياما نخرج أنا والعمدة من هنا رجلي على رجله ..
ثم التوى ثغرها بضحكة ساخرة :
-وريني بقا هتـرد جميل سامح الجوهري اللي اقعدك على المكتب ده أزاي ..
كانت نبرتها كلها فخر وهي تذكر اسم أبيها اللواء سامح الجوهري صاحب الفضل على شريف وأبيه الفاسـد الذي لملم الكثير من ورائه أثناء خدmته بالداخلية حتى أُحيل مبكرًا على المعاش وعاد للمارسة مهنة المُحاماة التي أصبحت لعبـته الأولى .. وثب قائمًا مغادرًا مقعـده ويخطو لعنـدها متعجبًا من رد فعلها :
-كُل ده عشان مين !! عشان البلطجي ده ؟! أنتِ عقلك راح فين ؟! فوقي يا ليلة ..
تدخل هارون بشموخ في حوارهم وقال بصوت صارم بغل من إهانة شريف الباطلة:
-بصرف النظر عن الإهانة اللي مش هعديها ، بس اسمعي كلامه وروحي يا ليلة وأنا كُلها ساعتين وهحصلك ..
ثقته الكبيرة هزت شريف من مكانه مما جعله يرمقه بسخرية :
-ده في خيالك يا عزايزي دانت وقعت مع اللي مابيرحمش ، أنتَ خلاص لبست ..
تحمحم بهدوء مريب وقال متحديًا :
-هنـشوف من فين هيلبس التاني ..
شعر شريف بهزيمته أمام ثقة هارون الجبـ.ـارة وولى نظره ليفرغ غـــضــــبـه بليلة :
-يعني ده آخر كلام عندك !!
-ااه يا شريف .. وريني هتعمل أيه !.
هتف شريف بثرثرته الصارمـة مناديًا على العسكري :
-ياعسكري !!!
فتح العسكري البـاب فطـل منه هاشم الذي ينزع عن عينيه نظارته الشمسيـة مرتديًا ملابسه الأنيقة التي تنحت تفاصيل تناسق جسده الرياضـي .. دلف للمكتب وهو ينظر لأخيـه نظرة انتصار بأن كل شيء على ما يُرام ثم أخرج هويتـه العسكرية مقدmًا نفسـه لشريف :
-الرائد هاشم العزايزي .. أخو حضرة العُمدة .
ألقى شريف نظرة على بطاقته وقال بامتعاض:
-سمعت عنك كتير بس محصليش الشرف نتقابل ..
رد هاشم بغــــرور :
-وأهو لحسن حظك حصل !!
ثم تهامس بمكـر :
-قولت لي أخويا هنا ليـه ؟!
زفر شريف وهو يعود لمكتبه باختناق :
-أخوك جناب العمدة بيهرب آثار… ودي جريمة في حق البلد ياهاشم بيه زي ما أنت عارف .
-يعني مش مـ.ـخـ.ـد.رات برشام ، مش سلاح ؛ دي حتة آثار لقيوها في العيال في الجبل وكانت راجعـة لصحابها .. مكبر الموضوع ليه !!
رمقه شريف بشمـ.ـا.تة :
-كان بودي اساعده ، لكن ده اتمسك متلبس .. وهنضطر نتحفظ عليـه لبكرة لحد ما يتعرض على النيابة .
شـ.ـد هاشم المقعد الحديدي ليجلس عليـه بفظاظة واضعًا ساق فوق الآخرى :
-ده في حالة واحدة بس ؛ أن ميكنش أخوه هاشم العزايزي ..
ثم نظر لأخيه بفخر يتقاذف من شِدقه :
-يعني دكتوراه في القانون وقادر يطلع منها بكلمتين بس هو مراعي ضوابط المهنـة .. أما أنا مش بعمل حساب لحد خالص .
وشوشت ليلة لهارون بإعجاب :
-أخوك ده جـ.ـا.مد أوي خلى شريف مش قادر يفتح بؤه .. أنا مبسوطة أوي .
رمقها بطرف عيـنه رافضًا غزلها الصريح لأخيـه ثم قال مكتفيًا :
-اتقلي واتفرجي على الضـ.ـر.بة اللي چاية .. هتچيب أجله بعون الله .
-هيحصل أيه قول لي ؟!
نظر لها هارون بحدة متذكرًا تورطها معه :
-أنتِ هتروحي تروحي مع هيثم مش عايزك تفتحي خشمك .. هكلمه يچي ياخدك .
ردت بعفوية :
-مش أنت هتخرج كمان ساعتين زي ما قولت !!
-وأقل بعون الله ..
هزت كتفيها مستسهلة الأمر :
-اشطا يبقى نخرج سوا .. أنا فاضية مش ورايا حاجة .
كز على فكيـه المنطبقين بنفاذ صبر :
-يا صبـر الصبـر !!
في تلك اللحظة نادى شريف على العسكري معاندًا مع هاشم وفارضًا سيطرته بالمكان كي يأخذ كل من هارون وليلة للحجـز .. فـ جاءه المأمور حينها وهو يصافح هارون معتذرًا :
-أحنا آسفين على سوء الفهـم اللي حصـل يا هارون بيه .
تعمـد هارون التجاهل وهو يتساءل بمكر كي يسمع صوت براءته بنفسه :
-خيـر يا حشمت بيه !!
أخفض هاشم ساقه ونهض ليقف خلف أخيـه قائلًا :
-زي ما قولت لك يا حشمت بيه .. أخوي هارون سمعته زي الچِنيه الدهب .
تدخل شريف مستفهمًا بقلق لاجتماعهم :
-خير يا حشمت بيه !! حالًا العُمدة هينزل الحجز .
نظر حشمت لشريف وقال بتلك النبرة الحاسمة :
-الحتة طلعت مزورة وأظن وجود هارون بيه هنا مفيش منه داعي .. خلص الإجراءات اللازمة وخلي جناب العُمدة يروح يا شريف .
اتسعت ابتسامة ليلة وتفتحت ملامحها كوردة ربيع تمتمت له بـ.ـارتياح :
-يس !! كنت متأكدة ان في حاجة غلط!!أنا فرحانة أوي إنك مش تاجر آثار.
وشوش بنبرة اخترقت مسامعها وحدها :
-أنتِ على طول هبلة إكده !!
احتلت الصدmة معالم وجه شريف وهو يراقب ابتسامة كُل من هارون وهاشم الخبيثة والتي تحمل وسام النصـر متسائلًا :
-يعني أيه يا حشمت بيه !! أنا مطلع العروسـة بنفسي من عربيته ..
وضع له سيادة المأمور حدًا :
-الموضوع منتهي يا شريف .. وهيئة الآثار بنفسها عاينت القطعة ونفت أنها اصليـة ..
ثم نظر له مرددًا اعتذاره :
-نورتنا يا هارون بيه ، وأنا بعتذر منك بصفة شخصية عن سوء الفهم اللي حصل ….
تحمحم هارون بفظاظة وهو يأكل شريف بنظراته المنتصرة :
-ولاد الحـ.ـر.ام مخلوش لولاد الحلال حاچة يا سيادة المأمور ؛ علم رچالتك أن المُتهم بريء حتى تثبت إدانته !!
ثم خطى خطوة بقرب شريف مستمعًا لاعتذارات المأمور بلا اهتمام ؛ فمال متهامسًا بغـ.ـيظ مُكملًا :
-خدتها في الكُلية ولا عديت منيها دي كّمان واسطة !!
تحرك هاشم مع سيادة المأمور وهما يتحدثان همسًا فتابعـه هارون بعد ما أنهى حرب النظرات العاتية بينه وبين شريف ، وعلى الفور همت ليلة باتباع خُطاه ففوجئت بشريف يعوق خُطاها رافضًا الذهاب خلفه وكأنها وعاءه الوحيد لتفريغ شُحنات غـــضــــبه ؛ قبض على معصمها بقوة :
-رايحة فين !! استنى هنا أنتِ لازم ترجعي اسكندرية حالًا وكفاية مسخرة لحد كده …
-ااه سيب إيدي يا شريف !
صرختها الاعتراضية عاقت خطوات هارون الذي دار خلفه مُدافعًا عنها وهو يسحبها وراء ظهره بهدوء :
-أنتَ أزاي تمد أيدك على واحدة في حمايتي !! ولا هو فرد عضلات والسلام !!
أحمر لهب الغـــضــــب بوجهه :
-واحد وخطيبته ممكن مـ.ـا.تدخلش ما بينـا !!
ثم حدج ليلة بثورة عارمة :
-ليلة كفاية قلة قيمة وبهدلة أكتر من كده .. وتعالي .
ردت عليه وهي تحتمي بكتف هارون :
-أنا هنا بشتغل ، ومش بلعب واتبهدل زي ما أنتَ بتقول .. زي ما أنت بتشتغل أنا كمان بشتغل .
-شُغل أيه ياليلة !! أنتِ مصدقة نفسك ؟! أنتِ فاشلة ، أنت مفيش قناة قبلت تشغلك حتى بفلوسك ، اللي أنتِ بتعمليـه ده لعب عيال وأنا مش هقبل بيه .
ثم تطاولت يده ليجذبها من وراء هارون الواقف كسور الصين بينهما :
-يلا يا ليلة عندنـا فرح محتاجين نرتب له !
نزلت قبضة يد هارون الحديدية على رسغه الممتد لعندها إثر حنقه الشـ.ـديد من تقليله المتواصل منها وقال بنبرته القوية :
-قالت لك مش رايداك وفضناها سيرة ، هتأخدها من حمايتي بالغـ.ـصـ.ـب !! أنتَ معندكش نخوة ..ولا هو رمي بلى !!
عنفه شريف بوجهه المكفهر :
-نزل ايدك دي ، وليلة مش هتتحرك من هنا غير معايا، وأنت لآخر مرة بقلك متتدخلش بينا مفهوم .. أنت مين أصلا ؟!
صاحت ليلة المحتمية بظهره نفس المشهد يتكرر عنـ.ـد.ما كانت تحتمي بظهر أبيها من تعنيف أمها المتواصل ولكن الآن تبدلت الأشخاص وبات الدm يحنـو لمجراه :
-أنتَ اللي مين !! أيه سبب وجودك في حياتي !! انا كنت خطيبتك وخلاص انتهينا يا شريف، أنا اللي مش عايزاك ولا عايزة أي حاجة تربطني بيك ، وأيوة أنا في حماية هارون بيـه العمدة وهامشي معاه ..
رفع هارون حاجبه ثم سرعان ما انكمشت ملامحه:
-سمعت بودنك !! سيب البت تشوف مستقبلها عاد بلاش تبقى زي الشوكة في الزور وتعنقلها (توقعها) !!
حاول أن يأخذها من ورائه غـ.ـصـ.ـبًا ولكن تلك المرة تكورت كلها وراء ظهره ليواجه هارون ذلك الرجل حاد الطباع مهددًا :
-يدك هتتمد عليها هقِل منك وسط رجـ.ـالتك وفي مطرحك أنا لحد دلوق عامل حساب للدبورة ، وحبس بحبس أقلها أكون شفيت غليلي .. اهدي وقول هديت الچواز مش بالغُصبانية .. ولا أنت مقدرتش على الرچالة و الضَربة وچعتك قوي چاي تتشطر على حُرمة !!
ثم جهر قائلًا وعيناه لا تتزحزح عن شريف المغلول منه :
-يلا بينا يا استاذة ليلي …..
•••••••••
~بسيـارة هِلال .
“البوصلة أخترعت قبل الساعة ، يعني ذلك أن الإتجاه أهم وأصدق مِنَ الوقت .. مهمـا كان الوقت غير مناسب اختر دومًا اتجاه بُوصلة قلبك وما تدلك عليـه … ”
-“يعني رضيت عـني وركبتني عربيتك !! أيه اتأكدت إني مُسلم زيي زيك يا مولانـا !! ”
أردف هيثم جملتـه مندهشًا من تلك الطريقة التي أخذه بها أخيه هلال من غُرفته محتجًا بصلاة الظُهر معه كي يهدي قلبـه المنحرف عن الصواب ولكن هناك ثمة شك بالأمر لم يطمئن له قلب هيثم ؛ فارق هلال ذلك المسجد المسئول عنه بالشرق متجهًا للجامع الآخر الواقع بغرب النجع وهو يجيب على أخيه بهدوء :
-للضرورة أحكام ! مضطر يا أخ هيثم ..
تمسك هيثم بطرف الجُملة :
-أيوااه !! اثبت عندك .. مضطر لأيه ريح قلبي !! طب لو داخلين على عركة خبرني أجهز مخي ..متاخدنيش على خوانة أنا وهو .
يبدو أن هيثم لديه الفطنة الكافيـة ليقـرأ إخوته قبل أن ينطقون ويكشف خباياهم، قلبـه دليـله بالمعنى الأدق .. رمقه هلال بدهشـة ثم قال بتردد :
-في حقيـقة الأمر ..
قطعه مهتمًا ليُريح الفئران الصغيرة الموجودة برأسه :
-أديني حقايـق وبلاش لف ودوران مش توبك يا وِلد أبوي .. دا أنتَ السالك الـ فينا .
تحمحم هِلال بتردد محافظًا على نبرة صوته الثابتة لاجئًا للفصحى التي تُنقذه دومًا من خباياه المدفونة :
-هناك خدmة انسانيـة سنقوم بها لوجه الله يا هيثم ، ستحصد منها جبل من الحسنات .
لم يقتنع هيثم بمُقدmة أخيـه العريضـة :
-ده أنا ؟!! طيب كيف ؟! طب الخدmة دي فيها نسوان !! أصل اختيارك ليّ كان على أي أساس..!! أقولك أنا مِش مرتاح لك .
استغفر هلال بسـره ثم جهر ممتعضًا وهو يكظم غـــضــــبه ؛ وسأله :
-بيت بكـر ولد عمك فياض ؛ أين بالضبط؟!
عقد هيثم حاجبيه مستنتجًا :
-مش ديه وِلد عم رقية صاخبة هاچر !! ديه متچوز من سنتين ومعاه بت صِغَيرة !! مالك بيه يا هلال ! ده واد لبط والعوچ سكته .
تعجب هلال مما سمعه :
-يالله !! متزوج !! وبأي حق يجبر فتاة لم يسبق لها الزواج أن تتزوج منه ؟!
-تقصد رقية !! ااه لإنه ولد عمها الشقيق الوحيد ؛ وأرض أبوها كاتير وهو أحق بيها من الغريب .. فالعرف معاه !! بس أيه چاب السيرة دي ، رقية من أصلو رافضـه وقالت مش هتتچوز واصل .
-وبالطبع كي يحق لها الزواج من غيره ستتنازل له عن كل ما تملك وعن مال أبيها ؟!
غلت دmاء تمرده على أعرافهم الظالمة بعروقـه وهو يدافع عن تلك الفتاة التي لم يراه إلا مرة ولكن من باب الانسانيـة أن يشفق على حالها قائلًا :
-هارون عِنديه علم بالظُلم ديه !! ألــم يكفيهم ظُلمًا وعبثًا بالدين لهذا الحد ؟! أين شرع الله ؟!
تعجب هيثم على أمر أخيـه :
-چرالك أيه يا هلال من مـ.ـيـ.ـتى عتعيب في أعرافنـا .. طول عمرك مأيدها وعتقول العرف عمود الخلق ..
انفعل بوجه أخيه خارجًا عن صمته :
-بقي حبل حولين رقاب الخَلق يا هيثم ، ما ذنب تلك المسكينة تتزوچ من رچل سبق له الزواج من غيرها !!ما هذا العرف الذي يعطيه الحق أن يتهجم علي دارهم بمنتصف الليل ؟! ما ذنبها إنها لم يكن لها أخوة ليحمونها !!
ثم غمغم متحسرًا :
-العرف جائر تلك المرة وغير منصف .. ولابد من مُخالفته !!
-جرالك إيه يا ولد أبوي استهدى بالله ديه كلام يطير رِقاب !! وكيف ولد المحروق ديه يتهجم عليهم هي حصلت !! النجع ملهوش كبير !! أنا مأكد على رقية لو قربلها ولا ضايقها تكلمني .. خد يمينك يا هلال بيته اللي تحت الچبل ، وربنا المعبـود ما هحله .
قطـع هلال تلك المسافة الممتدة في وقت لا يُذكر بسرعة فائقة ، لم ينتظر هيثم وقوف السيارة تمامًا بل دلف منها قبل أن يصفها أخيه .. لحق هلال به مناديًا :
-هيثم لا داعي من العنف !! تمهل .. اترك الأمر لي .
طرق هيثـم بعنف فأمسك به هلال طالبًا :
-هيثم ، من فضلك اترك لي الأمر .. وسنحدثه بالحسنى .. رجاءً اصمت ودع العقل يتكلم قبل اليد .
فتح لهم بكر الباب وهو يحمله ابـ.ـنته على كتفه ما أن رآهم زادت ابتسامته وهو يطالعهم من رأسهم للكاحل .. هاتفًا :
-الله الله الله !! أيه الزيارة دي يا ولاد عمي خليفة ..طب كُنتوا تقولوا كُنا فرشانا الأرض ورد ..
كاد هيثم أن يشتبك معه فلحق به هِلال واضعًا ذراعها سدًا منيعًا بينهما ، رفع سبابته بوجه بكر صاحب النظرات المستهزئة:
-اسمعني يا بكر ، كلمتين لا ثالث لهمـا .. أن لم تبتعد عن الأخت رقية وأمها وتُكف عن أساليبك العدوانيـة ؛ ستجدني كالسـد أمامك ..
رمقه بكر مستخفًا بتحذيراته :
-طب اقِلع العِمة والجلابيـة يا مولانا يمكن أخاف وأكش!!
كاد هيثم ان يفلت عليه كحـ.ـيو.ان مفترس مقيد بأغلال تمنعه ، فلم تتزحزح يدي هلال المسنودة على الباب الخشبي وقال بلهجته الصعيدية :
-ما أنت لو أصريت ومتراچعتش ، هتچبرني أقلع العِمة والچلابيـة ومعاهم هقلع لك عينيـك اللي شغالين مرازية في الولاية !! مفهوم ؟!..
-وأنت اللي باعتك حضرة العُمدة ولا دي مِرجلة زايدة منك !
صاح هيثم بانفعال :
-سيبني أفهموا بالطريقة الـ يفهمها يا هِلال ، ديه مش بتاع حسنى ديه عاوز مرزبة تتدق فوق رأسه ..
••••••••••
~أمام القسم ..
تلك المرة استطاعت أن تهرب من كُل شيء حتى ولو كان هروبًا مؤقتًا يكفي بأنها سترتاح لفسحة من الوقت لكن هل ذلك يعني أن ما تهرب منه لا يزال يجول في داخلك و ينهشُ روحك المُتعبـة !!
تسير ليلة بجواره وهي تنعم برائحة نسيم الأمان المُقبل من عهـد والدها ، لأول مرة تتخلص من هم مواجهتها لشريف ولأمها بمفردها ، جاء ذلك الغريب القريب ليزيح عنها ثقل هذا الحمل ، رمقتـه بنظرة سريعة وهي تتذكر نفسها وهي تتوارى بظهره من بطش شريف ، وكلمـ.ـا.ته المدافعة عنها وهو لا يعرفها .. تعجبت من حكمة الأقدار التي تجعل من شخص غريب عنك أحن عليك من أهلك .. كادت أن تشُكره ولكن نداء هاشم أوقفها .. أشار لها وهو يعطيها مفتاح السيارة :
-روحي اسبقيني على العربية ..
ثم ذهب لأخيه الذي ينتظره بجوار سيارته ؛ هلل هارون شاكرًا :
-عاش ، قريبك بيكلم نفسه چوة !!
شقت الضحكة شـ.ـدق هاشم وقال :
-المأمور أكل له جوز ارانب ، والحتة رجعت للصحابها في الهيئة ونصيبك الصبح هيكون في حسابك ..
-عال يا ولد خليفة .. والله ما عارف أودي جمايلك فين يا ولد ..
نزع نظارته الشمسية بحماس وهو يطلب منه قائلًا مستغلًا مقابل خدmته :
-أنا هقول لك ، هخـ.ـطـ.ـف رچلي لمرسى علم سواد الليل وراچع الصُبح .. قول لصفيـة أي حل عشان تعتقني دي ماسكة فيّ عشان موضوع قراية فاتحتك أنتَ وزينة !!
تأفف بضيق:
-وده وقته يا صفية !! أنا عنسى ليه ، زين إنك فكرتني ..
ثم حدجه هارون بعينيه الضائقة :
-ما عتعملش حاچة ببلاش أنتَ !! بس رايح ليه هناك أنتَ مِش أچازة ؟!
حلقت ملامح وجهه فوق سُحب الحُب وقال بتلك النبرة الثابتة عكس دواخله :
-هجمة مرتدة اكده وراجع !
-نعم يا روح أمك ؟!
تحمحم مستردًا هيبته :
-بهزر معاك يا متر ، لا هروح بس أخلص شِرا البيت اللي قُولتلك عليه وراچع ، طيران مش هعوق عليك ..
ثم غمز له بطرف عينـه وهو يستقل سيارته :
-وصل سلامي للقمر اللي معاك ..
قفل باب السيارة وراء أخيه بعنفوان :
-أنت وهيثم عاوز اربطكم في شچرة وانزل فيكم ضـ.ـر.ب لحدت ما يبانلكم صحاب ..
أخرج رأسه من النافذة ملوحًا بالأمر الذي يُطارده :
-ما تغير عُرف العزايزة وتتجوزها بدل زينـة ، البت متتسابش وچدعة ومرضيتش تهملك وتمشي بصراحة عچبتني .. اشتري من الاستاذ !!
زأر غـــضــــبه الذي لا يتقبل أي هرج بالأعراف قائلًا :
-هاشم مرق يومك !!!
فلحق الأخير نفسه من بطشه:
-طب خلاص چوزهالي أنا ..
كل الأقاويل الصادقة مُغلفة بالإطار المزاح ، نفذ صبـره وهو يزفر بوجه أخيه قائلًا :
-شكلك فايق ورايق وأنا مش فايق لك كفاية عليّ القناة السابعة اللي معاي !! اتكل على الله وكلمني…
انطلق هاشـم نحو المطار ليحجز تذكرة ذهابًا وعودًا لمرسى علم ، وتحرك هارون صوب السيارة التي تنتظره بداخلها ليلة ، التي قبل أن تخطو أقدامه السيارة سألته بعد روت لصدقاتها ما حدث وكل منهن أشعلت رأسها بسؤال مختلف :
-أنتَ ازاي كُنت عارف أن في آثار في عربيتك ؛ ولما روحنا القسم طلعت مروزة !! هي مزورة فعلا ولا أنتوا كذبتوا ؟! وبعدين تعالى هنا أنت شايل آثار مزورة معاك ليه !!
شبح ابتسامة خفيفـة بدت على ملامحه وهو يحرك سيارته وقال بصوت مسموع :
-ومين قال لك إنها مزورة !!
-نعم !! الظابط الكبير قال كده بنفسه ، آكيد مش هيكذب !!
“فلاش بــاك ”
-“معروفة يعني الأسود على الأسد يمنع الحسد .. ..”
قال هاشم جملته الأخيرة بعد ما دقق بتفاصيل الصورة التي أرسلتها رغد وهي تعرض تلك الملابس الجذابة الخاصة بالنوم حتى أرسلت له صورة ترتدي بها تلك السترة القصيرة التي جعلته يخرج عن صمته مُعلنًا :
-أنا جاي بكرة أشوف الأسد ناوي على ايه .
تحدته قائلة :
-بلاش تقول كلام مش أده .. متعودتش منك على كده .
بين ثنايا ملامحه يغرد الحب وهو يقول :
-رغد بلاش تتحديني .. وبلاش اسلوبك ده !!
-شوفت !! عندي حق أهو .. لما تقول كلام تكون أده يا سيادة الرائد ..
-قلت لك جاي بكرة .. أنا وقعت في الكمين بكامل قوايا العقلية والصور مش موضحة أبعاد الموضوع ده لازم له معاينة عن قُرب .
أحمر وجهها من جرئته الزائدة فقالت بعفوية :
-هاشم أنتَ كمان قليل الأدب زي هيثم أخوك بالظبط !!طنت صفيـة معرفتش تربي ولا واحد فيكم .
مدد على فرشته واضعًا ذراعه وراء رأسه :
-المصـ يـ بـةلتكوني لسـه واخدة بالك من الكلام ده !!
مزاحته متدللة :
-صحيح بعد سنتين ازاي مخدتش بالي من أول يوم !!
-وبعدين هيثم مين التلميذ ده !! ده بؤ عالفاضي .. أنا بتاع الأفعال والتدريس .
قطع صوت ضحكتها قائلا عنـ.ـد.ما نظر بشاشة هاتفه قبل أن يُكملز :
-رغود .. هارون بيتصل .. هشوفه وارجع لك متنميش ..
قفل مكالمته الهاتفية معها ثم عاود الاتصال بهارون الذي اختصر المكالمة قائلا :
-هاشم انزل لي ..عاوزك ..
ارتدي نعاله الجلدي ملبيًا طلب أخيه .. وصل هاشم بملابسه الرياضية الشتوية للسيارة المصفوفة الواقف هارون بجوارها …التقطت عيناه تلك السيارة الحمراء المركونة :
-عربية مين دي ..!!
رد هارون بإيجاز وهو يرفع باب سيارته الخلفي :
-دي عربية الصحفية اللي جوة .. المهم عاوزك تركز معاي ؛ عنِدنا طلعـة .
عقد هاشم ذراعيه وهو ينتظر الأمر الذي سيرويه علي مسامعه مستندا على سيارة ليلة .. أخرج هارون القطعة الأثرية من سيارته والتي يبلغ طولها حوالي أربعين سنتيمتر .. وضعها بيد هاشم وقال :
-شريف أبو العلا ناصب لي كمين في كل حتة .. وأنا عاوز أعلم عليه وأعلمه الأدب ..
تفحص هاشم تلك القطعة التي يتجاوز ثمنها ملايين من الجنيهات وقال :
-عمل ايه تاني ! وأحنا نعلمه الأدب هو واللي معرفوش يربوه .
رد بتلك الملامحة الصارمة التي يمتلكها :
-حاططني في راسـه وزاعق .. وعامل غاغة .. عايزينه يتهد ويحل عن سماي ..
تفوه هاشم بلهجته الصعيدي الفخمة :
-قول لي ناوي على أيه وأنا معاك ؟!
أخذ القطعة الاثرية من يد أخيه وقال :
-عاوزو يمسك دي في عربيتي .. ويحس إني تحت رحمته ومفيش مفر .. بالعربي وقعت ومحدش سمى عليّ ..
رفع هاشم حاجبه بإعجاب وأكمل مخطط أخيه :
-وتخرج منها زي الشعرة من العجين .. وتعرفه كد أيه هو ولا حاچة !! تشممه ريحـة العضمـة وتاخدها من تحت نابه !!
-الله يفتح عليك .. عاوز أديله قلم معتبر .. الصبح هاخد الصحفية وهطلع من طريق الكمين بتاعه .
-اشمعنا هي ؟! أيه دخلهـا ..
قال وفي عينيه نظرة متحفزة :
-كانت خطيبته .. ودي هتحرقـه أكتر .
-ياراجـ.ـل !! ودي خدته على أيه !! دي سُمعته هو وأبوه طين في الداخلية .
-أنا عارف ؛ خلينا فـ المهم …..
“بــــــاك”
رفع حاجبه مُغيرًا مجرى الحديث حيث جاء مقترحًا :
-شكلك چوعتي ، ما تيچي ناكلو ..
-اه ده حقيقي .. أنا جعانة أوي ..
ثم انتقلت بسرعة البرق لموضوعٍ جديـد :
-مرسي إنك وقفت معايا قدام شريف ، أنا بجد مابقتش قادرة اتحمل أسلوبه واستهتاره بيا طول الوقت .. أنا عمري ما حسيت إني مبسوطة معاه وهو مش فاهم كده .. بس
ثم نظر لها منتظرًا تكملة حديثها ولكن سُرعان ما غيرت نشرة الأحزان التي أعلنتها وقالت معترضة وبحماس:
-بس ياهارون بيه أنا اسمي ليلة مش ليلي ، مش كل مرة هصلح لك الاسم !! احفظ بقا.
بضحكة المغلوب على أمره وهو يتأفف دخان جزعه منها قائلًا لنفسه :
-والله ما في ليلة مقندلة غير الليلة اللي قابلتك فيها !! أنا چبت وچع الراس لنفسي !!
ثم حانت منه نظرة مسـ.ـر.وقه لخضرة عينيها التي تعلن حلول الربيع قبل أوان متمتمًا:
-ربنا يشفيكي !!
-ليه بتقول كده !!
لم يرض فضولها بالجواب بل أردف قائلا بابتسامة غير مناسبة لمجرى الحديث :
-قولتي عاوزة تأكلي أيه !!!
•••••••••••
-لو الكلام ده يرضيكي يا عمتي أنا مش هتكلم !! لكن ليلة طلعت أسوأ ما فيا وانا خلاص مش عارف أتعامل معاها!!
خبط شريف باب مكتبـه بعد ما روى كل ما حدث على آذان أمها التي تتلاعب على الجميع ؛ فقالت :
-ممكن تهدا ، ايه يعني يكون مين هارون ده ؟! يمكن فعلا بيساعدها وهتاخد مصلحتها اللي هنبوظها زي كُل مرة وترجع .. ولا أنتَ حاسس أن فـ حاجة ما بينهم !!
نفى شريف شكوك نادية قائلًا :
-مش الفكرة يا دكتور ، أصلا العيلة دي عندهم قانون ممنوع يتجوزوا من حد مش شايل اسمهم دي انا مرتاح فيها .. بس تصرفات بـ.ـنتك طايشة وكلها جنان ..
ارتاح فكر نادية قليلًا :
-طيب ما ده في صالحنـا ، يعني فعلًا اللي اسمه هارون ده علاقتهم شغل وبس .. شريف هسألك سؤال !!
-سؤال ايه ؟!
-أنتَ عايز ليلة ولا الفلوس اللي وراها ؟!
ساد الصمت لبرهة محاولًا انكاره لرغبه بأموالها ، حتى قالت بحدة :
-جاوب عشان جوابك ده هو اللي هيحدد مصيرنا كلنا !!
-بصراحـة ليلة مش البـ.ـنت اللي اتمناها ، واللي مصبرني عليهـا اصرارك أنتِ ورشـ.ـدي بيه ..
جلست نادية على مكتبها الطبي لتستقبل أول مرضاها :
-يبقى تطول بالك كده وكله هيتنهي زي ما أحنا عايزين ..
ليلة بالظبط قُدامها ست شهور والدواء اللي بتاخده يقضي على خلايا مُخها خالص ، وقبل الست شهور دول لازم تكونوا متجوزين عشان نعرف نسيطر على أملاكها كلها .. فـ أنتَ هتسمع مني ولا هتطلع غـ.ـبـ.ـي زيها !!!!!!!
“سيذوبُ ثلجُ العمر يا ليلى
وحـ.ـز.نكِ لن يذوبُ
وسيسقطُ التّفاحُ على سريركِ الباكي
ورمّانُ الجنوب
والأرضُ تُسبِلُ راحتيها حين تُهرِمُ
روحَكِ الثكلى
ويكتئِب الغروب”
#لقائلهـا ….
•••••••••••••
جُملة من الصناديق الورقية المرصوصة بجوار بعضها البعض .. والممتلئة بالخضروات والفواكه بكميات كافية أن تفتح سوقا .. ثم أتت فردوس خلف اثنتين من الفتيات الحاملين صناديق اللحوم المختلفة .. أعدت صفية زيارة تليق بابنها العمدة والتي تتناسب بمقامهم وتهشيلا لابنة أخيها التي ستصبح كنية لها .. جاءت صفية من ورائهم :
-ها يافردوس ناقص حاجة نشيعوا نجيبوها ؟!
شرعت فردوس بعدّ كراتين الزيارة :
-لا ياست صفية .. خير ربنا كاتير ..ناقص بس يجي واحد من الولد يقلهـا ويروحوا لبيت الحج صالح ..
دارت صفية لتتوسل لابـ.ـنتها :
-يا هاجر شوفي لي أخوتك فين من الصُبح يا بتي مش واعية ولا واحد فيهم لا العريس رجع .. ولا التانيين جم ؟؟
جثت هاجر على ركبيتها تكشف عن تفاصيل الزيارة الضخمة وهي تفتش بفضول:
-اش اش ؟! ده كله عشان زينة يااما ؟! ليه دي واقعة من غير حاجة ..كلفتي روحك .
-وهو أخوكي شوية في البلد ؟! ده هارون العزايزي يجيب الدنيا كلها تحت رجلين مرته ..
ثم ربتت على ظهرها متوسلة :
-جدعة بتي رني لي عليهم .. الأربع رجـ.ـا.لة الأرض انشقت وبلعتهم !!
ثم نظرت لفردوس :
-وانت يا فردوس .. نادي على الولد يقلوا الحاجات دي تروح لصحابها ..
ثم صاحت متذكرة شيئا مهما :
-رني يابت على هارون خليه يجيب حلاوة معاه من البندر .. عقلك غاب فين يا صفية ..
انضمت لهم هيام التي تتمسك بيد مازن ابن نجاة التي تركته وذهبت لعملها بالوحدة الصحية الخاصة بالنجع :
-خير ياما ؟! ايه كل الحاجات دي ؟؟
صاحت هاجر بضحكة ساخرة :
-ماهو فرح العمدة عاد ؟! يابت المحظوظة يا زينة !!
ثم مالت على أمها ناصحة :
-حظها في السما لايح زينة عشان عندها عمة زيك ياصفية .. ماهي وسايط وأنا مين بس يتوسطلي ويجيب لي عريس كيف هارون أخوي ؟!
لكزتها صفية بغل :
-ما تتحشمي يابت !! لساته نصيبك مدقش الباب .. مستعجلة علي ايه ركزي في تعليمك ..رني على اخوكي وخفي رط .
-يعني مفضفضش معاكِ ياما ؛ وبعدين أنا هتخطب مـ.ـيـ.ـتى ؟! هو مفيش حد قايل عليّ ياصفية دانا بتك آخر العنقود وعاوزة افرحك ..
-لما ينكتب في السما ،هينزل على الخطاب العمى يا ضنايا ويچولك .
تأرجحت عينيها بذهول لإهانة أمها :
-هو أنا بتك ولا لقياني قصاد چامع ياصفية ، طب والله لاشتكيكي لأحلام هي اللي عتاخدلي حقي منك .
تدخلت هيام بينهم وقالت :
-هارون وهاشم محدش فيهم تليفونه مچمع ياما .. دا انا جاية اسالكم عليهم .
تشبثت صفية برأسها وشرعت فقرة النواح :
-ااه ياني على بختك المايل في عيالك ياصفية …
*************
وصل كل من هلال وهيثم لمنزل المرحوم أبو الفضل إثر تمسك الأخير برأيه .. يخطو هلال في زيه الأزهري ولكن كانت خطوات هيثم سابقة له .. دفع الباب الحديدي الموارب وهو يصفق مناديا:
-يا خالة أم رقية .. يا دكتورة ..
أمسك به هلال :
-صوتك صوتك .. اخفضه للبيوت حُرمة ..
رد الأخير بحماقة
-لا مفيش حريم غير رقية وأمها !! عقولك ايه أنا مش طايقك من ساعة ما حشتني عن ولد المركوب ديه كُنت لخبطت له وشه أكتر ما هو ملخبط ..
-لا تتنمر على خلق الخالق .
لوح بكفه متجاهلًا نصيحته وقال :
-مش هتنمر يا شيخ ، لكن هلعن سلسافيل أهله الضلالي ولد الحـ.ـر.ام دهوت ..
ضـ.ـر.ب هلال كف على الأخر :
-قالها سعد زغلول من قبل ” مفيش فايدة ” ..
كانت صفاء تجلس مع أختها على الاريكة الخشبية الملاصقة لحائط البيت وما أن سمعت صوت نداء هيثم شـ.ـدت غطاء رأسها وركضت مرحبة به :
-تعالى تعالى اتفضل يا هيثم .. نورتنا يا حبيبي …
هرول هيثم ليُقبل على كف تلك السيدة صاحبة الخمسين عام وهي تربت على كتفه :
-حبتك العافـ.ـية يا غالي ..
ثم امتد بصرها لذلك الشخص الذي يقف خافضا أنظاره بالأرض بتأدب فقالت متسائلة :
-هلال أخوك مش إكده !!.. يا مرحب بيكم .
وضع هلال كفه على صدره وانحني بتأدب ليعلن عدm رغبته بسلام اليـد متبعا السُنة .. تفهمت الخالة صفاء الأمر وقالت :
-ما تيجي اتفضل يا شيخ هلال .. دا احنا زارنا النبي .. تعالوا تعالوا ..
حدج أخيه بعتب وهو يتمتم بالصلاة على النبي بسره ويتبع خطاهم للحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت الريفي.. سلم هيثم على الخالة حنان الجالسة ثم صافح ابنها صاحب الخمسة عشر عام والذي وثب لاستقبالهما .. جلس الجميع حتى انفعل هيثم قائلا :
-رقية ملهاش حق في اللي عملته ديه يا خالة .. يعني ايه متقولش أن بكر قل أدبه عليها ..وده كلام !! الحديت الماسخ ديه يحصل وفي حكم خليفة العزايزي !! ليه هي سيماا!!
تحسرت صفاء على حال ابـ.ـنتها وصاحت قائلة :
-هنعلموا ايه ياهيثم يا ولدي .. اتنين ولاية مكـ.ـسورين الجناح ..وهو مفتري ومش مبطل مرازية ..
في تلك اللحظة التي جاءت فيها رقية تحمل مائدة الشاي التي اعتدته لخالتها .. تفوه هلال الذي لم يرفع عينيه من الأرض :
-نحن حذرناه بالحسنى وباذن الله تعالى لم يتعرض لها بسوء والا سيجدنا أمامه.. اطمئني يا أمي ..
فتحت صفاء كفيها وهي تدعو له :
-يسلم فومك يا ولدي والله ما عارفة أدوي جميلكم فين .. هم وانزاح ..
فتدخل هيثم مكملا :
-لولا هلال منعني عنه كان زماننا هنصلو عليه العصر ..
أسرعت رقية في خطاها ووضعت الكاسات على المنضدة الخشبية ورمقت هلال بنفور :
-ومين قالك اننا محتاجين مساعدتك يا فضيلة الشيخ .. أنا عارفة أخد حقي كيف ..
برقت عيني أمها معترضة على اسلوبها الغير لائق مما جعل هلال الذي يصارع هواه كي لا يرفع عينيه لعندها .. تدخل هيثم لاختلاطه الزائد بها ومعرفته الجيدة برقية :
-واحنا روحنا فين ؟ مالك سايقة العوج أكده مش انا ماكد عليكي لو اتعرض لك تقوليلي بس .
زفرت رقية بامتعاض وهي تلقي نظرة خاطفة صوب تلك الاعين التي تحصي حبات الرمل تحتها وقالت :
-تشكر يا هيثم بس أنا مكنتش حابة اتعب حد معاي ..
شرع هيثم أن يعنفها معترضا على قولها فأمسك هلال بمعصمه ووثب معتذرا ومازالت جفونه لم تلمح الا طرف نعالها وقال :
-الواجب لا يتطلب صوت استغاثة يا أخت رقية وهذا واجبنا .. بدء من هارون أخي لهيثم .. نحن لم نفعل الا الواجب والمفروض ..
ثم مالت راسه نحو صفاء المحرجة من جفاء ابـ.ـنتها وقلة تأدبها :
-بالإذن يا أمي .. وأي خدmة نحن تحت الأمر والطلب ..
وقفت صفاء رافضة رحيلهم :
-على فين !! والشاي ؟ ده محدش في البلد كلها بيعمل شاي في حلاوة شاي رقية ..
اعتذر هلال بتادب :
-اعذريني يا أمي .. صلاة العصر أوشكت …
تدخل بدر ابن السيدة حنان الجالسة تراقب هلال بانبهار .. تتفقد نقاء ثوبه ورائحة الطيب والمسك الفواحة منه .. مسبحته التي تنخرط بيده .. وجهه الذي يشع نورا لحيته البنية التي تزيده وسامة .. فقطعه بدر قائلا :
-لازما تقعدو وتشربوا الشاي .. ده واجبكم .. وكمان عندي سؤال يا شيخ هلال محيرني ومش لاقي له جواب ..
ثم نظر لرقية وأكمل :
-سالت رقية قالت لي متعرفش وهتدورلي .. ومش ععرف اتحدت معاك بالدرس ..
حدجته رقية التي هزمها ذلك الولد أمامه وقل من شأنها :
-بدر قولت لك هتأكد من الجواب وأقول لك .. سيب فضيلة الشيخ يلحق صلاة العصر ..
تبسم هلال بهدوء وهو يشـ.ـد المقعد البلاستيكي ويجلس فوقه ويده تناولت كوب الشاي الساخن وكأنه يُعاندها ، وقال :
-اجلس يا بدر .. ما سؤالك ؟
زفرت رقية بغـــضــــب إثر عناده وتجاهل كلامها فعقدت يديها أمام صدرها بحنق واخذت تهز ساقها بتـ.ـو.تر إثر هزيمتها الملحوظة امامه .. فهمس لها هيثم :
-أنتو مش طايقين بعضيكم ليه؟؟هو عمل لك أيه عقدك منه !! ده هلال ديه بركة بيتنا .
فتمتمت له :
-هو اللي حاطط راسه براسي !!
برقت صفاء لابـ.ـنتها كي تصمت وتتأدب وتدخلت لتلطف الأجواء :
-اقعد ياهيثم واقف ليه ؟! وانت يا رقية روحي هاتي فاكهة للضيوف..
رفع هلال يده معترضا على رحيلها :
-دعيها تستمع لنا كي تستفيد …
همس هيثم لرقية ممازحا كي يضحك وجهها :
-استمعي له يا ستي ..
نظر هلال باهتمام للواد وقال :
-تفضل ..
-إمبـ.ـارح كان عندينا حفظ سورة يوسف .. بس في آية أنا مش فاهمها ..
-آيه رقم كام ؟!
فتدخلت رقية لساعد الولد وكتدخل منها بحوارهم الذي يشعلها فضول وغـ.ـيظا متعمدة احراجه :
-الآيه 93 ..
بسرعة بديهة استحضر الاية بذهنه متفهما نيتها في احراجه وقال بصوته الهاديء بعد ما استعاذ بالله من الشيطان:
– اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
ثم تبسم وهو يتسائل :
-ما سؤالك يا بدر ؟؟
دmدm لها هيثم محذرًا بمزاح :
-بلاش تضـ.ـر.بيه في منطقته .. مش هتطلعي سليمة .. هيدشملني أنا وأنتِ .
أكمل بدر سؤاله الذي قطع رد رقية على هيثـم :
-هو ليه سيدنا يوسف مدعاش ربنا أنه يردله بصر أبيه .. لكنه قالهم خدو القميص وهو هيفتح .. اشمعنا القميص ديه !!
تسلطت أذان الجميع بفضول يريدون معرفة جواب هلال على سؤاله .. تحمحم هيثم الذي حك ذقنه متهامسا:
-الواد ده ما يحفظ وهو ساكت !! ليه الفزلكة دي …!!فكرك هيجاوب !!
غمغمت رقية بنبرتها الخافتة :
-مش عامل فيها شيخ !! المفروض يجاوب ..ويقنعنا .
هتف هلال احتراما لمجلسه مع الولد وهو يقصد بجملته صوت همهمة رقية :
-الصوت يا هيثم ..
ثم أكمل حواره مع بدر وسأله بهدوء يُدخل على القلب راحة لا توصف :
-أنت الأول عارف قصة القميص ده أيه ؟!
فتدخلت رقية من الخلف :
-مش ديه كان لابسه سيدنا يوسف يوم ما أخوته رموه بالبير!!
-أجل … لكنك تعلمين ما قصة القميص ولمن ينتمي ؟!
لكت الكلمـ.ـا.ت بثغر رقية التي انهت دراستها الازهرية عند المرحلة الإعدادية قبل ان تنتقل للمدارس الحكومية .. فلجات للصمت لتدع له الفرصة للحديث .. فسأله بدر :
-لمن القميص ؟
-صاحب القميص سيدنا إبراهيم عليه السلام .
اتسع بؤبؤ عيني الولد وهو يتساءل :
-وكيف وصل لسيدنا يوسف …
-قبل أن أخبرك بكيف وصل .. ساخبرك من أين جاء .. تتذكر وقت ما أمر النمرود بإلقاء سيدنا إبراهيم عاريا بالنار لانه تمرد على عبادتهم للأصنام ودmرها ..وأمروا بحرقه .
فأكمل بدر روي القصة :
-ووقتها خرج سيدنا ابراهيم من النار وبيده فاكهة ويقال أنها عنب ومرتدي ملابسه كاملة ..
أيده هِلال القول وهو يقول :
-الله يفتح عليك .. نزل عليه جبريل بهذا القميص وطنفسة ( حصير) من الجنة .. هذا هو القميص الذي توارثه كلٌ من سيدنا إسحاق ويعقوب الذي كان يخشى العين على يوسف .. وحوله لقصبة من فضة وعلقها بعنق ابنه كي تحفظه ..
ذهل الطفل مما سمع بملامح مشـ.ـدوهة حتى ربت هلال على كتفه واكمل :
-وقتها جيه جبريل لسيدنا يوسف وأمره أن يرسل له القميص ديه ، والسبب لان به ريح من الجنة لا يقع على مريـ.ـض إلا شفاه ..
كاد أن يقطعه الطفل ولكنه اوقفه بلطف واكمل :
-وفي قول آخر : ان القميص كان علامة ليعقوب لصدق اخوة سيدنا يوسف .. ودي كانت من معجزات يوسف ويعقوب التي لا يعلم اسرارها الا الله .. فهمت يا بدر !!
صاح هيثم فخورا باخيه :
-عليَ النعمة أنت مش هلال العزايزي .. ده أنت محمد الشعراوي بجلالة قدره .
ثم همس لرقية بمزاح :
-كسفتينا !!
-بس يا هيثم ..وبعدين هو قال أيه منا كُنت عارفة بس ناسية ..
رد مستهزءًا بها :
-أيوة منا خدت بالي !! رُقية اتلهي .
نهض هلال من مكانه متأهبا للذهاب وبعد ما تبادل التحية مع الموجودين قال:
-استئذن لصلاة العصر .. وأي أمر يتعلق بالمدعي بكر بلغيني يا أمي ..
ثم اخفض أنظاره بالأرض مغادرًا المكان على عجل تاركا الحيرة والغـــضــــب يحومان حول رأس رقية التي هُزمت في تلك المعركة الثقافية الدائرة بينهما كإنه يرد لها هزيمته عنـ.ـد.ما كشفت أمره واتهمته بالكذب من قبل …
•••••••••
~بالجبـــل .
بعد إلحـاح رهيب منهـا وإصرارها على الذهاب معـه حيثما يذهب بحجة أنها أتت لتكتشف تفاصيـل المكان ولست لتُسـ.ـجـ.ـن بين الجدران .. صف سيارته تحت سفح الجبـل وأكد عليهـا وهو يفصـل هاتفه من وصلـة الشاحن :
-هنزل أشوف الرچالة ، متتحركيش من مكانك مش عاوز حد يشـوفك ..
عارضتـه بتمرد :
-وفيها أيه لما يشوفوني !! هو أنا شَكلي وحش !
-وماله شكلك بس !!! ما تريحي راسك دي هبابة يا ستي !!
تأفف باعتراض ، فرفع كفه كي يجبرها على الإنصات إليه :
-مش عاوزهم يطلعوا سُمعة عليّ أن العمدة ماشي يتسرمح مع واحدة غريبة ..
-بس أحنا بنشتغل مش بـ.ـنتسرمح !! وبعدين عيب الكلمة دي متقولهاش تاني!!
رفع حاجبه على ضفة اعتراضه متذكرًا كلمتها التي لا تخلو من حديثها :
-هي دي الـ عيب !! الصبـر ياصاحب الصبـر .. سمعتي !!
-يعني هقعد محبوسة كـده فالعربية !! آكيد هزهق .
رد بجمود وهو يجلب من الخلف سلة ” السندوتشات ” التي لم تُكملها بعد :
-لما تزهقي كُلي .. اتسلي في الوكَل ياستي .
-ولما اتخن ان شاء الله !!
انكـ.ـسرت عينيه بنظرة فاحصـة بدون رغبة منـه وهو يتفقد تفاصيـل جسدها الذي لم يتجاوز وزن الستين وقال بسخطٍ :
-أنتِ محتاچة تتعلفـي .. مش تاكلي زينا.
قال جُملتـه ورجله اليسرى متدليـة من السيارة متأهبًا للمغادرة ، أصابت الكلمة ملامحهـا التي انكمشت فجأة وهي تردد بصدmة بدmدmة :
-تتعلفي !! أحيه !! هو أنا بقـرة !!
ثم تمسكت بكفه كي ينتظر ليُجيبها قبل أن يذهب :
-استنى ايه تتعلفي دي !! أنتَ شايفني أيه !! على فكرة أنا وزني مثالي جدًا وكُل صُحابي بيحسدوني عليـه .. وبعدين في أسلوب أرقى من كده تتكلم بيه معايا ولازم تفرق بين معاملتك معايـا ومعاملتك مع غِيم !!
زحزحت ثرثرتها شيء ما ساكن بجوفـه لا يدركـه ولكن بدَ طيفه في تلك الابتسامة المخفية التي شع ضوءها على وجهه وهو يقول بنبرته المزيفـة التي آتت معاكسة لدواخلـه :
-سمعتي قولت أيه ما شوفش طيفك برة العربيـة .. مفهوم !
تأرجحت مُقلتيها بعدm اقتناع إثر تجاهله لحديثها واسئلتها السابقة التي تفتح بينهما دروبًا من الحوار وتمتمت :
-اوكيه …
هبط سيارته ورزع بابها بقوة .. ذهب إلى العمالة بالمحجـر فأوقفه رنين هاتفه من أحد معارفه المهمين بالبلد .. رد مُرحبًا بالرجل كإنه كان منتظرًا هاتفه على أحر مش الجمر .. فأردف الرجل قائلًا :
-هارون بيـه ورق هيثم أخوك عدى وكله تمام ومن أول الشهر هيستلم شغله في فرع البنك التابع له النجع ..
شكره هارون بعرفان إثر وفاءه بوعده لاخيه بتعينه بأحد البنوك المصرفيـة المتعلقة بمجال دراسته ، الخبر سرب نسيم الارتياح لمداخل قلبـه وجهر مناديًا ليحمس العمالة :
-شِدوا حيـلكم يا ولد الشمس قربت تغيب ..
لم تطق ليلة الانتظار بالسيـارة أكثر من ذلك ، راق لها شكل الجبـل والأحجـار وحركة العمالة بالمكان ، حسمت أمرها وعلقت ” الكاميرا ” برقبتهـا ثم هبطت لتلتقط بعض الصور الفوتوغرافية بالمكان .. سرحت في الخُطى هنا وهناك حتى لفت انتباهها صوت صياح هارون الأجهر وهو ينحني ليُعلم الفتى كيف يحمل القفة بالطريقـة الصحيح .. لفحها على كتفه ونصحه قائلًا :
-تحمل على كف يدك وكتفك مع بعض .. لو حملت على كتفك بس ضهرك هيتقسم .. فهمت ، يلا وريني هتشيـل كيف ..
لم تجـد نفسها إلا مبتسمة وهي تلتقط له بعض الصور المسـ.ـر.وقة متجاهلة وقوفها بمنتصف الجسر المخصص لسير العربات ، حذر الفتى قائلًا :
-شوف وراك يا عُمدة دي عتصـور ..
ابتدرت عيناه عند رؤيتها معاتبًا نفسه عن تلك الورطة التي تورط بها بكامل ارادته ، اندفع لعندها وهو يلوح بذراعه :
-أنتِ عتعملي أيه !!
ردت بعفوية:
-أنتَ شايف أيه !!
-شايفك عتصوريني !! و في مكاني من غير أذني يعني جريمة تانية ..
تركت الكاميرا معلقة برقبتها وقالت بامتعاض :
-واخد اذنك ليه أنا معايا كارنيه مزاولة المهنة !! تحب تشوفه ؟!
-يا صبر الصبـر !!
ثم عاد إليها آمرا :
-الصور دي تتمسح !
-ياسلام ؟! ليه بقى ؟!
-من غير ليه .. تتمسح ؛ عاوزة تصوري هاخدك المكان اللي تصوري فيـه لكن مش إهنه ..
استسلمت لرغبـته بدون اقتناع كما اعتادت وقالت بصوت خافت:
-هابقي اشوف !!
أصر على رأيه :
-قولت تتمسح ودلوق ..
فتحت الكاميرا مجبرة وشرعت في حذف الصـور أمام عينيه انشغال الاثنان بشاشة الكاميرا وإذن بعربة نصف نقل مُحملة بالرجـ.ـال آتيـه لعندهم باقصى سرعة ممكنـة فانحرف مقود السيارة عمدا جهة هارون الواقف مع ضيفتـه ، قبل الحدث بجزء من الثانية رفرفت جناحي عباءته الصعيدية حولها ليقطفها من خصرها النحيل كالزهرة من بستانها ويديرها بعيدًا عن الطريق لحمايتها تحت صوت صرختها المستغيثة باتت في لحظة تحت سمائه مختبئة بسياج صدره ومظلل عليها بعباءته التي كانت حصنًا لها من الأتربة وتلك النفوس الخبيثة المتعمدة أن تطولها .. فصلًا متكاملًا من الأمان كسا بدنها ؛ كفين متعلقين برجل اجتمعت به سمـ.ـا.ت الرجولة .. خيمة صغيرة للغاية حدودها بين ذراعيـه ومظلته الآمنة لقلبي الذي اعتاد الخــــوف .. أقل من دقيقة عاشت فيهـا كيف تكون شكل الحياة الحقيقية …
لم يلتفت لتلك الجميلة التي امتزج عطرها بعطره بقدر اهتمامه بهويـة صاحب العربة .. ابعدها عن حـ.ـضـ.ـنه وهي ما زالت مـ.ـخـ.ـد.رة بما حدث .. أين كانت وكيف جاءت لحـ.ـضـ.ـنه وما تلك المشاعر المضطربة التي ملأتها في ظرف دقيقة وأقل .. وقفت خلفه واضعة كفها على فمها من هول الصدmة وتراقبه وهو يصيح :
-أنتَ ادبيت !! مش تنتبه يا أعمى.
هبط خضر ولد سويلم من سيارته وخلفه مجموعة مع الخفر المُسلحين ، أدرك هارون ما حدث كان بقصد ونية عند رؤيته لهوية ذلك الشخص الناقم عليه دومًا .. شمر خضر أكمام جلبابه الفضفاضة وهو يقول بمكر :
-أحنا أسفين جنابك !! الوِلد لساته عيتعلم السواقة جديد .
وقف أمامه زائرًا بغـــضــــبه :
-وچاي تعلمه السواقة في مُطرحي !!
-لا چايلك أنتِ يا عُمدة .. التلاتين فدان اللي اشتريتهم قِبلي حلال عليـك وأنا مسامح ؛ لكن حق أخوي اللي ضـ.ـر.بت عليه نار في فرحه دي مـ.ـيـ.ـتسكتش عليها واصل !!
ارتاح وجهها عنـ.ـد.ما تذكـر فعلته السابقة التي جاءت منه كرد إعتبـ.ـار له وقال بمكر :
-وهو أنتوا اضـ.ـر.ب عليكم نار !! لا ما تقولش ؟؟ طب مفيش عيار طايش إكده ولا إكده رشق في حد منيكم !!
تحداه خضر بملامح لا تدل على الخير أبدًا :
-العيار الطايش بكرة نوجهوه ونعرفوه طريقه زين .. عشان يبقى صايب مش طايش..
حدجه بنفور :
-لم المساليب بتوعك واتقلع من إهنه .. عشان على قولك الطايش بكلمة مني هخليه صايب ..
قهقهه خضـر بخبثه المحيط بعينيه وهو يرمق ليلة نظرة شرانية :
-وماله !! الأيام بينـا يا ولد العزايزي !!
اكتفى هارون بنظرته الحادة التي زحزحت خطى رجـ.ـال خضـر وهو يدور ليفارق المكان هامسًا لابن عمه بخبثٍ :
-مين العصفورة الملونة اللي معاه !! هو العُمدة ناوي يلعب بديله ويلغي الأعراف بتاعتهم !!
حك الأخير ذقنه قائلًا :
-مخابرش ، بس هجيب لك قرارها ..
دار هارون لـ ليلة المحتمية بظهره ليطمن على حالتها فوجدها تتحسس درجة حرارة وجنتها المحمرة بأطراف أصابعها فسألها :
-فيكي حاچة !!
اكتفت أن تحرك رأسها يمينًا ويسارًا نافية أي عارض بها سوى جملة المشاعر المضطربة التي احتلتها فجاة عنـ.ـد.ما لامس قلبها نبض قلبه وكأن ” الواي فاي ” الرباني تشابك مع جهازه الذي خُلقه منه .. تمتمت بتوجس وهي تتشبث برأسها الصادحة :
-ممكن أروح للعربيـة ..
سار معها متبعًا خُطاها ثم فتح لها الباب قائلًا :
-اركبي ، أدي أخرة كلامي اللي ما عيتسمعش !!
ثم قفل الباب بغل محدثًا صوتًا عاليًا ارعـ.ـبها .. دار ليجلس بمقعده بالجهة الأخرى فوجدها تفتش بحقيبتها على علبة الدواء وطلبت منه كي يحضر لها زجاجة الماء من الوراء :
-ممكن تديني ميه !!
نفذ رغبتها فوجدها تهذى مع نفسهـا سرًا فسألها :
– في حاچة وقعت منك !!
-علبة الدواء اللي بعد الغدا ، شكلي نسيتها في الأوضة !!
ثم قفلت جفونها المتعبـة من صدح التـ.ـو.تر الذي يضـ.ـر.ب برأسها :
-انا ازاي نسيتها !
أشفقت عيناه على حالتها فسألها بنبرة حنونة إثر حال وجهه المرهق:
-دوا لأيه !! في أيه بيوچعك !
-ده دوا للتـ.ـو.تر العصبي اللي عندي ، ولو مأخدتهوش بحس بألــم جـ.ـا.مد في جـ.ـسمي ، هو بيخفف من الآلام دي ..
أمسك بعُلبة الدواء الثانية التي بيدها وقرأ الاسم ولكنه لم يتوصل لأي شيء ، أمسك بهاتفه كي يبحث عن اسم الدواء الذي تأخذه ولكنـه تراجع إثر رنين هاتفه الذي قطع مجال بحثه؛ رد باختناق :
-أيوة يا هيام ، عارف وفاكر أن في زفت فاتحة هتتقري الليلة وچاي ، قولي لصفية تبطل خوتة وتكِن !!
ردت هيام بلهفة :
-لا يا هارون أنا مكلماك عشان حاچة تانيـة ، بس مش هتنفع في التلفيون ..
-ماشي يا هيام .. لما أچي هفوت عليكي ..
قفل مع أخته ثم عاد لتلك المسكينة التي تتألــم بجانبـه فتراجع عن محتوى البحث وسألها :
-طيب قوليلي حاسة بأيه دِلوق يمكن أقدر اساعدك لسه الطريق للبيت عاوزله ساعة ..
ردت بتلك النبرة المتعبـة :
-الفكرة إني اتخضيت بس من الغـ.ـبـ.ـي اللي كان بيسوق وهيخبطني ، فـ جـ.ـسمي بيتعامل مع الخضة كأنها حالة عدوانية بيعبر عنها بالارتباك والألــم وكل مفاصلي تنبض وبتو.جـ.ـعني ..
فتح لها قارورة الماء وهو يسب خضر سرًر ومدها لها :
-طب خدي اشربي ميـة .. وطالما الموضوع نفسي مش حاجة عضوية يبقى أمره سهل ياستي .
تناولت زجاجة الماء من يده بكفها المرتعش وقالت :
-ازاي !!
عاد ليدير سيارتها ويغادر المكان :
-هوديكي أكتر مكان تريحي فيه أعصابك التعبانة دي وتصوري على راحتك ، مكان هينسيكي تعب اليوم كله مش الرجفة بس ..
•••••••••
“قد يَنسى المرءُ ليّاليه التي جَعلتْ مِنهُ رمادًا
لكن يُستحال أن يَنسى مَنْ أَوقدَ حرائقه بقلبـه ..
خرجت “نجـاة” من الوحدة الصحيـة بعد إنهائها لعمـلها بعد ساعات طويلة من التعـب ؛ تحركت صوب المكان الذي صفت به سيارة زوجها المتـ.ـو.في والتي ورثتها من بعده أمتدت يدها لفتح الباب ولكن سُرعان ما جاءت يد رؤوف من خلفها لتقفله ، دارت لترى هوية الفاعل فتحول صوت تمردها لشهقـة عاليـة وهي تتمتم حروف اسمه وتتقلب مُقلتيها يمينًا ويسـارًا .. فوبخته معترضة وهي تبتعد عنه خطوة :
-رؤوف أنت اتچننت !! چاي لحدت إهنه مش خايف حد يشوفنـا .
-ليّ ساعة واقف مستنيكِ تطلعي ، فكرك هتهربي مني لمـ.ـيـ.ـتى ؟!
ثم قطع تلك الخطوة التي ابتعدتها عنه وقال :
-چيـه علينـا الزمن اللي تخبي عيونك مني يا نوجه .
تأرجحت مُقلتيها المحملتين بالدmـ.ـو.ع وهي تتحاشي النظر له :
-عشان خاطر النبي بَعد يا رؤوف .. لو شافونا هتحصل مُشكِلة گبيرة .. لو ليـا خاطر عندك ..
استند بيده على نافذة سيارتها وهو يقر مُعلنـا :
-ليكِ حُب وشوق وخاطر يغرقـوا قلوب العذرا ويفيضوا .. لساتك عـ تسألي !!
قشعر بدنها من لذة كلمـ.ـا.ته التي لم تذوق شهد الحب إلا بسماعها منه .. ارتفع صدرها ثم هبط مرة آخرى وهي تتوسله بحـ.ـز.ن :
-رؤوف ، متعلقش نفسك بيّ ، روح اتچوز وعيش حياتك ، بنات العزايزة على قفا من يشيل .. سيبني أنا وولدي لحالنا ، أنا رضيت بنصيبي .
-وأنا عُمري ما هرضى أن يدي تتحط فـ حلال ربنا على واحدة غيرك ..
ثم رفع كفه بوجهها وأكمل بعجـزٍ:
-اسمعي يا نچاة، من الأول وأنا غِلطت في حقك وقلت لك إني مش عايز اتچوز دلوق ، كُنت مغفل وفرطت فيكي بيدي ، أنا هعيش عمري كُله مستنيكي لغاية ما تبقي لي على سنة ربك ورسوله .
خرت دmـ.ـو.عها وهي تتذكر لياليها الماضية التي تلوت في لهب الحُب الذي عاشته مع شخص لم تتمناه أبـدًا .. وقالت بضعف :
-في حاچات لو فات وقتها المناسب ما ينفعش تتعاد تاني حتى ولو فوتت العُمر كله وأنت مستنيهـا !! شطة كبريت ماينفعش تولعه مرتين .. انساني يا رؤوف .
ثم دارت ضهرها لتفتـح باب السيارة الذي قفله عنوة والدmاء تفور بعروقـه مُردفًا بقـوة :
-هي محاولة أخيرة ولو منفعتش ؛ ومن غير يمين يا نچاة لاخدك أنتِ وولدك من خشـم السبع .. فاهمة ..
ثم أخفض نبرتـه اللاهثة وأكمل :
-جهزي روحك هنتجوزوا قُريب …
تركها بعد ما رمى قذيفـته بمنتصف قَلبهـا وغادر ، أعلن عليها الحُب والحرب وترك لها نار و شرار الأمل التي لا يحرق غيرها .. قلوب مكوية بجمر الحُب الذي لم يكتمل ، حُب دق البـاب وما أن كنت تتأهب لتفتح له والشغف يملأك فجاة رحل ولم تجد وراء الباب إلا سراب !!
ولو سألتني عن الحب سأخبرك عن عدد القلوب المتحولة لرماد بعد رحيله .. عن معنى الخيبـة الحقيقية التي تجرعتها الروح عن هزيمتها منه !!
سأرتشف رشفة خفيفة من قهوتي وأخبرك بعدها عن عدد المرات التي ظننت فيها أنني نسيتك ولكن ما زال صوتك, وصورتك, ورسائلك, هزمتني العُظمى كلّ الأغاني التي تحكي عنا , القصائد التي كتبها أناس قبل أن يولد حبنا بمئات السنوات والطرقات الأماكن التي مررنا بها معًا ..
كل هذا مازال يهزمني ولكني نسيتك حقًا ..
لو سألتني عن الحب لأجبتك بأعين يفيض منها الدmع وشفاه مرتعشـة ، أنه مجموعة من الأوهام التي لا يمكننا أن نحيا بدونها..
•••••••••
إن أسوأ شعور قد يمـر على الانسـان ؛ هو عجزه .. عند الوقوف أمام و.جـ.ـعه وجهًا لوجه ولا يستطيع وصفـه .. لا يمكنه الصُراخ من شـ.ـدة تمزق روحه المتعبة والمشتتـة .
أنت تعلم أن الحياة رائعة وترى عيناك روعتها ولكنهـا قاسيـة جدًا عليـك .. ‏لا تستطيع إخبـ.ـار أحد كيف مضت أيامك وكيف أهدرت أجمل سنوات العُمر عبثًا وألــمًا !! حتى أنني فقدت أملي بالحُلم الذي تغذيت عليه حتى تحولت حياتي لأكبر كذبـة وددت التخلص منها بأسرع وقت ، حياة أساسها الحُلم لا واقع له إلا بمخيلتي ، كل شيء بها وهمي حتى أنا .. أشك في حقيقة وجودي لهذه اللحظة ..
رغم إني حاولت كثيرًا كي أجد نورًا خافتًا يُنير دربي المُعتم ولو كان مؤقتًا او مزيفًا .. وفي نهاية المطاف تصالحت تمامًا مع حياتي القاسية و أيضًا تأكدت بـ إنني خُلقت بلا حظ بلا نصيب يمكن أن يُسعدني بعد ، ولدت تعيسة ، أمر غاية القسوة ولكنني تقبلته و تجاوزته كما تجاوزت رغبة الحُلم الذي لم يكن يفارقني أبدًا .
تجلس فوق قمـة الجبل ؛ في ذلك المكان المميز الذي صلحـه هارون و.جـ.ـعله كمكان ترفيهي يزوره القليل من الناس .. استصلحه و.جـ.ـعله منارة مميزة بقلب الصحراء وكأنه قطعة من الجنـة ، خضرة وورود تحاصر المكان وخيم صغيرة .. نافورة من الماء تتوسط المكان تحاوطه الأنوار من كل صوب وحدب .. مكان مُعد بجميع المتطلبات الآدmيـة .. كانت تقف تُراقب الحياة من أعلى كطير حُر حلق بالسـماء كي يستمتع بجمال الحياة من بعيد .. تقف على الحافة بجفون مُغلقة وذراعين يطايرهما الهواء تتحدث مع رب الكون وتشكو له همها بصمـت لا يقطعه الا التنهيدات ..
كان يجلس على الطاولة خلفها يختلس لها النظرات من حين لآخر ، أمامه ثلاثة أكواب من بقايا الشاي الذي شربه وفنجانين من القهوة وعدد كبير من بقايا لفافات التبغ .. تركها مع نفسها كما اعتاد ان يفعل عنـ.ـد.ما يضيق به الحـال، دعها حرة مع الطبيعة بدون ضجيج بشري .. مرت ساعتين وهي بنفس الوضعية لا تتزحزح حتى أردفت جملتها الأخيرة بضعف وقلة حيلة :
-يا رب حِل كُل حاجة بقى عشان أنا تعبت أوي ..يارب أيامي الجاية تكون حلوة .
ثم دارت نحوه بخطوات هادئة وشـ.ـدت المقعد لتجلس مقابله وقالت بامتنان:
-المكان تحفة .. متتصورش أنا هديت ازاي ، في راحة متتوصفش هنا .. بجد شكرًا ليك لإنك ساعدتني ..
ثم سقطت عينيها على بقايا عيدان السجائر :
-على فكرة أنتَ بتدخن كتير أوي وده غلط على صحتك ..
-عارف !! بس مش چادر أبطلها ، حِملنا تقيـل وهي اللي عتنفس عن الواحد ..
عارضته الرأي :
-أنت بتشتري راحـة قريبـة وتعب بعيد ، صحتك أهم حاجة ..
اعتدل في جلسته وهو يسألها :
-على سيرة الصِحة لسه تعبانة!
تفقدت المكان حولها :
-لا خالص ، بالعكس عمري ما كُنت كويسـة زي النهاردة .. المكان هنا علاج حقيقي .
ثم نظرت في الساعة وجدتها السابعـة مساء ، فقالت بثقل متكئ على قلبها الذي يتنبأ بحبه :
-المفروض نتحـرك ، أنت مش عندك خطوبة السـاعة ٨ !! أنتَ نسيت ولا أيه ؟
شعر أن تذكره للامر يحتاج لسيجارة جديدة ولكنها تراجع عن إخراج من علبة السجائر إثر نظرتها البريئة التي لا ترغب في دخانها ، رمى العلبة من يده وقال :
-عادي ، لو خلصتي قومي يلا عشان أوصلك ..
لملمت حقيبتها بهدوء ثم تراجعت متسائلة :
-أنتَ مش مبسوط عشان هتخطب البـ.ـنت اللي بتحبها ولا أيه !! سوري على تدخلي بس أنا حاسـة إنك مش متحمس خالص ..
ثم غمغمت بفضول يتقاذف من أنظارها :
-أنتَ بتحبها !!
لملم أشياءه عنوة دون النظر لعينيها قائلًا بنبرته الجافة التي لا تعلم مصدرها الحقيقي :
-حب الحريم عـ يذل ، وأنا ما عاش ولا كان الـ يذلني..
سقط الهاتف من يدها مندهشـة من جُملتـه الأخيرة :
-أحيـة!! أومال هتخطبها ازاي وتتجوزوا ؟
رفع حاجبه متسائلًا بسخرية لتناقض حديثها :
-مـا أنتِ كُنتي هتتجوزي وِلد أبو العلا من غير ما تحبيه ..
خيمت الحسرة على ملامحها وهي تقول:
-أنا عمري ما كان قُدامي فرصة للاختيار كنت قدرت اختار ، بس أنت ليه تعمل في نفسك في كده ، ده ظُلم ليك وللبـ.ـنت اللي هتتجوزها .
وثب قائمًا وهو يُجيبها بإيجاز كي لا تعبث بثوابت قلبه أكثر من ذلك :
-أحنا بـ.ـنتجوزوا عشان نخلفوا ونسلنـا يعمر في الدنيـا .. لكن لو كُل واحد مشي ورا حديت قلبه محدش هيتجوز يا بت الناس !!
حملت حقيبتها ذات الماركة العالمية على كتفها وقالت بدهشة :
-أنت غريب بجـد !! هتقدر تخلف أولاد من واحدة مش بتحبها ؟!
لفح كتفيه بالعباءة وقال بنبرة مخالفة لهوى قلبه الذي يتعمد اغتياله كي لا يفتح له طاقة نور تنقلب عليه فيما بعد :
-ااه عادي ..
•••••••••
-بتعملي أيه !!
وصل سؤاله المكتوب إليها أثناء تصفحها بملل في مواقـع التواصل الاجتماعي ، ففتحت رسالته على الفور وكتبت له :
-ولا حاجة ؛ زهقانـة مـ.ـو.ت .. هتعرف تكلمني ؟
كتب لها على الفور :
-أمك صاحيـة ؟!
تفاعلت على رسالته بالوجه الغاضب وكتبت معاتبة :
-اسمها مامتك يا هاشم!!
استقبل غـــضــــبها ضاحكًا وهو يصلح جريمته الفادحة التي يقترفهـا ككل مرة :
-حمـ.ـا.تي صاحيـة ؟!
تأففت بضيق :
-اسمها طنت يا هاشم .. أنت لحقت تنسى من يومين قعدتهم في الصعيد !!
زفر باختناق وكتب لها :
-رغد !! سامية فين ؟!
-عندها صداع ونامت .. وأنا قاعدة لوحدي مش بعمـل حاجة !!
ارسلت له جملتـها الأخيرة فـ رد على الفور :
-بركة يا جامع .. أنت عاملة ايه !
ردت مغلوبة على أمرها :
-زي الزفت يا هاشم ، كل صحابي متجوزين وقاعدين مع بعض في الجو ده وأنا قاعدة لوحدي..بيني وبينك بلاد ..
شقت الضحكة ثغره فلاحظها سائق الأجرة الذي أتى به من المطار ، وكتب له كاذبًا ومواصلًا مسرحيته :
-معرفتش أجي لك أنا اسف ..فرح هيام يعدي وكله هيبقى تمام ..
-كنت عارفـة أصلًا ، وبعدين لما تقول كلام تبقى أده .. ممكن تروح مكان بعيـد وتكلمني !! نتكلم لحد ما أنام .
تحمحم بخفوت مُلقيًا نظرة سريعة على صاحبة العربة واكمل كتابة رسائله لها :
-هكلمك بس جاوبيني الأول؛ أخبـ.ـار الأوردر أيه !!
ثنت رُكبتيها واتكأت على الوسادة خلفها وقالت بضيق:
-اتقفلت منه ونفسي اتسدت وهقوم اقطعه كُله ياهاشم عشان تستريح .
تجمدت ملامحه المبتسمة عكس دواخله المتراقصة وهو يكتب لها:
-ولما أنتِ تقطعيه أنا دوري فين ؟!!
صدح برد الشوق بصدرها الفارغ من وجود حبيبها وقالت بحـ.ـز.ن :
-بجد أنا مضايقة ومتهزرش .. ومش عايزة أكلمك خلاص ؛ سلام هروح أنام …
صف السائق أمام منزلهم الراقي المتكون من طابقين .. دفع الأجرة ثم عاود الاتصال بها ، فـ أجابت على الفور :
-قولت لك هنام !! وبطل رخامة مفيش أعذار مقبولة .
فتح الباب الحديدي بالمفتاح الخاص به بحرص ، ثم قال :
-حتى لو قُلت لك انزلي افتحي البـاب .. باعت لك أوردر غير اللي كُنت هتقطعيه !
قفزت من فراشها غير مصدقة وهي ترتدي نعالها بسرعة:
-اوردر أيه ؟! أنت بتتكلم بجد !!
وقف أمام باب بيتهم الخشبي الضخم وقال بهمس :
-افتحي يلا ..
ارتدت روبها الشتوي سريعًا وفتحت باب غرفتها بحذر وهبطت لترى مندوب الشحن كما أخبرها .. قطعت درجات السُلم بحذرٍ ثم هرولت لتفتح الباب فوجدته أمامها بهيئته الجذابة حاملًا عُبلة من الحلوى التي تفضلها بيده ، لم تصدق عينيها وهي تتفقده صارخة باسمه بعد ما ارتمت بين يديه :
-هاشم !! أنت بجد .. لا أنا مش مصدقة ، بتشتغلني !!
تركت رأسها تسقط على كتفه مغمضضة العينين .. ضمة زوجته التي قطع مسافات طويلة ليكون عندها ليوفي وعده الذي قطعه على نفسه ، لينعم بالسلام بين يديها .. تعلقت به ولا تود مُفارقته حتى تمتم لها :
-إحنا على البـاب ..
انفصلت عنه ولمعـة الفرحة تطاهي لمعة القمر فوقهم وهي تتنهد قائلة :
-هاشم أنا مش مصدقة !! كنت بتشتغلني!! طيب تعرف والله قلبي كان حاسس ومستنيك بجد ، بس أنتَ خيبت أملي !!
لم تمهله فرصه للرد بل ارتمت مرة آخرى بحـ.ـضـ.ـنه :
-انا مش مصدقة بجد !! الليلة هنام في حـ.ـضـ.ـنك آخيرًا ، متتصورش وحـ.ـشـ.ـتني أد أيــه .
قبل رأسها ثم وجنتها ثم انتقلت أنفاسـه لتدس القُبل دهاليزها القصير الفاصل بين ملكته ومملكته .. عنـ.ـد.ما لدغ دفء أنفاسه عنقها ابتعدت عنه محذرة:
-مامي نايمة !! اطلع بشويش وما تعملش صـوت ..
أخذت الحلوى من يده وباليـد الأخرى سحبته من كفه بعد ما قفلت الباب بحذر .. كانت تسير على طراطيف أصابعها وتهمس له ألا يصدر صوتًا بحرص حتى باغتها وانحني ليحملها بين يديه قبل أن تلمس أقدامه درجات السُلم ، وشوشت له بعتب :
-بتعمل ايه ، مامي ممكن تصحى وتشوفنا !!
أجابها بنفس النبرة الحذرة وعيناه تتقلص بالحذر:
-اشش عشان متعمليش صوت أنا عارفك .. بتمشي تخبطي في كل حاجة .
لفت ذراعها حول عنقـه بدلالٍ:
-هاشم !!
-عقله !!
ساومت ملامحه على القُبل وهي تقول بهمس :
-وحـ.ـشـ.ـتني !!
تمتم لها وهو يقطع درجات السلم بهدوء :
-مـ.ـا.تيجي نروح بيتنا وارجع لك الصبح !
-ده ليه بقا !!
همس لها معترفًا بأخطائه التي يمكن أن يقترفها :
-ما أنت عارفاني بحب أكـ.ـسر وأمك حاجتها غالية عليها .. وأنا جاي اتبسط مش اداين .
قرصت اذنه بلوم ووشوشت له بنفس النبرة المبحوحة :
-لا انتبه وخليك مؤدب ..
وصل بها لباب غرفتها المفتـوح ثم انزلها برفق وقفل الباب خلفه بالمفتاح فسألته:
-ليه كده !!
رد ممازحًا بلطفٍ:
-وأنا هستنى أمك لما تفتح علينا الباب !!
دفعته برفق وهي تترنح أمامه بغنج :
-وبعدين فيك مش هتتغير أبدًا !!! غير هدومك وهنزل أجيب لك عشـا أكيد مكلتش من الصبح ..
هَمّ بفك حزامه الجلدي رافضًا اقتراحها وقال :
-هنتعشى ولسه ليلنا طويل .. أنا جيت أهو عشان اقطع / قصدي أعاين الاوردر بنفسي .
ضحكت وهي تختبي بذراعه بدلعْ :
-هشوم لازم تاكل الأكل .. وسع كده من قدام خليني اخرج .
امتدت يدها للمفتاح وهي تسأله بخفـة :
-مامي عاملة فراخ محمرة تحفـة ، تحب أجيب لك صدر ولا ورك ؟!
كانت يده فوق الباب يمنع خروجها وباليد الأخرى التفت على خصرها ليُعلن رغبته فيها قبل أي شيء قائلًا بنبرته المغلفـة بالشـوق :
-وأنا ليـه اختار وأنا أقدر أكل من كله …!!
ثم غمغم بنفحات لهفته التي تتساقط فوقها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  يا رغود وهواكِ جابني مجرور من قنا لعنـدك ..
•••••••••
~بقصـر العزايـزي ..
الجميع يبحث عن هارون وهاشم الاثنان ذاب في صحن الأرض فجأة ولم يبقى لهمـا أثر هواتف مُغلقـة ، اختفاء تام .. جهز الكل منتظرًا الذهاب لبيـت صالح العزايزي ولكن لا العريسان اختفيا .. صاحـت صفية بحسـرة :
-هنروحوا قراية فاتحة من غير عريس !! دي أيه الفاتحة الشؤوم دي ؟!!!
فتدخلت هاجر بيأسف:
-يا صفصف ، هاشم وهارون ولا واحد فيهم عيرد حتى ليـلة تليفونها مقفول !! هما راحوا فين من أول الصـبح لدِلوق ..
تدخلت أحلام المرتدية عباءتها السوداء وقرص الشمس الذهبي يتوسط صدرها :
-طب فين هيثم وهلال !! الاتنين خفى اترهم !!
جاء الحج خليفة مرتديًا جلبـابه الفضفاض ويستند على عكازه :
-يلا عاد ، مش هنتأخروا على الناس !!
شكت له صفية :
-ولادك الاربعة يا حج خفي واردهم ، وكيف هنروحوا من غير ولا واحد فيـهم !!
-وصالح غريب !! ده عارفهم أكتر مني .. يلا ياصفية بلاش نعوقـوا على الناس ..
سبقهم الحج خلفية فـ الخُطى ثـم ولت صفية مغلولة لهاجر :
-چربي تاني يا مقصوفة الرقبة!!
تمتمت باعتراض :
-وأنا مالي !! أنتِ غُلبك من الرچالة چاية تطلعيـه على هاجر !! الحيطة المايلة بتاعت البيت ديه !!
ثم مالت على آذانها :
-مايكونش ديه فعلًا علامـ.ـا.ت من ربنا يامـا عشان الچوازة متمش !! أصلو فين التيسير بالأمر على رأي الشيخ هِلو !!
دفعتها أمها مغلولة وهي ترفع ذراعيها نائحة :
-عاچبك عمايلهم دي يا صفية !! مش عارفة أحكم على واحد فيهم .. عملت أيه بس في حياتي يا ربي !! لا خير في البت ولا في الوِلد !
ثم نظرت لهيام الجالسة بهدوء بجوار نجاة وقالت لها بمدح :
-يكملك بعقلك يا بتي اللي جابرة خاطري ، أنا مخلفتش غيرك في أخواتك كُلهم .. خمس عيال عوضي عليهم منك يا رب ..
تأرجحت عيني هيام بتوجس لتُردف بهدوء لتُفجر قُنبلتها الأخيرة :
-ياما .. أنا عاوزة اطلق .
صاحت صفية بقهرة وهي تنوح على بختها المائل والاساور الذهب تصدح بيدها تُشاركها النغم :
-يا مرك اللي يتعبى فـ شكاير يا صفية … ليه يا ولاد بطني تعملوا في قلبي إكده !! أنا عملت فيكم ايه !! تعالى ألحقني يا حج خليفة ولادك هيقصفوا عمري …..
~بالخارج ..
يقف الحج خليفة مع الخفيـر جابر الأقرب لأفراد العائلة ؛ فهتف مبـ.ـاركًا :
-على خيرة الله يا حج خليفة !! أخيرا هنفرحوا بعمدتنا ..
فأكمل خليفة علي سجيته :
-وهاشم كُمان !! هنطلب يد نغم من خالها ونفرحوا بالاتنين في ليلـة واحدة …..
هلل جابر:
-يألف بركة يا عمدة !!أهو هو ديه الحديت الصُوح ….
~بمنزل أبو الفضـل …
قضت رقية يومها ولم يشغلهـا إلا سيرة الشيخ هلال ، بات حديثها المتبادل هي وأمها التي عاتبتها كثيرًا عن أسلوبها الجاف معـه والتي لا تحمل له مبررًا واحدًا … حتى نفذ صبرها:
-ما خلاص ياما عاد!! فُضينا من سيرته، من ساعة ما شوفتيـه وأنتِ مالكيش سيرة غيره!!
تنهدت الحجة صفاء وهي تتناول كوب القرفة الدافيء وتقول:
-الرچل روحه حِلوة ومتربي ومتنور ويعرف ربنا ، أهو ديه اللي الواحدة تنام جاره وهي مطمنة ..
ثم تمتمت بتمنى أن يكون من نصيب ابـ.ـنتها واتبعت بحسرة :
-يا بخت اللي هيكون من نصيبها ، أمها داعيـة لها!!
حدجتها رقية بمزاح :
-ومحدش بيدعي لبته قد ما عتدعي لي ياما ، متدعيش تاني عاد!! اخترتها اتجوز واحد يناديني يا أخت رقية !! أنا اخري واحد روحه حِلوة ومجلع كيف هيثم نقضوا حياتنا ضِحك !! لكن هِلال ديه ربنا يعينه على فكره..
عاتبتها أمها وصوت الباب يقرع بالخارة :
-عشانك فقرية ومعندكيش بُعد نظر … قومي شوفي مين !!
لفت حجاب رأسها ووثبت وهي تقول بضحك :
-يكش يكون أبو عربية مخبرة عاد تاني ..
-يابت اتلمي ، عيب عليكي .. شهلي يالا .
-چاية أهو ..
فتحت رُقية الباب ، ففوجئت ببكر وأمه وأخوته وزوجتـه مرصوصين أمام بابهم ، انفرجت عينيها تتساءل:
-خير اللهم اجعله خير !!
فتفوهت أمه فارحـة :
-وهو في خيـر أكتر من إكده !! چايين نطلبوا يدك لبكر ولدي زينة رچال النچع كله !!
صاحت رقية منادية على أمها :
-تعالي ألحقيني ياما !!!!
~~بالجبـل~~~
-حصـل أيـه طيب !!
أردفت ليـلة سؤالها إثر فشل كُل محاولاته في تحريك السيـارة ، أجابها وهو يعيد تشغيلها :
-العربية غرزت !! أنا أزاي مخدتش بالي!!
هتفت مذهولة :
-أحيـه !! مش أنا حذرتك !! حذرتك ولا لا !! قولت لك أنا عارفة الطرق دي العربيات ممكن تعرز فيها عملت فيها الولد الجـ.ـا.مد وأنتِ مع هارون العزايزي وادينا لبسنا المقلب يا هارون بيه ؟! أحنا هنفضل لوحدنا أنا وأنت هنا في وسط الجبل والديابة والليل !!
ثم التفت للوراء :
-وكمان بعدنا أوي عن المكان اللي كنا فيه !!
جهر غاضبًا :
-ينفع تسكتي لحدت ما اتصرف !! مش عارف افكر من زنك …
-والله !! يعني أنت الغلطان وكمان بتزعق لي !! أهو هو ده اللي فالح فيه !!
تجاهل ثرثرتها وهو يتفحص هاتفه ثم زفر مختنقًا :
-والشبكة كمان ساقطة !!
نظرت له بتحيـر :
-وهنعمل أيه فـ الورطة دي يا هارون بيه !!!!
أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى
كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني*( تقارب)
تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ
وَيَعلوها النَّهارُ كَما عَلاني
-قيـس بن الملوح .
•••••••••
-استنى ياما .. مفيش حـد هيعتب دارنا، خصوصًا ولو چايين من غير معاد .
وقفت رُقية أمام الباب رافضـة دخول بكرة وعائلتـه داخل منزلهم إثر ارتباك السيدة صفاء التي اعتادت أن تُكرم ضيفهـا دومًا ، شهقت أمه لبكر بكفها المبروم حول ذقنـها :
-وه !! يا دي العيبة !! هي دي اللي عاوز تتچوزها وتدخلهـا وسطينا يا بكر .. دي لسانها متبري منيها.
لم تمنح رقية الفرصة لأحد كي يدافع عنها إلا نفسها ، وقفت أمامهم ببسالة جُندي لا يخشى المـ.ـو.ت وقالت :
-عليكِ نور !! أنا مش كد المقـام چايين لي ليه !! ولا هو الطمع والورث عمى عينيكم !! خد ناسك وامشوا يا بكر ..
تدخل بكر بعاصفة غـــضــــبه العاتية :
-ما تتعدلي يا رقية مالك سايقة وطايحة في الكُل ومحدش هامك .. ولا هما ولاد خليفـة العزايزي مقويين قلبك ؛ لا فوقي .. لا هما ولا عشرة زيهم هيقدروا يمنعوني عنك ..
تدخلت صفاء المرتعدة من الخلف والتي تخر دmـ.ـو.عها شفقة على ابـ.ـنتها :
-وهو الچواز بالعافـ.ـية يا ولدي ده حتى ما يرضيش ربنا ..
ضـ.ـر.ب على الباب بكل قوته وجهر بصوته المُرعد :
-وأنا مش هتنازل عن حقي ، وأنتِ بتاعتي يا رقية ذوق عافـ.ـية مفيش دكر خلقه ربنا هيلمسك غيري ..
كادت أن تعارضه ولكنـه قاطعها صارخًا كي لا يمهلها فرصة للرفض :
-أنا شيعت خبر لمجلس العزايزة وقولتلهم عندِكم كتب كتاب قريب والكُل مرحب مش هتيجي أنتِ وتسوقي العوچ ، وولاد خليفة لو شمو خبر هحسر قلب أمهم عليهم .. ولا تكونيش راسمـة على واحد منيهم !!
-أنتَ شكلك ادبيت وعقلك راح منك من البرشام اللي عـ طفحه .
نفذ صبر رقية من وقاحته وتجاوزه حدوده معها واهتهامها بالباطل ، فلم تجد أمامها إلا القُلة الفخارية التي تناولتها بلمح البصر كنت تتساقط قطع من فوق رأسه صارخًا بتو.جـ.ـع وهو يتمسك برأسـه ، صدح صوت صراخ النسوة خلفه كل منهن باهانتها المختلفة المسددة لرقية التي شفيت غليلها منه ، اشتعلت النيران بقلب أمه التي خلعت نعالها لتنتقم من تلك قليلة التربية التي تطاولت على ابنها البكري فتوقفت صفاء لتتلقى الضـ.ـر.بة عن ابـ.ـنتها وهي تنوح مستغيثة بالناس حتى صاح بكر بوجههن ورأسه يسل منها الدmاء :
-اكتموا ، ولا كلمة ، مسمعش حس مرة فيكم !!
ثم نظر لرقية التي تحتمي بأمها وقال مهددًا والشر يتطاير منـه لانها اهانت رجولته أمام أهل بيته :
-وديني يا رقية ما هعتقك والدm عندي تمنه دm .
•••••••••
-أنتَ هتروح فيـن !
بتلقائيتها المعهودة تشبثت برسغه وهي تتفقد المكان المُعتم حولهـم بنوبة من الخــــوف ، بات كل شيء مخيف ولم يتبقى إلا وجوده لتأنس به ؛ لا تعمل من أين جاءت بثقتها العمياء لتأمن لرجل غريب عنهـا ، رجل لا يجمعها به إلا صعوبات .. تأرجحت عينيه على كفها القابض على معصمه ثم انتقلت لجفونها المرتجفة وقال بنبرة هادئة ولكنها جافة :
-هنزل أشوف حل للورطة دي !!
ثم نزع لاسته وألقاها بالخلف مستعدًا :
-استعنا على الشقى بالله ..
ثم نظر بعيونها آمرًا:
-متتحركيش من مطرحك ..
هبط من سيارته مستعينًا بكشاف هاتفه ليفحص الإطارات المغروزة بالرمـل وهو يتمتم بكلل ويلعن غباءه لأنه مر من ذلك الطريق .. كانت تدور يمينًا ويسارًا للخلف وللأمام .. مثلمـا يتحرك كانت تتحرك معه وكأنه أصبح بوصلة قلبها التي ترشـ.ـدها في كل وقت ومكان ..
تحرك مبتعدًا عن السيارة وأخذ يلملم في أغصان الشجر المُلقيـة وجمعها ببؤرة واحدة بالقرب من سيارته ثم سكب فوقهم القليل من الغاز كي تُنير له الأرض وتخشى الذئاب ان تقترب منهم ..
لم يمهلها فضولها أن تتوقف عن مراقبته عند هذا الحـد بل فتحت الباب وهبطت من السيارة وهي تستفسر :
-ليه كده !!
لملم القش المتباعد ليقربه من موقد النيران وهو يقول بملل :
-الجو بـ.ـارد .. والديابة ماعتقربش من مُطرح فيه نار ..
رفعت حاجبها باندهاش :
-ديابة !!!
-اومال أنتِ فاكرة أيه ؟!
قال جُملتـه وهو يتحرك صوب السيارة ليُخرج منها العِدة المختصة بالجبل ليستعين بها في تخلص اطارات السيارة من الرمل .. تجاهلت كل شيء وشردت بالسماء فوقها :
-الله !! القَمر مُكتمـل !!
قالت ليـلة جملتها الأخيرة بحماس وهي تتفقد البدر المُنير في ليلة تمامه فوق رؤوسهم ، كانت رأسها مرفوعة تراقب القمر ونجومه غير مكترثة للظلام والصحراء التي تقع بها ، ثم اخفضت رأسها ونظرت له :
-عارف ده معناه أيـه ؟!
تحولت نظرته الاستكشافية وهو يراقب براءتها وعفويتها لنظرة أخرى جـ.ـا.مدة لا تهتم وقال بطبيعته الواقعية التي لا تعترف بشخصيتها الحالمة :
-انه وصلنا لنص الشهر !! هيكون أيه يعني؟!
أخذت نفسًا طويلًا وهي تعقد كفيها وراء ظهرها وقالت بأنفاس من الحرية :
-لا مش كده !!
ثم دنت منه خطوة أخرى لتشرح له وجهة نظرها :
-في أسطورة بتقول أن الإنسان لمـا بيتولد حياته زي الهلال بالظبـط بيكون لوحده تايـه في الكون بيـدور عـ نصـه التاني لحد ما يلاقيه فـ مكان ما ووقت معين .. فيـظهرلنـا قمر مُكتمـل زي ما بنشـوف …
ثم تراقصت عينيها ببحر عينيه المتدلية لعندها وأكملت بشغف شـ.ـديد مع نبرة أكثر هدوءًا عن الأولى :
– وعـارف ده معنـاه أيه !!! أن مع اكتمال القـمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعـوا .. ومع رجوعه لهـلال مرة تانيــة فـ اتنين عشـاق بيتفرقوا ..
حتى صاحت متأملة :
-يعني النهاردة مع اكتمال القمر في عُشاق جُداد هيتجمعوا .
-حديت فارغ ..
قال جُملتـه وهو يشـ.ـد الأدوات الحديدية ويرميها بالأرض مستهترًا بأساطيرها التي لم تتوقف عن الإيمان بها .. ثارت النيران ببدنها لتقليله من فلسفتها الحالمة :
-على فكرة ده كلام مهم جدًا ، الانسان مخلوق من الطبيعية يعني مصيره مرتبط بمصيرها ..
ثم رفعت سبابتها محذرة بانفعال :
-ولما أقول حاجة بعد كده من فضلك متقللش منها ، انت حر تصدق أو لا ، لكن ده مش يدي لك الحق تستهتر بكلامي .
تأفف مستغيثًا بضيف الصبر أن يملأه كي يتجاوز تلك الورطة بدون أدنى جرائم ، اكتفى بنظرة من مُقلتيـه وشرع ببدء عمله ، وعادت هي الأخرى لتحاور صديقها بالسماء متجاهلة وجود قمر أرضها الحقيقي ، وضعت كفها على قلبها مستردة حالتها الخيالية :
-يابخت أي قلب لقى حبيبه النهاردة والقمر شاهد على قصتهم دلوقتِ..-ثم رمقته بسخرية وأكملت – ده كلام عاطفي وصعب على اللي زيك يفهموه ، أنت أخرك تكـ.ـسر في الحجارة وترفع زلط .
بلع زلط إهانتها بضحكة طفيفـة وقال بنبرته الصارمة :
-خشي أقعدي چوة العربية وعدي ليلتك ..
سارت بخطوات طفولية وهي تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيهـا ، فتحت باب السيارة وجلست بداخلها وأقدامها المتدلية تعبث بالرمل تحتها ، ظلت تراقبه بأعين متحدثة لم تعهـد الصمت الطويل.. شرع هارون بحمل الرمل بواسطة المجرفـة والعرق يتصبب من جبهته ، كانت تراقبـه بأعين متراقصة على ضفـة رجولتـه الطاغيـة المختلفة عن شباب المدنية التي تنتمى لها .. ظلت تقطم بأظافرها ثم قالت لتقطع الملل الذي يملأها :
-تعرف إني بحب الحكايات الخيالية أوي خاصة الحكايات اللي بيكون القلب هو الليدر اللي فيها .. أنا لما اشتغلت في الراديو ابتديت ببرنامج صغير كان مدته ربع ساعة ، كنت بحكي فيه عن قصص حُب شبه مستحيلة ، بس القلب انتصر في النهاية .
رمقها بطرف عينيـه مستخفًا بحديثها عن الحُب الذي يشغلها دومًا وتلك المشاعر العبثية التي لا يؤمن بها ؛ فقال وهو يواصل عمله :
-شايف أن فيه مواضع أهم وأفيد من الحُب والحديت الماسخ ديه تتكلمي عنه ، كله حديت فاضي يا ليلي بيشغل الفكر عن حاچات أهم !!
قفزت من مكانها مندهشة من جفاء وقسوة كلمـ.ـا.ته التي تنكر الاعتراف بالحب ، رغم أنها لن تتذوق حلاوته لتلك اللحظة إلا انها عاشته بين سطور الروايات والأساطير والأفلام القديمة التي تغرم بها ، جميعها مشاعر يحييا بها القلب وهو يتجرد منها بتلك البساطة !! رمت على مسامعه بأحد الجمل الشهيرة لبرنامجها السابق وهي تقترب منه لتعترف :
-” الحُب للقلب بمثابة وريــد جديـد يغذيه بالحيـاة ، فالمرء لا يحيا إلا عنـ.ـد.ما يُحب ”
بقلبٍ جليدي لا تؤثر فيه تلك النيران المنعكسة بعينيه المشتعلة للتدفئة تلقى تلك الجُملة بسخرية و جحـود ، أمسك بالمجرفة الخشبيـة الصغيـرة .. قائلًا باستهزاء :
-و هي دي الحكايات اللي عـ تاكلي عقول الناس بيها في الراديـو بتاعك !! وعايزة تطلعي بيها على التلفزيون.
تحول شغفهـا في حواره لكومة من الرماد ولكنها لم تيأس بعد بل فتح شهيتها أكثر على الحديث :
-ومالهـا الحكايات ؟! أظن أن ده الوقت المناسب عشان تعرف قيمتها .
ثم تجولت بعينيها في عتمـة المكان حولها :
-تايهين في وسط الجبل ، مفيش عربية و مفيش انترنت مفيش أي وسيلة لرفاهيـة العقل غير أنه يفتكر حكايات تبسطـه وتهون عليه الوقت !
ثم ترنحت من مكانها سريعًا لتقف خلف مؤخرة السيارة لتنتقل لمجلس أقرب إليه وأكملت بإصرار يجبره على سماعها :
-يعني لو رجعنـا لزمان .. زمن الملوك والحياة البدائيـة هتعرف أد أيه الحواديت والحكايات مهمة .. عندك مثلًا شهريار ، لأجل حدوتـة انهزمت القواعد والقوانين .. تصور ده مكنش بينام إلا على حواديت شهر زاد !!
ثم شـ.ـدت العصا التي تشغله عن النظر إليها من يده بحيوية وقالت :
-شفت بقا أنها شيء مسلي ومهم ومش زي ما أنت شايفها حاجة تافهه ، الفرق بس أنها عايزة رجل عنده قلب زي شهريار عشان يحسها !!
رغم عدm النظر إليها إلا أنه كان مستمع جيد لكل حيلها ومبرراتها التي فشلت في إقناع عقله الحجري كالصخرة التي تقع خلفهم .. دار إليهـا ليبقى على موعد مع تلك الأعين التي تنافس جمال نجوم الليل ، وبنبرة مبطنة بالسخرية قال ملاطفًا للأجواء :
-كلنـا كرجـ.ـا.لة عارفين أن الحكايات دي كانت مهرب لشهر زاد كل ليلة من شقاوة الملك !
تأرجحت تلك الأعين اللامعة بأعينه الثابتة التي أعلنت الاستهزاء من حديثها وأردفت بكيد أنثوي كي تنتصر للنهايـة في تلك الحرب التي أعلنها وقالت بعفويتها المعهودة التي لا تدرك وقع كلمـ.ـا.تها إلا بعد النطق بها :
-وليـه مـ.ـا.تقولش أنها كانت مهرب للملك عشان يداري بيها خيبته لغرض ما كلنـا كستات عارفينـه !!
تصلبت تعابير وجهه وهو يوجه العتب والغزل لعينيها المذعورتين التي أدركت للتو سُم قولها !! فكيف هرب منها اللفظ بدون رقابة حتى تناست نفسها، كيف تجرؤ على قول جملة فاضحـة كهذه ، شهقة مكتومة تابعت تأرجح مُقلتيها التي تغرق بنهر عينيه الثابتة والفاحصة عنـ.ـد.ما رفع حاجبه الأيسر على ضفة التساؤل غير مصدقًا بما سمعه من تلك الفتاة المرتدية ثوب البراءة وقال بتلك النبرة الخافتـة المبطنة بالاندهاش والتعجب :
-لغرضٍ مـا ؛ اللي هو !!!!!!!
شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت له بحماقة كتلميذ بليد يهز رأسه في حصة الحساب وهي تُبلل حلقها الذي جف من لهب عينيه الذي يكسوها لتفر من حصار نظراته المخيفة التي تسدد الاتهامـ.ـا.ت والتساؤلات لعندها وقالت بتلك النبرة المتقطعة وهي تُشبر بسبابتها :
-أنـ اا .. أنا هستناك في العربية ….
أوقفها ندائه بفضول :
-خدي تعالي !! أنت فاهمة قُولتي أيه !
ردت بثقة :
-طبعًا فاهمة !! هقول كلام مش فاهماه يعني؟! أنتَ شايفني غـ.ـبـ.ـية .
-ايه معناته يعني؟!
ردت بتلك النبرة الممتلئة بالثقة كي تطوى دفتر جملتها التي تعني قصدها جيدًا وقالت بمكر طفولي :
-ان الملك هو كمان كان يهرب منها بدل ما يحكي ليها !! أصلو مكنش بيعرف يحكي حواديت زيك كده بالظبط !!
ذاب دهاء المحاميين في صحن حماقتها تلك المرة وقف أمامها ولا يمتلك ردًا كافيًا ليصف ما وصل له بسببها !! اكتفى بهز رأسه غير مقتنعًا مصدرًا صوت إيماءة مهزوزة ليعود لمباشرة عمله من جديد بعد ما صححت له مقصدها بدلًا من نواياه التي تأرجحت على حد الفتنة تمتم لنفسه متأكدًا :
-اه حواديت !! أنا بردو قُلت إكده ..
•••••••
-“النهاردة هكلم أبوكي قالها وروحي راحت ياني ”
دخلت ” زينة ” غرفة نغم التي تربتها فيها بمنزل خالها بعد وفاة أمها وأبيها وقد تكفل كل من صفية والحج صالح بتربيتها وتعليمها حتى وصلت لعمر الزواج .. كانت زينة تتمايل وهي تمسك بحمرتها التي تُلطخ بها فاهها وتتراقص أمام نغم الجالسة والشاردة بعالم آخر ، انفردت بحـ.ـز.نها لوحدها بين الجدران ، الأول أمها التي مـ.ـا.تت وهي تلدها والمرة الثانية عنـ.ـد.ما فقدت أبيها وهي في المرحلة الابتدائية وحتى نالت تلك الضـ.ـر.بة القاضية التي جاءت بعمر تدرك فيـه ما معنى الو.جـ.ـع وكيف يكون ..
ظلت صامته لا تُبادل زينة التي تعمدت كيدها لانها نالت مرادها الذي كانت تحُلم به وتراهن عليه ، جاءت أم زينة فنظرت لنغم التي لم يلحظ أحد حـ.ـز.نها وقالت بعتب:
-يا نغم يا حبيبتي ، لساتك مجهزتيش دول قربوا يوصلوا ..
ثم التفت لحـ.ـز.نها وهي تقترب منها وتربت على ظهرها بحنو :
-مالك يا حبيبتي !! وشك بهتان لي؟
تدخلت زينة لتجيب بدلًا عنها والفرحة تتقاذف من ثغرها كأن التي تجلس أمامها تمتلك قلبك من حجر صخري ولست قلبًا من لحم ودm وقالت باستهزاء :
-أصلو ياما نغم كانت رايدة هارون ؛ ولما عرفت انه رايدني اكيد زعلت .. قوليلها ان ده نصيب يابت عمتي والقلب وما يريد .
صفعتها أمها بتلك النظرة الخارسة وهي تربت على ظهر تلك اليتيمة التي لا حول لها ولا قوة بتلك الحياة الظالمة وقالت مواسية :
-متزعليش يا حبيبتي .. ده ربك عيجوز في السما قبل الأرض وأنتِ نصيبك لساته قاعد محدش هياخدو منك .. قومي استهدي بالله والبسي وانزلي استقبلي الضيوف معانا عشان محدش يحس بغيبتك ..
ركضت زينة نحو الشُرفـة مهلله كفرحة العبـ.ـيـ.ـط بملابس العيد :
-جم جم ياما ، الحقيني قلبي هيتخلع من مُطرحـه .. شكلي حيلو !! ناقصني حاچة ؟!!
هرولت الحجة زبيدة لاستقبال ضيوفها بعد ما جبرت بخاطر ابـ.ـنتها وقبلت رأس نغم تربية يدها التي مهما قالت لا تشعر بذرة من و.جـ.ـع تلك المسكينة ، فهما تربوا على أن الحُب والمشاعر كحمى الجسد التي تأخذ وقتها المؤقت وتذهب كإنها لم تمر من هنا ..
استقبلت زبيدة ضيوفها ، كل من عائلة خليفة العزايزي عدا أولاده بالإضافة إلى نجاة التي اصرت أن تأتي معهم وأول طلب لها كان هو رؤيتها لنغم التي أحست بمصيبتها وأرادت أن تشاركها همها .. صعدت نجاة لمواساة نغم ولتشاطر معها الحـزن الذي يقسم الروح قبل الظهر ..
جاءت زينة حاملة الشربات بشعرها المفرود والذي يغطي ظهرها وحمرتها الزائدة عن الحد ، فتفقد الجالسين متسائلة :
-هو هارون معاه تلفون برة!!
تفوهت هاجر بعفوية وثغر يملأه الضحك :
-لا العريس مچاش من أصلو ولا عارفين له طريق ..
-كيف الحديت ديه يا عمتي !!
لكزتها أمها بقوة ببطنها كي تصمت لتتدخل مبررة غياب أولادها المفاجئ :
-هارون جالو مشوار في سوهاچ ومعرفش يأخره وقالنا نيچوا إحنا بدل ما نأجلوا ، متقلقيش بكرة هيكون داخل طالع على بيتكم بس اللي ما يزهقش ..
تدخلت أحلام لتحسم الأمر :
-الحج خليفة بنفسـه چاي لك !! عاوزة أيه تاني !! ما تتكلم يا حچ !
استند العجوز على عكازه وهو يدور لأبيهـا طالبًا يدها بتأنٍ وهو يمد بالكلمـ.ـا.ت :
-يا حچ صالح ، أنا متأسف على الظروف اللي حصلت ، وغياب ولادي لظروف قهرية ، لكن اللي قاعد قِدامك ديه خليفة العزايزي اللي محدش يقدر يكـ.ـسر كلمتـه ..
ثم أشار خليفة لزينة التي تقف غاضبة والغـ.ـيظ يأكل قلبها وكأن الحياة ردت لها نفس الصفعة التي بادرت بها على قلب تلك المسكينة ؛ فقال:
-أقعدي يا بتي واقفة ليـه !!
ثم عاد لأبيها:
-أحنا كبرنا يا صالح وآن الأوان نلمو شمل الوِلد والبـ.ـنته ، أنا چاي أطلب يد زينة بتك لهارون ولدي الكبير .. ونغم وأنت في مقام أبوها لهاشم ولدي .. قلت أيه ..
-وهو في قول بعد قولك يا كبيرنا وهو في نسب يشرف أكتر من إكده .. نقروا الفاتحة ..
انفرجت عيني زينة التي لم تتوقع طلب نغم لهاشم والذي أخمد نار الشمـ.ـا.تة في قلبها لتتحول لنيران حقد ، نظرا الأختان لبعضهما بذهول وتصلبت ملامح وجههم حتى غمغمت هيام مدافعة عن أخيها :
-هاشم !!
ثم مالت على مسامع أختها وسألتها :
-هاشم عِنديه عِلم !!!
-ماعارفاش يا هيام …
دmدmت هيام بحسرة وعتب:
-هاشم ممكن يطربق الدنيـا فوق راسهم .. أمك عتعمل ايه ؟! هي ماعارفاش هاشم ونشفان راسه !!
أخرجت هاجر هاتفها لتراسل أخيهـا والجميع منشغل بقراءة الفاتحة لتكتب له تحت مظلة المزاح :
-مبروك ياعريس!!
ثم نظرت لأختها :
-تليفونه لسه مقفول …
هنا جاءت رسالة رقية لتستغيث بها :
-الحقيني يا هاچر ، بكر اتهجم على بيتنا ..
تمتمت هاجر بخيبة :
-ماهي كِملت !!
ثم انحنت على مسامع صفية التي تقرا الفاتحة معهم :
-أما ، ما ليكي عليّ حلفان الچوازة دي شؤم …
•••••••
تعلم أنك تخصني ، بشكلٍ من الأشكال أنت كُلك لي .. ضحكتك الجميلة التـي تُزينها بالقُبل المثيرة ، رفـة جفـونك ، عينيك بما تحويه من لهفة .. خطوط يديك التي تنفض غبـ.ـار الحُزن عني ، حـ.ـضـ.ـنك الدافئ ، كلمـ.ـا.ت الحُب والهمسات السرية بيننا . . كل هذا ملكًا لي ، كلّك مِلكاً لي يا رجل !!
تعلمت على ضفة حُبك كيف تكون الأنانيـة ، نعم أنانيّة بك وبحبك …
ختمت كلمـ.ـا.تها الساحرة وهي تمرر أناملها على معالم وجهه النائمة الذي يبتدر كالقمر بسماءه فوق ساقيها المثنيين .. انحنت كظمآن يريد أن يرتوي من بُحيرته العـ.ـذ.بة ، احتوت وجنتيه بكفوفها الرقيقة ورضت فاهه على القُبل التي تخلصها من لوعة الشوق شيئًا بشيء .. كانت قبلتها ذات أجنحة مُحلقة نحو وجهتها الصائبة ، مسددة الخُطى بأنها تُسكب بالمكان الصحيـح ، ومع الشخص المناسب والمستحق لها ، شخصٌ لا يهون عليه حُزني ولا يتركني يومًا فريسـة لانياب النـ.ـد.م لأنني اخترت ..
تلاقت ملامحهم المعكوسه وهي تُتمتم له بتلك النبرة الحنونة:
-تعرف ؛ أنا عمري ما كُنت رافضة الجواز .. دي حجة كُنت بقولها قدام الكُل لما يستغربوا إني عديت السبعة وعشرين وأنا لسـه متجوزتش .. أنا بس مكنتش شايفة قدامي حد مناسب ؛ لحد ما لقيتك قلبي اتنطط وقال لي هو ده يا رغد ..
ثم ختمت جملتها بقُبلة رقيقة تحت جفونه المنغلقة:
-وفعلًا قلبـي عُمره ما كذب عليـا ، وطلعت أنت الشخص اللي شقلب موازين حياتي ..
ثم تحشرجت الخيبة بنبرتها وأكملت :
-الشخص الصح والمناسب لقلبي ياهاشم ؛ بس للأسف كُل حاجة حولينـا هي الـ غلط ..
لمست كلمـ.ـا.تها وعاء قلبه المتيم بهـا وهو ينهض من نومته وليدور بجسده موليًا نحوها ، احتوى كفه وجنتهـا التي يترقرق فوقها الدmع وقال محافظًا على لهجته المصراوية :
-وأنا أوعدك أن كُل حاجة هتتصلح في أسرع وقت .. عارف إني مقصر في حقك وأنتِ متساهليش كُل ده .. بس لازم ت عـ.ـر.في إني مش عاوز حاجة من الدنيـا غير إني أكون معاكِ -ثم أمسك بكفوفها المثلجـة وأكمل-وأفضل ماسك الإيدين الحلوة دي لآخر عمري ..
لاحظ برودة أطرفها فانحنى لمستواهم وأخذ ينفث بداخلهم تارة ويقبلهم طورًا كي يدفئا ، كي يخبرهم بأنه هنا بجواره فلا داعي من برودة الغياب .. زين الحب ملامحها ورقص قلب من فرط حنانه ؛ فقالت بهمس :
-دي أهم حاجة ، إنك معايا وبس .. وكل حاجة هتتعوض .
ثم ختمت جملتها بنطق حروف اسمه بتـ.ـو.تر :
-هـاشم !!
قفل كفيه على كفيها المنطبقين كصدفة بحرية تخشى فقد لؤلؤتها ونظر بعيونها إثر نداءها ، فأكملت حديث بعد ما اعتذرت عما ستقول رغم مخالفة أوانه :
-مامي بدأت تضايق من الوضع ده .. وشايفة أن حياتنا دي مش طبيعية وهي قلقانة عليـا .. وكمان لمحت بموضوع الحَمل وأنا مبقتش عارفـة أرد أقولها ايه ..
ثم طالت النظر بعيونها كإنها تترجاه ألا يغـــضــــب:
-لو فتحت الموضوع معاك متضايقش ممكن !!
أومئ متفهمًا ثم قال :
-لو فتحته معاكي تاني قوليلها هاشم نفسه يخلف النهاردة قبل بكرة .. بس الظروف تتعدل ..
ثم رفع كفه ليمسح على شعرها ويضم رأسها لصدره وأكمل :
-تقدري تنزلي شُغلك من بكرة لو حبيتي .. أنا مش هكون معاكي أناني أكتر من كده يا رغد ، طالما هتعملي حاجة حابها كده كده مصاريفك كلها مسئوليتي .. بس أنا عايز أشوفك مبسوطة وبس .
الفرحة جعلتها تقفز من مكانها كحبة الفشـار غير مصدقة ما قاله :
-هاشم أنتَ بتتكلم بجد !! أنا سمعت صح .. أنت وافقت انزل شغلي يعني خلاص..
لا يمكنها إنكار دوره المهم بحياتها ، منذ أن اخبرته بأن دروب قلبها مُظلمة وهو لا يتوقف عن دور الشمس في إنارتها ، عنـ.ـد.ما روت له أن شبح الوحدة يرعـ.ـبها ومن حينها اعتاد أن يؤنس قلبها الخائف بألحان الحُب القادرة أن تحوله من بقعة سوداء لبقعة تحاصرها الفراشات لكثرة زهورها .. ارتمت بحـ.ـضـ.ـنه وهي تشكره بحب :
-أنت أجمد حظابط أنا شوفته ، بحبك ..
لم تمهله الفرصة كي يملأ رئته من رائحتها فركضت لتفتح الخزانة وتخرج منها شيء لم يراه من قبل وتقول بفرحة :
-انت ما شوفتش ده ، هلبسه وأجيلك حالًا ..
ركضت للحمام وهي تتراقص على مسرح السعادة استغل وقت غيابها عنه في تناول المقرمشات الموجودة على الطاولة حتى التفت إثر صوت فتح الباب وعيناه تفحصها تلك المُهرة المزينة بثوب مسـ.ـر.وقًا من جلد النمـر ، ترك الطبق الذي بيده واقترب منها بأنظاره المشـ.ـدوهة وهو يديرها تحت يده كالفراشة :
-ده تبع الأوردر !! ده أهم من الأودر كله ..
-أيه رأيك في ذوقي !! عجبك ؟!
ترنحت عيناه المدججة بالحب وقال :
-فاجـر ..
ثم ضاقت عينيه مُتسائلًا بخبث :
-ده بكام كدا !!
أخذت فترة على الرد للتذكر سعره وهي تعانقه بغنج :
-بـ١٤٠٠ ج بس ..
رفع حاجبـه مشـ.ـدوهًا :
-بس !! لا جيتي على نفسك ..!! طيب وده أيه مميزاته بقا ؟!
ثم امتدت كفوفه المتخابثة لاسفل ظهرها الذي يكشفه الفستان وهو يلهيها بالحديث المعسول وفجأه وهو يشـ.ـده بكل قوته لينشق لنصفين :
-يعني لو عملت له كله مش هيتقطع !!
شهقت معاتبة إثر تمزقه للفستان الذي ترتديه وتحرر ظهرها من آسره بأقل مجهود :
-هاشم أنتَ بتعمل ايه !!الفستان!!
بنفس نبرته الهائمة همس لها :
-سبيني أشوف شُغلي يا هانم …
•••••••
~عودة لـ ضيوف الجـبل والقمر .
انعقدت سحابـة الملل فوق رأس تلك العصفورة التي تختبئ بالسيارة بعد جريمتها الفادحة التي اقترفتها قبل دقائق .. عبثت في هاتفها الذي لا يلتقط أي شبكـة فلجأت لقائمة أغانيها المُفضلة المحفوظة على جهازها ، ربطت هاتفها بسيارته وأخذت تتفقد القائمة بحيرة حتى حسم مصيرها هارون عنـ.ـد.ما ظهر أمام السيارة ويعقد بمقدmتها حبلًا كي يحاول أن يجرها ، ظهر من خلف الزجاج بملابسه القطنية الداخلية ، سترة بيضاء بحملات عريضة تبرز روعـة تقاسيم ذراعيه المتضخمة بالعضلات المكدسة وبنطال بنفس اللون فضفاضًا وقطرات العرق تتصبب منه كما تتصبب منها النظرات عليه .. عادت لوعيهـا مدركة جريمتها الفادحـة لتنشغل عنه بشاشة هاتفها بدلًا من سمـ.ـا.ته الرجوليـة ذات الطباع القوية الصعيدية التي تُغري قلب أي إمراة .. حانت منها نظرة مسـ.ـر.وقـة تبعها سهمـًا صائبًا من المشاعر ضـ.ـر.ب جزءًا بقلبها لم تدركـه ولا تعي معناه ، الجميع فلاسفة في التحدث عن وصف الحب وعنـ.ـد.ما يلدغ قلبًا يحوله لطائر الحبـ.ـاري الذي يُضـ.ـر.ب به المثل في الحماقة والغباء ..
بدون رغبة منها وقع الاختيار على اغنية ” كامل الأوصاف” عبد الحليم حافظ وكأن وسامته والجبل والغناء تآمر على قلبها تلك الليلة ، صدحت كلمـ.ـا.ت الأغنية التي أدخلت الحماس على قلبها لتفتح معه أحاديث جديدة ؛ صدح صوت حليم الذي لفت انتباهه ولكن سرعان ما تجاهله وباشر عمله ، فاقتربت منها عارضة عليه المساعدة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-تحب أساعدك في حاجة .. ؟!
رد بفتور وتعب يكسـو صوته :
-تُشكري يا ليـلى ..
حكت جدار عنقها بيأس فأحمر مكانه :
-بردو ليلى !!
ثم أكمل دون الالتفات لها بإعجاب يُخفيه عنها :
-چدعة أنتِ يا ليلي ، عچبتني چدعنتك ووقفتك معاي في القسـم ..
-طبعا مش ذوق اسيبك وأخلع وانت طول الليل سهران بتذاكر وبتساعدني ، كده هبقي مش كويسة ، وأنا مش كده !! بابي علمني احفظ الجميل واللي يقدm لي خدmة اقدmله عشرة ..
رد واعظًا ومعارضًا على منطقها :
-مش صُح !! أوعاكي تعملي إكده ، الزمن ديه كله محسوب ، متديش حد أزيد من حقه ، الخدmة تترد بخدmة !! خلي في عقل عندِك متديش بعـ.ـبـ.ـط .. لانه محدش يستاهل يأخد أكتر من حقه..
أصابها الحماس في مقــ,تــل وهي تتلهف للتتعلم منه المزيد من النصائح التي تحتاجها كي تواصل حياتها وسط الذئاب البشرية ثم دنت منه وسألته بفضولها الذي لم يتوقف عنده أبدًا حتى ولو ستهد الدنيا إثر كلمـ.ـا.تها لست مهم ؛ المهم إنها تكـ.ـسر زجاجة الصمت بينهم بأعين مستمدة لمعتها من ضوء القمر فوقها :
-لمـا كنت جاية مع هيثم من الأوتيل ، اتكلمنا عنك كتير .. بين الكلام قال لي ، هارون ده حكايته حكاية ، ومن وقتها عندي فضول رهيـب أعرف أيه هي حكايتك ..
ايه هي حكاية عُمدة في السن ده ؟!
ثم وضعت مؤشر الحيرة المختصر في سبابتها فوق فمها وقالت :
-يعني كُل اللي اعرفه عنك إنك حضرة العُمدة وهتخطب زينـة اللي مش بتحبها عشان تخلف ولاد وبس ، بس حاسة أن حياتك فيها سر كبير لا أسرار .. ممكن تحكي لي على فكرة وأوعدك محدش هيعرف خالص ويبقى سر ، أحنا مش خلاص بقينا صُحاب !!
لقد سكبت ماء كاوية على جـ.ـر.حه ، فكيف يمكن أن يحكي لها بأنه بقايا حلم لم يتبقى منه أي شيء ألا الجسـد والنظرات التي تراه يحلق بالسماء دائمًا ولن تمسكه يداه ، توقف على شفا اهتمامها لمعرفته واهتمامها بحكايته التي لا يُشاركها إلا مع أحلام ولست كلها ، خزانة الحـ.ـز.ن مكدسة بالأسرار ، تحمحـم وهو يسير نحو موقد السيارة ليبحث عن شيء ما فلحقت به الخطى متبعة فضولها .. استندت على البـاب المفتوح منتظرة جوابه :
-أنا مستنياك ، جاوب يلا .. ولا أنتَ مش واثق فيا !!
تناول ما يبحث عنه من صندوق السيارة والذي أخذ معه سلاحه الذي رماه على مقعد القيادة بعبث ثم التفت لسؤالها كي يودعه بنظرة من مُقلتيه هاربًا من آسره وهو يخرج من السيارة ليقف أمامها :
-ما تسيبك مني وتقوليلي أيه قصة شريف أبو العلا وأيه وقعك الوقعة المنيـ.ـلـ.ـة دي!!
على سيرة شـريف امتد بصرها بعيدًا لتلاحظ شبح ما يركض نحوهم على ضوء القمر ، قبل أن تنطق ببـ.ـنت شفة صرخت مُشيرة نحو الشيء المُقبـل عليهما في الظلام وهي تتحامي بحـ.ـضـ.ـنه وسور ذراعه المتين يلتف حولها عنـ.ـد.ما أدرك من تلك الاعين الهاجمة عليهم بأنه ذئبًا ، بمهارة قتالية خـ.ـطـ.ـف سلاحه وصوب بعض الرصاصات بالهواء حتى أصاب هدفه ووقع فريسة لباقي الحـ.ـيو.انات والطيور ، ثم تدلى نظره لتلـك المرتميـة بحضـنه وبجانبه الأيسر وتحت جناحه وكأنها جزء متكامل من صدره خُلق منه أو جاء مُفصلًا على مقاسـه ، تأمل شعرها الذي يغطي وجهها وصدره يعلو ويهبض بأنفاس مسموعة كأنه يُرحب بصاحبة المكان قائلًا :
-خلاص مـ.ـا.ت .. متخافيش ..
افترقت عن حـ.ـضـ.ـنه ببطء ولا تُصدق ما حـدث لم تلتفت لخــــوفها ونوبة الذعر التي انعدmت كإنها لم تكن يبدو أن قلبها تصالح مع تلك الخضات التي تأتي به لعنده -لعند قلبه شريك رحلته بالحياة- ، تنظر لكفها الممسك بذراعه العاري وبأنظاره التي تُظلل عليها كالنجـوم وصوت ضـ.ـر.بات قلبـه الذي اخترق مسامعها ، لأول مرة تحـ.ـضـ.ـن رجل غير أبيها ويُسرب لقلبها الخائف أمان بحجم الرعـ.ـب الذي يحاصرهم في موقفهم كهذا .. فارقت حـ.ـضـ.ـنه معتذرة عما صدر منها والخجل يكسو ملامحها فكرر جُملتـه المؤنسة لقلبها :
-متخافيش ..
تطالعت له ولا تعلم لِمَ تتعمد إطا النظر بملامحه وقالت بتوجس :
-مش خايفة ..
صدقًا كيف تخاف وهي في صُحبة رجل مثله .. رد عليها ليُلاطف ملامح وجهها الخائفة كي تهدأ:
-هو ده الكلام ،ده أنتِ معاكِ هارون العزايزي ..
أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بصوت خافت:
-مغــــرور أوي ..
-لازم .. مش اسمي مسمع بحري وقِبلي !!
رفع حاجبـه وقال جملته وهو يسحبها من كفـها ليدور للجهة الأخرى من السيـارة ويركبها بنفسـه ويقفل الباب خلفها ليطمئن عليها .. ثم انتقل للحبل المربوط بالسيارة وشـ.ـدها بكُل قوته حتى تحركت من مكانها وتفارق مكان الورطة .. فك الحبل وأطفأ النار المشتعلة ولملم أشيـاءه بهمة ثم عاد ليجلس بجوارها وعاد تشغيل سيارته تحت أنظارها المعجبة بسمـ.ـا.ته الجديدة عليها اول مرة تتيح لها الفرصة ان تكون مع رجل غير أبيها وشريف الذي يتخذها إطارًا تجميليًا لحياته ،ولانه نجح في إخراج العجلات إلى الطريق الأساسي هتفت لتشجعـه :
-لا براڤو عليك .. عرفت تحلها .
رفع حاجبه متفاخرًا ليُجيبهـا :
-حقي اتغر ولا لا ؟!
أجابته برقة وهي تملأ أعينها من النظر إليه :
-حقك طبعًا .. -ثم جاءت مقترحة كي يخفي جسده المحدث بقلبها فتنة -ممكن تلبس هدومك كده هتاخد برد ..
صف سيارته على جانب الطريـق وهو يقول :
-ياستي متعودين .
ثم مد يده ليتناول جلبابـه من الخلف وهو يقول :
-حلو عبدالحليم !!
عبرت عن مدى إعجابها بهارون في ثوب ذكرى عبدالحليم وهي تُعلي الصوت :
-هو يستاهل يتحب الصراحة ..
أشاحت منه نظرة استكشافية لتلك النظرات التي آثارت فضول رأسه وقال :
-طريقنا طويل لسه .. قوليلي أيه حكاية اللي ما يسمى شريف ..
قفلت نافذتها إثر خــــوفها الغامض عليه أن تطوله براثن الهواء البـ.ـارد وقالت مشتهية الحديث معه :
-ايـه رأيك احكي لك عني الأول .!
رفع ذراعه المُحمل بالعضلات وتأهب لقيادة السيارة على لحن حليم ولحن شكواها ، عقدت ذراعيها أمام صدرها واتكأت لتستريح على المقعد وهي تتذكر شريط حياتها المُؤلمـة :
-مامي كانت دكتورة في بداية مسيرتها المهنية ومحتاجـة تثبت نفسها أكتر ، سفر ومؤتمرات ومذاكرة .. وبابي كان ظابط في المُخابرات .. بحكم طبيعة شغله هو على طول مش معانا .. كُنت مع الدادة طول الوقت هي اللي بتراعيني ، وجدو بياخد باله مني وبيخرجني .. كل حاجة كُنا نعملها سوا .
ثم نظرت له بتلك الأعين الدامعة والتي تحمل فيض من الحـ.ـز.ن :
-جدو اتوفى وأنا عندي ١٢ سنـة ، كُنت راجعة من المدرسة وجايبه له الشوكليت الـ بيحبهـا لقيت كُل الناس لابسه أسود ، دورت على جدو زي المـ.ـجـ.ـنو.نة ، بس مش موجود في البيت كله ، وقتها الدادة أخدتني لأوضتها ونيمتني عشان متخضش ..
كفكفت تلك العِبرات المتساقطـة من مُقلتيها ؛ وزفر أوجاعها وعلى ثغرها طيف ابتسامة حزينة :
-كُنت بحبه أوي ، الوحيـد اللي كان يناديني غُفران ، لحد دلوقتِ مش عندي تفسيـر اشمعنا الاسم ده !!
نظرت له لانها أحست بأنه سيمل من أسلوبها المحـ.ـز.ن ، ولكنه باغتها بسؤاله الفضولي وهو يطالع الطريق أمامه
-كملي !! أنا سامعك .
ارتعشت شفاهها بابتسامة مُخزية :
-أول مرة حد يسمعني بعد بابي وجدو …!
كفكفت عبراتها وأكملت متجاهلة صدى وقع الكلمة عليه :
-خناقات كتير وصوت عالي بين بابي ومامي ، لسه فاكراها لحد النهاردة ، كانت المشاكل كُلها بسببي ، محدش فيهم عايز يضحي .. معرفش أيه حصل ؛ فجاة لقيت نفسي في مدرسة ” داخلي ” .. مفيش صُحابي ، مفيش بابي ولا مامي ولا دادة!! طيب بيتنا !! جدو !! الأيام كانت مرعـ.ـبة ، كُنت لوحدي مش بكلم حد وكل اللي يقرب مني أعيط لحد ما بقيت البـ.ـنت الوحشة …
صمت لبرهة تحاول إدراك كيف مرت عليها ستة سنوات بهذه المدرسة رغم ثراءها وأنها تحظى فئة مرموقة من العائلات إلا أنها كانت أشبه بقبرٍ دفن بداخلها كل شيء منها إلا جسدها ، أخذت نفسًا بهدوء وأكلمت :
-قعدت فيها لحد ما خلصت ثانوي ، مكنش عندي صُحاب ، كنت دايما ساكتة ، مش بتعامل مع بشـر لحد ما بدأت الحياة الجامعية بابي استقال من الشُغل وقرر أنه لازم يعوضني عن كُل اللي فات .. يصلح أكبر غلطة ارتكبها في حقي هو ومامي !! حاول كتير بس كان فات الآوان .. ومحدش بيدفع التمن غيري !!
ثم أخفضت صوت حليم الذي يقول ” آه يا ليل وآه عين ” ، وهنـا جاء صوت القدر الذي يزف حـ.ـز.نها الذي اجتمعا عليه ،ليل يشكو وعين تمطر .. شعور أشبه برغيف من الحـ.ـز.ن تقاسم بين قلبين كل منهما حاملًا نصف بقلبه وقافل عليه بألف مفتاح وعنـ.ـد.ما تلاقت الأنصاف فُتحت الأقفال من فرط انتظارها .. ختمت حديثها وهي تقول :
-زعلانـة لأن مش دي حياتي اللي كنت اتمنى أعيشها ..
رد ليشاطرها الحـ.ـز.ن الذي يدفنه بقلبه ؛ قائلًا :
-محدش فينـا عاش حياته اللي اتمناها يا ليـلىٰ .
••••••
~بمنزل أبو الفضل ..
لقد أبلغت هاجر أخيرًا هيثم أخيها الذي كان يرافق هلال جبرًا كي يحضر معه الدرس الديني اليوم بعد ما فاض به الأمر حول التساؤل عن تفاصيل ” الأخت رُقية ” و بما حدث لها وعن بدء معرفتـه بها .. وما وصل الخـبر لهما جن جنون هلال فجعله يُعجل في ختم الدرس الديني ويعود لمنزلها بصحبة أخيه …
يجلس الجميع بحديقـة البيت الصغيرة حيث هتف هيثم غاضبًا :
-وولد المركوب ده اتهوس چاي برجله لإهنه !! ورب الكعبة ما هحله المرة دي يا هلال .. ده ماعاملش حساب لحد واصل ؟
تدخل هلال الذي يتحكم بغـــضــــبه على قدر المستطاع :
-اهدأ ونحل الأمر .. كله سيُحل بأذن الله .
ثم نظر هيثم لرقيـة :
-رقيـة أنتِ كيف سبتيـه يمشي إكده ، يعني جيه اتخانق ومشي طوالي عشان أنا هكلم هارون قبل ما يعرف من المچلس .
شرعت رقية الجالسة بروي القصة على مسامعهم :
-انا فتحت الباب لقيتهم في وشي كيف القضا المستعجـل ..اترجفت ومعرفتش أعمل أيـه ؟
ثم نظرت لهلال الذي يتحاشي النظر إليها ولكنه يستمع لها بكل آذانه الصاغيـة فأكملت بنبرة متأدبة :
-وعشان قولتلهم معندناش بنات للجواز هاتك يا صياح ونواح كيف الحريم ..وامه هتبلغ عني مجلس القبيلة .
قرأ هيثم معالم وجهها التي ترتدي ثوب البراءة المزيفة والتي لا تليق بها وقال بخبث :
-رقيـة يعني أنتِ معملتيش حاچة واصل ؟!وايه خلاه يصيح وهاتك يا نواح زي الحريم!! اعترفي يا رقية..
-واصل يا هيثم وأنا في يدي أيه أعمله !! دانا غلبانة ..
تراقص شيء متحرك بقلب هلال يميل نحوها دومًا ترجمها عقلها شفقة على تلك المسكينة ولكن كانت عزيمته أقوى من أن تتبع هواه ويناظرها ، ارتسمت الضحكة على ثغر هيثم لانه قرأ انتقامها من المدعي بكر على وجهها واقترب وهو يناظر السيدة صفاء المغلوبة على أمرها وأكمل حواره مع رقية وهو يرفع قدmه فوق المقعد القصير مستندًا عليها بمرفقه :
-رقية معملتيش حاجة واصل واصل !!
رمقت هلال الذي يقبض على جمر غـــضــــبه وقالت بتهذب كأنها لم تقترف شيء :
-دشـ.ـدشت القُلة فوق نفوخه وراسه اتفتحت .
هتف هيثم شافيًا غليله :
-ينصر دينك ما تبردي قلبي من الصبح ، ده يستاهل زير مش قُلة .
هلال بفخر خارجًا عن صمته وكأنها أراحت قلبه المشتعل بغـــضــــب الانتقام وزاحت غُمته :
-الله يحسن ما بين يديكِ يا أخت رقية ..
ردت عليه فارحة بتشجيعه بعفوية :
-وأيديك يا شيخ هلال ..
ثم وجه هلال حديثه للسيدة صفاء متقبلًا جملة رقية ببسمة واسعة وأردف :
-يا أم رُقية سأحل أي شكوى قدmها أمام المجلس ..
فهتف هيثم منفعلًا :
-وانا هستناه يطلع عليه نهار عشان يروح يشتكي !! دانا هجيب خبره الليلة… ده صغرنا يا هلال قدام الكُل !!
••••••••••
وصلت عجلات سيارة هارون لقُرب النجع وما كان أن يأخذ يساره فقطعت سيارة ما الطريق عليـه وعاقت سيره .. صرخت ليلة محذرة :
-خلي بالك !!
فرمل السيارة فجأة وهو ينتظر هويـة من قطع عليه الطريق بضيق ، لحظات وتدلى شريف من سيارته وهو يقترب من سيارة هارون ويفتح باب السيارة جهة “ليلة” قائلًا بهدوء خلفه شيء كارثي مُدبر :
-لي لي ، انزلي عايزك ..
وعلى الجهـة الأخرى يدق الفرح بمنزل صالح العزايزي وتُرقع اصوات الرقص والغناء و الزغاريد من أفواه النساء .. تقف نغم بمنتصف السُلم ممسكة بيد نجاة وهي في حالتها الهستيرية تترجاها :
-ألحقيني يا نچاة ، أعملي حاچة .. أنا مستحيـل اتچوز هاشم !! اتچوزو كيف وأنا عاشقة هارون أخوه …
*****
‏عنـ.ـد.ما ألتقي بشخص قال لي يومًا كلامًا جارحًا، أحس أن هذا الكلام يقف بيني وبينه، وأني فعلاً لا أراه، ولا أسمعه…
الكلمـ.ـا.ت الجارحة تتحول إلى جدران عازلة، وليس بإمكان أي شيء أن يحطم هذه الجدران، أو يهدmها، لا اعتذار، ولا ابتسامـ.ـا.ت، ولا كلام طيب..
كذب من قال بأن الأيام ستُنسيك ؛ كلا الزمان خير شاهد على كُل ما مررنا بهِ .. الزمان يأتي ليؤكد أن كُل القرارات القاسية التي اتخذتها بالماضي فهي صائبة لدرجة كبيرة ..
“الزمان لا ينسيك حبيبًا ولا عدوًا ”
•••••••••••
قيــل :
أن ‏الحياة ستحطِّمك عدة مرات وقد لا تُنصفك أبدًا .. سترى أمورًا لا تريد رؤيتها، وقد تحـ.ـز.ن وتفشل وتُخذل من أقرب الناس لك، ولكن انهض ولا تفقد الأمل أبدًا فيجب أن تتجاوز خــــوفك، ونـ.ـد.مك، وهزيمتك، فإنَّ الحياة لن تقف لتُراعي حـ.ـز.نك، إمَّا أن تقف أنت وتكملها رغم انكسارك أو أنَّك ستبقى طريحًا للأبد.
لبت “ليـلة” طلب شريف الذي جاء عكس طبيعته القاسية معها بعد ما أخذت الأذن من هارون بالنظرات المتبادلة وكأنه اصبح وليـًا لأمرها .. قفلت باب السيارة خلفها وفي نفس اللحظة هبط هارون من سيارته وهو يشعل سيجارة ويسدد تلك النظرات الحارة لشريف الذي يتهامس مع تلك الفتاة وربما يحاول أن يقوم بعمل غسيـل مخ لها .. تفوهت ليلة بنفاذ صبر:
-أفنـ.ـد.م !! عايز مني أيـه ياشريف ..
شرع في تنفيذ الخطة التي رسمها مع أمها وهو يحاورها بكلمـ.ـا.ته الجميلة التي تدس السُم بالعسل :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  !!
-لا والله !! شريف أنتَ بتضحك على نفسـك ولا عليـا !!
اتكئ هارون على مقدmة سيارته وآذنيـه الحارس لها من مكر شريف تتبعهم ، حاول شريف الإمساك بذراعيها اللاتي عارضن ذلك حيث قال متفهمًا :
-ماشي يا ستي أنا غلطان .. وجاي أصلح غلطي أهو ، أحنا كل مرة بـ.ـنتخانق ونرجع ، أيه حصل المرة دي !!
كانت جملته الأخيرة بمثابة عود من الكبريت ألقاه في حقـل غـــضــــبها منه ، خرجت عن هدوءها معاتبة :
-وكمان مش عارف أيه اللي حصل !! أنا هقول لك اللي حصل يا حضرة الظابط، أنت شكيت فيا ، وصدقت الكلام اللي اتقال عليا من واحد أنت متعرفهوش ، وكمان قعلت دبلتي وأنا في بلد غريبة معرفش فيها حد ، وآخر تقليلك مني وأنك دايمًا شايفني فاشلة .. ده الغير المعاملة اللي زي الزفت وأنا بقول يابـ.ـنت عدي لكن أنتَ عمرك ما عديت حاجة .. وكل الفترة اللي كنا فيها مع بعض أنت فشلت تخليني مطمنة ..
ثم رفعت رأسها بتحـدٍ :
-شريف أفهم بقا ؛ أحنا مش هينفع نكون مع بعض لأن ببساطة أنا مابقتش عايزة خلاص حتى ولو أنت عايزنا نكمل ..
أحس شريف بتذبذب رجولتـه وتجرعه لمذاق الرفض أمام المدعي بهارون ، كاد أن يضـ.ـر.ب كلامها في عرض الحيط ويتركها ويغادر ولكنه تذكر المخطط الذي رسمته نادية ، تذكر أن المتبقي فقط ستة أشهر ليعيش في نعيم أملاكها.. انخفضت نبرة صوته التي كانت تحمل سُم نواياه وقال :
-ليـلة .. أنا مش هعرف أحب واحدة زي ما حبيتك ، أنتِ صح وكل كلامك صح وأنا بسبب ضغط شغلي بتصرف تصرفات غريبة، بس ده مش مبرر نسيب بعض بعد ده كله ..
ثم تطاولت يـداه لأول مرة لتُلامس خصلة من شعرها مواصلًا حياكة مكره :
-فرصة تانية وأنا أوعدك هتغيـر هتشوفي شريف واحد تاني .. حبيبتي أنا بعتذر لك ووعد مني مش هيتكرر .. ممكن تقلبي اعتذاري.. لي لي أنا بحبك .
ثم أخرج خاتم خطبة من جديد وقدmه لهـا وقال متأملًا وهو يواصل سحره بالأعين المخادعة :
-وده بدل اللي ضاع منك .. ها قـولتِ أيه ؟! موافقة ؟!
تسرب لهارون شعورًا بالسخط إثر عبثه بعقل تلك المسكينة ولكن ما باليد حيلة ، فهو لا يصح له أن يتدخل بأمر لم تقصده فيـه .. لم تنكـر “ليلة” أن طريقته الحنونة بالحديث أصابت مدخل الرِق بقلبها ، تخدر الغـــضــــب منه للحظة ، ابتلعت جمر كلمـ.ـا.تها المعارضة ولكن قلبها ما زال عاصيًا على الترويض ، لم يقتنع بتلك السخافـة رغم ميول عقلها ورضوخه ولكن للقلب أحكامه الخاصة ، ارتعشت شفتيها لا تعلم كيف ستتصرف وفي هذه الورطة استنجدت بذلك المجهول الذي ينقذها دومًا كمان انقذها من ظُلمة الطريق من قبل .. عجزت عن أخذ القرار المناسب فتمتمت بتحيـر :
-أنا هاخد الأول رأي حضرة العُمدة !!
تورد الغـــضــــب بملامح وجهه مندهشًا غير مصدقًا ما سمعـه :
-و ده أيـه علاقتـه بينا من أصلو !!
هـ.ـر.بت من حصار عينيه التي تُمطـر شواظٍ من نار ووقفت أمام هارون وهي تسأله مستنبعة قلب الطفلة التي تملأها برفقته :
-بما أنكم رجـ.ـا.لة زي بعض وآكيد فاهمين بعض .. سؤالي هنا ؛ هل في راجـ.ـل بيتغير يا هارون بيه ، يعني ينفع شخص كان شرير يبقى طيب !!
وقف شريف خلفها وبقيت هي تلك اللقمة الواقفة بين فكي الأسـد ، كل منهمـا يناظر الأخر بنظرات حادة تحمل لهب من الانتقام والتوعد ، عارض شريف ذلك العبث قائلًا :
-ليلة بطلي جنان مين دا عشان يحكم عليـا !!
تجاهلت ثرثرة شريف وسددت النظر لهارون الواقف كالجبل الذي لا يحركه ريح وقالت مترجية :
-ممكن تجاوب .. !! الراجـ.ـل فعلًا بيتغيـر ؟!
رمق شريف بأسهم الخسـة وعلى ضفة دهاءه ابتسامة طفيفة مستمتعًا بالحرب الدائرة بينهما :
-والله اللي أعرفه أن ديـل الكـ.ـلـ.ـب عمره ما هيتعدل ؛ والكـ.ـلـ.ـب ده لامؤاخذة دكر يعني راجـ.ـل .. يعني الاتنين مفيش منهم رجا أنهم يتعدلوا ..
كتمت ضحكتها إثر تلك الطريقة التي يتحدث بها وثقتها القوية بنفسه وقالت بتوجس :
-يعني أنا صح !! مرجعش لانه عمره ما هيتغير ..
قبض شريف على رسغها بعد ما فاض غـــضــــبه ليديرها عنوة :
-أنتِ اتجننتي !! أيه الهبل ده .. دا أنتِ شكل الأدوية اللي بتاخديها طيرت آخر ذرة عقل في دmاغك .. أنتِ نسيتي نفسك !!
لم تكد تتأوه من قبضته وصوته العالي الذي استرده مع أول تصرف منها من تصرفاتها التي يبغضهـا ؛ سحبها هارون بلطف من يده ليكون هو السد المنيع لها من أي عواصف وقال مهددًا :
-أنا من ساعة ما شوفتك وأنا حايش نفسي عنك علشان ماليش حق ادخل ، لكن دلوق أظن حقي ..شكل قعدتك معانا معلمتكش حاچة ، بس عندينا اللي يده تتمد على حرمة يبقى راچل لامؤاخذه ..
هنا ظهرت رأسها من وراء هارون والتي تتحامى في ظل جسده وأكملت منتصرة :
-على فكرة اللي حصل ده كان اختبـ.ـار ليك يا شريف بيه ، وأهو اللي خايفة منه حصل ، مع أول موقف مديت اديك وعايرتني بمرض مليش ذنب فيـه ، شوفت بقا أنك عمرك ما هتتغير .. امشي يا شريف وانساني ..
تراجع شريف خطوة للخلف وهو يشير بسبابته بعدmا سقط في بئر خدعتها الذي يليق بجُب نواياه وقالت بحنق :
-أنتِ فاكرة هينفعك !! عموما يا ليلة لينا بيت وأهل كلامهم يمشي علينا .. مش واحد زي ده !! خليكي فاكرة إني جيت لك وأنت اللي بعتي واشتريتي واحد منعرفش أصله من فصله ..
يبدو أن قلة الثقة تتناسب طرديًا مع صفة التقليل من الغير .. فـ الشخص المهزوز داخليًا يـود أن يكون الجميع بنفس مكانته ، ثار هارون بوجهه :
-اللي قُدامك ديه لو مشتراش أصله وفصـله اللي يشرف أي حد عن رُتبـة وكام دبورة بيدوها للي زيك عشان يبلطجوا على الناس كان زمانك واقف قصادي تترعش .. اللي قدامك لولا انه بيفهم في الأوصول كان دفنك مطرحك ..
ثم قطع خطوة لعنده وأكمل بنفس النبرة الثابتة القوية التي يرتد صداها بخلاء الجبل حولهم :
-الأصل والفصل بتاعي واللي أنتَ متعرفهوش بيجبرني ما امدش يدي على واحدة ست ولا أقلل منها .. لكن الخسيس اللي زيك أبو أصل ، وفصل متعلمش فيه غير الجعجعة ومد اليد مايشرفناش انه يتحسب راچل علينـا ….
وقف شريف عاجزًا أمامه لا يستطيع النطق ببـ.ـنت شفة خاصه أنه غريبًا بمكان ومسقط رأس العزايزة .. ربط العجز لسانه وهو يتحاشى النظر لليلة ويقول لاهثًا قبل أن ينصرف من أمامهما
-خليه ينفعك ياليـلة ..
ولى شريف ظهره وقفز بداخل سيارته الشُرطيـة ، فهتف هارون بسخط :
-عيل رِذل !!
يتجلى الأمان فـ أدق أوصافـه عنـ.ـد.ما يحتمي قلب الأثنى خلف كتف رجـل لا يميـل حتى ولو انهار الجبل فوق رأسه فلا يُصيبك حتى غبـ.ـار هدmه لحرصه الشـ.ـديد كي تؤذي بمجرد النفس الذي يتغلل لرئتك يحرص على نقاءه…
“أن‏ سُنة الحياة أن يهرم فيها كلُّ شيءٍ إلَّا النَّوايا الطيِّبة وقوة الرجـ.ـال ، تَظلُّ غَضَّة .. بديعة .. زاهية .. ويبقى لصاحبها وسامة الأثر وكل الحُب له لوحده .. ”
••••••••••••••
~مرسى علم ..
مع فجـر صبـاح اليـوم التالي ..
يقف كُل من رغد وهاشم بالمطبـخ يجهزان وجبة الفطور سويًا بعد مرور ساعات الليل عليهما لم يزر النوم جفونهما إلا قليـلًا .. فرغت من صنع البيض المقلي كما عودهـا أن تفعـله مثل طريقة أمه .. كان يقطع حلقات من الخيار والجزر ثم جاءت لعنـده وطوقت ذراعـه بعد ما طبعت فوقـه قُبلة رقيـقة :
-لازم تمشي النهاردة !! خليك معايـا وارجع بكرة مش هيجرى حاجة يا هاشم .
-حِنة هيام بكرة وأنا لازم أكون موجود ..
فهبت مقترحة :
-طيب أجي معاك وقولهم زميلتك في الشغل وعزمتها على الفرح لو مش حابب تعرفهم عليا دلوقتِ ..
غمز بطرف عينيـه بدهاء ثم قطف من فوق زهرة وجنتهـا قُبلة وقال :
-طب أنا راضي ذمتـك شغلي هيكون فيه القمر ده كُله منين !! دا أحنا الحتة الطرية الوحيدة اللي بنشوفها في شغلنا بتكون أفعى ..
ضـ.ـر.بته برفق وهي تُعاتبـه بخــــوف :
-بعد الشـر عليـك ..
ترك الــســكــيــنــة من يده ودار لعندها ثم أمسك بكفهـا وقبل أطرافه وأكمل ممازحًا :
-وبعدين لما أقولهم إنك زميلتي في الشغل .. مش هقدر أشوفك قُدامي كُل شويـة من غير ما أخدك فـ حـ.ـضـ.ـني .. يبقى أنا جبت التعب لنفسي ..
طوق خصرها بذراعه ليقربها منه أكثـر وأكمل :
-مسألة وقت وكله هيبقى زي ما أحنا عايزين ..
هزت رأسها بقلة حيلة متقبـلة أمرها ومُرها معه وقالت :
-يلا عشان تفطر الأكل هيبـرد ..
شرع الثنـائي في رص الأطباق على السفـرة وبدأت رغد في سكب كاسات العصير وفي تلك اللحظـة ساد الظلام بالمكان وانطفأت الكهرباء.. لم يكد يجلس فوق مقعده فأردف ساخـرًا :
-هي ساميـة نسيت تشحن الكارت ولا أيه !!
ظلام مُعتـم خيم على المكان حتى الستائر الكثيفـة كانت تحجب أي شعـاع من النور يدلهم ، اغتنم هاشم الفرصـة مستخدmًا بوصلة قلبـه للعثـور عليها وهي لا تعرف كيف تتحرك ما لبث أن تدور فوجدت نفسها بين يديه .. تملصت من قبضته بعتب :
-هاشم !! متهزرش أحنا مش في بيتنا !!
-وهي فين المشكلة ؟!
-مامي ممكن تنزل وتشوفنـا ..
-وهو في حد شايف حاجة فـ الكُحل ده !!
رغم ليلتهم المليئة بالحب و برغم إنه قضى تلك الليلة بين ألفِ قُبلة وحـ.ـضـ.ـن إلا أنه لم يكفيه ذلك باغتنام تلك الفرصة التي يشعر فيها بوجود الحب ولست رؤيته ، فهو رجُل لا يفرط بفرصـة تجمعه بمن يُحب .. همس لها بصوت لا يسمعه سواهم وهو يبدأ معها جولة من الحُب الثائر بينهم :
-ت عـ.ـر.في إنك أغلى حاجة في حياتي !! ولو خيروني بين الدنيا كُلها وبين حـ.ـضـ.ـنك .. عارفة هختار ايه !!
استسلمت لسحر لمساته ودفء أنفاسها التي تُمطر كالفحم على قلبها فتدفئه وهي تُعانقه أردفت :
-ايه !!
دفن بؤره بركانـه المتقد بأبخرة الحب في جدار رقبتها وهمهمت ريح الحب من صدره قائلًا :
-هختار الدنيا كلها في حـ.ـضـ.ـنك ..
ضمته كأنها تلتقي به بعد عام من الغربة ، يبدو أنّها لن تتجاوز في حبـه لهفة البدايات أبدًا .. يبدو أن حُبها سيظل في مهده حتى بعد عشرات الأعوام .. يبدو أن قلبها سيحبه بهذا الاندفاع والحماس إلى الأبد ، أصدرت أنين حبه بصدره وهي تقول بهمس :
-يعني هتختار كُل حاجـة !
ثارت جيوش عشقه وهو يقول لها :
-عشان مش هاشم العزايزي متعودش يخسـر أبدًا .
-وأنا وقلبي عاشقين هاشم بيـه العزايزي ..
موجة عاتيـة من العشق ضـ.ـر.بت كيان الاثنين ، روحان في جسد واحد بنفس الخُطى بنفس الألحان المتناغمـة بينهمـا التي يعزفونها على وتر الحُب .. وكأن قلوبهم تتنبأ بالفراق الحتمي فأرادت أن ترتوي كيفما تشاء كان يحـ.ـضـ.ـنها كإنه آخر لقاء بينهما ، حركاته تتوسل لها بـ تُداوي قَلبه باللقاء كرمًا .. فَما له دواء غير لُقياكِ !! فـحـ.ـضـ.ـنك النصُ الذي عجزت الأبجديات عن وصفه .. لحظات مسـ.ـر.وقة من الزمن أصابت قلوبهم المُتيمـة بالسُكر حتى حلت الواقعـة فوق رؤوسهم بصوت الزجاج الذي تهشـم بالأرض فصوت صرخة مكتوبة صدر من شِدق “رغد” وفي نفس اللحظة عادت الكهرباء بعد العُطل الفني الحادث ، فصعقت مصدومة :
-هاشم !! الفازة بتاعت مامي اتكـ.ـسرت !! أنت عارف دي بكام وغالية على قلبها ازاي !!
حملها كي تؤذى أقدامها من فتات الفازة المهشمة بالأرض :
-ما قولت لك نروح بيتنا !!
ثم ألقى نظرة على فتات الفازة وعاد متسائلًا بعينيه الضائقة وهو يجلسها على المقعد :
-هي غالية أوي يعني !!
هزت رأسها بالإيجاب :
-اشترتها في مزاد ببـ.ـاريس من ٧ سنين .. أنا خايفـة من رد فعلها !! يالهوي دي ممكن تجرالها حاجة !!
رفع أنظاره لساعة الحائط هاربًا :
-أوباا ، أنا طيارتي كمان ساعتيـن .. لازم أرجع لصفية ..
-اخس عليك يا هاشـم !! بتخلع وتسيبني ؟!
اقترب منها ضاحكًا وهو يحملها بين يديـه قائلًا :
-ت عـ.ـر.في عني كده بردو !! إحنا نخلع سوا عشان نكمل كلامنـا ..
ثم ضاقت عينيـه بمكر محب وهو يلامس درجات السُلم :
-هتسأليني وتقوليلي أيه هو !! هقولك من قبل النور ما يجي بثانيـة إلا ثانيـة …
ما كاد أن يتجاوز لنصف درجات السُلم ففوجئ بساميـة تقف لهم على رأسـه .. تحمحم كُل منهما وهو ينزلها برفق هماسًا :
-مش وقت أمك خالص !! ايه صحاها ؟!
جزت على فكيها :
-قلت اسمها مامتك ..
-ولا وقت تناكتك .. أنا على آخري .
ثم تركها بعد ما ألقى بأذنها همس جملته وهرول نحو سامية التي مال على كفوفها ليقبلهما ثم نصب قامتـه ليعانقها :
-أحلى سامية ، تصدقي بالله أنا جاي من قنا مخصوص عشان حمـ.ـا.تي وحـ.ـشـ.ـتني ، لسه بقول لرغد تصحيكي تفطري معانا ، قالت لي عندك صُداع !!
ثم قبل رأسها وأكملت بحنوه المعتاد الذي يسبق به خصمه من النوع اللطيف :
-تحبي ننزل نشوف دكتور يا حبيبتي !
ابتلعت ساميـة غصة غـــضــــبها منه وربتت على كتفه :
-أنا كويسة يا حبيبي .. أنت جيت أمتى .
راوغ على فعلته المـ.ـجـ.ـنو.نة بأنه جاء من قنا مخصوص إثر إغراء ابـ.ـنتها له .. فقال :
-من شوية أصل عندي معسكر كمان ساعتين ، جيت اسلم بس على رغد وهطير .. وكويس إني شوفتك .. يا دوب ألحق أمشي ..
قبل رأسها مرة ثانيـة :
-ألف سلامـة عليكِ يا حبيبتي ..
ثم جهر بنبرته العسكرية التي يلجأ لها دومًا كي تُنجيه من أي فخ :
-رغد شوفي موبايلي شحن ولا لسـه !!
تابعت رغد خطواته هاربة من سطو نظرات أمها وقالت بتوجس وهي تخفي الضحك وهي تركض كي تهرب من وقع الجريمة التي اقترفها الاثنان قبل قليـل :
-هشوف جوزي يا مامي ….. الف سلامة عليكِ .
زفرت سامية بغـــضــــب مدفون :
-صبرني يا رب على الاتنين دول ..
••••••••
‏تعبث بك الحياة حتى ترُيك وجهًا قاسيًا لم تعتده، تُرّبي فيك غربة وأنتَ بقلب وطنك ، ويأسًا ضاريًا يحرق أحلامك وقلبك في آن واحد .. وأحيانًا تمـد يديها لك لتُراقصك على نغم تلك الأمنيات التي المحققة .. على لحن صوت شخص وجوده كافيًا أن يشعل قلبك بالحياة .. بل هو الحياة .. الحياة ذات وجهين ، وجه يهذبك والآخر يراقصك، مهما طال عُمر الأول حتمًا سيزورك غيث الثاني ليمحو شقوق ما مضى ..
لم تنم إلا ساعتيـن فقط حتى استيقظت على صوت رنين هاتفها من صديقاتها اللاتي لم يكُفن عن الاتصالات .. فتحت الكاميرا وشرعت في سرد تفاصيل يومها المكدس بهِ بذلك الرجل المغري لعقلها وكيف واجه شريف ودافع عنها ، ساعة والنصف قضتها “ليلة” في سرد قصة رجل يسمى هارون العزايزي .. تنهدت برئـه منشرحة وأكملت بفرحة :
-قولت له إنك عايزة أروح معبد الكرنك .. فكر شوية ، وبعدين قال لي نروحوا ..
ثم أكملت بحماس :
-النهـاردة هسجل أول حلقـة .. أنا متحمسـة مـ.ـو.ت بجد أنا حبيت الحياة هنا أوي ، مش عايزة الأسبوع يخلص .
تدخلت جوري في الحديث بعد ما نزعت ” ماسك ” النضارة من فوق وجهها :
-المهم هارون ده أيه حكايته ، يعني هيقضيها كتير كده مرشـ.ـد سياحي للاستاذة .. لي لي فين صورته .
ردت بيأس :
-معرفتش اصوره ، شكله مش بيحب التصوير .. بس كان نفسي تشوفوه امبـ.ـارح وهو بيرعـ.ـب شريف .. أول مرة أحس أني ليا ضهر كده من بعد وفاة بابي .. تعبت من إني لازم اواجه كل حاجة بنفسي .. هارون ده حالة خاصة لوحده ..
تفوهت عُلا بمزاح :
-ازاي بقا ، فهمينـا أكتـر ..
رددت بجهـل :
-مش عارفة أوصفه ، أوي لسه مش عارفة أحدد هو أي نوع من الرجـ.ـا.لة ، يعني شهم وراجـ.ـل أوي وجدع وكمان لما بتكلم بيسمعني ، كلامه قُليل مش بعرف أخرج منه معلومة واحدة .. بس مسيري هعرف ..
فتدخلت جوري بحماس :
-بصي أنتِ تقفلي معانا وترني عليه دلوقتِ تصحيه من النوم وتقوليلو يلا عشان نلحق مشوارنـا ..
عارضتها :
-ايه قلة الذوق دي ؟! لا طبعا هسيبه ينام براحته أنا مش رخمـة .
-يادي الغباوة ، يا بـ.ـنتي اسمعي مني .. صحيه عشان يحس أنك مهتمة وعايزة تخلصي شغلك بسرعة ، وطول الوقت فهميه ان وجودك هنا مؤقت وهتمشي ..
أجابت بإصرار :
-مستحيل، أنا قليلة ذوق عشان أصحيـه الساعة دي !!
ثم هبت مفروعة :
-أحيه !! أنا نسيت أقولكم أنهم المفروض قروا فاتحته على اللي اسمها زينة دي !!
كلاهن في نفس واحد :
-ايه !!!!!!
~ بغُرفة هارون .
بعد ما أدى صلاة الفجـر في موعدهـا ووثبت ليضع القليل من رائحة المسك بيده قبل أن يفركهما ويمسح على وجهه ، اتجه إلى خزانـة ملابسـه فغير مساره صوت رنين هاتفـه ، طالع الشاشـة بملل فوجد اسم ( زينة) ، تأفف ممتعضًا :
-وهي ناقصة خوتـة !!
سحب الشاشة وفتح مُكبر الصوت وهو يقول بنفور ويوصل مهامه بثقُل :
-خير عليكِ يا زينة !
هبت ملهوفة :
-خير !! خير وبس ده ألف خير عليك يا سيد الناس .. صحي النوم يا هارون .. إكده استناك الليل كله تحددتني وأنت متسألش ، طب في عريس مايچيش قراية فاتحته !
أخرج ملابسه الأجنبية التي لا تنتمي لأعرافهم الصعيدية والعُمدية عبـ.ـارة عن بنطال أسود وسترة شتوية سوداء ويعلوها ” جاكت” شتوي باللون البيـج .. ألقاه على السرير بملل و رد عليها متعمدًا قفل الحديث :
-ان شاء الله خير يا زينة ..
انتهت من وضع حمرة شفتيها وقالت بدلال :
-چاي الليلة على العشا أعملك أحسن وكل ..
-مش عارف يا زينـة !!
-لا ، لازمًا تچي يا هارون ، أنا دِلوق خطيبتك وكُل طلباتي مُچابة ..
نزع سترته الخاصة بالنوم و أجاب بملل :
-ربك يسهل يا زينة ، هخلص مصالحي وأشوف ..
انكمشت معالم وجهها :
-ومصالحك دي أهم مني ؟!
عض على شفته السفلية وهو يجلس على طرف السريـر قائلًا بضيق:
-وكل عيشنا يا زينة ، مش هنسيبوه ونقضوها سرمحة ..
-طب على مهلك عليّ ، ده چزاتي أني مكالماك أصبح عليك !
-تُشكري ..
تدللت وهي تتجه نحو فراشها :
-يعني مش هتقولي حتى مبروك يا عروسة !
-مبروك يا زينة !
هتفت بصرع من الفرحة :
-الله يبـ.ـارك فيك يا سيد الناس وعقبال ما أكون في بيتك وفي حـ.ـضـ.ـنك وشايلة اسمك وأم ولادك أنت نفسك أچيبلك كام عيل ؟!
تأفف باختناق فقلبه لم يتحمل منها جُملة إضافية :
-ياصبر الصبـر .. !!
ثم انخفضت نبرة صوتها :
-تعرف من إمبـ.ـارح والنوم مش مهوب من ناحيتي ، كل ما اتقلب إقده اتخيلك قَصادي واتقلب إقده اشوفك تضحك لي وتقولي بحبك قوي يا زينة ، الله بالحق عتحبني يا سي هارون كد ايه !!
رد بامتعاض:
-ما تقومي تنامي يا زينة، قِلة النوم لحست رأسك ..
ثم انسحب بهدوء ليحافظ على الجزء المتبقي من عقله :
-زينة معاي مُكالمة شُغل اقفلي من عندك دِلوق ..
قفل المكالمة قبل أن ينتظر ردهـا ثم رمى الهاتف بملل :
-چيب وچع الرأس لروحي !!
ثم امتدت يده وتناول الهاتف مرة آخرى وبحث عن رقم ” ليلة” المُسجل على هاتفه بـ ” الاستاذة ” وبدون تردد ضغط على زر اتصال ، كانت ليلة تحت سطو اقناع جوري بأن تهاتفه وما زالت مصرة على رأيها حتى جهرت مفزوعة عنـ.ـد.ما رأت اسمه على الشاشة :
-بنات العمدة بيتصل… قصدي هارون بيه بيرن اعمل ايه بسرعة .
صرخ الفتيات في نفس واحد :
-طبعًا ردي …
ألغت مكالمـته وقالت بوجهها المُحمر :
-لا مش دلوقتي .. حفظوني بس أقول أيه وبعدين هرجع أكلمه !
صاحت علا :
-انتِ عملتي ايه !!
-قفلت في وشه..
هتفت علا ممسكة برأسها :
-جوري ردي انتِ .. دي هتشلني .
تراقصت حواجب هارون باستغراب إثر إنهاء المكالمة الهاتفية ورفضها .. تحمحم ملتمسًا لها العذر فلم يخلق من يتجاهل مكالمته:
-تلاقيها نايمة !! وبعدين !!
نفض غبـ.ـار ما حدث ثم وثب ليبدل ملابسـه وبعد مرور برهة من الوقت عاد رنين هاتفه ، ربط حزام خصره الجلدي ونظر من أعلى على الاسم فتحير قائلًا لنفسه :
-ماهي صاحيـة أومال قفلت ليه !!
تناول الهاتف ووضعه على آذانه تلك المرة حيث جاءها صوته الرجول قائلًا:
-صحيتك !!
-طيب قول صباح الخيـر الأول .. الناس الطبيعية بتقول كده الصبح .
بصوت ترنيم عصفور مشاكس جاءت نبرة صوتها مهزوزة يكسوها التوتـر والارتباك وقلب مضطرب يبدو ذلك بسبب أول مُكالمة هاتفية بينهم ، تحمحم بخفوت وقال مستمتعًا بصوتها الذي يعزف بمسامعه :
-يسعـد صباحك يا ستي ..
ردت بنفس النبرة التي كانت تتحدث بها بالراديو :
-و أنت كمان .. أحنا المفروض هنخرج أمتى ..
رفع أنظاره للساعة فوجدها السادسـة :
-أنا لبست .. شوفي أنتِ قاعدلك كد أيه وتكوني جاهزه ..
قفزت فوق السرير وهي لا تعلم أين تذهب :
-هاه !! حالًا انا أصلا قربت أخلص .. انا صحيت من بدري وكنت بذاكر وكمان كلمت صُحابي البنات .. وكنت مترددة أكلمك ولا لا .. بس خلاص خلاص هجهر وارن لك مش هتأخر عليك ، تمام !
تعجب من نفضة صوتها وتجلجلها بالكلام وقال:
-محدش طاير وراكِ على فكرة !!
شُلت مدارك عقلها وهي تغسل اسنانها بالفرشاة و المعجون :
-يعني ايه ؟!
-يعني عـ مهلك ، بلاش تتسربعي .
-يعني ايه تتسربعي ؟!
مسح على رأسه مكتفيًا بتلك الابتسامة المخالفة لما يشعر به من جزعٍ برأسه :
-يعني خلصي وكلميني يا ليلـىٰ ..
مرت قرابة النصف ساعة فكان أمام المرآة أوسم شاب ثلاثيني يعد ترتيب ملابسه ويرتدي نظارته الشمسية ثم ينثر القليل من عطره المفضل .. غادر الغرفة فالتقى بهيام التي تتجول بالطرقة أمام بابها ، ما أن رأته ارتمت بحـ.ـضـ.ـنه :
-مستنياك من بدري يا حبيبي ..
ربت على كتف أخته بعد ما قبل رأسها :
-مالك ، فيكي أيه طب احكي لي ..
ابتعدت عنه وهي تتشجع لتروي له غصة قلبها :
-هارون ، أنا مش عايزة اتجوز ضيا .. أحب على يدك أعمل حاچة وبوظ الچوازة دي ..
عقد حاجبيـه باستغراب :
-ديه چلع عرايس ولا حصل حاچة من وِلد المحروق ديه !
هزت رأسها بالنفي وهي تقـول بحـ.ـز.ن :
-قلبي متوغوش ومش مرتاحة يا هارون ..
مسح على رأس أختـه بحنو :
-هيام ، سيبك من قلبك وعقلك عشان دي حاچات ما تحركش رچالة ، حصل حاچة من وِلد الـ دي !
أومأت بالإيجاب ففرت خصلت شعرها الناعمة كخيوط الحرير وهي تقول :
-أيوة يا هارون .. بيغلط فيكم كتير وفي أبوي .. وبيشرب وكذا مرة أحذره إني هقولك لو مبطلش بيسوق فيهـا ومفيش حد هامهُ ؛ هارون لو ليّ خاطر عندك فركش الچوازة دي ..
هز رأسه وبمعالم ثابتة لا تعكس ما يدور بداخل عقلـه ، قبل رأسه أخته وقال بهدوء تام :
-متفكريش في حاچة وروحي اجهزي ،عاوز أخت هارون العزايزي تكون أحلى عروسة ، وضيا أنا هعرف أشـ.ـده زين .. متعتليش هم ..
قاطعته باعتراض:
-بس يا هارون ..
حسم حديثهم إثر رنيـن هاتفه باسم ” الاستاذة “، ثم قال :
-متنكديش على روحك وعلي صفية .. أنتِ مش حكتي لي خلاص ، شوفي ناقصك أيه وخدي العربية مع جابر وأنزلي هاتيه …
•••••••••••••••••
مع دقـات السـاعة الحادية عشـر ظهـرًا .. تقف رُقية مع أمها التي ترتعـد من الرعُب إثر طلب ابـ.ـنتها بمجلس العزايزة إثر شكوى بكر عليهـا .. وقفت رقيـة أمام ذلك الرجل العجوز الذي يرتدي زيًا أزهريـًا وعلى يمينه رجل وعلى يساره رجل آخر ، وجه الأوسط سؤاله لديهـا :
-يا دكتورة رقيـة ؛ أنتِ من فعلتِ بالمدعى بكر فياض وأهله هذا !
نظرت لهلال الجالس على مكتبه الصغيـر بجواره منصـة المجلـس وقالت بثبات :
-حصل يا شيخنا ..
-ما السبب ؟!
تجلى حلقها وقالت بصوت لا يتزحزح :
-جيه بيتنا من غير معاد هو وأهله رغم أنه عارف أني رافضة الچواز منه .. وكمان اتهمني في شرفي في وسط دارنا ، والشرف دm عندينا حسيت إني لازمًا افوقه ..
تدخل بكر موضحًا الصورة :
-جنابك رقية بت عمي وحيدة ومالهاش حد ، والشرع والقانون عيقولوا أنها مش هتتجوز أيدحد غيري .. وطالما إكده نأجلو شرع ربنا ليه ؟!
غلت الدmاء برأس هلال والنائب عن أخيـه وقال معترضًا :
-يا مولانـا نحن نتعلم منك سمـ.ـا.ت الدين والأخلاق، وحديث الأخ بكـر صحيح ولا يُلام عليه ولكن عنـ.ـد.ما يتعلق الأمر بأن الفتاة أرادت أن تتجوز من شخص آخر غيره ، هنا يحق له فعل ما يشاء متمسكًا بحقه الجائر على قلب تلك المسكينة .. لكن الأنسة رقية لا تُريد الزواج من الأساس ، لِم الإجبـ.ـار والتعنيف !! لِم قذف المحصنات واتهامها بشرفها والفتاة لا تفعل أي شيء يهين العرف والقانون ، هي لا تُريد الزواج هذا حقًا لهـا ..
ثم تطلع لبكر بتحدٍ :
-وما اقترفه الأخ بكر يتنافي مع الدين والعرف ، وهو فرض نفسه على فتاة لم تُريده بدافع الأموال ، وهذه تهتمة جديدة يا سيدي .. خالف مقصد وأهم ركن بالزواج والشرع الذي يُبني على المودة والرحمة ولست الشجع والمطامع والأموال…
ثم رفع كفـه ذو الكم الفضفاض وجهر :
-وآخيرًا ، فالمدعو بكـر لم يكُف عن ازعاج ابنة عمه وملاحقتها بكل مكان ، ولقد ذهبت بنفسي لقعر داره وحذرته بالحسنى ولكنه أكمل في طريقه ، طريق البلطجة والتشبيح …
نظر الشيخ لبكر وسأله :
-ما رأيك بما قاله الإمام هلال ..
أخفض بكر رأسه وقال :
-رايدها وحاببها يا شيخنـا ، وعاوزها في شرع ربنا ..
غلت الدmاء بعروق هلال وهو يقبض على جمر سخافات بكر كالقابض على الجمر ، حيث اتبع جاهرًا :
-عذر اقبح من ذنب يا مولانا.. تلك المشاعر النقية لا يخالطها السب والقذف والتطاول على فتاة ضعيفة مثلها بهذه الحياة .. نحن هنا لنصرة الضعيفة ولست لإذلاله ..
نظر الشيخ لبكر بغل بعد ما تشاور مع طاقم التحكيم:
-تم رفض دعوة المدعو بكر فياض ، وعليه بتقديم الاعتذار لابنة عمه الدكتورة رقية ابو الفضـل ويمضي تعهدًا بعدm تعرضه لها بعد الآن …والزواج بينهما لابد أن يكون قائمًا بالتراضي بين الطرفين …
صاحت صفاء بالزغاريد لانها كانت مرتعدة من حكم مجلس المشايخ بأن يصدرون فرمانًا بزواج ابـ.ـنتها من المدعو بكر ، ضمت ابـ.ـنتها بين يديها وشكرتها بفخر :
-حبيبة قلب أمك ، ينصر دينك المرة الچاية عايزاك تقطعي خبره …
ربتت على كتف أمها ورمقته بسخط :
-ضـ.ـر.بني وبكى وسبقني واشتكى .. كان عشمان في الچوازة بس يستاهل ..
جاء هلال من الخلف ووجهه بالأرض :
-مبـ.ـارك يا أخت رقية ..
هتفت صفاء بامتنان :
-يسلم خشمك يا حبيبي ، لولاك كان وِلد الضلال بكر استقوى على البت ، يحرسك لشبابك يا هلال يا ولدي .. تشكر .
أخفض رأسه بعرفان :
-شكر على واجب يا أمي .. سانتظركم بالسيارة..
انسحب بهدوء تام وهو يتحاشى النظر لعندها إير ضـ.ـر.بات الفرح التي أصابت قلبه ، يا ترى لتبرئتها أم لصدور حكم نهائي بعدm تعرض بكر لها أم لانها ساعدها في محنتها وبرأ ذنبه من الكذب التي تقيد أنفاسه .. نظرت صفاء لابـ.ـنتها وهي تعاتبها :
-يا بت طب بُصي على الرچل واشكريه .. أنت باصة فين ؟!!!!
وضعت سبابتها بفاهها منتظرة رحيلـه فقالت بتـ.ـو.تر :
-ت عـ.ـر.في ياما ماعقدرش ابص في وشه ..
-ده ليـه يا ضنايا ؟! الرجل فلقة قمر وأخلاق واحترام ووشه سمح والنور عيفج من وشه .
قاطعتها بقلب متراقص من السعادة :
-لا ياما ، وشه منور ويوتر ايه حد ،ما عقدرش أرفع عيني في عينيه ؛ أنتِ فهماني طب !!
-يا مُري منك !!!
ثم ربتت على كتفها :
-يالا ياختي عشان منعوقوش عليه ، الرچل كتر خيره مهملناش واصل ..
••••••••••••••••
قرأ هاشم جُملة أخته المُرسلة منها أمس وهو بالطيارة ، فاستقبلهـا بالضحك الساخر وهو يقول لنفسه :
-البت دي قلبها حاسس بأخوها ولا أيـه ؟!!!
حتى عاد لمنزلهم مع آذان صلاة الظهـر في ذلك الوقت كانت السيارات تنقل عفشة أخته من بيتهما وخلفهم نسوة البيت ليرصون أغراض العروس ببيتها ، وصل البيت وهو ينادي على أمه التي ما رأته اندلعت الفرحة بأصوات الزغاريد ، فأجاب بدون فهم :
-بتزغردي في وشي أنا ليـه.. ماهي العروسة قاعدة هناك أهي !!
انضم الاختان لعنده ثم ألقت نجاة عليه التحية من بعيـد ، هللت هاجر فارحة وهي تصفق :
-وصـل ، عريسنا الحِلو وصل .. يا عريس يا عريس …
تأرجحت عينيه بعدm فهم حتى التفت لسؤال امه :
-أنتَ فينك من امبـ.ـارح يا هاشم !!
رد بثبات :
-مأمورية على السريع خلصتها ورچعت ، أنتوا مالكم !! وفين هارون عاوز أبـ.ـارك له ..
جاء هيثم من أعلى وما أن رأى أخيه أطلق صفيرًا قويًا :
-هاشم باشا وعريسنا حلو ، والنعمة حلو وعروستـه أمورة أهي !!
غمغم هاشم بشكٍ:
-هي العيلة دي مرفوع عنهم الحجـاب وعارفين أنا كُنت بعمل أيه في مرسى علم !!
ربتت صفية على كتفه بحنان :
-مبروك يا حبيبي .. فرحتى بيكم ما تتوصفش ..
-الله يبـ.ـارك فيكي يا صفية !! بس أنا مالي بردو ؟
تدخلت هاجر لتزف له الخبر :
-إمبـ.ـارح قرينا فاتحة هارون وزينة ، وأنت ونغم ..
-يالف نهار أبيض … يألف نهار مبروك .
ثم تأرجحت عينيه بالمكان غير مدرك ما سمعـه :
-انا ونغم مالنا ..مفهمتش ؟!
زفـه هثيم فارحًا :
-اتقرت فاتحتكم عقبالي يا رب .. قول آمين يا عريس .
-نغم مين وأنتو مين وأيه الچنان اللي أنا سامعه ديه !! ما تقولي حاجة ياما !! في أيه يا هيام ؟
كان يدور حول نفسه من وقع ما سمعـه ، لا زال مقتنعًا أنها مزحة من أخوته فقالت صفية ببراءة الذئب من دm ابن يعقوب :
-أبوك يا هاشـم ، قال البت يتيمة وإحنا أولى بيهـا والفرحة تبقى فرحتين وطلب يدها من خالك .. واتقرت فاتحتكم .
-أي وأنا فين ؟! أنتوا كيف تعملوا العملة دي من غير ما ترچعولي !!
عارضته صفية :
-ما أنت ليك ١٤ سنه غائب عن العزايزة ياحبيبي وحياتك كلها برة قنـا ، قلنا نختارلك إحنا عارفين البنات كلها .. أنت هتعرف منين !!
رفع سبابته رافضًا والغـــضــــب يتناثر مع حروف كلمـ.ـا.ته :
-صفية أنا مش عاوز اخطب حد ولا عاوز اتجوز من أصوله والفاتحة اللي اتقرت دي أنا معرفش عنِها حاچة .. ولا مسئول عنها .
ضـ.ـر.به هيثم على كتفه :
-ياعم هو حد لاقي چواز مـ.ـيـ.ـتجوزش!! متبقاش فقري .
تدخلت هيام باعتراض :
-أنتو كيف ما تاخدوش شورة العريس ياما !! لا مالكمش حق .. عاچبك إكده !!
فأكملت هاجر :
-والله قلبي كان حاسس أن هاشم ماعارفش .
صرخ بوجههم لينهي تلك المهزلة :
-صفية يمين تلاتة لو الموضوع ديه ما اتفركش ما هتشوفي وشي تاني .. بلاش تختبري صبر هاشم ولدك عشان أنتِ عارفاني ..
دبت على صِدرها بصدmة :
-وتكسـر كلمة أبوك !! يا دي العيبة ؟!
-وأكـ.ـسر الدنيا كلها ولا حد يلوي دراعي ويغـ.ـصـ.ـبني على حاچة مش عاوزها ..
ثم أشار بسبابته :
-تكلمي أخوكي دِلوق وتفهميه ، قوليلو هاشم مش بتاع چواز ولا ناوي يتنيل .. فاهمة ياما ..
كاد أن يخطو ولكنها أوقفتها معترضة :
-ما مسيرك تتجوز ، مالك متزرزر ليـه !! ولا أنتَ ناوي تقعد جاري كيف خد الندابـة !! يا ولدي متصغرش أبوك ، ده يطب فيها ساكت !!
ثار مدافعًا عن حبـه ورغد قلبـه :
-وأنا مش هارون ياما عشان تضحكوا عليّ بالكلمتين دول محدش هيمـ.ـو.ت قبل أجله ، هاشم ماعيضحيش على حساب حياته ، مختصر الحديت أنا قولت كلمتي ياما .. وبلاش تعاندوني .. وإلا هتشوفوا هاشم واحد تاني …
ألقى قذيفـة كلمـ.ـا.ته بساحة منزله ثم تركهم وذهب لغرفته ، تسددت نظرات العتاب من بناتها التي أردفت أحداهن :
-لا مالكيش حق ياما ..
تدخل هيثم مقترحًا ليُلطف الأجواء :
-أنتو مقرتوش فاتحتي أنا ليه !! حتى على البت نوال الشغالة أنا راضي …
دفعته صفية بغـ.ـيظ :
-وهي ناقصاك أنتَ كمان !!
تأرجحت النظرات بين الثلاثـة فتيات حتى ضـ.ـر.بت نجاة كف على الآخر بتعجب من حكمة الأقدار :
-المكتوب على الچبين لازمًا هتشوفه العيـن ….
••••••••••••••••
~بالأقصـر ..
-المكان يجنن يا هارون بيـه .. حاجة خُرافـة بجد ..
قالت ” ليلة ” جملتها بعد ما تفقدت أرجاء المعبد ومع كُل تمثال كان هارون يسرد لها قصتـه وتاريخه ومن بناه ، كانت تدون المعلومـ.ـا.ت التي تروق لها باهتمام على لوحة الشاشة الالكترونية التي بيدها .. كانت خطواتها تسبقه وكان صوته يحاصرها من كُل صوب وحدب .. أثناء سيرهم جهة المعبد أردفت بغزل بريئ :
-على فكرة اللبس الكاجول فيك يجنن ..
-ليـه والچلابية وحشة ؟!
-لالا خالص بالعكس ؛ بس مدياك سن أكبـر من سنك ،عكس الكاچول .. كده أحلى .
غمغم بضيق وهو ينزع نظارته الشمسيه :
-لا مش أحلى اكيد ..
ثم تنهدت لتُغير مجرى الحديث الذي أن ناطحت به ستجلب لرأسها الصخب لا أكثر ، نزعت الكاميرا المُعلقة برقبتها :
-ممكن تصورني هنـا !!
تناول منها الكاميـرا وقال :
-هتسچيلي دِلوق !! طب حفظتي ..؟!
-لا مش هسجل هنا ، بس التمثال عجبني ممكن تصورني جمبه !!
وقفت بجوار التمثال وشرع بالتقاط العديد لها من الصور تحت أجواء من المرح والضحك وهي تناقشه بتفاصيل الصور وتطلب منه أن يعيد التقاطها على الرحب والسعة منه وكأنها أصبح مديرًا لأعمالها لست مجرد ضيفة عنده .. طلبت من أن يعيد تلك اللقطة الأخرى بنفس الزاوية حتى انتهى من جولة التصوير بعد العديد من الصور التي أخذت تفحصهم أثناء مواصلتهم للطريق نحو التمثال “ساكمت” .. قالت بإعجاب :
-تصويرك يجنن .. بجد كل الصور أحلى من بعض .. تعرف أن في أسطورة بتقول أن الشخص المُحب بس هو اللي بيصورك صور حلوة ..
ثم وقفت أمامه بقامتها التي لا تتجاوز كتفه وقالت:
-كده أنا اطمنت إني مش تقيلة ولا حاجة على قلبك ..
رد بإيجاز :
-طب زين …
وصل الثنائي لتماثيل الآلهة ” ساكمت ” التي قرأت أساطيرها من قبل .. وقفت لتصيح بحماس لتبرز ثقافتها بالأساطير :
-تعرف أن التمثال ده أساطيره كتير !!
رفع حاجبه بأنه لا يوجد فائدة من تفكيرها المتواصل بالأساطير الكاذبة وقال :
-برضو أساطير !!
-استنى عليا بس هعجبك والله ..
ثم اقتربت من التمثال خطوة وقالت :
-تعرف أنه اسمه أله الأمومة والحب والحرب والصحة .. يعني لو ست كان نفسها تخلف كانت تيجي تلف حولين التمثال ٦ مرات وبعد كام شهر تلاقي نفسها بقيت حامل .. لو واحد نفسه يتجوز البـ.ـنت اللي بيحبها بيطوف حولين التمثال ٥ مرات ، كل طلب له عدد طواف معيـن …
ثم عادت له بنفس الشغف :
-ومش بس كده ، ده الأسطورة بتقـول كمان أن الألهـة ” ساكمت” لعبت دور كبير أوي أنها تجمع العشـاق اللي بينهم مستحيلات كتيـر ، زي مثلا …
كانت ” ليلة ” تسرد على آذانه تفاصيـل الأسطورة التي اطلعت عليها والتي ستبدأ بتصوير أول حلقاتها التي جاءت لأجلها ، كانت تخطو نحو التمثال بحركات طفولية يملأها الحماس وما أن شرعت في ذكر الأمثلة دارت لهارون الواقف بمكانه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يستمع لهـا باهتمـام معجبًا بطريقتها العفوية التي تروي بها تلك الخرافات التي راقت له من بهجة أسلوبها .. وقفت أمامه وأكملت :
-مرة ملكـة وقعت في حُب خادm عند أبيها الملك ، وجات تتوسل لساكمت أن أبوها يوافق ، وراحت السنين وجات السنين حبيبها ده طلع حرب وكانت المفأجاة أنه رجع لأبيها برأس أكبر عدو له .. وقتها الملك كان منبهر وقاله أطلب أي طلب هيكون مُجاب ، وكان الطلب ده أيد بـ.ـنته ..
تأرجحت عينيه التي يخر منها النظرات الساحرة بخفـة روحها في رواية القصص والأساطير التي لم يُخلق أحد يرويها مثلها ، رفع سيف حاجبه وقال بهدوء يغلفه بسمـة لطيفة :
-الرك على النصيب يا ليـلي ..
تغنجت أمامه بمرح :
-أنتَ مش مصدقني !! طيب هحكي لك حاجة كمان .. كان في واحدة اسمها ” تيفيت” كل ما تنام تشوف أن في رجل غامض بيحاول يخـ.ـطـ.ـفها ويخــــوفها ، وراحت تشتكي لـ ” ساكمت” ..
ثم اتسع بؤبؤ عينيها وهي تسأله بحماس:
-تعرف طلع مين الرجل ده ؟!
حك ذقنه ويبدو أنه عثر على ملاذه في رواياتها الخرافية :
-حبيبها .
اصدر صوت قرقعت أصبعيها وهي تحييه :
-براڤو عليك ، بس مش حبيبها من البشر .. ده طلع أله الحرب ” خارمس” .. بس المشكلة أن البـ.ـنت كانت بتحب واحد اسمه ” أسموس ” .. ولما بقا ” ساكمت ” عرفت غـــضــــبت أوي وقررت تعـ.ـا.قبه وتُحيله لـ حجر او تمثال .. ودي كمان جوزت العشاق لبعضهم ..
هز رأسه معجبًا بأسلوبها في القص ولست تلك الخرافات التي ترويها وقال :
-جميـل ..
قطعت ليلة جُملته وأكملت :
-تعرف الجميل بقا أن الكلام ده في ناس بتعمله لحد دلوقتي على سبيل الهزار والتجربة عشان يتأكدوا من صحة الأسطورة وأنها مش مجرد كلام !!
هارون مذهولًا :
-لا يا شيخة !! وكانوا بيعملـوا أيه عاد وِلد المهاويس دولت ؟!
رفعت جفونها لعنده بتوجس :
-أخاف أقولك ونجربها كـ لعبة الأسطورة تتحقق ولعنتها تصيبنا ، يتكتب لنـا نصيب في بعض .. وقتها مفيش حاجة هتقدر تفرقنا وكمان ممكن تقع في حُبي !
ثم هزت كتفيها لتبرئ مكر نواياها :
-أنا بحذرك بس عشان اللعب مع الجماعة دول بيقلب جد ! وأنتوا قوانينكم مابترحمش !!
انفجر ضاحكًا والسخرية تملأ فاههُ ثم انحنى لعندها هامسًا لينفي كل معتقداتها بأسلوبه الراقي:
-أهو ديه بالظبط أكبر خرافة أنتِ قولتيهـا ، لأنه شيء ولا ينفع يكون في أحلامنا من أصلو .
راقت لها العبث بقوانين اللعبة وقالت بجزل طفولي مبطن بالتحدي:
-مادام أنتَ شايف كده ، أيه رأيك نجرب !!!!!
لم تتلقى ردًا على طلبها إلا صمتًا يميزه ابتسامة خفية لا تُرى ولكنها تُحس ، ترجمها عقلها على أنها قبول لعرضها وقالت بشغف لا ينتهي :
-يبقى نجرب أظن مفيش مستحيل أكتر من حالتنا ، بس مش هنطوف زي ما هما كانوا بيعملوا عشان حـ.ـر.ام طبعًا .. بس هنعمـل حاجة تانـية تحقق الأسطورة !!!!
••••••••••
وصف أحدهم ذات مرة شعور الهزيمة قائلًا :
‏الوضع أشبه بأن أستعين بصبري فأجده قد نفذ فأستعين بعاطفتي فأرى فؤادي فارغًا وألتفت حولي فأرى العدm يتلبّس كل الأشياء التي كانت هُنا..!
-أنا وقلبي الحزين صرنا نراقب العالم من وراء نافذة غرفتي لإننا فقدنا قدرتنا على مخالطة البشر ..
#نهال_مصطفى
•••••••••••
كُل قصص الحُب التي اندلعت نيرانها بالأفق ابتدت بمجرد لعبة ظريفة ، الإفراط بالنظر ، الغرق في التفكيـر ، حلم عابر ولكنه استوطن بصدرك ، كلمة قيلت دون أن تنتوي حُبًا ولكن القلب تعلق بها كقشاية نجاة له من هذه الغرق .. لعبة عبثية جمعت اثنين وورطتتهم ببعضهما البعض !!
راقت لها العبث بقوانين اللعبة وقالت بجزل طفولي مبطن بالتحدي:
-مادام أنتَ شايف كده ، أيه رأيك نجرب !!!!!
لم تتلقى ردًا على طلبها إلا صمتًا يميزه ابتسامة خفية لا تُرى ولكنها تُحس ، ترجمها عقلها على أنها قبول لعرضها وقالت بشغف لا ينتهي :
-يبقى نجرب أظن مفيش مستحيل أكتر من حالتنا ، بس مش هنطوف زي ما هما كانوا بيعملوا عشان حـ.ـر.ام طبعًا .. بس هنعمـل حاجة تانـية تحقق الأسطورة !!!!
انكمش حاجبيه وضاقت حِدقة أعينه وبرزانـه ما بين رفض علقـه و حماس قلبـه الذي اعتاد النمطيـة والحكمـة ؛ قال :
-كيـف يعني!!
أشرقت الشمس من ثغرهـا المبتسـم إثر قبوله لقواعد اللعبة التي لا تدرك لماذا يشغلها أمر اثبات أسطورة كهذه لعقله المتحجر ، لِمَ كل هذه الفرحة التي تلبست بها فجأة !! نزعت خاتم أصبعهـا الرقيق من البلاتين ، ونظرت ليسـاره التي تحوي على خاتم فضي ذو حجر كريم باللون الأسود وقالت مستأذنـة :
-هيضايقك لو خدته !!
يبدو أنه اعتاد على التخلي عن أشياءه الخاصـة ، نزعه بسهولة من يده وقال :
-عادي عندي غيرو كتير …
توقفت ليلة على ضفـة استغناءه المغلفة بالاعتيادية ، كمن اعتاد التخلي دومًا وسألته :
-شكلك مش من الأشخاص اللي بتتعلق بالأشياء .. عكسي خالص .
رد بحكمتـه التي استمدها من تخليـه الدائم في سبيل الآخرين :
-مِش صح ، لو علقنـا قلوبنا بكُل حاچة في نهايـة الطريق هتلاقي قلبك خالي ، لان مفيش شيء مكتوبـله الأبديـة كله راحل وبالتالي هترحل معاه قُلوبنا اللي اتعلقت فيه ..
سبحت عينيها الحائرة في موج خيباته التي لا يطلع عليها أحد وقالت بتخابث كي تنبش بدواخله :
-واضح إنك خسرت حاجات كتيـرة في حياتك وصلتك للمرحلة دي !!
خفق قلبـه مشتهيًا فتح صفحاته أمامها ولكن شموخـه ، استهانته بالو.جـ.ـع الذي أكل قلبه دون أن يعترف بذلك ، تجبره على كل الفضفضة ولكنّه لم يعد من شكاة الأطلال الذين يمجدون حـ.ـز.نهـم دائما .. شخص مثله درب علقه أن يكون أقوى من كل العواطف التي تحيط بهِ كي لا يسخر نفسـه التي تجبره أن يكون قويـًا طول الوقت .. تحمحم بهدوء :
-هاه هتصوري !!
نظرت له بـ شرود وهي تحاول قراءة حـ.ـز.ن تلك الأعين التي تُكابر في إخفائه وقالت بلطف :
-الخاتم !!
مد لها الخاتـم ذو الحجر الأسود .. أخذت منه الخاتم وظلت تعبث به في كل أصابعها لتُقارنه بحجم يدها الطفولية وقالت بمزاحِ :
-أيدك كبيرة أوي ..
ثم وضعت براحة يدها خاتمها وخاتمـه وشـ.ـدت خيطًا من شالها الصوف المرمي على كتفها وشرعت في ربط الخواتم ببعضهما تحت نظراته الساخطة على فعلها والذي لا يبادلها إلا ابتسامـ.ـا.ت السخرية متجاهلًا صدح عقله الذي يدق ناقوسه برأسه ؛ ما هذا العبث الذي تفعله يا رجل !! وإلى أي مرسى تود أن تذهب !!
انتهت ليلة من عَقد الخواتم ببعضهما ثم رفعت جفونها إلى لتردف مبررة له بمرح عنـ.ـد.ما لاحظت شروده :
-أنت مستغرب ليه !! إحنا بنجرب وبنلعب بس ..آكيد أنا وأنتَ مش هنتجوز بجد يعني والكلام ده .. دي چيم .
حك ذقنـه وبتلك النظرات الثابتة التي تُمطر عليها من مُقلتيـه رد بثغره الباسم :
-زين إنك عارفة …
-هااه !!
ثم أخذت نفسًا مسموعًا وقالت :
-المفروض إني هروح اقدm الخواتم دي لـ ساكمت .
-وهيعمل بيها أيه !!
-أول ما تمر عليـه ليلة قمريـة الخواتم هتتختفي ..
رفع حاجبه الكثيف بهزء :
-يعني مش هتتنشل لا دي هتختفي .. !!
-ممكن ما تتريقش ، عشان ساكمت لو حس إنك بتتريق هـ….
قاطعها بمزاح وهو يدنو منها خطوة سُلحفية :
-هيسخطني قِرد !!!
ضـ.ـر.بت رائحة عِطره بسقف رأسها وكان صدى الأثر بقلبهـا الذي أخفق بتوجس وهي تقول بعتب:
-أهو لسه بتتريق أهو !! عمومًا براحتـك .. خليك فاكر أنا حذرتك .
ثم ركضت من أمامه بعجـل لتكمل طقوس لعبتها التي تعتبرونها حُجة لقلوبهم التي تعلقت وتعانقت ببعضها البعض منذ اللقاء الأول ولكنها هذه ألاعيب القلب … فرغت ليلة من سرد أساطيرها ثم وعادت إليه وشغلت كاميرتها وثبتتها بمكان مـا على السور الحجري وطلبت منه :
-كُل اللي هتعمله تدوس هنا وقت ما أخلص !!
جلس على السور بجوار الكاميرا وهما الاثنان يرقبونها بأعينهم القوية ، أعين تسجل التفاصيل بالكارت المدmج وأعين أخرى تحفر تفاصيلها بين خلايـا عقلـه .. أشعل سيجارته وشرعت هي في استراد شخصيتها وروحها أمام الكاميرا .. شـ.ـد نفس من سيجارته ثم أوقف التسجيل وقال بنصح :
-خلى راسك مرفوعة ..
تحمحمت عاملة بنصيحته وهي ترفع رأسها وسألته :
-كده تمام !!
أومئ بخفوت وهو يعيد تشغيل الكاميرا ، ما شرعت في قول جملة أولية عن المعبد ، فأوقف التجسيل قائلًا بنصح إثر بروز عروق رقبتها :
-أرخي كتافك عشان محدش يحس إنك متـ.ـو.ترة ..
أخذت نفسًا عميقا بجفون مُغلقة وتقبلت نصيحته على الرحب والسعة ومع ابتسامة طفيفة :
-أنا أصلًا مش متوتـرة ..
رد بهدوء وهو يضغط على الزر :
-أنا عارف بقول لك أيه .. يلا كملي ..
عادت لمواصلة حديثها ولم يمر عشرون ثانية حتى عاد لإيقاف التسجيل مرة أخرى :
-بلاش تلمسي وشك وشعرك كل شوية ، هتشتتي انتباه اللي عـيتفرچ..
اتسعت إبتسامتها لاهتمامه بأصغر التفاصيل كي تخرج صورتها في أكمل وجـه ؛ سألته :
-في أي ملاحظات تانية عشان كل ما تفصلني بنسي كنت هقول أيه !!
مسك الكاميـرا وحذف تلك المحاولات الأوليـة ثم غرس أعين بتلك الشاشة الصغيرة التي تعكس صورتها باهتمام مفضلًا أن يقوم هو بتصويرها بدلًا من وضع الكاميرا ثابتًا ، شاور بكفه كي تبدأ من جديد قائلًا برزانة وثبات :
-من أول وچديد يلا .
•••••••••••
” وشبكنـا بدبلتـه وقرينـا فاتحتـه ،وعرفنا نيتـه ”
كانت زينة تغرد كالبومة في جميع أرجاء فوق رؤوس الجميع وبالأخص ” نغم ” الجالسـة بأحد أركان المنزل إثر إلحاح زوجة خالها تُشاهد التلفاز كي تخرج من حالة الحـ.ـز.ن التي تعيشها مع جدران غرفتها .. ولكن ذلك لم يشتت حـ.ـز.نها عن تلك الورطة التي تورطتها ، جلست زينة بجوار أمها وهي تحكي لها بصوت مرتفع :
-ت عـ.ـر.في ياما طول الليل انا وهارون نتحددوا .. طلع كلامو حلو قوي ياما .. ورسايل كلها حُب ..
ثم اقتربت من أمها أكثر بشغف مضاعف :
-ت عـ.ـر.في طلع عيقول كلام من اللي عيدوخ ياما سمعته من إهنه واتقلبت نمت مدرتش بروحي .. الحب طلع حِلو قوي ياما ..
لم تمهل أمها الفرصة للحديث بل قاطعتها وهي تلوح بذراعيها اللاتي يكسوهن الأساور الذهبية :
-وقالي هخلص كل مصالحـي واچيلك چري نتعشوا سوا يا زينـة .. چاي عشاني ياما ..
خناجر حادة كانت تُطـــعـــن بقلب” نغم “حتى تذكرت سرد تفاصيل ليلة أمس وهي تتوسل لخالها أن يرفض زواجها من هاشم :
#فلاش_باك ..
-ياخالي وغلاوة أمي عِندك أنا مش رايدة هاشم ولا عاوزة اتچوز من أصلـو ؛ كلم الحچ خليفة وقوله البت مش موافقة .
كانت الدmـ.ـو.ع تسيل من مُقلتيها وصوتها يرتجف من شـ.ـدة الحـ.ـز.ن والضعف الذي تعاني منه ، فهي لا تمتلك شخصًا واحدًا من أهلها يساندها ، لا أب ولا أم ولا أخ يحمل معها قفة الحيـاة الثقيلة .. انفجر خالها بامتعاض:
-وه وه وه .. !! أنتِ عاوزانا نكـ.ـسروا كلمة خليفة العزايزي دي تطير فيها رقاب.. وبعدين ماله هاشم ديه بنات النجع كلمهم يتمنوه .
أوصدت أبواب العشق لأخيه بقلبها وقالت بهزل :
-عيقولوا عليه واعر ، وطبعه چافي .. وأنا مش عاوزة واحد يچيلي يومين في الشهر ويعاود عـ شغله .. أحب على يدك يا خالي بلاش تورطني وتكـ.ـسر قلبي وتچوزني واحد مش رايداه .
رق قلبه لضعف تلك المسكينة فوثب من مكانه ليُربت على كتفهـا بحنان :
-يابتي هاشم زين وكلهم تربية صفية أختي، وبعدين ما أنتِ اتقدmلك كتير وأنا كنت ارفضه لانهم مش مناسبين لك .. أما هاشم ارفضه ليه !! ده من كبرات النجع .
-عشان مش عاوزاه ..
-طب أقعدي معاه واتفقوا ولو كُنتي لسه مش عاوزاه أنا هيبقى لي حديت تاني مع صفيـة ..ومحدش هيچبرك على حاچة ..
فاقت ” نغم ” من شرودها حول حديثها مع خالها على صوت ” نوال ” التي تُخبرها :
-ست نغـم ، سي هاشم بيه عاوز يشوفك بره ..
اشتعلت نيران الغيرة في قلب زينة التي دارت بجسدها كله صوب نغم وأردف بنبرة كهينة :
-أومال مش عاوزة ومچبورة ومعرفش أيه وفي الأخر چايلها من صباحية ربنـا .. شايفة مكر البنات ياما ..
خرجت أمها عن صمتها وهي تنتظر غروب نغم من مكانهم وقالت بعتب :
-ما تلمي روحك يا زينة ، مالك طايحة إكده ومحدش هامك ، داري على شمعتك تقيد يا حبيبتي وبلاش تزعلي نغم بحديتك الماسخ دهوت !!
-هي دي هتحس ولا عندها دm ، دي كُلها دmـ.ـو.ع تماسيح يااما سيبك منيها ..
••
-“خيـر يا هاشم بيـه ”
وقفت نغم أمامه بعدmا جاءت لعنده بخُطى المجبور على رؤيته وهي تحمل بقلبها غصة إجبـ.ـارها عليه كما تحمل غصة لقائهم هذا .. رفع هاشم سبابته وبدون أي مقدmـ.ـا.ت للقاءهم الذي لا يتكرر إلا مرة كُل عام في مجلس العائلة :
-شوفي يا نغم ، أنتِ بت خالتي وعلى رأسي ورأس رچالة وحريم النچع كُله بـس …
فقاطعته إثر إعتراضه على وضعهم الساطع من وجهه ثم من يديه الموضوعة فوق حزامه الجلدي ، من تـ.ـو.تره البينّ وكأن واقفًا على موقد من لهب وقالت :
-واضح إنك مچبور زيي !!
راق له دخولها بأصل الموضوع بدون مقدmـ.ـا.ت وقال :
-زين قوي ؛ قص الحديت أبرك من ترقيعـه ..
هزت رأسها بِثقل :
-والمطلوب مني عشان نفضوها سيرة !!
-ريحتيني ، يعني إنتِ كمان مش عاوزة يبقى خلصانين ..
جاوبت بشحوب وجهها :
-أنا كلمت خالي وقولتله أنا مش راضية بس هو يهمه رضا أبوك ..
-يبقى تكلميه تاني وتالت عشان خليفة العزايزي مستحيل يكـ.ـسر كلمة قالها .. وتصممي على رأيك..
فأكملت حديثها وهي تتأكد من إحكام حجاب رأسها :
-يعني رمـ.ـيـ.ـت الكورة في مِلعبي !! متعتلش هّم الچوازة دي مش هتتم ..
تنهد بـ.ـارتياح لتحسس نسيم سُحب الحرية تقترب منه ؛ فقال بامتنان :
-هيبقى چميل مش هنسهولك طول عمري .. وربنا يرزقك بالأحسن مني ..
بادلته بابتسامة جـ.ـا.مدة لا تحمل إلا الخيبة :
-مافارقاش .. عن إذنك ..
••••••••••••
~دوار خليـفة العزايزي .
-“مالك يا حچ ؛ متأخد ليـه ؟”
جاءت أحلام صاحبة الظهر المنحني لعنده إثر رؤيته جالسًا مستندًا على عكازه بعقل شارد في ملكوت الله ، رفع جفونه لعندها وقال بحـ.ـز.ن وخيم :
-كلمت حـد من كام يوم معرفة يدعبس على أخبـ.ـار الچوهري ، لساته قافل معايا وقالي إنه مـ.ـا.ت من زمن ، وولده كَمان مـ.ـا.ت من ٤ سنين .. حسيت الدنيا اتقفلت في وشي يا أحلام ، وشكلُ السِر هيدفن معاي ..
خيم اليأس فوق ملامحها وهي تردد بأسفٍ :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم هز رأسـه بخيبة أمل :
-من ساعتها وراسي دارت ، بس عرفت أن مرة ولده داكتورة كبيرة فـ سكَندريـيـه ، هاخد چاير ونروحولها بعد فرح هيـام ..
تعلقت أحلام بقشة الأمل كالغريق:
-طب ما زين ديه يا حچ ، يمكن عِنديها علم بحماها ولا چوزها كان يعرف حاچة عن أبوه !!
-ولو معندهاش !! يبقى خِلصنا والسر هيمـ.ـو.ت مع اللي مـ.ـا.توا يا أحلام ..
أسهبت أحلام فكرًا بالأمر وقالت بخزى :
-المشكلة أن البت كبرت وياعالم فين أراضيها متچوزة ، حية ولا مـ.ـيـ.ـتـة ..
أكمل بيأس :
-اتربت في الشارع ولا في ملجئ !! مـ.ـو.تها كان أهون يا أحلام من مصيرها المچهول اللي عايشاه ..
-ربك حنين قـوي يا حچ ، واللي نچاها من المـ.ـو.ت آكيد كاتبلها قضا تاني يليق برحمته .. بس ..
وقف على أخر كلمة لها متسائلًا :
-بس أيه يا أحلام !!
-إمبـ.ـارح خطرت على بالي قصة البت دي ، إحنا لو لقيناها هيكون ايه حلها !! البت كيف هترچعلنا ويرچعلها حقها ..
تأوه الشيخ لِثقل الهـم على عاتقـه وقال :
-لو مكنش مـ.ـو.تها يبقى عدلها تتچوز واحد من الوِلد من ولادي لإني سترت على اللي عمله ماهر ، ديه غيـر الفديـة اللي هتدفع .. بس المُصيبة مين هيوافق يشيل شيلة زي دي يتعايـر بيها هو وولاده لآخر العمر .. العـار يده طايلـة يا أحلام والظُلم واقع واقـع ..
ربتت أحلام على كتفه مواسيـة :
-أقولك أيه يا حچ سيبها لتدابير ربك ، هو القادر يحلها بطريقـة محدش يتخيلهـا .. أحنا نشوفوا كلام الست الداكتورة دي ويمكن يكون عندها الحـل ..
بُتر ساق الحديث بقدوم ” رؤوف ” الذي ألقى عليهما التحيـة وقال متسائلًا :
-أومال هارون فينـهُ .. بكلمو مش بيـرد ..
تفوه أبيه :
-أنا مش واعي له من الصُبح ، يمكن راح المُصنع !!
جاء جابـر يركض إليهم وهو يحمل قُفة مشاكل النجع :
-يا حچ خليفـة سي هارون فين البلد والع حريقـة .. مُشكلة كبيرة ولازمًا تتحـل ..
-هات العواقب سليمة يا ولدي !!
فتدخلت أحلام مستفسـرة :
-بالحق هارون راح فين ، ده حتى مصبحش عليّ !!
ثم نظرت لجابر :
-سألت هيثم عليه يا چابر؟! بس هو يعني سي هارون معاودش لحد دِلوق !!
غمغمت أحلام لتفهم منه :
-يعني أنتَ شوفته الصُبح ؟!!
خر جابر معترفًا :
-أيـوة ، كان طالع هو والاستاذة الصبح وقال مش هيعوق .. افتكرته جيـه ..
هزت أحلام رأسها وهي تُطلع خليفة بشك يحوم حول حدق عينيها وقالت لتغير مجرى الحديث :
-ما تقعد يا رؤوف يا حبيبي واقف ليـه !!
-لا يا عمتي ، هابقى أفوت عليكم بعد العشية يكون هارون عاود .. عن أذنكم .
ما انصرف كُل من جابر ورؤوف الذي جاء ليعرض على هارون أزمته مع نجاة كي يتوصلون لحل ، فجاء هيثم من الباب الخلفي للحديقة التي يجلس بها خليفة بجوار أحلام ليقول متسائلًا :
-أحلام ؛ هارون فين ؟!
-راح مع المذيعة مشوار ولسه معاودش ..
تخابثت أعين هيثم الماكرة :
-مشوار لروحهم !! من غيري ؟! طب يا هِرن يا وِلد صفية ..!!
ثم رفع نبرة صوته قائلًا لإعلام ابيه :
-النقالات الچديدة دخلت المخازن وكانوا عاوزين أمضته ..
••••••••••
~بأحد المقاهي الشعبية ..
-شوفت اللي حُصل !! قال لك البت فتحت راس راجـ.ـل طول بعرض ..
فأتبع الآخر بشمـ.ـا.تـة :
-ومش بس إكده دي زفته بفضيحـة هو وناسه .. وخلت سيرتهم على كل لسان ..
فأكمل الآخر :
-وحتى المچلس ما عرف ياخد معاه حق ولا باطل ، والمصـ يـ بـةيا أخوي عامل فيها سبع رچالة وحُرمة علمت عليه بقُلة ..
جهر الرجـ.ـال بضحك متعمدين إثارة غيرة بكـر وإشعال النيران بجوفه ، حتى جاءت الجملة الآخيرة ففجرت براكينه :
-وجاي يقعد چار الرچالة !! ده أخره قاعدة حريم يتعلم فيها فنون الطبخ ..
ثار غـــضــــب بكر فأصبح كالعاصفة التي ضـ.ـر.بت بلدة على حين غُرة ، هجم على ياقة جلباب الرجل الساخر منه وهو يعنفه قائلًا :
-أنتَ ادبيت في رأسك !! أنت ما تعرفش أنا مين !!
فقهقه الآخر بسخرية :
-هتكون مين !! المضروب بالقُلة والمصفـوع من مراة !!
لكمه” بكر” نيران غـــضــــبه حتى هجم عليـه بقية الرفاق ليفصلونه عن صديقهم الذي صاح :
-بدل ما چاي تتشطر علينا روح اتشطر على اللي خلت سيرتك لبانـة وسط الخلق …
تجمهر الرجـ.ـال بوجه بكر الذي أحس بضعف قوته أمام جمعهم وهو يراقب سخريتهم منه واستهتارهم بهِ ومعايرته بما فعلته ابنة عمه ، فأشار لهم :
-بكرة تعرفوا مين هو بكر فياض ، هعلمكم الأدب نفر نفر ..
-بدل ما تعلمنا أحنا روح اتشطر على بت عمك اللي ماشية مع ولاد خليفة العزايزي وهتخلي وشك في الأرض من الكسوف ..
فأكمل الأخر ساخرًا :
-ماهي مش هتسيب العُمد وترضى ببكار .. ما لو مش كد الشيل واتنين حريم قُولنا نشيلو إحنا بت عمك خسارة وأهو جحا أولى بلحم توره ..
لم يستجدي نتيجة من انفعاله إلا انها ثار أكثر على رقية ابنة عمه وبات تاره معها أكبر من روثها وطمعه بل أصبحت سُمعته بسببها علكة تتبادلها الأفواه .. بكر مثله كمثل أي رجل ضعيف الشخصية عنـ.ـد.ما يهزم من الجميع يحمل رصاص خيبته ليفرغها بالنساء .. جر طرف جلبابه متوعدًا :
-أما وريتك يا رقية …؟!
••••••••••••
~لأقصـر ..
قال أحدهم ذات مرة :
“يتبيَّن لك في نهاية المطاف وآخر المساعي، أن لذَّة العيش ما كانت في الوصُول بقدر ما كانت في عيش اللحظة واختلاسها، والاستمتاع بما في يديك الآن، موكلاً الغد والمُستقبل إلى ما حملته أقدارك”
كانت تجلس بداخل صندوق سيارته الخلفي بأقدام متدليـة كطفلة في كنف أبيها تتناول ” ساندوتش من الشاورما ” الملفوف بين يديها الصغيرة وهي تُسدد لذلك الواقف بجوارها النظر وتعبر عن مدى سعادتها :
-أنا تعبتك النهـاردة ومعطلاك عن شُغلك كمان ، وحاجة كمان الشاورما تجنن ، أنتَ بتيجي هنـا على طول !
لكت اللقمة في فمـه وهو يتابع طريقة شفتيها و نطقها للكلمـ.ـا.ت فيزيده رغبة في سماع المزيد ، صمت لبرهة متلقيًا حديثها بثغر باسم :
-المصالح مسيرها هتتقضي ، اليوم بكرة بعده .. هتخلص ؛ المهم تخلصي اللي چيتي عشانو ..
-أنتَ صح .
أيدته بسعة صدر وأعين لا تتزحزح من عليه ، فغيرت مجرى الحديث متسائلة :
-لما اتقابلنا في القسم أنت ليه قولت لشريف إني ضيفتك وكذبت عليه ، ليه عملت كده ؟!
كاد أن يتفوه ولكنه هرولت لتُقاطعه :
-جاوب بصراحة ، أنتَ كُنت قاصد تبوظ لي حياتي !!
انتظرها حتى تنهي جملتهـا التي ختمتها بقطمة من الخبز بيدها ثم هبت متذكرة وهي تخفي أثر الطعام من فاهها بلهفة :
-وحاجة كمان ، أنتَ ليه كذبت عليا وماقولتش إنك العُمدة في أول مرة اتقابلنا فيها .. ؟!
رفع حاجبه مستفسرًا :
-خلصتي ولا في أسئلة تانية ؟!
بخفه روح أجابته :
-خلصت !!
اتكئ على طرف سيارته وقال بصوت رخيم :
-في القسم ؛ مكنتش مقصودة ولما شوفتك افتكرت إنك چاية كضيفة متوقعتش إنك خطيبته .. وكنت بغلوش على عملتي فجات فيكي لحسن حظك ..
-يعني أنت ضـ.ـر.بت عليهم نار بجد؟!
-كان تار بايت ولازمًا يترد ، أصلو العبد لله سداد حقوق ..
ثم دار بوجهه لعندها وأتبع بفخامة :
-وأخد الحق ده حِرفة ..
تأرجحت عينيها من فوق لتحت ثم قالت بمزاح :
-يعني استغليتني ، يعني ليا عندك أنا كمان حق .
-و أديني بـ رُده !!
ملء الضحك فاها :
-أيوة صح !! وبعدين .. إجابة السؤال التاني بقا ؟!
فكر للحظة بالأمر لمواجهة نفسه بتلـك الحقيقة وعن السبب الرئيس لانكاره عن صفته الأصلية ؛ حتى قال :
-يمكن كُنت مفكر إني مش هقابلك تاني ..
ردت بعفوية :
-وده يديك الحق تكذب ؟!
ثم غمغمت بهدوء وكإنها تعد ترتيب الكلمـ.ـا.ت برأسها قبل النطق بهـا :
-يعني ده يدينا الحق إننا نكذب على أي حد متأكدين إننا مش هنقابلو تاني !!
برر موقفه :
-طالما مش هنشوفه تاني يبقى هيفيده بإيه يعرفني ؟!
هزت رأسها يمينًا ويسارًا غير مقتنعة برأيه وأكملت بشرود :
-بالعكس ؛ شايفـة إنهم أكتر ناس ليها الحق أننا نعرفهم ونفتح لهم قلوبنا ونحكي لهم عن نفسنا لإنهم أكتر ناس هيدونا نصيحة حقيقية ، من غير حقد ولا غيره ، شايفة أن أصدق المشاعر بتكون بين الناس اللي مش هيتقابلو تانية لانهم عارفين ده فييدوا كل حاجة بصدق ..
داعب خصلة من شعـرها وأكملت :
-زي طنت اللي بنقابلها في المترو ، عمو اللي بيقرأ الجنرال في القطر ، الست الليدي الشيك اللي بنشوفها في الطيارة و اللي شايفة الحياة من فوق وبمنتهي الحُرية !! إحنا كمان محتاجين رأيهم ..
تناول آخر قطعة من خبزه ثم تخلص من ورقها بسلة المهملات المعلقة بأحد الأعمدة ، عاد إليها وهو ينفض كفيـه متأهبًا لإمساك زجاجة المـاء وقال :
-غلط ، ربنا خلق لك عينين وعقل تشوفي بيهم الحياة ، محدش هيشوفلك حياتك بعينه هو !! النصايح دي بتكون انعكاس لفكر وبيئة شخص مناسبة لحياته هو مش ليكِ أنتِ !
رغم إقناعه بوجهة نظره لكنها جاءت لتُعارضه بشكل راقي :
-يمكن ده تفكيرك عشان أنتَ مثلا بتفكر بعقلك طول الوقت ، أما أنا شايفـة الحياة دايمًا بقلبي وبس .. عشان كده وجهات نظرنا مختلفة!
فرغ من ارتشاف الماء وقال :
-وديه بردك مش صح !! خصوصًا في مهنتك ، لازمًا عقلك يكون شغال طول الوقت ..
-أنتَ بتشتغل أيه ، غير عُمدة لبلدكم .. لان عارفة أنا الموضوع ده ؟!بس آكيد كنت تشتغل حاجة جمبها.
قفزت على جراحه بأظافر رجلها الناعمـة فخدشت جـ.ـر.حًا جديدًا بدون نية منها ، طافت عينيه بمكان حولهم والكائن خلف المعبد ، تعلقت أعينه بسرب الطير الذي يطير من فوق رؤوسهم كـطيران أحلامه ككل ليلة وقال بهدوء :
-كنت مُعيد في كُلية حقوق ، اشتغلت ٥ سنين بعد ما خلصت چيشي وظروف للعمدية خلتني أسيبها .
وثبت من مكانها لتلمس الأرض بانبهار :
-واو !! كُنت معيد في الجامعة !! ده بجد عشان كده عندك الكتب دي كلها ، يعني أنتَ كنت بدرس للطلبة وكده ؟! وسبتها ليه ؟! هو ماينفعش تبقى دكتور الصبح وعُمدة بعد الضهر ؟!
أراد أن يطوي صفحات ماضيه ولا يحبذا العبث بداخلهم ، فـمد يده لأعلي ليقفل صندوق السيارة متحاشيًا النظر إليها :
-يلا عشان نلحقوا نعاودوا قبل العصر ..
تمتمت بفضول ينعكس ببؤبؤ عينيها المتسعة :
-أنتَ ما جاوبتش على سؤالي على فكرة !!
رد باختصار حاملًا غصته :
-لا مينفعش ..
-ماينفعش تجاوب ولا ماينفعش تبقى دكتور وعمدة ؟!
غير مجرى الحديث متسائلًا بأعينه التي يغازلها خيوط الشمس :
-عچبتك الشاورما ؟!
-لذيذة …
هزت رأسها بإعجاب وكأنه ذكرها أن تأخذ منها لقمة جديدة ، حيث هتفت متسائلة :
-شكلي كان حلو في الڤيديو !!
رد بنمطية لعجزه عن المبالغة في الوصف :
-عادي …
-نعم يعني مكنتش حلوة ؟!
تحرك نحو مقعد القيادة فلحقت به :
-انا قولت إكده !!
قفلت باب سيارته الذي فتح بتمرد على اسلوبه المتجافي :
-لا ما قولتش ، بس ممكن ترد وتقولي كنت حلوة ، حلوة خالص ، مبهرة ، تجنني !! ولا أنت ما بتعرفش تقول كلام حلو !!
-لا أنا معرفش أكدب ..
ردت جملتها بصميم قلبها وهي تعارضه بتمرد على تماديه في الوصف :
-لا أحيـه بقا !!
جحظت عينيه لتلقائيتها في قول الكلمة فتراجعت للخلف حتى ارتطم ظهرها بأحد نوافذ السيارة وأتبعت بحس فكاهي :
-اه اكدب عادي ، أنا بحب اللي يكـ.ـدب عليا مادام هيبالغ في حبي !!
ثم تعرقلت بخناجر أهدابه بالمتراقصة وحكت جدار عنقها مصلحة الأمر :
-قصدي في مدحي …
رفع حاجبه الأيسر وبنبرته الآمرة مشيرا لسيارته :
-اركبي .
عارضته بإصرار وهي ترفع كفها بوجهه لتسهب بالأمر :
-لا استنى كده !! أنتَ شكلك مش بتعرف تتعامل مع ليدز (ladies )خالص !
استند كفه على سقف السيارة خلفه محافظًا على قانون المسافات بينهما وقال برزانة متعمدًا اثارة استفزازها :
-وهما فينهم دول ؟! مش شايف حاچة قِدامي ؟! ولا قصدك على الخواچات اللي شوفناهم چوه ؟!
رفعت جفونها لتتشابك بأنظاره إثر استهتاره بأنوثتها ورقتها وقالت بنبرة متقطعة :
-هو أنت شايفني بشنب قُدامك !!
انفجر ضاحكًا لأنه توصل لمـا يريده معها ولا يعرف سببه ، لماذا يراوغها دومًا ، لمَ تناسى أشغالـه بجوارها !! لِم يُلاطفها ويجاريها في الحوار وكأنها رفاق من زمن !! لِم كل هذا الوقت لها وهي أول إمراة بعد أحلام ترافقه السير والخروج !! لِم هي ؟!!
ذابت في صحن ضحكته المتفجرة والتي ادت إلى انكماش ملامح وجهه وهي يضـ.ـر.ب كف على الأخر لعفويتها الزائدة والتي تاهت في رد فعله عليها بين رجولته الطاغية وبين روحه الفكاهية التي يضحك بها ، لتخرج عن صمتها وعن فصل الإعجاب به متناسية سبب خناقتهم الأساسي لتردف بتيهٍ :
-ضحكتك حلوة على فكرة …..
أبلتع مجاملتها اللطيفة وهو يمسح بالمنديل قطرات العرق المتصببة من جبهتـه ليقول برسميـة :
-ربنا يعزك ..
أدركت للتو ما قالتـه وكيف تمادت في مدحه ، فلهثت لتُبرر بعفوية :
-لما تشوف حاجة حلوة اتعلم تقول عليها حلوة ، وتمدحهـا ، زي ما أنا عملت بالظبط ..
تلاقت الأعين لتُكذب أقاويـل الألسن المزيفة والتي تنطق بكلمـ.ـا.تٍ تتنافى مع منطوق القلوب التي دعت أمرها لمرايا العيون التي خُلقت بنقاء طفل لم تندس روحه الأيام .. يبدو أن الاثنان جاءا خير مُعلم لبعضهما ، جاءت لتؤثر بطباعه القاسيـة واستخدامه الدائم لسيف القوة وتجاهله لحقيقة خلق قلبه الذي يفيض بالشعور غير إنه خُلق ليضخ دmًا فقط ، جاءت لتعلمـه بأن للقلوب زهور يفوح عِطرها من بوابات الكلمـ.ـا.ت ، أما عنه جاء إليه ليعيـد تشكيلها من جديد بصورة أقوى ، أخشـن ، أشرس لمواجهة أنياب الحياة التي تمضغنا بين فكيها … قطع وصال النظرات الفائضة بينهم وأردف بهدوء تـام :
-اركبي …..
•••••••••••
-” أيوة يا ما ، إحنا وصلنا للخياطة أهو وهيام عتقيس الچلاليب ”
أردفت هاچر جُملتها الأخيرة وهي تقفـل باب السيدة التي يخيطون عندها ملابسهم باستمرار والواقع مكانها بخارج نجع العزايزة ، خرجا الأخين معًا برفقـة نجاة التي وصلتهم بسيارتها ، ردت صفية الغارقة في رص جهاز ابـ.ـنتها :
-طب متعوقوش ، وخلي نچاة تسوق على مِهلها ولا ابعتلكم واحد من الوِلد !!
-لا ياما مفيش داعي ، هتخلص ونعاودوا طوالي ..
-طب لاغيني كُل هبابة..
لبت هاجر طلب أمها بطاعـة وهي تتحرك صوب سيارة نجاة المصفوفة لتأتي بالحقيبة الأخرى التي بدها ملابسهم ” للحنة ” مالت لتأخذ السلة البلاستيكية من داخل السيارة فإذن بسيارة متعمدة تسيرت بأقصى سرعة لتلمس عجلاتها بؤرة المياة فنثرت قطرات الماء الملوثة على هاجر التي هبت صارخة :
-الله يخربيتك أنت غـ.ـبـ.ـي !!
توقفت السيارة على جنب فظهر منها شريف الذي نزع نظارته وأقبل إليها متعذرًا :
-أسف ، كنت بتكلم في التليفون ومخدتش بالي..
رمت السلة من يدها بداخل السيارة وصاحت بوجهه :
-والله !! يعني سايق وبتتحدتت في المحمول ولابس نضارة شمس وكمان عاوز تاخد بالك !! هتاخد بالك من ايه ولا ايه يا حضرة أنت !!
استغل شريف أسلوبه الاستغلالي ليميل قليلًا نحوها ويقول معتذرًا :
-أخد بالي أن في قمـر واقف على شمالي !!
لم يتحرك بها شعرة إثر رومانسيته المزيفة وقالت بسخط :
-لا أنت بس خلي بالك من الطريق وهنكون شاركين لخدmـ.ـا.تك والله !!
ثم استدارت لتأخذ حقيبة الملابسة فاقترب منها خطوة وقال :
-قولت أسف وبعدين هو القمر زعلان ليـه ؟!
لملمت جمر غـــضــــبها :
-لا دا أنت قاصد يتقل منك !
رسم ضحكته المُخادعة على محياه وهو يقول :
-بتزعلك قمر !! طيب ما تقوليلي اسمك ونتعرف وو
صفعت باب السيارة بقوة وهي تهتف بغـــضــــب :
-شكلك جاي تتسلى ، بس حظك جابك مع الشخص الغلط ..
مد يده ليصافحها وبنفس الملامح الخبيثة :
-الرائد شريف أبو العلا ، رئيس المباحث هنا .
لم يتحرك بداخلها ساكن رغم وسامته التي يبالغ في وصفها بنات مدينته ؛ إلا أنها استقبلته إعزازه بنفسه بتقليـل وقالت ناصحة :
-طب خاف على دبورتك وكُل عيش في بلدنا أحسن أخواتي لو شموا ريحتك هيطيروك أنت وهي !!
كانت تلك آخر جُملة تفوهت بها هاجر لتلقي بداخله شرارة حبه لاستكمال اللعبة التي قطعها على نفسـه عنـ.ـد.ما تحرى عن هارون وأخوته وعلم بهوية هاجر الذي أخذ يتتبع خُطاهم منذ خروجهم من كمين النجع وكأنها قُدmت له على طبق من فضـة ، ارتدى نظارته الشمسية وقال بمكر وهو يحرق ظهرها بأسهم أنظاره الشريرة :
-كده يحلو اللعب ..
•••••••••••••
~أمام منزل الحج أبو الفضـل .
يتوارى ” بكر” خلف أحد الأشجار منتظرًا رحيـل ” هلال ” الذي أحضر كافة الطلبـات التي تحتاجها السيدة صفاء وألح أن يأتي بها بنفسه بعد صلاة الظهر ، في اللحظـة التي غادرت فيها سيارته من البيت جر الأخير ذيول مكره وهو يصفع باب بيتهم بعداونية :
-عاچبك أنتِ المسخرة دي !! راچل غريب داخل خارچ بيت عمي وأنا زي الأطرش في الزفة !! اسمعي يا رِقية أنت وأمك ومن غير يمين ، ما هيخلص الأسبوع إلا وأنت مرتي وفي بيتي ، ووريني هلال وِلد خليفة هيعمل ايه !!
ثم رفس الباب الذي يختبأ خلفه الام وابـ.ـنتها :
-عال والله بقا صاحب البيت جاي رايح على راحته ؟! ومداري ورا العمة والچلابية وياعالم ناويين على أيه ولا بيچي إهنه ليه !! ديه في خيالك يا رقية !! وولد خليفة أنا هعملو الأدب ، وشرف أمي ما هسيبكم تتهنوا ..
صاحت أمها من وراء الباب المقفول :
-ياولدي حـ.ـر.ام عليك ديه كلام يخربيب بيوت يا بكر .. وحد الله .
صاح متوعدًا :
-وأنتوا لسه شوفتوا خربان بيوت !! دانا هطربقها على روس الكُل ، بحق بتك اللي خلتني مقدرش أرفع راسي في النچع أنا هوريها ….
هتفت رقية بغل وهي تسند رأسها على الباب وتتلصص السمع :
-ولا تقدر تعمل حاچة وأعلى ما في خيلك أركبه ، و يلا غور من إهنه …
-هتشوفي يا رقية ، ورحمة أبوكي وأبويّ
لهخليكي تحفي وراي عشان اتچوزك …
هتفت متعمدة إثارة غـــضــــبه :
-خف جعجعة وحِل عن سمانا وإلا المرة دي هقل منك بحق وحقيقي يا بكر ..
لهث أمام بيتهم ليقول آخر جملته :
-هتشوفي ، هتشوفي يا رقية يا بت عمي ، أما خليت راسك المرفوعة دي في الوحل مبقاش بكر ولد فياض ..
••••••••••••••
حـل المسـاء وعاد هارون برفقـة ليلة إلى بيت العزايزة وما أن رأت ليلة غرفتها تناست تمامًا أمر الأقراص المهدئه حيث اكتفت بنزع حذائها والتوسد بـ.ـنتصف فراشها من مشقة رحلتها التي لم تخلٌ من شِجارها مع هارون ومخالفته الرأي دومًا، أما عنـه انطلق في أرجاء نجعه لمباشـرة بقية مهامه المتراكمـة فوق رأسه بمساعدة هيثـم أخيـه … أما عن هاشم الذي اطمئن قلبه رفض نغم له وأحس بأن غُمة صدره قد انزاحت ، كان جالسًا برفقة رؤوف بحديقة منزلهم يتحاورن حول الأخبـ.ـار والأحداث الناشبة بسيناء وغيرها من مشاكل البدو بمرسى علم حتى غيـر رؤوف مجرى الحوار الدائر بينهم :
-هارون فين من أول اليوم !! هو الواد ده خطب ومش هنعرفوا نتلايمو عليه ؟!
أشعل هاشم سيجارته التي رماها بفمه وقال :
-لا مش هارون أخوي ، بيقولوا في مشكلة بيحلها.. قولي ناوي على أيه مع نجاة!!
تنهد رؤوف بكلل :
-كُل خير ، على فكرة أنا فكرت في رأيك ولو اتقفلت الدنيا هعمل زي ما قولت لي !!
عارضه هاشم :
-وفكرك نجاة هتوافق !!
-لازم توافق ، مفيش حل !!
دعبس هاشم وراء مخططه الذي يخفيه كي يرى عواقبه بعين ابن عمه :
-ولو اتكشف !!
-ايه هيقــ,تــلونا !! ولا هيطردونا من النجع ؟! كله و.جـ.ـع يا هاشم ، ومفيش و.جـ.ـع زي و.جـ.ـع القلب.
شجعه هاشم قائلًا :
-وأنا شاهد … قول يلا وهتلاقيني في ضهرك ..
جاء صوت حمحمة هارون في تلك اللحظة فهمس له رؤوف محذرًا :
-اقطم على الحديت هارون جيـه ….
شـ.ـد هارون مقعده وشارك مجلسهم قائلًا :
-متجمعين عند النبـي .. خير !!
-أخيرا ظهرت ؟! فينك من بدري ..
سحب سيجارة من عُلبة أخيه وأشعلها بضيق بعد ما تجاهل اتصال زينة وقال :
-إهي مصالح !! عاودت مـ.ـيـ.ـتى !!
هاشم بانفعال:
-الصبح .. واتفاجأت امك قرت فاتحتي .. صفية مش هتبطل حركاتها دي يا هارون !!
تأفف هارون من تصرفات أمه التي تود أن تورطهما دوما وقال :
-أهي دبستك معاي ، يلا اهي چوازة والسلام كبر راسك .. نغم چدعة .
-بس أنا مش رايد نغم يا هارون ، ولما اتحدتت معاها لقيتها هي كمان مش رايدة .. هو الچواز بالغـ.ـصـ.ـبانيـة ؟!
-يبقى أخلع خفيف خفيف قبل ما تتورط ..
كاد أن يجوابه ولكن قطعه رنين هاتفه باسم ” البكباشي ” فأخذ هاتفه على الفور وانسحاب مستأذنًا :
-معاي مكالمة ، اسيبكم ..
أفسح هاشم الساحة لابن عمه كي ينفرد بأخيه ، فاستغل رؤوف الأمر ومال نحـوه :
-هارون عاوزك ..
-خير !!
-عاوز اتچوز نجاة !
قاطعه هارون ليذكـره :
-وانت داري بالأعراف ، لو اختارتك تسيب ولدها لناسه ، ومفتكرش نجاة هتضحى بولدها ..
-ما هو لازمًا يكون في حل !!
نفض هارون عبق سيجارته بالأرض واكمل :
-أخو جوزها لو سمع انها غاوية چواز هيتجوزها هو والحق معاه ..
-هارون عقولك نشوفو حل مش تعقدها !! ديه ظلم .
رد هارون بكلل إثر صداع رأسه الذي يصدح من طول يومه :
-والله يا رؤوف لو حليتها ودي مع ناس چوزها انا معاك ، محدش هيعارضك وتبقى شفعت في المسكينة دي ..
ثم وثب قائلًا :
-انا هروح أنام عشان مش واعي قِدامي ..
••••••••••••
~بعد مرور يـوم …
‏‫
جاءت الليـلة الموعود وهي ليـلة ” الحِنة ” للعروس .. دقت الطبول بدوار العزايزة واجتمع النسوة بساحـة القصر تحت أجواء من المرح والفرحـة وصدح أصواتهم المهللة .. كانت ” ليلة ” بغُرفـة هاجر تقيـس جلبابها الأحمر القاتم الصعيـدي الذي تناقس مع بِنيتها الأنثوية ومنحهـا مظهرًا جذابًا وأنيقًا .. توقفت أمام المراة لتعقـد حزام خصرها المطرز بمساعدة هاجر التي تَشيد بجمالها وتناسب الزي لها .. فرغت من عقد رابطة خصرها وهي تتأمل جمالها المعكوس بالمرآة :
-يعني بجـد شكلي طالع حلو !!
ترنحت هاجر في جلبابها الأزرق الجميل وقال بإنبهار :
-تقولي للقمر قوم وليلة تقعد مطرحك ..
لملمت شعرها للوراء وهي تشبك الخصل ببعضهما بـ” التوكة ” الفضيـة ثم وضعت القليل من الحمرة فوق ملامحها ليبرز جمالهـا وبراءتها أكثـر .. فتدخلت هاجر قائلة :
-يلا تعالـي نشوفوا العروسـة ..
تابعتها ليـلة بمرحٍ بعد ما قضت ليلتها مع الفتيات تشاركهم فرحتهم والضحك والرقص وغيرها من التفاصيل، رغم انشغال وقتها وعقلها التام بما يُحيط حولها إلا انا أعينها طول الوقت كانت تبحث عن هارون ، تفتش عنه هنا وهناك ، تعلقت أعينها بمدخل الباب الذي لا يأتي به أبدًا طول النهار ، لا تعلم سبب تلك التصرفات المراهقة التي تغمرها كأنها فتاة صاحبة السادسة عشر عام ولكنها بررت لنفسها بإنها تشعر بالغربة في ذلك المكان الذي لا تألف غيره ، غيره هو هارون العزايزي ..
قطعت الممر الخاص بالطابق العلـوي لتصل للغرفة التي تقطن بها العروس مع أحدى فتيات النجع المختصة بتزينها ، دخلت هاجر الغرفة وما أن وطأت أقدامها بالداخل اطلقت العديد من الزغاريد وكلمـ.ـا.ت التهئنة والمبـ.ـاركات حتى تدخلت نجاة التي تعد رسومـ.ـا.ت الحنة :
-عقبال فرحتنا بيكي يا هاچر …
قبلت هاجر أختها صاحبة الشعر المفرود والحمرة الخفيفة وقالت :
-عروستي القمر …
-عقبال فرحتي بيكي يا حبيبتي مع اللي يستاهلك …
هنا جاء صوت ضـرب النيران من كل صوب وحدب ، ركضت أحدى الفتيات نحو النافذة وصاحت :
-هارون بيه وهاشم بيه عيضـ.ـر.بوا نار ..
لم تكبح فضـولها أكثر من ذلك بل هرولت نحو النافذة لتراه في جلبابه الأبيض رافع فوهة سلاحه لأعلى ويفجر العديد من الطلقـات بالهواء ، فجأة تحولت عينيها الباحثة عنه إلى أعين ثابته تتأمله بإعجاب وانبهار بتلك المعالم الرجوليـة الجذابـة وهو ينافس هاشم أخيه بضـ.ـر.ب النار بين أجواء لطيفة من الفرح والمرح .. لقد تبدأ الرحلة القلبية نحو الغـرق عنـ.ـد.ما تقف على حـد عينيـه وتُطيل النظر بعد فترة طويلة من البحث .. جاءت هاجر من خلفها لتهتف بفخر بأخوتها :
-أچمد أخوات عروسة في الدنيا ..
في تلك اللحظة فُتح الباب بصوت الزغاريـد المندلعة من زينـة وهي تُهلل بسعادة لا توصف ، اول ما فعلت رفعت وشاح رأسها لتتباهى بشعرها الطويل المموج أطرافه وهي تصيح :
-عروستنا الزينة وجمالها ديه جاي من ورد جنينة..
ثم مالت على هيام وعانقتها وهي تُقبلها :
-الف بركة يااحلى عروسـة ..
تحمحمت هاجـر بضيق عنـ.ـد.ما رأت زينة التي لا تتقبلها أبدًا وقالت باختناق :
-اهي زينة الهم چات ..
تفاجأت ليلة من ذم هاجر لخطيبة أخيها وقالت بهمس:
-أنتِ مش بتحبيها ولا ايه !!
تمتمت هاجر بحذر ألا يصل صوتها إليهـا :
-زينة هبلة بس مشكلتها مش عاوزة حد يشوف غيرها ، هي وبس في اي قعدة ، شايفة نفسها مفيش بت في حلاوتها .. وو
فابتلعت هاجر بقية كلمـ.ـا.تها وهي تدنو من هاجر لتعانق ، وما أن رأت ليلة بجوارها عاندت وبكيد نساء لكزتها بكوعها في كتفه فابتعد ليله عنهم متأوهة من شـ.ـدة الضـربة التي نالتها منها بغـ.ـيظها ، ضمت زينة هاجر عنوة وهي تربت على ظهرها :
-عقبالك يا داكتورة .. عقبالك يا ست البنات .
عاتبها ليـلة بغـ.ـيظ :
-مش تاخدي بالك الله !!
ابتعدت عن هاجر وهي تعتذر لها عن عدm رؤيتها المزيفة :
-ااه هو أنتِ ، دا أنتِ لسه مأنسانا !
بادلتها ليلة بابتسامة مزيفة :
-ااه لسه ، ده لو مش هيضايقك..
اكتفت زينة بنظرة كريهة لها من رأسها للكاحل وهي تعبث بشعرها لتُقلد “ليـلة” وتسريحة شعرها ونظرت لهاجـر وقالت :
-هارون لساته مكلمني وقالي اتوحشتك يا زينة ومتعوقيش ومستنيكي عشان عيتوحشني .
أسبلت هاجر أعينها بسخط :
-غريبة ، هارون مش بالخفـة دي والهطل داه !! كنك مجودة هبابة يا زينة؟؟
اخفت زينة غصة خيبتها وأكاذيبها وقالت بغنج متعمدة إثارة غيرة ليلة وهي تحدق بها :
-الحب ياهاجر يعمل أكتر من إكده ، مش عاوزة أقولك من امبـ.ـارح وهو رن رن خوتني مكالمـ.ـا.ت كنه مش مصدق أنو فاتحتنا اتقرت ..
تدخلت ليـلة بعفوية وهي ترجع خصلة من شعرها خلف أذنها وقالت:
-غريبة ، أنا كنت مع هارون بيه في لاقصر إمبـ.ـارح طول اليوم مستأذنش ولا دقيقة انه يكلمك !! أنا مش بكذبك بس ممكن يكون اتصل بيكي فعلا لما رجعنا .. أو أنا مخدتش بالي كُنت مشغولة بالتصوير !!
جحظت عيني زينة بنيران الغيرة:
-يعني ايه أنتِ وهارون لحالكم في لأقصر !!!!
فأكملت هاجر بخبث :
-ليه !! هو وهو عيكلمك طول اليوم إمبـ.ـارح موقعش بلسانه وقالك إنه في لاقصر !!
هنا تدخلت نجاة بعد ما تبادلن كل من هاجر وليلة الضحك على عبث ملامحها فجأة وهي تستشيط غـــضــــبًا وقالت:
-يلا ننزلو ، الكل مستنينا تحت وبطلو حديت فاضي …
~بالأسفـل .
انسحب هاشم من أجواء الأحتفال مع رجـ.ـال قبيلته وأخوته ليتوارى خلف أحد الأشجار ليتحدث مع رغد التي هاتفته لتبـ.ـارك له على فرحة أخته وتمدح بجمال هيئته من خلال الصور التي أرسلها لها قبل قليل .. غادرت رغد غرفتها لتنتقل للشرفة وهي تقول :
-أيه الجدع القمر ده اللي أنا متجوزاه، هاشم اياك واحدة تعاكسك كده ولا كده !!
تحمحم هاشم وبرقت عينيه :
-لا متخافيش قلبي مش واعي لوحدة غيرك ، خلي اللي يقول يقول..
-يعني اتعاكست!!
فكر للحظة ليثير معالم غيرتها:
-أكيد ، وأنا شوية ولا ايه، لسه متعاكس من حتة ست كيف البدر ، جمالها جمال فرس عربي أصيل ..
رسمت الضحكة على محياها وهي تعبث بشعرها:
-افضل كده كُل بعقلي حلاوة .. عمومًا هعديها ..
-ولو معدتيهاش هجيلك ونعيدوها سوا..
سألته بدلالٍ:
-هي أيه دي بقا ؟!
تحمحم ليخشن صوته ويرسخ معالم وجهه وهو يقول بثبات :
-ليلة إمبـ.ـارح ..
اطلقت ضحكة انثوية مثيرة زلزلت أوصال قلبه وسألها :
-منزلتيش الشغل .
-بكرة باذن الله ياحبيبي هنزل ، بالحق يا هاشم عايزة أقولك أن مامي مش بتكلمني وزعلانة مـ.ـو.ت على الفازة بتاعتها وأنا بجد مش عارفة أعملها أيه !!
رد بمزاح :
-هتزعلها شوية وتفك، قوليلها البني آدmين عتمـ.ـو.ت يا سامية مچتش على الفازة ..
هبت معاتبة :
-كله من شقاوتك يا سيادة الرائد .. وفي الأخر أصل رغد عندها فرط حركة .. مامي بدأت تصدق بجد وعاوزة تاخدني لدكتور !!
-المصـ يـ بـةلو كانت صدقت بجد يبقى هي اللي محتاچة تروح لدكتور!!
-ياسلام ده ليه بقا؟!
-أصل التكسير ده مش بيحصل غير في وچودي يبقى الحِدق يفهم ، ولا أبوكي مكنش يكـ.ـسر !!
شهقت بدهشة من شـ.ـدة وقاحته وقالت بعتب :
-هاشم أنا كل يوم بتأكد أن صفية كسلت تربيك أمشي كده ، وبعدين اسمه باباكي ، هعلم فيك لامتى مش. كفاية لهجتك اللي بتتغير ١٨٠ درجة دي !!
رفع حاجبه ليمازحها بلطفٍ:
-ماهو لو اسمه بابي يبقى مكنش بيكـ.ـسر فعلًا ، وسامية معذورة ..
أحمر وجهها من جُرئته الزائدة وقالت بانفعال :
-أنت قليل الأدب … ويلا بقا باي باي ..
-استنى !!
-أيه تاني ؟؟
تفوه مستغلًا لكنته الصعيديه في صيغة الأمر:
-عاوزك تطلبي لنا أوردر چديد المرة دي لأجل القديم جيه على هواي ..
ردت بانفعال والضحك يرج صدرها :
-هاشم ، بكرهكك …
~على الجهـة الأخرى .
كان هلال واقفًا برفقة هيثم أخيه الذي يتلصص النظر من الفتيات اللاتي يقبلن على دوارهم بأفواج من كل صوب وحدب ، تهامس في آذان هلال الواقف في صف الرجـ.ـال يرحب بالمدعوين :
-هو أنا ما ينفعش أروح أقف جار صفية وأرحب بالضيوف بردك ..
حدجه بنظرة حادة فبرر هيثم موقفه مستخدmًا حبه للموسيقى :
-معاك أن دولت ضيوف لكن الـ هناك دفوف ..
حذره هِلال بهمس وهو يصافح أحد الرجـ.ـال :
-تأدب !!
-يعني لو تأدبت هتكافئ و هتوديني ؟!
استغفر هِلال بسـره ثم دعا له :
-أسأل المولى عز وچل أن يصلح لك شأنك ..
رفع هيثم كفيه للسماء ليُؤمم وراء دعاء أخيه فوقعت عينيه على دخول رقية وأمها فصاح هيثم فارحًا :
-رقية چات ..
بدون إرادة منه تزحزت عينياه على تلك التي ترتدي فستانها الفضفاض وحجابها الطويل وتقف بمحاذاة أمها تتبادل السلامـ.ـا.ت مع الحجة صفية التي ضمتها لحـ.ـضـ.ـنها ، هرول هيثم لعندهم متجاهلًا نداء هِلال المتهامس ، فحركه عقله للانسياق خلف أخيه أو على الأجـ.ـر.ح تحرك مُتبعًا خُطى قلبه الذي نبض بحروف اسمها من شـ.ـدق أخيه ، هلل هيثم مرحبًا بتلك السيدة وابـ.ـنتها:
-يادي النور ، الداكتورة رقيـة وخالتي صفاء نورونا إحنا على إكده اكتفينا معازيم أصلو جم اللي بيهم كُلهم..
تمتمت صفية بضحك:
-يحظك ياهيثم ، تملي يحب يضحك ويهزر متاخديش منه كلمتين چد .
ربتت صفاء على كتفه لتمدحه :
-بس يسلم يدك يا زين ما ربيتي يا أم هارون ، هيثم ديه ولدي اللي مخلفتوش ..
ثم لمحت هِلال ينضم لمجمعهم؛ فأشادت بخلقه :
-وكله كوم والشيخ هِلال ديه كوم لوحده، راچل مچدع وشهم بصحيح .. يبـ.ـارك لليد اللي ربت.
أطرق هِلال وجهه بالأرض بعد ما اختلس نظرة من الجميلة الواقفة بجوار أمها :
-حيا الله من آتانا وتعطر بقدوه أرضنا ..
مال هيثم على مسامعه بتخابث :
-أنتَ أيه چابك ، هارون هيحش رقابنا ..
ضغط على مقدmة حذائه المخفية تحت جلبابه الفضفاض كي يصمت وتمتم بوجه باسم:
-كيف حالك يا أخت رقية والعـ.ـا.قبة لكِ ..
لكزه هيثم بعظى :
-إكده هتطفش منك .. أنت شكلك حافظ مش فاهم هتچرسنا يخربيتك.
ضغط هلال على حذائه مرة آخرى كي يصمت وهو يتلقى رد رقية بسعة صدر :
-الله يبـ.ـارك فيك يا مولانا ..
ثم مالت على مسامع أمها :
-مش يالا ياما ندخلوا ..
هتف هيثم باعتراض :
-ليه ما أنتو واقفين ، دي جمعة مش هتتكرر تاني ، ده الشيخ هلال بنفسه چاي يستقبلكم !!
ثم حك رأسه وهو يغمغم :
-” ويُعك ”
ردت صفاء :
-فوق راسي يا ولدي ، تشكر كُل مفهومية .
ربتت صفية على كتفـها :
-دا أنتِ اللي نورتينا ، محدش عيشوفك غير فالأفراح أنتِ والبت القمر دي .. اتفضلوا اتفضلوا ..
دار هيثم لأخيه ليعاتبه :
-أنت چاي وراي ليه ! عشان تقولها العـ.ـا.قبة لكِ !! أنتَ أحول ؟!
انكمشت معالم هِلال بجدية وهو ينكر قطعًا اتهام أخيه :
-جئت لاراقب أفعالك كي لا تغرق بجُب الفتنة !
غمز له هيثم بطرف عينه :
-والله ما حد غرقان بجُب الفتنة غيرك ..
ثم رفع طاقية الأزهرية وهمس بأذانه ناصحًا ليعديها بعد ما يفرغ خبث جُملته :
-لما تيچي تصيع متصعش على صـ.ـا.يع !!!
~على الجهة الأخرى .
مال هارون على آذان هاشم الذي يسأله بحدة :
-كُنت فين ومهملني !!
شـ.ـد ياقة جلبابه برزانة :
-شُغل يا هارون يا أخوي ، شغل يجيب كُساح ..
رفع هارون حاجبـه بسخرية :
-لا يا راچل !!
تمتم بآذان أخيه يتهامس مرتديًا زي الشكوى :
-زي ما بقولك ، كـ.ـسر وشيل وحط وهد خيم ووقع عواميد وفتش وقطع وشـ.ـد أجزاء واضـ.ـر.ب .. أخوك شقيان ..
-قلب أمك !!
-ااه والله … صُعبت عليك .
رد عليه هارون بمكر :
-لا .. بس اظبط ..
-ما ليك عليّ حلفان ، أخوك شقيان..
في تلك اللحظة رن هاتف هارون بأحد المكالمـ.ـا.ت المنتظرة فهمس لهاشم بحرص عنـ.ـد.ما اطلع على هوية المُتصل :
-خليك چار أبوك ..
انسحب بعيدًا عن صخب الطبول والأصوات وقال :
-أيوة يا سميـر ..
قال له الأخر :
-هارون بيه بعتلك رسالة على رقمك ، افتح شوفها ..
على الفور ؛ فتح هارون أحد مواقع التواصل الاجتماعي ( الواتساب ) ليجد رسالة صوتية من سيمر أحد الأشخاص اللذين يثق بهم ثقة عمياء ويعتبر حلاقـه ومرشـ.ـده السري والذي يأتي له بجُملة الأخبـ.ـار عم يدور بالنجع و رغم إعلان الكراهية المزيفة بينهما في النجع بأكمله والمتعارف عليها بكره سمير الشـ.ـديد لحكم هارون وأخوته ، ولقد كلفـه هارون بالتلصص على نوايا ” ضيا ” المشكوك بها ، لقد وجد رسالة صوتية مُسجلة .. فضغط عليها وقرب الصوت من مسامعه ليأتيه صوت ضيا قائلًا ويبدو علي نبرته السُكر :
-ما ليك عليّ حلفان يا سمير لاخدلك حق عينك اللي طيرهالك هارون و لاخلي رقبة رچالة خلفية العزايزة في الطين ، وما في حد هيبقى الكبير غيري ، اظبط ساعتك بالدقِيقة واتلقى اللي هيجرالهم مني ….
لقد كتب غسان كنفاني إلى غادة السمان عنـ.ـد.ما تمردت على حبه :
-“ولكن قولي لي :
ماذا يستحق أن نخسره في هذه الحياة العابرة؟
تدركين ما أعني!!
“إنّنا في نهاية المطاف سنمـ.ـو.ت”

وكتب قلبي المكوي بداء التمرد ليُجادلـه بعد عشرات السنوات :
أخطأت هذه المرة يا غسان ، حتمًا المـ.ـو.ت هو المصير المنتظر لكُل مولود ولكني أرى دومًا أن المرء لا يمـ.ـو.ت فقط عنـ.ـد.ما ينتهى عمره وينقضي أجله ، بل هناك مـ.ـو.ت من نوع آخر وهو ذلك الحب الذي يلامس القلب ليدثره ويخبره كيف يكون الدفء ثم يرحل ليتركه وحيدًا لصقيع الحياة منتظرًا كفن المـ.ـو.ت الحتمي بجسد قُتل بخنجر العشق المسموم .. لا يمـ.ـو.ت المرء إلا عنـ.ـد.ما يقــ,تــل الحب كُل دواخله ….
فجاء غسان ليُجيب ويُلخص فوضى أقوالي ويؤيدها :
-يبدو أن هناك رجـ.ـال لا يمكن قــ,تــلهم إلا من الداخل ..

مازالت الأجواء بالداخل يعُمها الفرح وترنيم الغناء الصعيدي وبعض الهتافات المعتادة ، تتراقص الفرحة على وجوه الجميع ما عدا العروس ، الشاردة في عالم آخر غير عالمهم ، غِصة قلبها تعوق شعورها بالفرحة ؛ نوبة من الهلع لمصيرها المنتظر الذي لا تعلم عواقبة ، ابتسامـ.ـا.ت مزيفة ترسلها لمن يوجه لها المبـ.ـاركات .. انسحبت من أجواء الرقص والفرحة لتجلس على مقعدها تُراقب الناس عن بُعد ، سيدات النجع والقبيلة اللاتي لا يجتمعن إلا في الأفراح والمناسبات العائليـة ، الأعين متلصصة نحوها ونحو هاجر أختها التي يتهامس عليها السيدات ، كل منهما تريد أن تظفر بها لابنها …

وعلى الجهة الأخرى كانت زينة تتفقد المعازيـم وتعرفهم بنفسها وبكنيتها الجديدة وزواجها القريب من كبير العائلة هارون العزايزي ، كانت تتمايل بغنج بين السيدات بشعرها الأسود الذي يغطى ظهرها بأكمله حتى أوقفتها سيدة فضولية لا يشع من عينيها إلا الحقد :
-وعلى إكده لبسك ولا بعد فرحة أخته ..

ترنحت بدلال أنثوي وهي تتفاخر بينهن :
-لسه هنچيبوا الشبكة قِريب ، أصل سي هارون موصي الجواهرچي على شبكة عِليوي شيع يجيبها من بحري ..
ثم تمايل عودها كمن يراقصه هواء الكـبـــــريـاء ؛ وأكملت :
-أصلو قال لي مراة العُمدة لازمًا تلبس غير الكُل ، طبعًا ماهي هتبقى الكبيرة وكلمتها مسموعة..
ألتوى ثغر السيدة العجوز بسخط وهي تتمايل على الأخرى لتهمس في أذانها بعد ما انشغلت زينة في الحديث مع سيدة غيرهن :
-حظ الملايح في صفايح، وحظ القبايح في السما لايح .. شوفتي يا بهيجة البخت !!
فتهامست الأخرى وهي تفحص زينة من رأسها للكاحل وقالت :
-بس البت ملفوفة وحِلوة وطول بعرض ..

-بس نبتها غبرة وقلبها أسود ، دي بت بتاعت مشاكل مش طالعة لأمها ، أمها دي آية ، أنا عارفة صفية ملقيتش غيرها !!
لكزتها الثانية لتصمت :
-طب وطي حِسك ، وبصي على العروسة شكلها مچبورة على الچوازة ، بوزها ممدود شبرين ..

حانت نظرة من عين السيدة صوب هيام الشاردة :
-ومين يقدر يغـ.ـصـ.ـبها هما أخواتها شوية !! تلاقيها مكسوفة زي البنات …
ظل الحديث يدور في ساقية همسـه حتى ظهرت “ليلة” من غُرفة أحلام التي كانت تساعدها في السير إثر رُكبتها الموجوعة ، بعد ما ذهبت لها بدلًا من هاجر التي انشغلت مع المعازيم .. حِدق من الأعين المتسعة انفرجت نحو تلك الفتاة التي يشع البياض من وجهها كأنها جاءت من بلاد لا تشرق فيها الشمس ، ملامحها البريئة التي يزينها القليل من مستحضرات التجميل ، شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها ، شالها الصوف المتناسق مع لون عباءتها والملفوف حول عنقها .. مع ذلك الجلباب الأشبه بالقفطان المغربي بعدساتها اللاصقة الرمادية التي تتجول هنا وهناك بإحراج … حتى مالت نحو أحلام متهامسة بخجل :
-طنت أحلام هما بيبصوا عليا كده ليه ؟! أنا شكلي فيه حاجة !
وشوشت لها أحلام :
-ده عشان أحلى منهم يا عبـ.ـيـ.ـطة ، أبقى خُشي لفردوس چوة تبخرك أحسن عنيهم تندب فيها رصاصة ..
ساعدتها ” ليلة ” في الجلوس وهي تستقبل نصيحتها بابتسامة واسعة وهي تومئ بالإيجاب ، هنا سُحب بساط الأضواء من تحت أقدام زينة وباتت النظرات كلها تتصوب نحو تلك الغزالة المجهولة التي تقطن في بيت خليفة ، الجميع يتهامس ويتساءل عمن تكون هذه الفتاة التي أبدع الخالق في تصورها ..

~بالمطبخ ..

جمر الغـــضــــب يتوقد من بين ثنايا وجهه ولكنه أجبر أن يتعامـل بهدوء كأن مازال لمخططه بقيـة بعد ، أخذ هارون يفتش في رفوف المطبخ وهو يتساءل :
-فردوس ؛ البن بتاعي في منه إهنه ، چايين ناس مهمـين وعاوز القهوجي يعمل منيها ..

تحركت فردوس المشغولة بصُنع الحنـاء لتنزع قفازات يدها البلاستيكية وتبحث معه على علبة البن مُؤكده إنها ما زالت هنا .. في تلك اللحظة جاءت ” ليلة ” على سجيتهـا دون علمها بأنه موجودًا بالمكان ولكن ربما خلقت للقلوب أعين تبصر بها ما لا تبصره العين وهي تتفوه بعفوية لتلك السيدة التي تعرفت عليها في صباح اليوم ، دخلت وهي تحرر حلقها العالق مع شالها الصوفي :

-داده فردوس ، طنت أحلام بتقولك بخريني عشان الناس اللي برة تندب في عينهم رصاصة !!
هتف فردوس على الفور :
-اسم الله عليكِ ؛ حصوة مِلح في عينيهم ، تعالى تعالي !! ما أنتِ الصلاة على النبي عليكي مفكيش غلطة .. يحرسك ويصونك يا أميرة يابت الأمراء.
دار هارون بتلقائية عند سماعه لصوتها لتسقط عيناه على حوريـة جاءت من الجنة لمرمى أنظاره على الفور ، لتقع عيناه على أجمل إمراة يراها بعمره ، ربما خُلقن الكثير من الجميلات ولكن مقاييس الجمال عند القلب فريدة للغاية ، قط يصور لصحابها أنها أجمل جميلات الأرض ويهنئ الفؤاد نفسه إنه نال حظه الوفير بها ، تحمحم بخفوت وهو لا يستطيع مقاومة سحرها في زيها الصعيدي وقال ليشتت انتباه عقله الذي استقر عندها :

-أحلام بس بتحب تچامل اللي حبايبها ..
حالها لم يختلف عن حالة السُكر التي أصابته عند رؤيتها ، بل تفاقم الأمر وتراقص القلب عند رؤيته وكإنما خُلق له جناحين من نسل أهدابه الشائكة ، تزحزحت الأنظار عنه وهي تشكو لفردوس :

-صحيح الكلام ده يا دادة !! يعني أنا مش حلوة وطنت أحلام بتجاملني !!

عاتبته فردوس :
-مالكش حق يا سي هارون ، بقا فرخ الحمام النمساوي دهوت فيه بعده حديت !
حدجته ليلة بانتصار :
-عندك حق يا دادة ، واضح أن جناب العمدة محتاج يروح لدكتور عيون .. يظبط له الرؤية .
ختمت جملتهـا بشهقة كبيرة عند رؤيتها للحنـة فأقبلت نحوها بلهفة :
-الله حِنة !! أنا بعشقها وبعشق ريحتها .

مسحت فردوس على ظهرها بإعجاب :
-عكس سي هارون ، ده مش عيطيق ريحتها .. والود وده يقلبها دِلوق .. مش شايفاه مزرزر كيف!

ما ذكر اسمه فأصابها داء الثرثرة من جديد ، نصبت قامتها واقتربت منه وهو يقـ.ـا.تل نفسه بألا يناظرها وقالت بدلال وهي تقعد ذراعيها أمام صدرها وترفع جفونها لأعلى لتسائله :

-أنت على طول كده كاره كُل حاجة !! وبعدين فيك ؟! أومال بتحب أيه على كده ؟!
رد بجمود :
-أنا حُر …

-لا مش حُر في دي بالذات ، عمرك سألت نفسك ليه العروسة لازم تحط حنـة قبل فرحها ، والعريس كذلك .
تأرجحت عيني فردوس وهي تراقبهم بنظرات متلألئة وكأنها تشاهد فيلم كرتوني أمامها ، هذا لست هارون الرجل اليافع الصلد الذي تربى تحت عينيها ، يقف أمام تلك التي لم يتجاوز طولها المائة وستون سنتيمتر وهي تلقنه درسًا في الحكايات ، عاد ليبحث عن قهوته كي يهرب من سطو عينيه المنجذبة لها دومًا :

-لا ، ومش عاوز أعرف ..

تحركت لتقف أمامه لتُجبره على سماعها:
-مش بمزاجك بس أنا لازم أعرفك ، وأعرف دادة فردوس ؛ آكيد هي كمان متعرفش .. وحتى تعرف خطيبتك عشان تحس إنك مهتم بتفاصيلهم الصغيرة دي .

هرولت فردوس لعندهم بحماس :
-ما تسيبها تقول يا سي هارون ، قولي قولي ..

رمقته بنظرة انتصار وهي تُعلن التحدي أمامه وقالت وهي لم تحرك عينيها من عليه :

-أصل يا دادة الأسطورة بتقول …..

رفع حاجبه والضحكة مرسومة على ثغره متعجبًا :
-أساطير تاني!! أنت ما عتزهقيش ؟!

-وأنت زعلان ليـه !! ولا عشان حضرة العمدة مش بيحب حد ينافسه في معلومـ.ـا.ته ! وأنت مش عندك معلومة .. فبتحس بالجهل قُصادي ؟

رد هارون نافيًا :
-لا عشان مش ناقصة خوتة ، عاوز اسمع كلام يتعقل .. ويدخل النفوخ .

استند كفها على رُخامة المطبخ وهي تناطحه مع اقترابها منها أكثر :
-اسمع وبعدين احكم ..

جاء صوت فردوس من الخلف متحمسًا :
-كملي يا ست البنات ، طول عمري عاوزة أعرف السبب بتاع الحِنة ..

تناظره بتحـدٍ وهي تقول بنبرة تجبره على سماعها :
-زمان .. أيام الفراعنة ” إيزيس ” لما جوزها ” أوزوريس ” مـ.ـا.ت .. وهي بتجمع كل أشلاءه صُبغت يدها كلها باللون الأحمر ، فالفراعنة اعتبروه كنوع من أنواع الوفاء والحب والإخلاص ..

ثم اقترب منه إنشًا وهي تُكمل بنفس النظر الثاقبة التي تخترق قلبه :
-ومن وقتها طلعت العادة أن العريس والعروسة لازم يحطوا حنة كرمز للوفاء ما بينهم وإنها هتفضل تحبه طول العمر ..

-حديت فارغ ، يعني أنا لو محطتش حِنة هطلع عين الست اللي هتچوزها !!

رغم إعجابه بما قالته إلا أنا كبريائه لم يسمح له بالاعتراف والهزيمة ، قال جملته الأخيرة متعمدًا اثارة غـــضــــبها بهدوءه المعتاد مما جعلها تعانده وتقول :
-سبق وقولتلك دي اسطورة يعني عايز تصدقها صدقها مش عايز براحتك ، لكن ده مش يديك الحق تنفي وجودها ..

صاحت فردوس من الخلف :
-كلامك كله دهب يا ست ليلة ، عتقول كلام حلو قوي يا سي هارون ..

ما زالت حبال نظرات التحدي متواصلة بينهم حتى هتف قائلًا :
-القهوة يا فردوس ، ريحة الحِنة كتمت على صدري ..

ثم صاحت بنفس النبرة وكأنها تنافسـه :
-تعالى بخريني يا فردوس ، عشان اللي عنده معلومـ.ـا.ت قيمة الزمن ده زيي بيتحسد ..

تمتم بسخط !!
-هيتحسد على ايه يعني !! دي تخاريف .. دانا شفقان عليكِ .

هتفت متوعدة بدون نيـة منها لذلك :
-تخاريف بحبها ، وهفضل وراك لحد ما تحبها أنت كمان …

هارون بنصح :
-طلعيني من راسك !

سبقت عفويتها منطوق لسانها :
-لا أنت مش جوة أصلًا عشان أخرجك منها !!

غرق في ضباب عينيها الرمادية وغمغم متعمدًا إثارة غـــضــــبها كعادته :
-ربنا يشفيكي !!

تدخلت فردوس كي توقف فصل العناد بينهمـا ؛ ولكنها زادت من الطين بلل :
-چرالك أيه يا هارون بيه !! من مـ.ـيـ.ـتى عتعمل عقلك بعقل الحريم !!

سكبت فردوس فوق رأسه دلو من الماء المثلج عنـ.ـد.ما طرحت على مسامعه سؤالها الذي تجول بعقله للحظات يتساءل:-لِم يناطحها الحديث هكذا على غير العادة !!!!

في تلك اللحظة جاءت زينـة لتجعل من فردوس :
-مـ.ـا.تشهلي يا فردوس ..

فابتلعت كلمـ.ـا.تها عنـ.ـد.ما سقطت أنظارها على الثنائي المتقارب من بعضه البعض وبينهما نظرات واضحة للأعمى ، فتبدلت نبرة صوتها وحركاتها هي تعبث بشعرها لتُلملمه كله على كتفها الأيمن وتقول بخجل مزيف :
-سي هارون ، أنت إهنه .. ما دتنيش ليه حس أجيلك ..

ثم دنت منهم لتتوسط موقفهم بدلال وهي تغازل شعرها :
-تؤمر بحاچة يا سيد الناس ، ولا انا وحشتك چيت تشوفني !!

تدخلت ليلة بدون وجه حق :
-لا جيه ياخد القهوة بتاعته ..

للحظة راق له رد ليلة الذي بدله على الفور وهو يرمقها زينة بسخط ونفر قلبه من قربها وهو يقول بصوت متهدج :
-غطي راسك قِدامي يا زينـة ، لساتني غريب عنِكِ .

-يووه يادي العيبة يا سي هارون ، ما أنت راچلي وكلها كام شهر ونتچوزوا ..

-ااه لما نتچوزوا أبقى أعملي اللي عاوزاه لكن دلوق مش عاوز أشوف المسخرة دي !!

قال جملته الأخيرة وهو ينسحب من المكان عند قدومها إثر غُمة قلبه التي هجمت مرة واحدة، رغم بقائه لفترة طويلة مع ليلة التي يسمع لحديثها الذي لا يعتقد فيه ولكن بناءً على رغبة قلبه اختار مجاوراتها والإنصات لها ، انصرف هارون من المكان تحت نظرات ليلة المعجبة ونظرات زينة الفارحة بعـ.ـبـ.ـط المغــــرور وهي تروي لفردوس :

-شوفتي بعينك يا فردوس غيرته عليّ ، مش مستحمل حد غيره يشوف شعري .. يالهوي على الحُب وسنينه !!

-متأكدة أنها حُب وغيره !!
طالعتها ليلة بنظرات غريبة مزيج من الشفقة والتعجب ودmدmت متأهبة للذهاب :
-أنتِ كمان محتاجة تروحي لدكتور عيون يظبط لك الرادار زي اللي اسمه سي هارون بتاعك .

دبت زينة على صدرها بدهشة :
-يقطـــعـــني !! ماله هارون يا فردوس هو عيان !! ولا المقصوفة دي عتفول عليه !!

انكمشت ملامح فردوس التي كان ينبت منها زهر الضحك أمام ليلة وهارون ، تبدلت ملامحها على الفور وهي تحمل الحنة وتقول لها بملل:
-الحنة أهي يا ستِ زينة !!!

•••••••••••••••

~بالخارج ..

-هويش ، ركـز معاي عقولك سيبك من المحمول .
أقبل نحو وهو يتخذ أنفاسـه من شِدة الركض ليزف لأخيه الخبـر العاجل ، أغلق هاشم هاتفه أثناء مراسلتـه مع رغد وقال بتأفف :

-مادامت قولت هويش دي يبقى جايب خبر زي وشك ..

مسح هيثم على صدره وهو يقفز ليقعد جار أخيه وهو يمسح المكان بأعينه كي لا يسمعه أحد :

-أنا لمحت حتـة بت يا بوووي ، چمالها يدوخ يا وِلد أبوي ..

امتص سخريته الثائرة عليه وفعل أجواء الجدية :
-نط لـ صفية تخطبهالك ، يلا حلاوتها في حمـ.ـو.تها يا جدع قبل ما تشوف الأنقح منها !! ألحق نفسك .

-بص أنا هرقدلها لحدت ما تطلع إكده ولا إكده وهعرف هي بت مين فـ النجع ونخطبوها ، الليلة يا هاشم .

تبعه وهو يقول بجدية مزيفة:
-الليـلة يا وِلد أبوي ..

وضع ساق على الأخرى وقال حالمًا :
-هبقى عريس !!

-روح أنتَ بس اقطر البت الأول عشان لو عجبتني أنا كمان هنتشاركوا عليها.

لهتفه لم تمهله الفرصة ليعقل الكلمة بل وثب متحمسًا وهو يقول :
-قُضيت … راچعلك .

تابعه صوت هاشم الساخر :
-منصور ان شاء الله ..

ثم تمتم في سره :
-أخوي ولازمًا استحمل جنانه ، الحريم هوسته .

ظل هيثم يحوم حول بيتهم وبالأخص الساحـة التي يجتمعن فيهـا السيدات يتلصص النظر هُنا وهناك عساه أن يلتقى بمراده .. انتبهت له ليلة المندسة في حِمى أحلام من سطو نظرات السيدات حولها وأسئلتهم الكثيرة عن هويتها حيث كانت أحلام متولي مهمة الجواب ، وثبت ” ليلة ” من مكانها لفضولها الذي جذبها نحو أعين هيثم المرتبكة بهدوء ، وفي أحد زوايا المنزل تمايلت إحدى السيدات على أذان زينة التي لم تتوقف عن الرقص والغناء وكأنها هي العروس :

-قوليلي هي مين البت اللي لابسه أحمر دي ؟!

لقد ملت زينة من كثرة السؤال عن شخص ليلة ، فغمغمت بإجابتها المعتادة :
-دي واحدة من بحري عمتى صفية جابتها عشان تساعد فردوس في شغل البيت ، خدامة يعني ..

خيمت نظرات الشك حول ملامح وجه السيدة وهي تقول بسخط :
-بقا الأميرة بت الأمراء دي خدامة !!

ردت بجزعٍ وبنبرة يقينة لصدق كذبها :
-وأنا هكدب عليكِ ليه ! روحي اساليها بنفسك وسيبني ارقص ..

كانت تتفقد المكان حولها كاللصـة وهي تُقبل نحو هيثم المتواري خلف احد الأعمدة ويلوح لها ، حتى وقفت أمامه تتساءل :
-أخدت بالي إنك بتدور على حاجة !!في حاجة وقعت منك ؟!

-قلبي وقع مني ومش لاقيه يا ليلة .

قال جملتـه وهو يضع كفه فوق قلبه مترنحًا بهيام ، فتراجعت خطوة للوراء متبعة نهجه وهي تتفقد المكان حولهم بمزاحٍ :
-وقع هنا يعني ممكن ندور عليه سوا !!

اتسعت ابتسامتـه وهو يشكو لها صبابته :
-هو اتخلع لما شافك ، ووقع وتاه لما شافها !

أسبلت عينيها بدهاء وهي تُشير لها بسبابتها :
-هيثم أنتَ بتتكلم عن بـ.ـنت ؟! صح ، حبيبتك جوه هنا في الفرح وحابب تشـوفها ؟!

-نبيـه ، والله ما حد هيفهمني كدك ..أنا قولت .

-طيب هي اسمها ايه ادخل انادي عليها ، أنت ممنوع تدخل جوه صح ؟!

صاح هيثم مادحًا :
-عليّ النعمة أنتِ چدعة وبمية راچل وخدتي قلبي من ساعة ما شوفتك .

تمتمت بحماقة :
-هو أنت كمان شايفني راجـ.ـل بشنب زي أخوك العمدة ده ؟!

-يخربيته !! هو قال لك راچل بشنب ؟!

-وات إيڤر مش بالظبط ، بس يعتبر قالها ؟!

دنى منها خطوة وهو يعازلها بعينيه المفضوحة :
-معذور أصلو عمرهُ ماشاف ستات على حق قبل إكده ! فالعداد عنده ضـ.ـر.ب لما شافك .

خرجت الكلمـ.ـا.ت من بين شفتيها المنتفضة لتنبس وراء تلك الفتاة التي بات وجودها يزعجها كثيرًا :
-وهي خطيبته دي مش ستات !

-لا زينة دي نسوان !!لما تقابلها تكون عاوز تنسى اليوم اللي شوفتها فيه وتنسى الصنف كله ..

أطلقت تلك الضحكة المسموعة والمتوارية خلف أناملها وهي تصفه :
-هيثم أنت مشكلة بجد !!

-سيبك أنتِ ، الچلابية الصعيدي هتاكل منك حتة .. ومش حتت ، قولي ليه ؟!

ثم دنى منها خطوة ليسرد بعينيه المعجبة :
-لان باقي الحتت كلهم عشاني !!

من نظرات هيثم المغازلة التي اعتادت على الضحك معه تفهمت أن مقصد حديثـه يشير لمغزى أخر ، فهبت محتمية بذكر اسم الرجل الوحيد الذي وثقت به دون ان يمنحها وسام الثقة لذلك :

-أنا هشتكيك للعمده وأقوله أخوك هيثم بيعاكسني ؟!

-ليه ؟! وأنا سايبك معاه كُل ديه ومحاولش حتى يصف ابداع الخالق فما خلق ؟! يخربيت فقره !

-لا حضرة العُمدة متربي جدًا .

-ديه خايب چدًا ..

هنـا أطلق صدى صوت دهشته عنـ.ـد.ما سقطت عينيه على فتاته التي تعثر بلقائها قبل دقائق خارجة من ساحة البيت وهي تتحدث بالهاتف ، وعلى الجهة الأخرى هارون الذي لم يتحمل وقوفها مع أخيه أكثر من ذلك محتجًا بالصورة العامة وحرصًا على تشويه سمعة ليـلة وأهل بيته ، قطع الخطوات بغـــضــــب يسكن رأسه وقلبـه عنـ.ـد.ما طالت مدة وقوفهـم ، وهو تحيرت عيني هيثم بين الجنة والنار ، بين السماء والأرض وهو يشكو لليلة :

-أوبا القمر على شمالي ، والنيازك على يميني ، أروح على فين بسرعة ؟دي فرصتي الأخيرة ..

تأرجحت أعين ليلة في الجهتين لتقول مرتبكة :
-أحيه ،ده أخوك جاي علينا !! هو بيجي على السيرة ولا أيـه !!

-هيعلقني !!
قبل أن تطأ أقدام هارون لعندهم ، هب هيثم بالحـل :
-روحي اصطدmي بـ النيازك الله يعينك لحدت ما ما أجيب أنا القمر في حِچري .

-هتودينـا في داهية ! أنا بسمع كلامك ليـه ؟!
قالت جُملتها وهي تهرول لتصطدm بهارون قبل أن يفشل مخطط أخيه .. تفرق مجمع الاثنين في خطين منعكسيـن لكل منهما يرتطم بهدفه ، اقترب هيثم من الفتاة ذات الوجه المستدير كالقمر والأعين الخضراء الساطعة كالنجوم وهو يستغل دخلاته القديمة المستوحاه من الأفلام العربية:

-لقـد أعلنت هيئة الأرصاد الجوية عن اختفاء القـمر ، قولت أما أچي رمح ألحقك أحسن يمسكوكي !!

جاء هيثم من الخلف مردفًا جملته الأولى على آذان تلك الفتاة ذات الجسد الممتلئ وحجابها الذي يزين ملامحها و التي لا يعرف حتى اسمها ، دارت له الفتاة وهي تنهي مكالمتها وترمقه بعدm فهم :
-أنت عم هيثم صُوح !

-والله ما في حد عم الناس كُلهم غيرك ! اسمك أيه الأول وبت مين ؟!

-أنا خلود بت الحج عارف …

-ااااه ، عمي الحچ عارف !! ده حبيبي ، أنتِ مخطوبة يا خلود ، ولا في حد قايل عليكِ عشان أقطع خبره من على وش الأرض ؟

انكمشت معالم وجه الفتاة إثر اسئلته الكثيرة وقالت بسذاجة :
-أنا لساتني في الإعداديـة يا عم هيثم ، وناوية أخش الكُلية .

تفحصها من رأسها للكاحل وهو يندهش حول بنيتها الأنثوية حيت تفوه ساخطًا :
-وأما أنتِ لساتك في الإعدادية ، القالب قالب عشريني و جرجرني ليه !!

رمقته بحماقة :
-عتقول حاچة يا عم هيثم ؟!

تلقى صدmته وخيبته بضيق :
-عم أيه عاد !! قوليلي يا حچ هيثم !!!

وصلت لهارون في مسافة خطوات معدودة وهي تمسك بكفه بلهفة وتسحبه في الجهة المعاكسة كي تشتت انتباه عن أفعال هيثم الدنيئة ، هبت مهلوفة بدون ترتيب :

-هارون بيه ! كويس إنك جيت لسه كنت بسأل هيثم عليك !! تعالى تعالى عايزة أقول لك حاجة مهمة ومحدش هيعرف يحلها غيرك ..

لم تمنحه الفرصة حتى للمعارضة ، بل سحبـته ببراءتها كي تخدع مناطق عقله المتمردة دومًا ، فانساق القلب خلف عفويتها كما تتبع الفراشات مسار الرحيق ، وقف الاثنان بأحد الزوايـا المتوارية عن الأعين إلى حد ما ، وهنا كان الاختبـ.ـار الحقيقي لأكذوبة “ليلة” التي كيف ستُكملهـا لمواجـهة دهاء الطوفان الذي يملكه ، كانت مرتكبة لا تعرف من أين ستبدأ ولكن قلبها سهل عليها الطريق وقطع درب المسافـة ؛ طافت في حدق عينيه المتسائلة وهي تقرأهم :

-شكلك مضايـق !!

ثم قفزت في رأسها جُملة ” غوين ” الشهيـرة من الفيلم الكارتوني ” الهجرة ” متقمصة تلك الشخصية التي تُشبه عفويتها كثيرًا وأكملت لتكـ.ـسر فخارية ارتباكها واكاذيبها عليه بخفة دmها المعتادة وأكملت بروح تلك الطفلة التي تسكنها ممثلة دور “غوين” ببراعة :

-شكلك مضايق .. وأنت ؛ وأنت محتاج حـ.ـضـ.ـن .

غرقت في وادٍ ضحكها وتاه هو في سحر عفويتهـا ، لأول مرة يحظى بامراة في سجيتها وجمال روحهـا ، وقع جملة ” أنت محتاج حـ.ـضـ.ـن ” كانت كخيوط العنكبوت حول قلبه وكأنه جاء ليُعلن ملكيته للمكان ، فنسجت حوله جدارًا فاصلًا بينه وبين الجميـع ، أفاقت من غيبوبة ضحكتها فرسيت على معالم وجهه الجـ.ـا.مدة المتصلبـة التي تغرق فيها بدون أدني تلميح منه ، فأدركت أنها وقعت بورطة أخرى بسبب عفويتهـا ، فبررت بـ.ـارتباك :
1

-دي غوين قالت كده في فيلم migration .. أنت ما شوفتش الفيلم ولا ايه !! آكيد مش هحـ.ـضـ.ـنك بس ده إيفيه مشهور جدًا ..

ثم رجعت خصلات شعرها للوراء إثر تـ.ـو.ترها البالغ :
-أي الرخامة دي !! كمان هشرح لك الإيفيه !!!

رد بجمـود :
-كُنتِ عايزة أيه ؟!

تنسات كل شيء و أجابته :
-أنا ؟! مش عايزة أي حاجة خالص … هكون عايزة أيه يعني !!انا ايه جابني هنـا أصلا !!

-أنتِ نساية ليـه !!

ما ذاب أثر “ليلة” بالساحة أشعل نيران الغيرة برأس “زينة” التي تغير من نسمة الهواء المحيطة بهارون ، رمت الوشاح على رأسها وأخذت تتفقد المكان باحثـة عنهـا في كل صوب وحدب حتى لاحظتهم من بعيدًا ، فجاءت نحوهم ركضًا وهي تلوح بكفها الذي تُثقله الأساور الذهبية :

-جرالك ايه يا سُهنـة أنتِ !! وأنا كُل ما عيني تغفل عنِكِ أجي ألقاكي واقعة على ودان چوزي وشغاله لوكلوك !! هما اللي اختشـوا مـ.ـا.توا ولا أيه !! لا عقولك أيه اظبط وإلا ورب الكعبة معنديش غير الشبشب !!

هلع قلب “ليلة” من اقتحام ” زينة” الثائر عليهما ففرت للتتحامى بكتفه على الفور وكإنه بات مكان مأمنها الدائم .. وقف هارون بوجهه وبنظراته الصارمة ليضع لها حدًا :

-ما تبطلي هلفطة إنتِ چرى لعقلك أيه !!

-أوعا ياهارون دي كهن نسوان وأنا قارياها زين !! تعاليلي .

رفع سبابته بوجهه :
-يمين عظيم يا زينة لو ما دخلتي چوة واحترمتي نفسك لأفض مشوارنا ده كله ، أنا مش ناقص خوته .

ندبت على صدرها بدهشة :
-يا ندامتي !! لا لا … اتكتمت أهو وربنا ما هحرك لساني – ثم تلفظت بحرقة – بس البت المسهوكة دي كانت عاوزة منك أيه ؟!!!

جاء هاشم مهرولًا من الخلف :
-ايه يا هارون سايبني مع الرجـ.ـا.لة – ثم تفحصت عينيه حول زينة وليلة حيث قال مغازلًا في ليلة – وواقف هنا مع الغزالة ! ولا هما عيچوا زاحفين للكارفين !!

فلحق بهِ هلال الذي لاحظ موقفهم فجاء ليتساءل على هيثم :

-أين هيثـم ؟!

هبت زينة لتبث شكوى أخيه وهي ترمقها بسخط :
-احضرنا يا هاشم ويا شيخنا تعالى شوف أخوك عاوز يسيبني عشان دي ؟!

حانت من ها نظرة سريعة نحو ليلة :
-عيفهم ..

خاب رجاؤها من هاشم فتعلقت بتقوى هلال :
-يرضيك يا شيخنا !!

تحمحم بهدوء وهو يطالع هاشم أخيه ليمزاحه كعتادهم معًا :
-يالله !! لقد رُد له بصـره .

فعادت لتشكو همها لهارون الكاظم لضحكه :
-شايف أخواتك عيتمقلدو عليّ يا هارون !!

فانضم لهم صوت هيثم من الخلف حاملًا أسفار خيبته :
-مزعلين زيّنو ليه ؟!

-أنت اللي هتنصفني يا هيثم ، تعالى شوف حال أخوك مش عاجبه إني غيرانه عليه وعيحلف عليّ يسيبني عشان البت دي ..

هتفت من وراءه بلماضة :
-دي ليها اسم على فكرة ، اسمي ليلة ، اتعلمي الذوق شوية بقا ..

أيدها هيثم الواقع برقة ليلة :
-ما تسمعي الحديت وتتعلمي منيها .. عتتكلم صُح .

ونظر لهارون واعظًا وهو يرسل نحو زينة القليل من النظرات الماكرة :
-هِرن يا خوي اشتري مني ، اللي ما تعرفش تغيره بدله ..

فأيده الشيخ هلال الذي يسحب أخيه من بينهم :
-وتذكر قول الله تعالى ” يبدل الله سيئاتهم حسنات “

ربت هاشم على كتف أخيه بمزاح وهو يراقب ليلة التي تقف على يمينه وزينة التي تقيم على يساره :
-الله يفتح عليك يا مولانا .. اتوكل على الله يا هارون وكن من أهل اليميـن ….

نفذ صبر هارون من سخافات إخوته فجهر وهو يطالع هاتفه كالمنتظر لقدوم شيء مهم :
-هنفضلوا نتسايروا إكده وسايبين أبوكم ، أنتوا التلاتة قِدامي ولو لمحت فيكم واحد غايب ما هحله ..

جاءت نجاة تركض على نفس واحد وهي تقول بفزع :
-هارون ألحق ، هيام شغالة تبكي وسابت الحنة وعتقول مش عاوزة تتچوز .. وعمتي عاوز الشيخ هلال يرقيها شكلها خدت عين …
كتب أحد الرجـ.ـال الذين لم ينصفهم الحب :
-عزيزتي الجميـلة:
لقد أخطأت بحقنا عنـ.ـد.ما أحببتك بهذا العالم القاهر للغاية .. لو كُنا بـ عالم آخر موازي لانقلبت الموازين وتعانقت قلوبنا ..و كُنا الآن معًا نطل عليه من نافذة غُرفتنا ..
أما هذا العالم مستبد لدرجة الجنـون ، فمن باب الرحمة بتلك القلوب المحترقة أن توضع قوانين لتحمي القلب قبل حماية المواطن .. ويحصل منها كل فرد على حقه من الحقوق العاطفية ، وينال كُل منـا مُراد قلبـه … ومن يسعى خلف تحطيم قلبين عاشقين يصدر عليـه حُكم الإعدام كما كان يسعى لفعل ذلك معنا ومع قلوبنا المُتيمة ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••
-” اللهم أذهب البأس رب النـاس ، و اشف أنتَ الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك .. شفاء لا يُغادر سقمًا ”
طلب هارون من هِلال أن يصعد لأختـه ليرى ما بها بعد ما أكد عليه أن يرسل ريح الطمأنينة لقلبها بمجيئه إليها بعـد توديع الضيوف مع بقية أخوته ، ذهب هلال لعندها وأمر بمغادرة الجميع من الغُرفة فلم يتبقى معهما إلا هاجر ، ختم مراسم الرقية الشرعيـة بدعائه الأخير وهو يضمن رأسها لصدره ويمسح على رأسها بحنان زاخـر ، فطالع وجهها الباكي وأخذ ينفث بهدوء على ملامحهـا الذابلة فسألها :
-حسيتي حاچة !!
تشبثت بكف أخيها وهي تشكو همها :
-مش عاوزة الچوازة تتم يا هلال ، جبـل يا أخوي وكاتم على نفسي .. عاوزة أصرخ وما قادراش ..
بطرف كُمه كفكف دmـ.ـو.ع صغيرته المصبوغة بكُحل حـ.ـز.نهـا ، وهو يواسيهـا قائلًا :
-كُل هذا من العين أم هناك أسباب آخرى ؟
تدخلت هاجر بمزاح لتُلطف الأجواء :
-شكلها مش عاوزة تهملنا وتمشي ..
ثم فتحت ذراعيها لتضم أختها باحتواء:
-ولا أنا كمان قادرة اتخيـل البيت من غيـرك .
رفع هلال رأسه ليُقبل جبين أختـه الحزينة وقال بدفء :
-مفيش حاچة هتحصل من غير رضاكي .. طمني قلبك بهذا .
في تلك اللحظة ؛ مال مقبض الباب الذي فُتح ليظهر منه هارون الذي تملص من حشـ.ـد المعازيم المتزايدة وقال بحزم :
-هلال خد هاجـر واطلعوا ..
عارضته هاجر وهي تتشبث بأختهـا :
-لا مش ههملها يا هارون ، سيبني معاكم أنت مش واعي لحالتها .
نظر لأخيه بهدوء ما يسبق عواصفه ، ففهم هلال على أخيه فقال بصوت متزن :
-هاجر لا تجادليـن !!
تقهقرت هاجر من جوار أختها بعد ما قبلت وجنتها وهي تقول بحـ.ـز.ن وخيـم :
-متبكيش تاني وإلا هروح اخلص على ضيا دهون ونستريحوا منه .
تبادلن الابتسامـ.ـا.ت الحزينـة حتى تمسكت هاجر بكف هلال أخيها وغادر الثنائي الغرفة ، أحكم هارون غلق الباب خلفـهم ثم دار لأخته فاتحًا ذراعيـه بحنان أب:
-خبر أيه !! حُصل ايه لده كُله !!
ثم جلس على طرف الفراش أمامها وكفكف بإبهامه دmـ.ـو.عها :
-دmـ.ـو.عك دي تنزل وأخوكي في ضهرك !! أومال لو متت ؟!
هبت بهلع :
-بعد الشر عنك يا خوي ، حِسك في الدنيا ..
بنبرته الخفيضة أكمل :
-جرى أيه ما أنتِ كُنتِ زينه من الصبح وفرحانة ؟
-حاجة كتمت على قلبي يا هارون ومبقتش قادرة اتحمل هملت المكان وقومت ، أنا مش فاهمة روحي ، ليّ شهور عاوز أبعد وكل ما افتح السيرة مع أمك تهت فيّ كإني عاملة عملة ، كنت بنزل المية بنفسي اذوق المراكب الواقفة عشان تسير وأقول معلش يابت بكرة ربك يحلها ويهديه أهي چوازة والسلام هتقعدي لحدت مـ.ـيـ.ـتى ..وهو كان يجي يضحك عليّ بكلمتين وبعديهم يقلب تاني ، تعبت يا هارون تعبت .. ومابقتش عارفة أعمل إيه!!!!
تأرجحت عينيه بغـــضــــب دفين :
-صفية كانت عارفة كل ديه وساكتـه !!
تدلت عينيها بانكسار على حالتها ، فأمسك بذقنها لترفع جفونه لعنده قائلًا :
-أبوكي وأخواتك حسهم في الدنيا ، وما عاش ولا كان اللي يكـ.ـسر عينك ..
ثم جلى حلقه وتعاهدت أعينه قبل الألسن :
-واثقه في أخوكي !! وواثقة في كلامه !!
ردت هيام ملهوفة :
-لو قولت لي أرمي روحك البحر مش هفكر حتى..
-وأنا عمري ما هسمح بحاچة تضرك ، وكلمة من أخوكي الچوازة دي مش هتتم ، بس عاوزك تسمعي كلامي زين !
اتسع بؤبؤ عينيها :
-كيف يا خوي!! ده الفرح بكرة وخـ…
-ويمين الله ما هيلمس منك شعره ، بس أنتِ فتحي مخك معاي وأنا هقول لك تعمـلي أيه ..
لقد كانت لديه القدرة الكافية على احتواء وترميم شقوق روح الجميع أما عن مصائبه هو عاجز تمامًا … فقط كُل ما يحتاجـه المرء منا وبالأخص الأنثى هو والاحساس بالأحتواء والدفء وأن هناك كتف قوي يتلقى من عنها الطـــعـــنات؛ اكتفت بإلقاء رأسها على صدر أخيها وهي ترتجف من الحـ.ـز.ن وتعتذر له :
-حقك عليّ يا خوي عشان هحطك في موقف محرچ زي ديه ، بس…
ربت على كتف صغيرته بهدوء :
-بطلي عـ.ـبـ.ـط … أنا أرمى روحي في النار ولا دخانها يطولك .
ثم تحمحم بهدوء لا يتناسب مع حرارة الموقف :
-قومي اغسلي وشك ونامي وسيبك من العالم اللي تحت وانا هتصرف معاهم …
••••••••••••••
~بالأسفـل …
-“قالوا شقيـة قُولت من يومي ، قسمـوا النوايب طلع النايب الكبيـر كومي ”
جلسـت صفية على أحد درجات السُلم وهي تنوح على بختها المائل بجملتها الأخيرة وسط السيدات اللاتي انقلبـن من اماكنهما ليواسوها ، فاردفت أحداهن :
-وحدي الله يا حچـة ..
وضعت كفها على وجنتها وأكملت فقرة النواح على حال ابـ.ـنتها :
-“لما قالولي ده ولد اتشـ.ـد ضهري واتسند ، ولما قالولي دي بِنية جات الدِنيـا وحطت عليا .. يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممـ.ـا.ت .. ”
فأعقبت الأخرى :
-عين وصابتها يا خالتي متقهريش روحك ، بكرة هتبقى زي الفل والياسمين …
مالت ليلة على مسامع أحلام التي تُسبح على أحجار مسبحتها البنية وسألتها بحيرة :
-طنت صفية بتغني ولا هي زعلانة كده ولا هي بتقول أيه ؟
صاحت “أحلام” بضيق كي تكف عن تعديدها :
-ما خلصنا يا صفية ، استغفري ربك وقومي اطمني على بتك .. وبطلي حديت فارغ .
صاحت الأخرى بجهل وقلة دين :
-اللي تكوي قلبي ما تبقاش بتي يا أحلام .. بتي مش عاوزاني أفرح بسترتها ولما اشوفها في بيتها متهنية .. ياريتني چبتهم كلهم ولاد ولا حرقة القلب دي ..
جاء هلال في تلك اللحظة وكلمـ.ـا.ت أمه تقع على قلبه كجمر يحرقه ، فاقترب من أمه واعظًا ومستدلًا بحديث الرسول :
-يا أمي لا يجوز لواحدة مثلك زارت بيت الله أن تقول أقوال جهالة .. ألا تتذكرين قول النبي “ليس منا من ضـ.ـر.ب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية”
لم تكف صفيـة عن ندبها :
-واللي عملته أختك ، دي عاوزة تجرسنا وچوزها زمانو چاي يهنيها ويتحنى .. هتخلي سيرتنا على كل لسـان .
-أختي لم تفعل شيء نخجل منه ، ويحق لها الاختيار لمن سيرافقهـا الدرب .. نحن معهـا على أي حال .. أختي لم تقترف ذنبًا واحدًا ..
ألقت ” رقية ” نظرة لأمها كإنها تستأذنها للتحدث بما ما أعجبت بحديث ولطف هلال مع أمه ؛ فتدخلت قائلة برغبة منها :
-يا خالة صفية متزعليش واسمعي كلام الشيـخ هلال ..
ثم ألقت على وجهه المتدلي بالأرض وأكملت :
-أهم حاجة عندنا راحتها وفرحتها ، يعني هتفرحي لما تشوفيها متنكدة وقرفانة في عيشتها !!
-لا ، المهم تتچوز وتتسر ..
فأكملت رقية بجملتها التي رُدت بقلب مولانا المغرم بصوتها :
-تتچوز وتتهنى وبعدين نقولوا دي اتسترت .. لكن تتجوز ووتتنكد إكده مسهماش سترة دي جُرسة ياخالة..
-الله يفتح عليكِ يا أخت رُقية ..
قال جملته وهو ينهض من مكانه ليُقبل رأس أمه ويتأهب منصرفًا من مجمع النساء الذي اقتحمه إثر ثرثرة أمه الباغضة وقال :
-بالأذن .. استهدي بالله وقومي توضي وصلي وربك يرسل تيسيره إلينا …
ثم انحنت رأسه بالأرض تحت أعين بعض النسوة الخبيثات :
-تأمري بشيء يا أخت رقيـة ؟
أحمر وجهها وقبل ما تجيبه تدخلت زينـه لتقول بقلة حياء :
-هتعوز أيه يعني واجبها واتاخد – ثم صاحت بالباقية- ولو سمحتوا الحنة باظت ومفيش عروسـة يلا يلا كل مراه على بيتها أهل البيت عاوزين يرتاحـوا … المولد فض .
كظمت رقية غـــضــــبها من بجاحتها واكتفت بنظرة ثاقبة لها وهي تزيح كفها من عليها وبدون أي كلمة تخصها ، فخير رد على السفيه الصمت ، استغفر هلال بسـره وهو يعلن انسحابه فأوقفه زمجرة صوت هارون أخيه الواقف بمقدmة درجات السُلم وهو يقول بتأدب :
-“العروسة تعبانة شوية من الشقى ، وبكرة مستنينكم على الفرح في معاده ، نورتونـا … ”
رمقه هلال بنظرات معارضة سايسها هارون بإشارة منه بأن هناك أمر جديد لا يعلمه ، وثبت صفية لتستنشق نسـيم الراحة وهو تصدح بالزغاريـد :
-يعني الفرح هيتم !! يا فرحة قلبي .. مش قولتلكم چلع بـ.ـنته !! بتي متعملش في أمها إكده واصل ، ربنا يخليكي لقلب أمك يا هيام …..
•••••••••••
~السـاعـة الثانيـة بعد منتصف الليـل .
نام الجميع من الساعة العاشـرة مساءً ، كان الهدوء يـعم النجع بأكمله لا يقطعه إلا عواء الذئاب ونباح الكلاب ..اجتمع الأخوة بالحديقـة حول بؤرة النيران المتقـدة للتدفئة حتى قص عليهما هارون كل ما يتعلق بأمر أخته .. قفل هاشم هاتفه إثر رنين رغد المتواصل بعد ما ارسل لها جملته الأخيرة ” هكلمك لما اطلع ” وقال بنبرته القاطعة كالسيف:
-وكيف صفية تسكت على الكلام ده لحدت ما ورطتها !! هي مش هيام كانت حباه ورايداه وهو ديه اللي خلانا نحطو مركوب ونوافقوا بيه !
فأكمل هيثم مغلولًا :
-الناقص، ورب الكعبة ما هعتقده يا هارون..
لم يكف هلال عن ذكر الله الذي يفرغ به دخانه غـــضــــبه المحترق ، فقال :
-الجزاء من جنس العمل .. وهو يستحق كل ما يناله منا .. يستغل عرضنا ليؤذينا فيه .. الدنيء.
فتدخل هيثم مقترحًا :
-أحنا نروح له بربطة المعلم ونرنه العلقة التمـام لحد ما يقول حقي برقبتي ويطـ.ـلقها ، أنا مش هسيبله أختي يا هارون ..
فتدخل هاشم بحدة :
-محدش هيسيبها ، الواد ديه لازمًا يتصفى ويشقش عليه نهار ، ودي سيبهوالي .
تقابلت أعين هلال وهارون المتزنـة والتي تُحكم عقلهـا حتى ترجم هلال مقصد أخيه وقال :
-المچلس أنا هحلهـا ، بس التسچيل مش حُجة يُأخذ بهـا ..
أشعل هارون سجارتـه بهدوء وهو يهز رأسه عالمًا بسير بخُطاه :
-عالم حسابه ..
قاطعهم هاشم الذي يحترق داخله كما تحرق النيران الفحم أمامهم:
-أنتوا أيه البرود اللي أنتو فيه ده !!! أنا هروح بيتهم أخلص عليه الـ*** ابن الـ*** ..
فوثب هيثـم متحمسًا :
-وانا معاك ، أحنا نروح نولعو فيه وفي دارهم وفي اللي معرفوش يربوه .. الناقص ولِد الـ***، جاي يلعب مع أسياده ..
وقف هارون ليثبط من ثروة أخوته برزانة :
-اللي عدى البحر في سفينة نايم .. غير اللي عدى وسط القروش عايم .. يعني اركزوا عشان أنا عارف هعمل أيه لان لو غلطة واحدة هتغرقنا كُلنا ..
عارضه هيثم :
-يعني ايه يا هارون ؟! ما تفطمنا يا وِلد أبوي ؟
-يعني تروح تنام أنت وهاشـم والصُبـح هتعرفوا .
عارضه هاشم بضيق :
-ما دامت عارف هتعمل ايه قولت لنا ليه من أصلو ،، هارون افهمني اقطع عرق وسيح دmه أنا عاوز اختي تترمل ، أحسن من ندخلو في حوارات ومجالس وو
-وأنا قدامك مش عتحنجـل ، قولت لك الموضوع خلصان ومحدش هيفتح خشـمه .. روح نام واشبع نوم ..
ثم سحب عباءته الصعيدية بنفور وقال :
-بالإذن …
تراقصت النظرات الحائرة بينهم حتى أيده هلال قائلًا :
-اسمعوا كلام هارون هو عارف عيعمـل أيه ..
ثم ربت على كتف هاشم قائلًا :
-مش بالباع والذراع ، المخ له أحكامه يا سيادة الرائد ..
انتظر هثيم رحيل هلال فجهر مقترحًا على أخيه :
-أنا عارف فينو دِلوق ، تيچي نخلصـوا عليه ونتاووه في أي بير !
هناك مقولة عسكرية تقول :
“إذا كان الطريق آمن فاعلم أن هنالك كمين” صحة هذه المقولة لمْ تثبتها الأحداث التاريخية فقط بل أثبتتها حتى المعاملة اليومية بين أبناء البشر! فإذا ما قابلت شخصًا كُلُّ صفاته الظاهرة نزيهة، ولا تدع في قلبك مجالًا للشك، فإنّك حتمًا وبموقفٍ واحدٍ _ربّما_ سيتّضح لك أنّك كنت على خطأ، وأنّ تلك الثقة التي قمت بمنحها قد صُنع بها كمينًا محكمًا للإيقاع بالمخدوعين أمثالك .
هرب هارون لجُحره الخاص وعالمـه الذي يهون عليه مرارة العيش ، فتح باب غُرفتـه الخشبيـة وأشعل إضاءتها وتحرر من كل ملابسه الصعيدية التي تشـ.ـد أغلالها على عنقـه ، فتح خزانته الصغيرة وأخرج ملابسه الرياضيـة .. توضأ وصلي ما فاته من فروض أثناء يومه ثم أشعل النيران للتدفئة ووقف ليعد كوبًا من القهـوة يبدو أن هناك أمرًا يشغل رأسه فيود أن يصرف شبح النوم عن عينيـه حتى يتلقاه …
وعلى الجـهة الأخرى ؛ كانت ليلة متيقظة فهي لم تعهد النوم مبكرًا مثلهم فلم تنل إلا قسطًا قليلًا من النوم ونهضت على اتصال أمها التي لم تتوقف عن الرنين ، بعد ما انهت تلك المكالمة التي لا تخلو من الاوامر والتأكيد على تناول الأدوية بانتظام و التي اعتادت أن تنساها في الفترة الأخيرة .. فتحت باب غرفتها المُطل على الحديقة بعد ما ألقت وشاحًا على كتفيـها وأخذت تتفقد المكان بيأس .. تاه بها الفكر حول أي سبب آتى بها لهنا ؟! وأي قدر أوقعها مع أشخاص مثلهم ؟! وأي مجهول ينتظرها ؟!
وهي تسير تحت ظل النجوم المختبئة وراء الغيوم كإختباء قدرها المجهول تقاوم صدح تذبذب الجرعات السامة برأسها فـ بدّ لها قرص القمر الساطع يتلألأ نوره في خد السمـاء ، اتسعت ابتسامتها بمرحٍ وهي تقول بصوت مسموع يملأه الانبهار :
-واو !! القمر مكتمـل يعني الخواتم المفروض تكون اختفت في الوقت ده !! معقولة ؟
كان القمر ينعقد ضوءه فوق سطح غرفته المفتوحة والتي ينعكس منها النور فتعلن وجـوده ، مددت أنظارها للباب الموارب فخفق قلبها بدون أدنى إرادة منها بنبضة مجهولة لا تعلمهـا ، سارت خطوتين إليه ولكنها تراجعت برجفة قلب أصابتها :
-لالا .. عيب ميصحش آكيـد نايـم ..
ولت ظهرها معلنةً غروبها من اي مكان يجمعهما معًا ، فـ ظهر من باب حجرته وهو يرتشف قهوتـه وهنـا انعقد حاجبيـه باستغراب ، فنادى جاهرًا :
-أنتِ !!!!
تمنت ولو الأرض تنشق في تلك اللحظة وتبتلعها ، ما هذه الصدف التي تآمرت عليهمـا ؟! ما تلك الورطة التي وقعت بها في تلك الساعة التي تضم القمر والغيـوم ورجل مثير للفضول مثله !! أخذت نفسًا طويلًا وهي تدور نحوه وتدنو منه بخطوات مترددة :
-أنت لسه صاحي !!
هبط درجتي السُلم الخشبي وقال متسائلًا :
-فين المُشكلة ؟!
ردت مبررة :
-المفروض بكرة عندك يوم طويل وكمان النهاردة كان متعب ، وبتشرب قهوة في الوقت ده ،قصدي ترتاح شـوية عشان صحتك .
ارتشف رشفـة من فنجانه وهو يعقب على حديثها بشموخ :
-لا الصحـة بومب.
ردت بعفوية :
-يبقى تحافظ عليها ، مش تضيعها !!
رفع حاجبه مع تلك الابتسامة الخفيفة وأكد :
-قولت لك بومب …
أحست بالارتباك قليلًا فسحبت من يديه كوب قهوته التي أحبتها كثيرًا وأخذت منها رشفة بدون استئذان لتقول بمزاح يتنافس مع براءة ونقاء قلبها لا تقصده منه أي شيء :
-هشرب من كوبايتك عشان تجري ورايا ..
استقبل جُملتها باعتراض قطعه سيف حاجبه المرفوع :
-لا ياشيخة ؟!
-أنتَ مش مصدقني !! دي أسطورة شهيرة جدًا ، بتقول أن لو واحدة شربت من كوبايـة واحد أو العكس ؛ كده معناه أنه هيقع في حبها من أول وجديد وهيفضل العمر كله يجري وراها ومش هيشوف بـ.ـنت أحلى منها ..
ثم وضعت الكوب بيده وأكملت بثناء :
-وبعدين دي هو كل كلمة أقولها كده تقف عندها ؛ منا كلامي واضح أهو ؟! فين المشكلة مش فاهمة ؟!
مال إليهـا وهو يُطيل النظر بعينيها الخضراء :
-أهي هي دي المشكلة في حد ذاتها ؛ مشكلتك حافظة مش فاهمة ..
تعلقت بسحر عينيه التي تقرأ تعويذة الحُب عليها لتقول بخيبة أمل مواجهة تلك الحقيقة التي تحاول الهرب منها :
-يعني أنت كمان شايفني فاشلة زيهم ؟!
خربشت قطته على جدار قلبه بسؤالها ، فـ رد بنبرته الهادئة وهو لا يفارق موجة عينيها المتقلبة :
-أنتِ مش فاشلة ، أنتِ لسـه يومك مچاش ..
‏حقيقة: ” فقد يهبط القبول قبل الحبّ بمدة” فيكونُ على هيئة انشراحٍ عجيبٍ وأُلفة غير مفهومة، وتلك منزلة عزيزة تُساق إليها قدرًا ولطفًا؛ لا بسعيٍ منك ولا سابق اجتهادٍ وترصّد.. مازالت “ليلة” تحت سُكر تلك النبرة الهادئة الجميلة التي تملك دفء وبرودة الغيوم وعزف النجوم :
-ولما يجي هنجح وكُل الناس هتشاور عليـا وهكون مبسوطة !
-لو قلبـك مستني كل ديه مسيره هيقابله ..
فأخذ نفسًا عميقًا وأكمل :
-وما زرعَ اللهُ في قلبِكَ رغبةً ‏في الوصُول لأمرٍ معيَّن .. ‏إلا لأنه يعلمُ أنك ستصلُ إليه.
تجلى حلقها الذي جف من نار ونور ذلك الحديث الدائر بينهم لتسأله بعفوية :
-وأنت قلبك قابل اللي كان مستنيه زمان ؟.
-أنا عمر قلبي ما استنى حاجـة عشان يقابلهـا .. أنا غيرك وغير أي حد .. أنا رامي قلبي تحت رچلي .
‏غسان كنفاني اختصر القصة كلها لما قال :
أنا لا أستطيع أن أتحمل خذلاناً جديداً، ولو كان خذلاناً تافهاً .. هكذا هو حال شخص مثل هارون ، خذلته الحياة حتى أجبر على خلع مـ.ـا.تور الشعور بهذا الجسد كي لا يُعـ.ـذ.ب مرة آخرى ، عارضته ليلة السابحه بمعالم وجهه التي لم تكف عن تأملها :
-بس ده مش صح ..
انتبه لتصبب قطرات العرق من جبينها التي توحي بـ.ـارتباكها الشـ.ـديد من حرارة نظراته التي ذوبت ملوحـة حـ.ـز.نها وطرقت على باب المجهول ؟! باب الحب أم باب العـ.ـذ.اب يا ترى ؟!
عاد له رُشـ.ـده على الفور ، كمن نزع حذائه وحملق بالسمـاء وسارت قدmيه الحافية على الرمل بدون وعى حتى ابتلت أقدامه كإنذار له عن الغرق ففاق للتو وتشتت عن أمر شروده ، تحمحم وهو يولي ظهره محتجًا بترك الكوب بأي مكان :
-لو مش هتنامي تعالي نشوفوا حابة تروحي فين عشان تصوري .
ردت بصوتها المتهدج وهي تراقب بُنيته القوية التي تفتقدها بجسدها الضعيف وقالت :
-شوف أنتَ ، أنا معاك في أي حاجة …
هرول للعودة لغرفته وفرغ محتوى الرفوف بطاقة غريبـة ، يبدو إنه كان يود الهرب من أمور كثيرة فتمسك بطرف اجتماعهما معًا .. أعطى لها كتابًا خاصًا بمعالم “قنا” وطلب منها ان تطلع عليه وهو الأخر مسك كتابًا ورزع بذور أعينه المحملة بـ داء التطلع لها بصفحات الكتاب