رواية حرر هواك فالحب بات معلنا كاملة جميع الفصول

رواية حرر هواك فالحب بات معلنا هي رواية رومانسية والرواية من تأليف الكاتبة تسنيم المرشدي

رواية حرر هواك فالحب بات معلنا كاملة جميع الفصول

رواية حرر هواك فالحب بات معلنا من الفصل الاول للاخير بقلم تسنيم المرشدي


في أحد الأحياء الهادئة، يقف أمام مرآته يضبط ربطة عنقه بقامة منتصبة شامخة، انتهى من عقد نهايتها عِند حلقه فبات وسيم المظهر أكثر جاذبية عن ثيابه المعتادة.

رفع أنامله وتخلل بها خصلات شعره السوداء الناعمة ليعيد انتصابها من جديد، مد يده والتقط قنينة عِطره، دعس على جزء منها فتناثر العطر على أنحاء متفرقة من حُلته السوداء.

أعاد وضعها على "التسريحة" ثم اختلس النظر إلى مظهره للمرة الأخيرة قبل خروجه من الغرفة، أخرج تنهيدة قبل أن يولي صورته فى المرآة ظهره وتوجه نحو الباب، أدار مقبضه على مهلٍ فشيء ما يمنعه من الخروج وكأنه مقيد بالأصفاد.

حرر أصفاده بفتحه للباب الذي أصدر صريراً عالياً فانتبهت له والدته وبخطوات راكضة توجهت ناحيته، اتسعت شفتيها مُشكلة ابتسامة عـ.ـذ.بة حين رأته يطل عليها بتلك الجاذبية المبالغة.

رفعت ذراعها وملست على كتفه بكف يدها مبدية إعجابها الشـ.ـديد به:
_ بسم الله ما شاءالله، ربنا يحميك من العين يا حبيبي

تشـ.ـدق فظهرت ابتسامته الهادئة التي أسرت قلب والدته من فرط جمالها، أراد مشاكستها فهتف:
_ دا أنا أتغر على كدا

بنبرة سريعة عفوية ردت على كلمـ.ـا.ته بحُب:
_ ويليق بيك الغرور يا حبيبي، ويكون معاك الحق كمان، أنت مش شايف طلتك ولا إيه، شبه البدر في تمامه ربنا يسعد قلبك يارب

انحنى على يدها التي تناولها وطبع قُبلة عليها ثم عاد لفرد قامته، جاب المكان من حوله وعاد بأنظاره على والدته المنحنية لكِبر عمرها وبفضولٍ قام بسؤالها:
_ العريس فين؟

أشارت بعينيها إلى بابٍ ما وأردفت:
_ لسه مخرجش من أوضته، تحب أستعجله؟

أبدى رفضه بإيماءة من رأسه كما أوضح عِلته:
_ لأ، سبيه على راحته، المأذون لسه موصلش

أولاها ظهره وصوب بصره على باب غرفةٍ أخرى، حرك قدmيه ناحيتها بخُطى مُتريثة، وقف أمام الباب ثم كور أصابعه فاختفت في كفه وبهدوءٍ طرقه ووقف في إنتظار فتحه.

تقوس ثغره بإبتسامة عـ.ـذ.بة حين رآها تظهر من خلف باب غرفتها بفستانها الأبيض الرقيق، اتسع ثغرها فور رؤيته وبحماس شـ.ـديد إستدارت بجسدها حول نفسها لتريه معالم الفستان كاملاً متسائلة بتلهف لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟

وقف يتابع تصرفها وكأنه يراها بالتصوير البطيء، لمعت عيناه بوميض مختلف فـطلتها كانت مُزهرة تليق بكونها عروس.

حدجها بنظراته التي يشع منهما السعادة العارمة قبل أن يهتف بنبرته الرخيمة:
_ مكنتش عارف إن القمر هيزورنا النهاردة!

عضت هي على شفاها السُفلى بحياء كما أخفضت رأسها راسمة بسمة لا تتعدى شفاها فجذب هو انتباهها بسؤاله:
_ جاهزة؟

رفعت بصرها عليه وكأنه أسقط أعلاها حجارة هائلة الحجم، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة..

غمز إليها مع حركة سريعه من رأسه وهو يردد بعدm فِهم:
_ المأذون على وصول

خفق قلبها بتوجس، لم تشعر بذاك الخوف الذي اجتاحها من قبل فهي على حافة العزوبية، سوف تبدل حياتها السابقة كاملةً بحياة أخرى وهي حياة الزوجية!!

شعرت بغصة مريرة في حلقها فابتلعت لعابها لعلها تتخلص منها، انتبهت على صوت من خلفها يهتف بحميمية:
_ إزيك؟

غض بصره عنها ثم استأذن بلطافة وغادر بينما استدارت هي بجسدها ورمقت صديقتها بنظرات مشتعله وبإقتضاب هدرت بها:
_ أنتِ مالك بيه يا رخمة؟ بتحرجيه ليه؟

انفجرت الآخرى ضاحكة بميوعة وأجابتها مازحة:
_ بحب أشوفه وهو مكسوف

احتقن وجهها بغيظ ولم تسمح لها بافتعال المزيد من السخافات حيث صاحت بها مندفعة:
_ ملكيش دعوة بيه، أنتِ فاهمة؟!

تشـ.ـدقت الأخرى بفمها قبل أن تردف مستاءة:
_ في إيه؟ مغلطتش في البخاري يعني وبعدين دا مجرد...

قاطعتها محذرة إياها:
_ هااا

وضعت صديقتها راحة يدها على فمها مانعة لسانها من استرسال الحديث الذي يسلب رونقها فتوجهت الأخرى إلى مرآتها تتفحص فستانها ووجها الذي إزداد جمالاً بتلك الزينة التى لا تعتاد وضعها إلا لو استحق الأمر.

في الخارج،
رحب بالمأذون بحفاوة وكذلك بعض الحضور الذي قام بدعوتهم، دعا المأذون لأريكة ما تتوسط الردهة، أشار لوالدته على باب إحدى الغرف فتفهمت ما يشير إليه وبخُطى متعرقلة سارت إليها، طرقت الباب قبل أن تدلف لغرفتها التي وضع ولدها يده عليها اليوم حتى يتجهز بحرية لتخبره بحضور المأذون:
_ المأذون وصل يا حبيبي، يلا أخرج مش عايزينه يستنى كتير

استدار بجسده ليظهر مظهره الحسِن الذي خفق قلب والدته إثره، اقتربت منه وعينيها تلمع بمزيج من المشاعر المختلفة في تلك الأثناء، قامت بتقبيله وهي تردد بشجن:
_ ربنا يحميك يابني، استنى لما أرقيك قبل ما تخرج

وضعت كف يدها على رأسه وبدأت تتلوا بعض الآيات أسفل ضحكاته التي لا تتوقف على تصرفها، انتهت من تلاوة الآيات ثم تراجعت للخلف سامحه له بالذهاب:
_ والوقتي تقدر تخرج

حرك رأسه بإستنكار، ثم أخذ بيدها لترافقه للخارج، اقترب منه الجميع فور ظهوره حيث تلقى التهنيئات من الأصدقاء والأقارب وكذلك الجيران، نهض شقيقه عن مقعده سامحاً له بالجلوس بينما توجه هو إلى باب غرفة العروس وطرقه فظهرت هي بعد ثوانٍ قليلة فأخبرها قائلاً:
_ يلا إحنا مستنينك..

بوجهٍ جـ.ـا.مد خالي من المشاعر أماءت له بقبول ثم إستدارت بجسدها مولياه ظهرها وأخذت شهيقاً أزفرته على مهلٍ، دنت منها صديقتها وربتت على يدها داعمة لها:
_ متخافيش، أنا جنبك

تبادلا نظرات الإمتنان ثم خرجن كلتاهن برفقة بعضهن البعض، جلست هي إلى يسار المأذون تاركة مساحة بينهم بينما جلس العريس على يمينهما وعيناه لم تُرفع من عليها كما أن ابتسامته لم تختفي من على محياه منذ ظهورها

لم يشعر أحدهم بالعيون التي تراقب ما يحدث على بُعد، شعور مقيت يليه شعور بالفقد وكأنهم يسلبون روحٍ من جسدها، العيون تبكي في صمت فلا لهما الحق في إظهار آلامهم وليس من حقهم فعل أي شيء سوى مراقبة الأجواء في صمت..

***

في ظُلمة الليل الحالك لا يضيء المكان سوى ضوء القمر ونجوم السماء بالإضافة إلى النيران المتقدة من صُنع هذان العسكريان، يتوسطون صحراء سيناء الحبيبة يحاولون تدفئة أيديهم الممدودة بقُرب الحطب المشتعل، يعلوا أكتافهم أغطية ثقيلة.

تحدث أحدهم بتلعثم من بين أسنانه التي تحتك ببعضهم مُصدرة سيمفونية قوية تدل على حرارة جسده المنعدmة لشـ.ـدة برودة الطقس:
_ وأخيراً هنخلص من الممرمطة دي بكرة

تجلى الحـ.ـز.ن معالم وجه الآخر كما أنه أبدى نـ.ـد.مه بكلمـ.ـا.ته:
_ خلصنا خدmتنا ومعملناش حاجة نفتخر بيها، هخرج من هنا زي ما دخلت، محصلش اللي اتمنيته

قطب صديقه جبينه بغرابة فما الذي يمكنه فعله بجانب تأدية خدmة وطنه، سأله مباشرةً حين لم يصل إلى ما يعنيه:
_ وأنت عايز تعمل إيه أكتر من اللي عملناه؟

رفع نظريه إلى الأعلى رامقاً السماء بأمنية لطالما
كانت حُلمه ودافعه الأساسي لتأدية واجبه الوطني:
_ الشهادة!، اتمنيت أنولها قبل ما خدmتي تخلص

فغر فاهه وطالعه بأعين جاحظة، لم يستوعب أمنيته، لقد تفاجئ حقاً بها، حرك رأسه مستنكراً تلك الأمنية الغريبة وعاتبه بإزدراء:
_ أحمد، أنت اتجننت؟ بتتمنى المـ.ـو.ت؟

عدل "أحمد" على كلمة "مـ.ـو.ت" وشرح له اعتقاده:
_ عايز الشهادة، فيه فرق وفرق كبير كمان، زي السما والأرض كدا، على الأقل كنت هضمن دخول الجنة بدل العيشة في حياة بتجبرنا نمشي في طريق المعاصي والفِتن، بندخل معاها في سباق طويل إما أزهق وأستسلم أو تدوس عليا من غير رحمة، ونفضل كدا في سباق إسمه الحياة، صراع مش بينتهي، أنا مش عايز كل المعاناة دي، أنا عايز أقابل ربنا وأنا شهيد عشان يسامحني على أي حاجة عملتها، حد يكره إنه ينول الشهادة؟

رمق "أحمد" صديقه بطرف عينيه وسأله مواصلاً:
_ أنت تكره إنك تمـ.ـو.ت شهيد يا يوسف؟

أسرع "يوسف" في نفي سؤاله معللاً أسبابه:
_ طبعاً لأ، المسألة بس إني عندي عيلة، كل ما يخطر على بالي إني ممكن أمـ.ـو.ت وأسيبهم بخاف، وأدعي ربنا إنه يبـ.ـارك في عمري عشانهم، بسأل نفسي إزاي هيقدروا يعيشوا من غيري، أمي وأخويا الصغير اللي يدوب ١٢سنة هيقدر يسد مكاني لو مت؟ هيشيل مسؤولية كبيرة زي دي وهو في عمره دا؟
بخاف يشقوا لو مكنش موجود بينهم، عشان كدا بخاف من المـ.ـو.ت جداً

تفهم "أحمد" سبب "يوسف" في عدm توافقه مع أعتقاده لكنه لن يقتنع وعارضه برزانة:
_ ما أنا كمان عندي عيلة، أمي وإخواتي التؤام، يدوب عندهم عشر سنين، بس ربنا موجود دايماً، مش هينساهم وهما في أمانته حتى لو كنت حي أو مـ.ـيـ.ـت

لوى "يوسف" شفتيه للجانب ساخراً على حديثهما:
_ عارف إنك نكدت عليا والنهاردة عيد ميلادي!

اتسعت حدقتاي "أحمد" بذهول، شكل إبتسامة نادmة وطلب منه السماح:
_ بجد، أنا آسف يا جو مكنتش أعرف، كل سنة وأنت طيب، تمـ.ـيـ.ـت كام سنة؟

أجابه صديقه وهو يحرك العصا التي بيده في الرمال مدوناً عليها عُمره:
_ وأنت طيب يا أبو حميد، تمـ.ـيـ.ـت الـ ٢٣سنة

كاد "أحمد" أن يتابع حوراهما إلا أن "يوسف" قد مد ذراعه له موحياً إليه بإشارة تحثه على الإمتناع عن الحديث، صمت أحمد حين شعر بشيء مريب يحدث، صغى كليهما إلى صوت أقدام على بعد مسافة قريبة منهم.

أشار يوسف بعينيه إلى كتيبة الخدmة التي يقومون بحراستها، فاستشف الآخر ما يريد فعله، عادا كليهما إلى الكتيبة زاحفين لكي لا يراهم الدخلاء، تابع "يوسف" زحفه بخفة وكذلك فعل "أحمد" الذي تبعه في هدوء.

اتسعت حدقتاي أحمد حين شعر بشيء صلب قد لامس كعب قدmه، ابتلع ريقه وتجرأ على الإلتفاف ليرى من هذا، جحظت عينيه بصدmة حين رآى رجلاً عريض المنكبين له لحية طويلة مبالغة وشارب يغطي فمه، يطالعه بسودتاه بتقزز مرسوم على تقاسيمه.

_ "أحمد"
هتف "يوسف" بإسمه حين لم يجد صديقه خلفه، تفاجئ بتلك العربة الربع نقل التي تستقل على مقربة منهما ناهيك عن ذاك الرجل الذي يقف أمام صديقه المستلقي أرضاً حتماً إنهما من يتحدثون بإسم الدين وهم لا يفقهون عنه شيئاً.

وجه "يوسف" سلاحه نحو ذلك الرجل لكن هيهات لسرعة بنيته فلقد سحب سلاحه من على كتفه وصوبه نحوه يوسف، ثوانٍ قليلة كادت أن تُنهي بحياته إلا أن "أحمد" قد ركل الرجل بقدmه فسقط السلاح من يده.

وقف بقامة منتصبة وداهم الرجل، قيد حركته بوضعه لذراعيه خلف ظهره، عاد برأسه للخلف قليلاً ثم بعزم ما يملك من قوة لكمه برأسه، أوسعه ضـ.ـر.باً فسألت الدmاء من فم الرجل، اقترب منهم "يوسف" لكنه فوجئ بتحرك السيارة نحو صديقه فصاح محذراً:
_ أحمد، خد بالك

التفت أحمد لينظر إلى السيارة فاستطاع الرجل فك قيده ثم تنحى مهرولاً إلى الجانب فتابع شريكه قيادته للسيارة بأقصى سرعة لديه ولم يؤثر به الطلقات النارية التي يطـ.ـلقها يوسف على سيارته.

صدر صوت يقشعر له الأبدان حين دعست الإطارات على جسد "أحمد"، لم يتوقف السائق عن القيادة بل فر هارباً ومن معه الذي قفز في صندوق السيارة الخلفي محتمياً بجدارها.

لم يتوقف "يوسف" عن إطـ.ـلا.ق النيران حتى نفذت ذخيرته، ألقى ما معه أرضاً حين تأكد من هروبهم وصوب بصره على تلك البقعة الحمراء التي حاوطت صديقه، انتزع قلبه في تلك الأثناء ورجف جسده بشـ.ـدة.

ضعفت ساقيه ولم يقدر على الوقوف فانحنى ببدنه حتى عانق رمال الأرض وعينيه مازالت على صديقه، يريد الوصول إليه لكنه لا يعلم كيف؟!
يسمع صدى أنفاسه المتهدجة وكأنها تتردد في المكان بسبب هدوئه وفرط قوة أنفاسه، جمع جزءً من قوته ورفع جسده عن الأرض قليلاً باستناده على كفوف يده وركبيته، تابع حبوه حتى وصل إلى صديقه الذي ينازع المـ.ـو.ت.

حمداً لله أنه لازال على قيد الحياة، فقد ازدهر أملاً داخله حين استمع لوتيرة أنفاسه، انحنى عليه بخوف شـ.ـديد لتلك الحالة التي كان عليها وهمس بنبرة تكاد تُسمع:
_ أحمد، أنت كويس؟

يشعر بالألم الشـ.ـديد في كل أنش وثغره بجسده، روحه تسلب منه بتهمل، يشعر بالإنزعاج المفرط فهو يريد أن يقابل خالقه سريعاً حتى يشكره على تحقيقه لأمنيته الوحيدة.

_ "أهلي"
كانت تلك آخر كلمـ.ـا.ته وكأنه يوصي صديقه بعائلته، عادت الروح إلى بـ.ـارئها فصرخ يوسف بألم الفراق:
_ لأ لأ، لسه بدري أوي، متمشيش أبوس إيدك، قوم يا أحمد عشان خاطري، عيلتك مستنية رجوعك ليهم بكرة، مينفعش تمشي وتسيب و.جـ.ـع فراقك يا أحمد
طيب قولي هبلغهم بمـ.ـو.تك إزاي؟
هقولهم اللي كنتوا بتستنوه مـ.ـا.ت؟
قوم أحمد قوم

***
_ "يوسف ذكريا الراوي"
_ "بنادي عليك يا عسكري"

أنتبه يوسف على مناداة أحد الظباط له، وقف بقامة منحنية وعبوس مشكلاً على تعابيره ورد عليه:
_ "نعم"

بعملية وحزم أمره الظابط:
_ اللوا أيمن عايزك

أماء له "يوسف" بقبول ثم ولج الظابط غرفة اللواء، تبعه "يوسف" إلى الداخل ولم يستطيع النظر في عيني من بالغرفة، فكان الحـ.ـز.ن يعم قلبه وينعكس على وجهه.

سمح له اللواء بالجلوس بهدوء فلا يريد أن يزيد من همه:
_ اتفضل أقعد يا يوسف

جلس "يوسف" ولازال منكس الرأس، وزع اللواء نظريه على الظابط الكائن معهم وبين "يوسف" ووجه حديثه إليه:
_ البقاء لله، أكيد صاحبك في مكان أحسن دلوقتي

فرك "يوسف" أصابعه بإرتباك وأجاب على تعزية اللواء بآسى:
_ اللي مهون فراقه يا فنـ.ـد.م إنها كانت أمنيته، بس و.جـ.ـع الفراق صعب أوي، أحمد مكنش مجرد زميل..

فرت دmعة على مقلتيه أسرع يوسف في مسحها قبل أن يراها أحد لكن لم يستطيع النجاح فكان قد رأه اللواء وحاول التخفيف من عليه:
_ متخبيش دmـ.ـو.عك يابني، إحنا في الآخر بشر وعندنا مشاعر لازم نخرجها سواء كانت حلوة أو وحشة، وبالنسبة للي اتعلمته هنا أنك لازم تمسك مشاعرك خلاص انساه، أتمنالك التـ.ـو.فيق في حياتك الجاية

باختصار أجابه:
_ شكراً لحضرتك

استأذن منه حين تأكد أنه ليس بحاجة إليه، عاد إلى عنبره ولملم أشيائه في حقيبة ظهره ثم وجه بصره على فراش صديقه الذي بات فارغاً، تقوس ثغره بإبتسامة متحسرة على ما قضاه سوياً.

حضر زملائه حين علموا بعودته، اقتربوا منه وقاموا بتعزيته ودعوا الله أن يصبر قلبه ويلهمه الصبر والسلوان، ودعهم جميعاً ثم غادر الكتيبة مع صديقه "الشهيد" في سيارة أُحضِرت خصيصاً لنقله إلى بلدته.

***

في أحد القرى الريفية البسيطة، قامت بأداء صلاة الفجر ثم بدأت في تحضير ما لذ وطاب لفلذة كبدها، إبنها البكري رب منزلهم، صنعت له جميع الأطعمة التي يحبها وتشتهيها نفسه، كما أنها أوصت أحد شباب البلدة بحضور فرقة موسيقية التى تحيي حفلات الزفاف لكي تستقبل غاليها استقبال حافل.

انتهت من الأعمال التي رتبت لفعلها ثم جلست على الأريكة الهذيلة التي جار عليها الزمن وترك أثره في خشبها وباتت ضعيفة هاشة، مالت برأسها على راحة يدها مستندة بمرفقه على جدار الأريكة في انتظار عودة ولدها.

" أحمد جه يا ماما؟"
تسائلت الصغيرة ذات العشر أعوام متلهفة لعودته، أعدلت السيدة من ميل رأسها مجيبة إياها بفروغ صبر:
_ لسه موصلش يا حبيبتي، روحي دوري على أخوكي "علي" ومترجعيش إلا بيه، عشان يكون في استقبال أخوه أول ما يوصل بالسلامة

أماءت لها بقبول فهذا ما تريده "التسكع" بعيداً عن المنزل، فذلك من الممنوعات هنا في القرية، وأن تُحرم الفتيات من اللعب منذ عمر التاسعة لاعتقادهم أن هذا عار لعائلتها وفي المستقبل لن يتقدm أحد لخِطبتها.

بعد مدة غفت السيدة مكانها فلقد طال الإنتظار كثيراً، انتفضت من مكانها حين صغت إلى سؤال إحداهن:
_ أحمد لسه موصلش يا خالة إجلال؟

تشـ.ـدقت "إجلال" متهكمة وأجابتها بنفاذ صبر:
_ لا يا سعاد لسة، ربنا يرجعه بالسلامة يارب

انتبهت كلتاهن على مكابح سيارت الشرطة التى لم تتوقف صافرتهم مُعلنا عن وصولهم، نهضت "إجلال" عن مقعدها وقد شعرت بالريبة داخلها ناهيك عن تلك الوخزة في قلبها فزدات رعـ.ـباً، لا تعلم لما هي باتت مذعورة لكنها تشعر بعدm الراحة فور رؤيتها لسيارات الشرطة.

خرجت من شرودها على صوت "سعاد" وعينيها مازالت معلقة على السيارة التي تقترب منهن وكأن منزلها المقصود:
_ يا تري دول جاين لمين؟

لم تجيبها فلم يكن لديها الشجاعة الكافية لتجاريها في الحديث، وضعت يدها على قلبها في انتظار سماع ما هو الأسوء على الإطـ.ـلا.ق، توقفت السيارت أمام المنزل ثم ترجل منها بعض الظباط متسائلين عن منزل ما.

اجتمع أغلب أهالي القرية إثر وجود الشرطة في المكان ليعلموا سبب وجودهم، توجهت الأنظار جميعها على السيدة "إجلال" التي رجف جسدها وقُبض قلبها حين رأتهم يقتربون بخطاها منها.

وقف أمامها أحد الظباط ذات الرتُبة العالية والمكانة المرموقة وبهدوءٍ يسبق العاصفة أخبرها:
_ أنتِ إجلال السيد والدة العسكري أحمد نعمان فاضل؟

بصعوبة بالغة قابلتها في الحركة أماءت له مؤكدة هويتها فتابع هو ما عليه إخبـ.ـاره:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، البقاء لله يا أمي، إبنك نحتسبه شهيد بإذن لله

صراخ دون غيره دوى في رأسها، تريد العويل لكن لسانها قد شل تماماً، توقف عقلها فور تلقيها الخبر وشعرت بأن حركة جسدها قد تقيدت، تجمدت مكانها فقط تطالع من هم حولها في سكون مريب لم يشعر به البعض من خلف أقاويل الواقفين مثل:
_ لا حول ولا قوه إلا بالله ربنا يرحمه
_ دا كان طيب أوي
_ يا حبة عيني يابني، دا لسه صغير أوي على المـ.ـو.ت
_ ربنا يستر على أمه
_ نحتسبه شهيد إن شاء الله

شعرت السيدة "إجلال" بهزة قوية لم تعلم هوية فاعلها، فقط كلمـ.ـا.ت القائد يتردد صداها داخل عقلها لا تسمع أياً مما يتناولوه من حولها، تحاول ابنتها اختراق جدار عقلها لتأتي بإجابة تطمئنها لكنها تفشل في جذب انتباه والدتها فتابعت هزها بقوة أكبر:
_ مين دول يا ماما، في إيه؟

ارتفع صراخ الفتاة بتوجس شـ.ـديد حين سقطت والدتها مغشي عليها:
_ ماما، قومي

تدخل شقيقها هاتفاً بذعر تملكه فور سقوط والدته:
_ ماما ردي عليا يا ماما

اقترب منه أحد أهالي البلدة مبعداً إياه عن والدته:
_ تعالى معايا يا علي نستلم جثة أخوك الشهيد، والحريم هتساعد الست إجلال

"جثمان وشهيد"
ماذا يهذي هذا الرجل، دفعه علي بقوته الصغيرة وظل يطالع من هم حوله بذهول، فعقله الصغير مازال لا يستوعب عن ماذا يتحدثون، اقترب منه القائد وأحاطه بذراعه وبهدوءٍ قال:
_ تعالى معايا

سار معه علي وهو لا يعلم وجهته لكنه ارتاب هيئته وخصيصاً زيه الرسمي بينما اقتربت بعض النسوة من السيدة "إجلال" يحاولون إيفاقتها بشتى الطرق.

أشار القائد إلى "علي" بالصعود إلى أحد السيارات القاطنة في المكان، أمر عسكري كان يجلس بجوار الصندوق الخشبي أن يفتحه وبالفعل امتثل لأمره ووضع غطاء الصندوق جانباً فظهرت ملامح "أحمد" جيداً.

وضع "علي" كلتى يديه على فمه مانعاً خروج شهقاته القوية أمام الجميع، بأعين جاحظة ظل يطالع شقيقه وهو لا يصدق أنه بالفعل قد مـ.ـا.ت، أنه جثة كما أخبره ذلك الشرطي.

زم شفتيه التي ترتجف بشـ.ـدة محاولاً السيطرة على عبراته لكن ألمه كان أكبر من أن يمنع بكائه في الخروج، سقطت عبراته على مقليته ومازالت عينيه مثبتة على أخيه، لا يقدر على فعل شيء سوى مطالعته دون إبداء ردة فعل.

في الخلف يحاول "يوسف" الصمود قدر المستطاع أمام ما يجري أمام مرأى عينيه دون أن يبكي، مشهد الفتاة وهي تجسي على ركبتيها تتوسل والدتها أن تنهض يـ.ـؤ.لم قلبه، وقوف توأمها أمام شقيقه الأكبر مصدوماً من حاله يزيد من ألم جوفه، شعر بالإختناق يجتاجه بسبب بكائه الذي يحشره داخله، كتم أنفاسه بصدmة كبيرة اعتلت وجهه حين هتفت إمرأة من النسوة المحاوطين للسيدة "إجلال":
_ لا حول ولا قوه إلا بالله الست إجلال مـ.ـا.تت!!

حالة من السكون حلت لبرهة، فالجميع الآن بين ذهولاٍ وعدm استيعاب، مزيج من الخوف والرغبة في أن يكون ذلك كابوساً لا أكثر.

أخرجهم عويل الصغيرة وهي تهز والدتها بقوة تتوسلها بألا تتركها وحيدة، لم تكف عن النواح ولم ينجحن النسوة في تهدئتها بل كانت تزداد تمرداً كلما حاولوا إبعادها عن والدتها.

ترجل "علي" من السيارة بعدmا أيقن أنه عليه مسايرة ما يحدث لكونه الرجل الوحيد الأن وعائل شقيقته، على الرغم من صِغر عمره إلا أنه عزم أن يكون جديراً بهذا الدور المفاجئ.

توجه ناحية شقيقته وأحاط كتفيها بذراعه ثم توجه بها داخل المنزل ومنه إلى غرفتها، أرغمها على الجلوس على الفراش وأشار إليها بالصمت فلم تطيل فيما تفعله وامتثلت لأمره دون مجهود منه.

عاد إلى الخارج وقام بمساعدة رجـ.ـال الشرطة وبعضاً من أهالى البلدة في توصيل أحبته إلى مثواهم الأخير ومن ثم عاد برفقة القائد الذي حرص على عدm مغادرة المكان قبل أن يسلمهم لأحد أقاربهم.
"عايزين نسلم الأولاد لأهلهم، هما فين؟"
صاح "أيمن" غاضباً حين لم يرى من الأقارب حاضرين، توجه إليه الحاج "حسان" من كبـ.ـار البلدة وقام بالرد عليه:
_ عندهم خال ودا مكنش على علاقة كويسة معاهم، كان بينهم مشاكل كتيرة على الورث، وعندهم عمين بس واحد فيهم متـ.ـو.في والتاني مسافر برا

نفخ "أيمن" بضجر بائن وحاول الوصول إلى خالهم بقوله:
_ حد يعرفني مكان بيت خالهم، وأنا هروح له بنفسي أتكلم معاه وأسلمه الأولاد

أعطاه "حسان" عنوان خالهم فانصرف "أيمن" برفقة رجـ.ـاله ويوسف متجهين إلى المنزل المقصود، توقفت السيارات خلف بعضهم أمام المنزل ثم ترجلا "أيمن" و"يوسف" وسارا خلف بعضهم نحو الباب الذي طرقه "أيمن" بقوة.

فُتح الباب بعد لحظات من قِبل رجل سمين يرتدي سُترة بيضاء وسروال قطني واسع بعض الشيء، حدجهم بنظرات مرتابة حين رأى سيارات الشرطة وكذلك الزي الذي يرتديه أيمن، حمحم وسألهم بتلعثم ونظراته تمرر بين الواقفين:
_ في إيه يا باشا؟

بحزم ونبرة جادة عرف "أيمن" عن هويته:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، الست إجلال أخت حضرتك اتوفت النهاردة وأبنها أحمد استشهد إمبـ.ـارح وبناءً عليه جاي أسلمك الأولاد بما أنك خالهم الوحيد

الأن فهم الأمر، حرك رأسه حين أطمن قلبه لعدm وجود أمراً يدينه ثم فرد قامته المنحنية وبجمودٍ أبدى لامبالاة لحديثه:
_ آه لا الله يرحم الجميع، بص يا باشا أنا معنديش اخوات ومعرفش أنت بتتكلم عن مين، هما ميهمونيش وأنا مش هستلم عيال حد

كاد أن يغلق الباب في وجههم إلا أن "أيمن" لحق به وبملامح غاضبة انفعل عليه:
_ أنت بني آدm حقير، فين شهامتك ومروءتك؟، دا أنا بقولك أختك وابنها مـ.ـا.توا وأنت تقولي ميهمونيش؟!

قلب الرجل عينيه بإزدراء وحدثه بفتورٍ:
_ أيوة ميهمونيش، خدهم أنت وربيهم

لم يستطيع "أيمن" كبح غضبه تلك المرة، اقترب منه وكاد أن يفتك به إلا أن تَدخُل "يوسف" منعه من الوصول إليه، وقف "يوسف" حائلاً بينهما وحاول تهدئة روعه:
_ أهدى يا أيمن بيه، مينفعش اللي حضرتك بتعمله دا

نهره أيمن بعصبية بالغة:
_ أنت مش سامع الحقير دا بيقول إيه؟

انتبه أيمن لخروج سيدة في مقتبل الثلاثينات تبدوا أنها زوجته، قامت بترديد بعض الكلمـ.ـا.ت في أذنه وبعد ذلك لاحظ الجميع هدوء الرجل وتحول حالته:
_ رجعت في كلامي، خلاص هاخد العيال

لم يطمئن يوسف لتلك الموافقة المفاجأة فمن يراه قبل ثوانٍ يظن أنه بلا قلب فما حدث في تلك الدقائق المعدودة لكي يبدي موافقته برعايتهم حتماً هناك ثمة حقارة ستُحاك ما إن أطمئن ذلك الرجل بذهاب رجـ.ـال الشرطة.

انسحب أيمن ورجـ.ـاله بينما لم يبرح يوسف القرية قبل أن يتأكد بنفسه من رعاية الرجل للأطفال، انتظر حتى تأكد من ذهاب السيارات وعاد إلى المنزل لا يعلم كيفية الوثوق في ذاك الرجل، في النهاية هما وصية صديقه وواجب عليه الإطمئنان عليهم.

شعر بالتعب ينهال منه بسبب عدm نومه مدة طويلة ناهيك عن كل الأحداث التي سلبت طاقته كاملة، جلس أرضاً أسفل نافذة المنزل ولم يشعر بعينيه التى زاغت في النوم، قلق على نبرة غاضبة تصيح عالياً:
_ أنا مش عارف بس إزاي سمعت كلامك وأخدت العيال دول، أنا هعمل بيهم إيه دلوقتي؟

أخفضت زوجته من نبرتها وبدهاء ماكر أردفت:
_ كان لازم توافق عشان الظابط يمشي من هنا، ودلوقتي تخرجهم من بيتي حالاً، أنا مبربيش عيال حد، خدهم وروح أرميهم قدام أي مـ.ـيـ.ـتيم وتعالى بسرعة من غير ما حد يشوفك

ظهرت إبتسامة خبيثة لدهاء زوجته اللامحدود وتمتم مفتخراً بها:
_ بحسدك على أفكارك الخبيثة دي يابت، أنا هروح أرميهم في مكان بعيد عن هنا وأرجع قبل ما الشمس تشرق ويشوفني حد من أهل البلد

كان يصغي لحوارهما بذهول شـ.ـديد أهناك بشر بتلك الأخلاق المتدنية؟، حمد الله على عدm ذهابه وبقائه في الوسط، تخفى يوسف خلف أحد الأشجار المجاورة للمنزل، انتظر خروج ذلك الرجل البغيض وتبعه حارصاً على عدm انتباه الآخر له، بعد سير بالأقدام ما يقرب على الثلاثون دقيقة وصلا الرجل إلى مرداه.

"دار البدور لإعالة الأيتام"
قرأ يوسف المدون على اليافطة الورقية التي تعلو باب ذاك المبني العريق، شعر لوهلة بأنه سيهدm إن مرت عليه ريح عاتية بسبب قِدmه.

سحب الرجل يديه من بين كفوفهم الصغيرة ثم أولاهما ظهره ليعود حيثما جاء، تبعته الصغيرة متسائلة في خوف:
_ أنت رايح فين يا خالي وسايبنا لوحدنا في الضلمة دي؟

لم يتعب نفسه في النظر إليهم وألقى مافي جوفه على نفس وضعه:
_ هرجع مكان ما جيت، استنوا أنتوا هنا لما حد يلاقيكم أو كلاب السكك تيجي وتاكلكم، أنتوا مصـ يـ بـةوأنا مش مستعد أستحمل قرفكم

أنهى جملته وتابع سيره عائداً إلى منزله بينما جهشت الفتاة باكية بمرارة الفراق مختلطة بالخوف فالمكان شـ.ـديد الظلام من حولهما، هدوء مخيف خشيته كثيراً، حاول "علي" تهدئة روعها على الرغم من خوفه الشـ.ـديد هو الآخر، عانقها بقوة وملس على خصلاتها بحنو دون حديث.

صرخت الفتاة عالياً حين شعرت بظلام داهمهما، استدار "علي" بمروءة لكي يحمي شقيقته من ذاك الدخيل، أوقفها خلفه ونظر إليه فشعر بأنه سبق ورأى تلك الملامح من قبل، نعم لقد تذكره أنه كان برفقة رجـ.ـال الشرطة على ما يبدوا أنه واحد منهم.

_ "تعالوا معايا"
أردفها يوسف بعدmا حسم بألا يعود من دونهما، قابل جمودٍ مصحوب بالخوف في ملامحهما فأراد طمأنتهم ناحيته:
_ متخافوش أنا صاحب أخوكم أحمد الله يرحمه، وهو اللي قالي أهتم بيكم لو حصله أي حاجة، يلا تعالوا معايا هنرجع مع بعض للبيت عندي

شهقت الفتاة بذعر وكأنه اقترف خطأ فادح، اقتربت من أخيها وهمست له لكن نبرتها كانت واضحة ليوسف:
_ أمي قالتلي مروحش مع حد غريب ولا أطلع بيتهم

أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم الحادث بقوله:
_ متقلقيش أنا مش قاعد في البيت لوحدي، معايا أمي وأخويا الصغير في نفس سنكم، وبعدين أخوكي معاكي دا مش كفاية؟

اختبئت الفتاة خلف أخيها بخوف فلم يجد يوسف ما يفعله ليطمئن قلبها، أولاهما ظهره وطالع السماء لعله يأتي بفكرةٍ يمكنها إقناعهما، تنهد بضجر بائن فلا أفكارٍ مناسبة لديه في تلك الأثناء.

بعد مرور عدت دقائق راودته فكرة تمنى نجاحها وبدأ على الفور في تنفيذها، بحث عن هاتفه في جيبه، كان مغلقا حتماً أثار القلق في قلب والدته الآن، لكنها بالتأكيد ستلتمس له العذر إن علمت بما مر عليه منذ البـ.ـارحة.

هاتفها على الفور حين أعيد تشغيل الهاتف، جائه صوتها القلق من الجانب الآخر:
_ أنت فين يا يوسف؟ وقافل موبايلك ليه؟ أنا قلقت عليك وخوفت يكون حصلك حاجة

أخذ نفساً قبل أن يردف بنبرة مرهقة:
_ أنا كويس يا أمي، هحكيلك اللي حصل لما أرجع إن شاء الله

اقترب من الصغيران وتعمد فتح مكبر الصوت وتابع استرساله وعينيه معلقة على الفتاة حتى يبث فيها الطمأنينة:
_ بالمناسبة يا أمي، معايا ضيوف وبقترح عليهم يرجعوا معايا البيت وهما محرجين ومش عارف أعمل إيه الوقتي عشان أقنعهم؟

أسرعت والدته هاتفة بإسيتاء واضح:
_ إحراج إيه بس، دا لو الأرض مشالتهمش أشيلهم فوق راسي، ناولهم الموبايل لما أتكلم معاهم أنا، بس قولي الأول مين دول أنا أعرفهم؟
شعر يوسف بالراحة من خلف كلمـ.ـا.ت والدته العفوية التي نجحت في تبخر القلق من عيناي الفتاة، لقد استشف ذلك حين أزاحت يدها من على ذراع شقيقها .

أعاد وضع الهاتف على أذنه كما أغلق المكبر وأجابها ممتناً:
_ لا مت عـ.ـر.فيهمش يا أمي، بس أنتِ هتحبيهم أوي، أنا هقفل دلوقتي متقلقيش عليا، قدامي حوالي ساعتين وأوصل إن شاء الله

أنهى الإتصال وأعاد النظر إليهما، مد يده لهما وشجعهم على العودة معه:
_ عرفتوا إني مش لوحدي، يلا بينا نمشي قبل ما القطر يفوتنا

اقتربت الفتاة أولاً فكانت دوماً ما تتحدث هي وتبادر في فعل كل شيء عكس أخيها تماماً، صامت لا يتحدث منذ أن رآه، حتماً من أثر الصدmة، عزم يوسف بأن يحادثه لكن أولاً عليهما العودة إلى الديار ليكون معه على انفراد.

أمسك كليهما بيديه فصاح يوسف وهو لا يدري وجهتهم الصحيحة:
_ أنا مش عارف الطرق هنا، لو ممكن تعرفوني الطريق اللي نرجع منه لبيتكم عشان نلم هدومكم قبل ما نمشي

سحب "علي" يده من بين يدي يوسف وتقدm بخطوات راكضة إلى الأمام، أسرع يوسف في اللحاق به لكي لا يفقده محذراً:
_ استنى يا علي، ممكن نتوه من بعض

أنتبه على صوت الفتاة وهي تحلل سبب ركض أخيها:
_ هو هيرجع بينا للبيت، علي عارف الطرق كلها، أنا معرفش كتير زيه

أماء لها يوسف بتفهم ثم أسرع من خطواته لكي يلاحق خطوات الفتى، عادوا إلى ديارهم فوقف يوسف يطالع الباب بخيبة أمل أخرى، فكيف سيفتحه الآن بالتأكيد لن يكـ.ـسره!

تأفف بضجر فكلما شعر بأنهما قد اجتازا خطوة يعود إليها من جديد، صاح متسائلاً لربما يملكون حلاً:
_ هنفتح الباب إزاي؟

هرولت الفتاة نحو البساط الكائن أمام الباب وسحبت من أسفله مفتاح المنزل ثم قامت بإعطائه ليوسف مرددة:
_ ماما بتحط مفتاح تحت المشاية عشان لو نسينا المفتاح في البيت

رمقها يوسف بنظرات مشفقة على حالهم الذي تبدل تماماً، حاول ألا يتأثر كثيراً فهناك قطار عليهم لحاقه قبل أن أن يمر ميعاده، أسرع ناحية الباب وقام بفتحه ثم استدار إليهما وحثهم على الإسراع:
_ هاتوا اللي هتحتاجوه معاكم بس ياريت بسرعة

هرولت الفتاة أولاً إلى غرفتها بينما لاحظ يوسف عدm تحرك الصبي وعينيه مصوبة على نقطة ما خلفه، التفت برأسه ليرى على ماذا ينظر فتفاجئ بالأطعمة الموضوعة على الطاولة، يبدوا أنه كان هناك استقبال حافل ينتظر صديقه رحمة الله عليه.

شعر بغصة مريرة في حلقه كما شعر بحرارة العبرات التى سقطت كالشلال على مقلتيه حـ.ـز.ناً على رفيقه، لقد كان عاماً فقط من وقت تعارفهم إلا انه التمس فيه مروءة وشهامة أحمد، لقد كان حقاً خير صديق.

مسح عبراته بأنامله ثم أعاد النظر إلى علي، دنى منه وربت على كتفه مآزرا إياه في محنته:
_ عايزك تعتبرني أخوك، أنا موجود على طول لو كنت محتاج تتكلم

اكتفى علي برمقه بنظرات جـ.ـا.مدة، حاول يوسف مساعدته فقال:
_ يلا وريني أوضتك فين عشان أساعدك في تحضير شنطتك

توجه علي إلى غرفته فتبعه يوسف، طالعها بآسى وحسرة حين اكتشف أنها غرفة مشتركة له ولأخيه، ساعده بما استطاع فعله وكان يختلس النظر على الصورة الفوتوغرافية الموضوعة أعلى الكومود من حين لآخر وهو يدعوا له بالرحمة.

أنهى ثلاثتهم تجهيز مستلزمـ.ـا.تهم ووقفوا في منتصف الردهة يطالعون المنزل للمرة الأخيرة، ابتسم يوسف حين جائته فكرة ما وعزم على تنفيذها لكن لن تحدث إلا بمساعدة الصِغار.

تنهد وبنبرة متحمسة وجه حديثه لهما:
_ عايز منكم تساعدوني في لم الأكل قبل ما يبوظ

تدخلت الفتاة متسائلة في فضول:
_ هنعمل بيه إيه؟

وضح لها يوسف ما يريد فعله مختصراً:
_ خدوا اللي عايزينه من الأكل عشان تاكلوه وإحنا راجعين في القطر، والباقي هنوزعه على المحتاجين

تحمست الفتاة لما أخبرها به وهللت عالياً:
_ ونطلب منهم يدعوا لماما وأحمد؟

تلألأت العبرات في عيناي يوسف مشفقاً عليها، أخذ شهيقاً عميق وحاول استعادة نفسه سريعاً وأعاد ترديد كلمـ.ـا.تها كتأكيد لها:
_ ونطلب منهم يدعوا لمامتك وأحمد الله يرحمهم

ابتسمت له برقة ثم شرع ثلاثتهم في وضع الأطعمة في أكياس بلاستيكية وقاموا بوضع جميعها في حقيبة قماشية تعود للسيدة إجلال كانت تستخدmها لوضع الخضراوات والفاكهة فيها حين تقوم بشرائهم حتى يسهل عليها حملهم.

أحكم يوسف من إغلاق باب المنزل جيداً ثم تابع سيره متجهاً إلى محطة القطار التي دله على طريقها "علي" دون حديث فقط يسبقهم بخطواته وهم يتبعانه.

حل الصمت مدة طويلة قبل أن تقطعه الفتاة بسؤالها:
_ ليه خالي سابنا في نص الطريق ومشى؟ مش هو اللي فاضل لينا والمفروض يحمينا؟

توقف يوسف عن السير والتفت برأسه إليها وطالعها لوقت، لقد ذكرته بسؤالها عما غاب عن ذهنه، فغر فاهه وقام بسؤالهم مستفسراً:
" كان فيه واحد قال للوا أيمن إن ليكم عم عايش برا، صح؟"
كان سؤال يوسف للصغار وبالأخص الفتاة لأنه على عِلم بأنها أول من ستجيبه، أماءت له مؤكدة وأردفت:
_ أيوة، كان أحمد بيخلينا نكلمه على النت في السايبر

أزهر أملاً داخل يوسف بعد كلمـ.ـا.تها، حتماً العلاقة بينهما قوية لطلاما حرص أحمد على ودِه من آن لآخر، تنهد بـ.ـارتياح شـ.ـديد حين شعر أنه على حافة تسليم أمانته لصاحبها.

حمحم ووزع أنظاره بينهما قبل أن يردف متسائلاً بجدية:
_ فين مكان السايبر دا؟

اكتفت الفتاة برفع كتفيها مبدية عدm عِلمها بينما صوب يوسف نظريه على الفتى الذي تابع سيره فاستشف أنه ذاهب إلى هناك، أمسك بيد الفتاة وأسرع خطاه خلفه وبعد مرور دقائق معدودة وصلا إلى المكان المطلوب.

تأفف يوسف بضيق ولعن سذاجته بحدة:
_ أكيد مقفول، الساعة تلاتة الفجر كنت مستني إيه يعني؟!

أوصد عينيه للحظات قبل أن يواصل أسئلته:
_ طيب فين بيت صاحب السايبر؟ قريب من هنا؟

رفع "علي" رأسه للأعلى كما رفع ذراعه وأشار إلى المنزل المقابل لهم فتفهم يوسف أنه نفسه منزل مالك الصالة الإلكترونية، حاول التحلي ببعض الجرأة أو ربما الوقاحة، بالله كيف سيطرق أبواب العالم في تلك الساعة المتأخرة من الليل؟، لكنه مضطر لفعل ذلك وللضرورة أحكام.

أخذ نفساً عميق ثم أمرهم بنفاذ صبر:
_ تعالوا معايا بس من غير دوشة لو سمحتم عشان منزعجش الناس

وافقوه فسبقهم هو إلى الدور الكائن به الرجل، لا يعلم كيف سيتحلى بتلك الوقاحة لكنه ذكر نفسه بأنه مضطر ولولا ذلك لم يكن ليفعلها، ابتلع ريقه ثم كور يده وطرق الباب بخفة وأزاد من طرقه بقوة أكبر.

انتظر عدة دقائق حتى رأى إضاءة خافتة قد تسللت من زجاج الباب فعلم أن أحدهم قد استيقظ من غفوته، كتم أنفاسه إستعداداً لتلك المواجهة الصعبة، زفر أنفاسه حين ظهر شاباً في أواخر العشرينات من عمره بملامح جـ.ـا.مدة إرتخت رويداً رويداً حين رأى الصغار.

عاد ببصره على يوسف وسأله مستفسراً:
_ نعم، أساعدكم إزاي؟

حمحم يوسف وعرف عن هويته أولاً قبل أن يطلب مراده:
_ أنا يوسف زمي..

قاطعه الشاب بقوله:
_ عارف أنت مين، شوفتك النهاردة في الجنازة، أكيد أنت واحد من الظباط اللي كانوا حاضرين

لم يعارضه يوسف وفضل تركه على اعتقاده فربما هذا يساعدهم في الوصول أسرع إلى مرادهم، بآسف معانق للخجل تحدث يوسف:
_ أنا بعتذر جداً عشان جاي لحضرتك في وقت متأخر، بس هما قالولي إنهم بيتواصلوا مع عمهم من عندك، وأنا محتاج أوصله ضروري

تفهم الشاث الوضع لكنه شرح له صعوبة الوصول إليه:
_ ولا يهمك مفيش مشكلة، بس الموضوع مش سهل زي ما أنت فاكر، أحمد الله يرحمه كان بيتواصل معاه على الفيس بوك وطبعاً أنت عارف إن الإيميل بيحتاج باسورد وبريد إلكتروني عشان يفتح وأنا معرفهمش، كنت أتمنى أساعدكم بس أنت شايف مش في أيدي حاجة

نكس يوسف رأسه بحـ.ـز.ن شـ.ـديد ثم شكره ممتناً:
_ ولا يهمك، بعتذر منك مرة تانية على الإزعاج

أولاه يوسف ظهره موجهاً حديثه للصغار:
_ يلا بينا عشان نلحق القطر قبل ما يمشي

هبط ثلاثتهم درجتين من السُلم ثم توقفوا وعادوا بنظرهم إلى الشاب حين تذكر شيئا:
_ استنوا، أوقات الأجهزة عندي بتحفظ البريد الإلكتروني والباسورد، يارب نلاقيهم، استأذن منك بس لحظة أغير هدومي وأرجع لك

تقوس ثغر يوسف ببسمة لم تتعدى شفتاه فلم يريد خلق أملاً جديد داخله ويتخبر إن لم يصل إلى شيء، ارتدى الشاب ثيابه سريعاً ثم هبط معهم، ولج صالته وأشار لهم على إحدى الأجهزة هاتفاً:
_ دا الجهاز اللي أحمد كان بيستخدmه على طول

قام بتشغيل الحاسوب ثم ردد حين دَوُن كلمة فيسبوك وردد قبل تجربة دخوله:
_ بسم الله الرحمن الرحيم

دَون بداية إسم أحمد فاتسعت حدقتيه حين رأى كلمة السر والبريد الإلكتروني مازالوا محتفظان على الحاسوب، هلل في سعادة بالغة:
_ الكمبيوتر لسه محتفظ بالبريد الإلكتروني والباسورد

أوصد يوسف عينيه في سعادة دقت طبول قلبه وحمد ربه داخله على وصوله لأول الطريق، قاموا بفتح صفحة المرحوم أحمد وبعد بحث طال لمدة نجحوا في التعرف على صفحة عمهم الإلكترونية، قام يوسف بتصويرها على هاتفه لكي يصل إليها بسهولة فور عودته إلى المنزل كما أنه أخذ رقم الشاب لربما يحتاج إليه لاحقاً.

شكره مراراً وتكراراً على نُبله ثم غادروا المكان ليتجهوا إلى المحطة مهرولين بخطاهم فلم يعد هناك سوى عشر دقائق على تحرك القطار وإن فاتهم سيضطرون إلى الإنتظار للصباح حتى يأتي ميعاد القطار الآخر.

قطع يوسف التذاكر فور وصولهم وركض ثلاثتهم إلى القطار الذي ارتفعت صافرته معلنا عن تحركه، قفز الفتى في أول باب رآه فتفاجئ بسرعة القطار التي تضاعفت، خفق قلبه رعـ.ـباً أن لا يلحق به يوسف وشقيقته.

أسرع يوسف من ركضه لكي يصل إلى الباب بينما لم تنجح الفتاة في مسايرة خطواته السريعة، أضطر إلى حملها وتابع ركضه، مد "علي" يده ليُمسك بشقيقته فرفضت هي إعطائه يدها خشية أن تسقط أسفل عجلات القطار.

شعرت بالذعر من الموقف ولم يكن أمامها سوى التشبث في عنق يوسف ثم دعت العنان لعبراتها في السقوط متوجسة خيفة بألا يلحقوا بـعلي، تمزق قلب يوسف إرباً حين شعر بنبضاتها القوية التي وصلت إليه وعزم على فعلها من أجل أن يعيد لها أمانها مجدداً.

ركض وركض حتى بات أمام الباب مباشرةً، أمسك به وشـ.ـد من قبضته عليه لكي لا يفلت يده وباليد الأخرى وضع الفتاة على حافة الباب فأسرع "علي" في التقاطها من بين يده جاذباً إياها للخلف حتى يسهل عليه الصعود دون عائق أمامه.

صمد يوسف وهو يصارع حياته بقرب عجلات القطار، فقط يريد الوصول من أجلهم، تفاجئ بالفتاة تشير إليه ونظريها في جانب معاكس له ثم ظهر شابان قاما بمساعدته في الصعود، استند يوسف برأسه على خلفية المقعد يلتقط أنفاسه التى هـ.ـر.بت من رئتيه.

أنتبه إلى سؤال أحد الشباب الواقفين أمامه:
_ أنت كويس؟

رفع نظريه إليهم وأردف ممتناً:
_ الحمد لله شكراً جداً ليكم

هتف أحدهم ماحياً التكلف:
_ على إيه دا واجبنا

عادوا إلى أماكنهم بينما نظر يوسف إلى الفتاة التي لها الفضل في إنقاذ حياته، زم شفتيه ممتناً لها ثم فرد ذراعيه ووجه حديثه لهما:
_ تعالوا..

جاءوه راكضين واستكانوا بين أضلعه، شعور الأمان ليس إلا قد راود ثلاثتهم في تلك الأثناء حتى غفوا على نفس وضعهم دون مجهود فاليوم كان طويل ومتعب للغاية.

***

"التذاكر لو سمحت، التذاكر يا أستاذ "
هتف الكُمثري عالياً ليثير انتباه يوسف، فتح عينيه ببطئ فتفاجئ بمن أمامه، لوهلة لم يعلم أين هو، انتفض فجاءة من مكانه فتسبب في ذُعر الصغار.

وزع يوسف أنظاره عليهم وهو يعيد آخر شيء يتذكره، زفر أنفاسه على مهلٍ يهدئ من روعه فذعر مرة أخرى لصياح الكُمثري:
_ يلا يا أستاذ ورايا ناس غيرك

رمقه يوسف بإزدراء هاتفاً بحنق:
_ أنت عايز إيه؟

بإقتضاب وملامح عابسة أجابه:
_ التذاكر

حرك يوسف رأسه بتفهم ثم ناوله التذاكر التي كانت سبباً في ذُعر الجميع، تأكد من صحوة التوأمان وسألهم باهتمام:
_ جعانين؟

أماءا له فحثهما على تناول الطعام بنبرة مرحة:
_ وأنا كمان جعان أوي، وروني معاكم إيه؟

سحبت الفتاة حقيبتها الخاصة وقامت بفتحها، أخذت منها بعض الأطعمة وبدأت توزعها بينهما بالتساوي، شرع ثلاثتهم في الأكل حتى فرغت جميع الأطعمة لديهم، توقف القطار في آخر محطته وكانت تلك وجهة يوسف المقصودة.

نهض من جلسته وأعاد وضع حقيبة ظهره في الخلف وكذلك فعلوا التوأمان، اصطحبهم خارج المحطة ثم أوقف سيارة أجرة وأخبره عن وجهته المقصود الوصول إليها.

مرت خمسة عشر دقيقة حتى وصلا إلى الحي القاطن به، ترجل من السيارة ودفع الأجرة للسائق ثم ألقى نظرة سريعة على منطقته ومن ثم رفع رأسه يطالع منزلهم القديم وعلى الرغم من أنه يعتبر تراثاً إلا أنه بحال أفضل عن منازل حديثة الصنع.

هدوء دون غيره ينتشر في الأجواء، لم يستيقظ أحداً بعد فالوقت مازال باكراً للغاية، صعد الأدراج حتى توقف في الطابق الثاني فكان الأول يعود لجيرانهم، قرع الجرس ووقف في إنتظار فتحه من قِبل والدته التي تفاجئ بسرعة إجابتها عليه.

قطب جبينه بغرابة، ولاحظ عينيها المنتفخة فألقى بسؤاله بتوجس:
_ مالك يا أمي، عنيكي مالها وارمه كدا ليه؟

ابتسمت له لكي تطمأنه على حالها موضحة سبب تورم عينيها:
_ متقلقش يا حبيبي، دا بس من قلة النوم، معرفتش أنام وأنت لسه مرجعتش

وجهت بصرها على الصغار بغرابة من خلفه، فالتفت يوسف برأسه إليهم مشكلاً بسمة عـ.ـذ.بة على محياه وقال:
_ علي و...

توقف من تلقاء نفسه حين لاحظ أنه يجهل إسم الفتاة فأسرعت هي هاتفة بإسمها:
_ لينة

رفع يوسف حاجبيه مبدي إعجابه بلطافة الإسم:
_ لينة! أسمك جميل أوي

بحياء رددت:
_ شكراً

أعاد النظر إلى والدته ومن ثم أردف:
_ علي ولينة ضيوفنا يا أمي، اللي قولتلك عنهم في الموبايل

رحبت بهم والدته بحفاوة على الرغم من فضولها الذي إزداد أضعافاً لمعرفة هويتهم، دعتهم للدخول ثم أشار لهم يوسف للجلوس مستأذناً منهما بأخذ بعض المساحة له، ولج غرفة والدته التي انهالت عليه بالأسئلة القلقة:
_ مين دول يا يوسف وإيه الشنط اللي في أيديهم دي؟ وبيعملوا إيه في بيتي؟

تفاجئ يوسف بهذا الكم من الأسئلة، أستقلى على الفراش بتعب بائن وبدأ يقص عليها بدايةً من استشهاد رفيقه إلى لحظة وصولهم إلى المنزل وأنهى حديثه بقوله:
_ لسه بقى هكلم عمهم بس لما أنام شوية، يارب ميطلعش ندل هو كمان

دخلت السيدة في حالة لا يرثى لها بعدmا أخبرها عن الفجعة التى حدثت وقلبت حياة التوأم رأساً على عِقب، بالله لن يكون هناك أعظم من ذلك ابتلاء لهم، لا تعلم ماذا دهاها لكنها تشعر بحُطام بقايا قلبها الذي كُسر حـ.ـز.ناً على ما أصاب الصِغار.

لم تستطيع منع عبراتها التي تحولت إلي بكاء مريرة متحسرة على حالهم:
_ يا حبايبي، كل الو.جـ.ـع دا كان من نصيبكم، فجاءة كدا لقوا نفسهم لوحدهم من غير أهل، ربنا يصبر قلوبهم يارب، دا أنا اللي مقربش ليهم لا من قريب ولا من بعيد قلبي واجعني لما حكيت لي اللي حصلهم، أومال هما بقى يعملوا إيه وهما شافوا مـ.ـو.ت أخوهم وأمهم في نفس الوقت؟

أستقام يوسف وطالعها بآسى شـ.ـديد، فهو نادm على إخبـ.ـارها بكل ذلك فهي شـ.ـديدة التأثر بأقل الأشياء سوءًا، لكنها في النهاية كانت ستعلم، تنهد ثم طلب منها بلطف:
_ لو سمحتي يا أمي، شوفيهم لو كانوا محتاجين حاجة لأن أنا معتش قادر أقف على رجلي، بقالي ٣ أيام منمتش

أخذت طلبه على الرحب والسعة، خرجت من الغرفة وتوجهت ناحيتهم مع رسمها لإبتسامة حزينة لما أصابهم، وقفت أمامهم وأردفت بحنو أمومي:
_ يوسف قالي إنكم ضيوف، معلش أعذروه لقلة ذوقه، أنتوا مش ضيوف أنتوا صحاب البيت

تفاجئ يوسف بسب والدته له فور خروجه من غرفتها، عقد ما بين حاجبيه وهتف بإقتضاب زائف:
_ سيبتك معاهم دقيقة بالظبط طلعت قليل الذوق، أومال هتعملي إيه لو كملتي عشر دقايق يا ميمي أكيد هتطرديني

انفجرت الفتاة ضاحكة على داعبته، ابتهج يوسف لضحكتها التي كان المتسبب بها، فهو يشعر اتجاههم بالشفقة الشـ.ـديدة ويريد فعل أي شيء لكي يسعدهم فقط، ها هي الفتاة قد نجح في رسم الضحكة على وجهها، ماذا عن حال الفتى الذي لم يتبدل كثيراً، مازال ملتزم بصمته ولابد أنه سيطول معه ذاك الوضع.

تابعت والدته بتعريف نفسها:
_ أنا إسمي ميمي، وممكن تنادوني ميمي من غير أبلة

ذُهل يوسف من كلمـ.ـا.تها فلم تسمح لهما يوماً بمناداتها دون لقب، هدر متعجباً مما وقع على مسامعه:
_ إيه؟ لا بقى دي تفرقة عنصـ.ـر.ية وأنا مش هقبل بيها أبداً

بمزاح شاكسته:
_ مش مهم يا حبيبي تقبل..

توجهت الأنظار على لينة التي قهقهت عالياً، رفع يوسف إحدى حاجبيها مستاءً:
_ عجبتك للدرجة دي؟

أماءت له مؤكدة فحرك رأسه في استنكار مصطنع، أخذ شهيقاً وأخرجه على مهل قبل أن يهتف:
_ تعالى معايا يا علي

نهض الفتى وتوجه ناحيته، بتلقائية عابثة نهضت توأمه لكن يوسف عارض تقربها بلطف:
_ خليكي يا لينة أنتِ مع أمي، إحنا شباب زي بعضينا

غمز إليها ليمحي أى حرج قد سببه لها أمامهم فعادت هي إلى جلستها بهدوء بينما أحاط يوسف كتف علي بذراعه واصطحبه إلى غرفته، أعتلى يوسف طرف الفراش، وأشار على الملاءة بجواره مشيراً إليه بالجلوس.

تقدm علي نحوه وجلس إلى جواره، تنهد يوسف قبل أن يخبره بما يريد:
_ اعتبرني أخوك من اللحظة دي، بس أنا عايز أطلب منك طلب..

التفت علي برأسه نحو يوسف الذي تابع مسترسلاً:
_ لازم تخرج اللي أنت كاتمه جواك، خرج مشاعرك، سكوتك دا مش هيحل حاجة بالعكس هيخـ.ـنـ.ـقك أكتر، عيط يا علي عشان ترتاح

مد يوسف ذراعه خلف علي وربت على ظهره بحنو وبهدوءٍ جذبه إلى حـ.ـضـ.ـنه وحثه على التفاعل معه لكي يكون في حال أفضل مما هو عليه:
_ عيط يا علي..

أحتاج الأمر إلى عشر دقائق لنجاحه لإخراج بكائه، ضمه يوسف بشـ.ـدة شاعراً بشهقاته القوية التي هزت كيانه، لم يحاول تهدئته قبل أن يخرج آلامه بنفسه.

حالة سكون حلت تدريجياً إلى أن هدأ علي تماماً، تراجع يوسف للخلف ناظراً إليه وسأله مهتماً:
_ حاسس إنك أحسن دلوقتي؟

أماء له الفتى فاعترض يوسف تصرفه هادراً:
_ متهزش راسك وتسكت، كلمني عايز أسمع صوتك

بعد تردد طال لبرهة همس:
_ أنا كويس..

إلتوى ثغر يوسف بإبتسامة سعيدة ثم ربت على كتفه مردداً:
_ أنا تعبان جداً ومحتاج أنام، تحب تنام جانبي؟

لم يكن هناك مجالاً لاعتراض علي فجسده منهك للغاية، لكنه أراد الإطمئنان أولاً على شقيقته فنظر تلقائياً نحو الباب، استشف يوسف ما يرمي إليه بنظراته وأردف مطمئناً إياه:
_ متقلقش هي مع ولدتي يعني هي في أمان

لم يبدي الولد ردة فعل فاستلقى يوسف على الفراش ومن ثم حث "علي "على النوم بجانبه، توجه نحوه وفي ثوانٍ قليلة قد بات كليهما في ثُبات عميق.

***

في الغرفة المجاورة، تجلس السيدة ميمي على طرف الفراش بينما تجلس الصغيرة أرضاً بين قدmيها موصدة العينين مستمتعة بتلك القشعريرة الناتجة عن تمشيط السيدة لخصلاتها الكستنائية المموجة

انتهت السيدة من صنع جدائل خصلاتها، ثم هتفت متسائلة في حماس:
_ قوليلي بقا إيه رأيك؟

ركضت لينا ناحية المرآة لتنظر إلى جديلتها حديثة الصُنع، اتسع ثغرها بإبتسامة رقيقة وهللت بسعادة طفولية:
_ جميلة أوي، شبه الضفيرة اللي كانت ماما بتعملهالي

أشفقت السيدة ميمي على حالها ثم فردت ذراعيها لها مشجعة إياها على أخذ عناق دافئ:
_ تعالي يا لينة

تقدmت الفتاة بخطوات راكضة نحوها إلى أن استكانت بين أضلعها، أوصدت عينيها وأطلقت العنان لعبراتها في السقوط هاتفة بحـ.ـز.ن:
_ليه ماما مشيت وسابتنا؟ هي مش عارفة إن معتش لينا غيرها

لم تستطيع السيدة ميمي التماسك أمام جملتها وجهشت باكية بألم شـ.ـديد قد شعرت به من خلف كلمـ.ـا.تها البريئة، حاولت استعادة رونقها لكي لا تزيد من عبئ الفتاة وهتفت محاولة التخفيف من عليها:
_ كلنا هنروح لربنا يا لينة، بس الفرق الوحيد إن فيه ناس مشيت قبلنا، وإن شاءالله نقابلهم في الجنة، ت عـ.ـر.في إن الجنة ربنا وصفها لينا إنها جميلة أوي، ادعي ربنا إنه يرزقنا دخولها يا حبيبتي

رفعت الفتاة رأسها لتقابل عيناي السيدة ميمي وهتفت داعية:
_ يارب ندخل الجنة عشان أشوف ماما وأحمد

زمت ميمي شفتيها بحـ.ـز.ن مصحوب بالتأثر الشـ.ـديد، لم يكن في مقدرتها سوى مأزرتها بإعادتها إلى صدرها وهتفت بنبرة حنونة:
_ إن شاءالله يا حبيبتي، بلا نامي شوية أكيد أنتِ تعبانة

لم تعارضها الفتاة بل حبوت على الفراش حتى وصلت إلى الوسادة واستندت عليها برأسها ثم أوصدت عينيها لكنها سرعان ما انتفضت من مكانها فتسائلت ميمي عن سبب ذعرها:
_ في إيه يا لينة بتجري كدا ليه؟

أخبرتها الفتاة وهي تبحث في حقيبتها عن شيء ما:
_ عروستي..

لم تفهم عليها السيدة ميمي إلا بعد أن رأت دmيتها ذات الشعر الذهبي التي كانت تمسك بها، عادت إليها لينة وقامت باحتضان دmيتها ثم جذبت يد ميمي ووضعت على رأسها وهمست لها:
_ اقرأيلي قرآن عشان أنام بسرعة زي ما ماما كانت بتقرأ لي

تشكلت إبتسامة عفوية على شفتي ميمي ورحبت بفكرتها للغاية، بدأت تتلوا بعضً من الآيات الكريمة التي تحفظها إلى أن شعرت بسكون وتيرة أنفاس الصغيرة فتأكدت أنها قد غفت، قامت بدسر الغطاء أعلاها ثم أخفضت من إضاءة الغرفة وانسحبت إلى الخارج بهدوء.

سارت نحو غرفةٍ ما وولجت إليها حتى وقفت أمام الفراش الكائن في آخرها، مالت بجسدها على ذاك النائم وقامت بهزه برفق إلى أن تمتم بنعاس:
_ سبيني أنام شوية كمان، لسه بدري

رفضت تركه معللة أسبابها:
_ قوم يا زياد، كفاية نوم، هتتأخر على المدرسة

لم يكترث لها فتوجهت بخطاها نحو النافذة وقامت بإزاحة الستائر من عليها أولاً ثم قامت بفتحها فتسلل الضوء عمودياً على عيناي زياد الذي تأفف بحنق:
_ بكره المدرسة، مش عايز أروح النهاردة، سبيني أكمل نوم

هتفت بصرامة لكنها حافظت على مستوى صوتها لكي لا تزعج من في المنزل:
_ لأ قولت لأ، قوم كفاية عليك كل النوم اللي نمته، أنا بجد زهقت مش معقول كل يوم كدا، أنا خارجة أحضر لك الفطار على لما تلبس هدومك بسرعة

أغلقت الباب فور انتهاء جملتها وتوجهت إلى المطبخ لكي تحضر له فطور، نهض الآخر متذمراً فلا يريد الذهاب بتاتاً، النوم أفضل بكثير من ذاك التعليم التي لا فائدة منه بالنسبة إليه.

بدل ثيابه إلى الزي المدرسي ذات القميص الأزرق والبنطال الجينز وكذلك قام بـ.ـارتداء جوربه الأبيض ثم انحسب من غرفته إلى الخارج فكانت والدته في إنتظاره أمام باب المطبخ حاملة بإحدى يدها شطيرة شهية وباليد الأخرى كوب من الحليب.

تأفف الولد بتزمجر، أوصد عينيه لبرهة ثم أعاد النظر إليها معاتباً بسخرية:
_ إيه دا يا ماما؟! شيفاني عيل صغير قدامك عشان تعمليلي سندوتشات وكوباية لبن؟، يا ماما أنا كبرت بقيت في إعدادي لو كنتي ناسية يعني

بلا مبالاة ونظرات يتوهج فيهما الإصرار:
_ مش هتروح في أي مكان قبل ما تاكل سندوتشاتك..

رفعت كوب الحليب وتابعت وعينيها يشع منهما التحدي:
_ وطبعاً كوباية اللبن، ولو طولت في الكلام هقوم أسلق لك بيضة زي ما كنت بعملك وأنت صغير

أسرع زياد في الركض نحوها ثم لَقِفَ منها كوب الحليب وقام بإحتساءه دفعه واحدة، أنزل يده ومسح على فمه بإهبامه ثم تمتم عالياً وهو يتناول منها الشطيرة:
_ هاكلها في المدرسة

حذرته بحزم:
_ لو مأكلتهاش العصفورة هتقولي

التفت زياد برأسه معلقاً بسخرية:
_ آه، ونسيتي تقوليلي إنها هتجري ورايا يوم القيامة

أكدت والدته بعفوية:
_ دا أكيد

انفجر زياد ضاحكاً ثم انسحب سريعاً بعدmا التقط حقيبة ظهره وغادر قبل أن ينال نصيباً من الترهات الصباحية التي لا تنتهي، عادت السيدة ميمي إلى المطبخ وقامت بإخراج دجاجة سمينة من الثلاجة لكي تقوم بطهيها حتى تُشبع بطون الصغار.

***

بعد مرور بضعة ساعات، استيقظ يوسف من غفوته ولازال يشعر بالنعاس مسيطراً عليه لعدm كفايته من النوم، تثائب بصوت عالٍ قطعه فور انتباهه لنوم علي بجانبه، نهض بحذر ثم خرج من غرفته باحثاً عن هاتفه الخلوي.

فرك عينيه فمازال النوم ينتابه، لم يصل إلى هاتفه بالسرعة التي ظنها فنادى بصوته الأجش على والدته:
_ مشوفتيش موبايلي يا أمي؟

أخرجت رأسها من باب المطبخ وأجابته بنبرة بعيدة:
_ أنت سيبته في أوضتي يا حبيبي

حرك رأسه متذكراً مكانه، توجه نحو الغرفة واقتحمها دون تردد فلا يتذكر أن هناك من ينام في الغرفة، توجه نحو الفتاة وأعاد دسر الغطاء أعلاها ثم وقف يطالعها بشفقة وآسى شـ.ـديدين، فالفتى سَيُصلب جزعه يوماً ويكون رجلاً قادراً على تحمل مسؤولياته بنفسه، لكن ماذا عنها؟ فتاة يتيمة وحيدة بمفردها في الحياة، حتماً سيكون الله لطيفاً بها فإنها مؤنثة غالية.

زم يوسف شفتيه للجانب بتهكم فلا يملك فعل أي شيء يستطيع تعويضهما بها عن فراق أعزتهم، فأي عوضاً سيسد تلك الفجوة التي حدثت فجاءة وقلبت حياتهم الهادئة التي يملئها لعب الصغار ورائحة طعام الذي يُطهى بحب وفرحة لقاء الأخ أياماً من بين شهور عدة.

أخرج تنهيدة مهمومة ثم عاد للبحث عما جاء لأجله، أخذ هاتفه وبهدوءً أغلق باب الغرفة، استلقى على أقرب أريكة قابلته وهتف بالبسملة قبل أن يحاول التواصل مع عم الصغار.

أرسل له رسالة كان محتواها كالآتي:
( السلام عليكم، أنا يوسف الراوي زميل أحمد ابن أخوك، ياريت تتواصل معايا في أقرب فرصه عندك لضرورة الأمر )

أغلق هاتفه ووضعه جانباً ثم رفع نظريه للأعلى متمنياً بأن يجيبه في أقرب فرصة حتى يسترد أمانة شقيقة، أنتبه على صوت والدته المتسائلة:
_ إيه كل الأكل دا يا يوسف؟

نهض عن مقعده وبخطوات راكضة توجه إلى المطبخ، ضـ.ـر.ب جبينه براحة يده مستاءً من تناسيه الأمر:
_ أوف، نسيت خالص

رفع بصره على والدته بتزمجر مواصلاً بملامح غاضبة:
_ والدة أحمد الله يرحمها كانت طبخاه وأنا أخدته عشان نوزعه على المحتاحين في المحطة بس نسيت

رمقته ميمي شاعرة بكم الإحباط الذي سيطر عليه، تنهدت قبل أن تحاول التخفيف من على عاتقه:
_ متلومش نفسك يا حبيبي أنت ملكش ذنب، ومتزعلش كدا، إن شاءالله أعملك أحلى أكل وتوزعه زي ما كنت ناوي

شكل بسمة ممتنة على محياه وبحرج سألها:
_ منين بس يا أمي، معاش أبويا بيكفينا بالعافـ.ـية، هتجيبي الفلوس منين عشان الأكل؟

اقتربت منه وملست على كتفه بحنو أمومي وردت عليه بنبرة راضية:
_ الفلوس بتكفي وبيفيض كمان، متحملش هم أنت بس لحاجة وإن شاءالله ربك يدبرها

نكس رأسه بخجل وبعزيمة هتف:
_ أنا لازم ألاقي شغل بسرعة حتى لو كان عامل نضافة

ضـ.ـر.بت ميمي على صدرها فسببت الذُعر في قلب يوسف الذي هلل متسائلاً:
_ في إيه يا أمي؟

بعبوس أجابته بحنق:
_ عامل نضافة ايه يابني اللي بتتكلم عنه، أنت مكانك في شركة مش أي شغلانة كدا وخلاص، أنت دارس إدارة أعمال عشان تشتغل في الآخر أي حاجة؟!

تشـ.ـدق يوسف قبل أن يردف مقللاً من شأنه:
_ بالله عليكي يا أمي شهادتي هتنفعني بإيه؟ أنتِ مش شايفة اللي حواليكي، محدش بيشتغل بشهادته الأيام دي

تشكل التقزز على تقاسيم ميمي بسبب استسلامه وهدرت به شزراً:
_ دي حجة الكُسالة اللي زيك، اللي محاولوش أصلا ولا بيحاولوا مرة واتنين وتلاتة لغاية ما يوصلوا للي هما عايزنه في الآخر، أنت يا حبيبي مميز، بسم الله ما شاءالله عليك ذكي وعندك كاريزما مختلفة، أنت نسيت إنك كنت من الأوائل على دفعتك طول سنين الكلية؟

زفر يوسف أنفاسه على مهل ناهياً الحوار بقوله:
_ ربنا يسهل يا أمي

جذب انتباههم رنين هاتف السيدة ميمي التي أمرت ولدها قائلة:
_ لو سمحت يا يوسف ناولني الموبايل

أولاها ظهره ثم هرول بقدmيه خلف مصدر الرنين إلى أن جاء به فسألته بفضول:
_ مين اللي بيتصل؟

أجابها وهو يقلب عينيه:
_ هتكون مين يعني، الست إيمان!

غمزت إليه معدلة على تلقيبه بمكر:
_ إسمها مراتي المستقبلية

رفع يوسف شفتيه العُليا مستاءً مما تفوهته وصاح بإزدراء:
_ خدي يا ميمي موبايلك كدا، أنا غلطان أصلا إني وقفت أتكلم معاكي

مسحت ميمي يديها المتسخة في المنشفة التي تركتها على الطاولة الرخامية وأجابت على المتصلة بترحيب حار:
_ مونة حبيبتي، حشـ.ـتـ.ـيني و  أوي يا قلب عمتك، أخبـ.ـاركم إيه

طالعت يوسف المستند على الباب بإبتسامة تشكلت فجاءة ومن ثم عادت لترد على الطرف الآخر:
_ أيوة يا حبيبتي وصل بالسلامة

صمت حل لبرهة تلاه ترحيب حافل:
_ البيت هينور بوجودكم، بلغي رمضان وهادية وأسامة سلامي على لما أشوفكم

أنهت الإتصال لتخبره بما دار بينهن فتفاجئت به يلحقها بكلمـ.ـا.ته:
_ خالك هيجي هو والأولاد يطمنوا عليك

أماءت له عدة مرات مؤكدة حديثه فرفع كتفيه بفتور وهو يتمتم بنذق:
_ إيه المتوقع بالله عليكي بعد المكالمة دي؟، حاسس إنهم في مرة هيجوا يتقدmولي رسمي

انفجرت والدته ضاحكة وتمتمت من بين ضحكها المستمر:
_ والله وأنا كمان حاسة كدا، مش بعيد عليهم

بالكاد سيطرت على نوبة ضحكها واسترسلت متابعة حين لم ترى في الأمر عائقاً:
_ وإيه المشكلة في كدا بس يا يوسف؟، كلنا متأكدين إنها بتحبك، فيها إيه لو اتقدmنا لها وعملنا خطوبة دلوقتي والجواز بعد ما تخلص دراستها، هي لسه قدامها سنتين تكون أنت قدرت تخلص حاجتك وكونت نفسك، والبنت مننا يعني مش هتطلب كتير

طالعها بأعين متسعة لا يصدق أنها رتبت الأمور بتلك السهولة، وبذهول شـ.ـديد هدر:
_ أيوة أيوة مننا وزيتنا في دقيقنا عارف أنا الأسطوانة دي، يا أمي أنتوا مش قادرين تشوفوا وجهة نظري، بنت أخوكي دي عمري ما شوفتها غير أختي، ولو كنتم مش مهتمين لكدا فدي مشكلتكم مش مشكلتي، وبعدين أنا لسه قدامي كتير أوي أعمله قبل ما أخد خطوة الجواز، أول حاجة محتاج شغل يناسبني، وبعد كدا أكون نفسي على مهلي وقبل ما أعمل الحاجتين دول مش هخضع للجواز من بنت أخوكي أو غيرها، ثم إن فيه حاجة أهم من كل دا أصلاً

أجبرت ميمي حواسها على الإنتباه جيد فتابع هو:
_ هعمل إيه لو مقدرتش أوصل لعم العيال اللي برا دي؟

لم تستطيع الرد عليه في اللحظة ذاتها بينما حرك رأسه مستنكراً تلك الظروف التي دقت بابه دون سابق إنذار فهتفت هي بقلة حيلة:
_ والله يا يوسف مش عارفة أقولك إيه، بس اللي أنا متأكدة منه إن لو إيمان مكنتش من نصيبك فدا خير ليكم أنتوا الاتنين، ومتحملش هم العيال إحنا نتكفل بيهم لو مقدرتش توصل لعمهم، إن شاء الله خير، رب الخير لا يأتي إلا بالخير

"يارب"
دعى يوسف ربه بينما أردفت هي بحنو:
_ أنا خلصت الأكل تحب أجيب لك تتغدى؟

بحماس حرك يوسف يده على بطنه بحركات دائرية شاعراً بالجوع:
_ ياريت، أنا واقع من الجوع

أشارت إليه بإصبعها قبل أن تخبره:
_ دقيقة بالظبط ويكون الأكل جاهز على السفرة

انسحب هو إلى الخارج وتفقد هاتفه على أملاٍ أن يكون هناك إجابة من الرجل، لكن تفقده بات دون فائدة، لم يستهين بالأمر وظل ممسكاً بهاتفه حتى لا يفوت وصول الرسالة إن جائته من الأساس.

***

انتهى يوسف من أداء صلاة العصر ثم تفاجئ باليد التى حاوطت عنقه، التفت ليرى هوية الفاعل فأبتسم عفويا ظاهراً غمزة وجنته اليُسرى مرحباً به:
_ حمدالله على سلامتك يا زيزو

بمشاكسة أجابه أخيه:
_ الله يسلمك يا دُفعة

قهقه يوسف ودعى له باللحاق به عاجلاً:
_ بكرة تدور الأيام والأدوار تتبدل ووقتها مش هرحمك تريقة، أصبر وأنت تشوف

شكل زياد بسمة سمجة على محياه وأخبره عما ينوي فعله:
_ أنا أصلا مش هروح الجيش

لكزه يوسف في صدره بقوة هاتفاً بحنق:
_ هه، على أساس إنه بمزاجك

غمز إليه زياد بتحدٍ وإصرار متوهجان في عيناه:
_ هتشوف وقتها

فر زياد هارباً من أمامه فلحق به يوسف وأرغمه على التوقف مستفسراً عن نواياه الخفية:
_ يعني إيه الهبل اللي أنت بتقوله دا، الجيش بيعملك راجـ.ـل يالا، وبعدين تعالالي هنا أنت مش عايز تبقى راجـ.ـل وتفضل طول عمرك عيل مراهق ولا إيه؟

تملص زياد من بين يدي يوسف وهو يصيح عالياً بازدراء بائن:
_ خلاص بقى يا يوسف

صُوبت حدقتاه على نقطة ما خلف يوسف وردد متسائلاً:
_ مين دي؟

توجهت الأنظار على النقطة ذاتها الذي يسير إليها زياد بحدقتيه، ابتسم لها يوسف وحثها على المجيء:
_ تعالي يا لينة لما أعرفك على أخويا

لكزه زياد في كتفه بخفة هامساً بفضول:
_ بقولك مين دي؟

بدأ يوسف في تعريف هويتهم لبعضهما البعض وهو يشير عليهم بالتناوب:
_ لينة، زياد

مد زياد يده إليها ليصافحها فتراجعت للخلف ثم اقتربت من يوسف واختبئت خلف ساقيه فهي لا تعتاد التعامل مع الجنس الآخر من خلف تحذيرات والدتها المستمرة، قطب زياد جبينه بتهكم لفعلتها كما أنه لوى شفتيه للجانب معلقاً بالسخرية:
_ مالك كشيتي كدا؟ مش هاكلك يعني

نهره يوسف بحزم:
_ بطل قلة أدب يا زياد وروح على أوضتك وأنا جاي وراك حالاً، عايز أتكلم معاك

تجهمت تعابير الآخر وبعناد ساحق ردد:
_ أنا نازل ألعب تحت

أمسكه يوسف من ذراعه وشـ.ـد عليه بقوة لم يتحملها زياد فآنة بألم:
_ سبيني أنت بتعمل إيه؟

أعاد يوسف تكرار أمره بإصرار وشـ.ـدة:
_ أعمل اللي قولتلك عليه

تأفف زياد بنزق من تلك اللهجة الآمرة أمام فتاة في عمره، توجه إلى غرفته مطلقاً زمجرة واضحة لم يبالي لها يوسف فتلك هي مرحلة المراهقة وعليه أن يتعامل معه بحرص وحذر.

استدار بجسده نحو الصغيرة وأردف بنبرة هادئة عكس الذي يتحدث بها لتوه:
_ جعانة؟

ترددت كثيراً قبل أن تومئ برأسها مؤكدة سؤاله فنادى يوسف بنبرته الرخيمة على والدته وطلب أن تحضر للفتاة طعام حتى تُشبع معدتها بينما هو تقدm إلى غرفة شقيقه متوعداً لعدm احترامه أمام الفتاة حتى وإن كانت صغيرة العمر فعليه احترامه أمام نفسه أولاً قبل أن يحترمه أمام الجميع.

أغلق الباب بعدmا ولج إليه وبأعين يتوهج فيهما الوعيد هتف بحنق:
_ لو الموضوع دا اتكرر تاني ومسمعتش كلامي متبقاش تزعل من اللي هيحصل، لازم تحترمني قدام أي حد

لم يجيبه زياد بل ظل منكس الرأس وهو يعتلي الفراش عاقد ذراعيه معلناً تمرده، فصاح الآخر بغضب:
_ بكلمك رد عليا

"أسف، هعمل اللي أنت عايزه"
هتف بها زياد بعدm رضاء بينما توجه يوسف إليه وجلس أمامه ثم قص عليه مقتطفات مما حدث له في اليومين الماضيين معللاً وجود الصغار في منزلهم وأنهى جملته بتحذيره:
_ وطول ما هما موجودين هنا تعاملهم بذوق وأسلوب كويس، مش عايز مشاكل مفهوم؟

أماء له بقبول هاتفاً بتأثر لسماعه قصتهم:
_ مفهوم

أنتبه كليهما إلى قرع الجرس فتمتم يوسف مستاءً:
_ غزو التتار وصلوا

انفجرا كليهما ضاحكين ثم انسحب واحد تلو الآخر خارج الغرفة ليكونوا في استقبال خالهم وعائلته.

" أهلاً بيك يا رمضان ياخويا نورت، البيت نور بيكم والله يا هادية، نورتوا يا ولاد"
هتفت ميمي مرحبة بهم بحفاوة بينما علق يوسف ممازحاً:
_ إيه كل الأنوار دي، البيت هيفرقع من كتر النور يا أمي

اتسعت حدقتي ميمي عليه معاتبة إياه بنظراتها بينما لم يكترث هو لها فأجابه خاله بمرح:
_ لولا إن هزارك واحشني كنت رديت عليك، حمدالله على سلامتك يا يوسف

بإمتنان رد عليه:
_ الله يسلمك يا خالي

دعتهم ميمي إلى الجلوس في الصالون بينما رحبت به هادية بمبالغة لم يهضمها يوسف:
_ البيت نور مرة تانية برجوعك يا يوسف، عقبال ما تفاجئنا بخطوبتك قريب

أراد يوسف قطع أي ذرة تفكير لديها في خطب إبنتها المصون بقوله:
_ يبقى هتستنوا كتير، أنا مش بفكر في الجواز دلوقتي، في حاجات أهم تستحق أعطيها اهتمامي أكتر من الجواز في الوقت دا

علقت هادية مازحة:
_ فهمت وجهت نظرك يا يوسف، أنت مش عايز تستعجل وتقع في مصيبة

حاول يوسف التحلي بالقليل من الصبر لكي يواصل ذاك الحوار الغير مرحب به:
_ أكيد هتكون مصـ يـ بـةلو اتجوزت واحدة مش بحبها

تعمد النظر إلى إبنة خاله موحياً إليها رسالة بكلمـ.ـا.ته وتابع مالم ينهيه:
_ أنا يوم ما أنوي أتجوز عمري ما هتجوز غير اللي قلبي يدق لها وعقلي يختارها عشان تكون شريكة عمري وأحلامي، ودي أكيد مش هتكون مصـ يـ بـةزي ما بتقولي يا مرات خالي، ولغاية ما تظهر هي هعمل كل اللي في ايدي عشان يليق بمرات يوسف الراوي!

حديثه ألجم ألسنة هادية وإبنتها المبجلة، لم يعرفا مجالاً للرد عليه بعد أن أظهر إليهن أنها بعيدة كل البعد عن مخيلته، طالعته والدته بنظرات مشتعلة معاتبة لكلمـ.ـا.ته التي لم ترأف بالفتاة، وكعادته لم يكترث كثيراً فالأمر لا يعنيه.

بعد قليل جاءت لينا راكضة إلى السيدة ميمي وهتفت في حماس:
_ أنا خلصت الأكل..

توقفت عن الحديث حين رأت أناس تجهل هويتهم، شعرت بالحرج الشـ.ـديد فاحمرت وجنتيها خجلاً استشفه الجالسين، أرادت ميمي محي الخجل عنها حيث قالت مشجعة:
_ بالهنا والشفا يا حبيبتي، تعالي معايا اغسلي ايدك

وجهت بصرها علي أخيها ومن معه وقالت معتذرة:
_ بعد إذنكم ثانية

خرجت مع الفتاة بينما تسألت إيمان بفضول أنثوي:
_ مين البنت دي يا يوسف؟

_ "دي أخت واحد صاحبي*
تابعت إيمان بقية أسئلتها التي تدور في عقلها وتريد إجابات واضحة لهما:
_ وبتعمل إيه هنا؟

كز يوسف أسنانه بضيق لتدخلها فيما لا يعنيها، طالت مدة انتظار إجابته فتولى زياد مهمة الرد حيث أردف بعفوية:
_ يوسف جابها هي وأخوها لما عيلتهم مـ.ـا.توا

شعر رمضان بالشفقة لحالهم وسأله مستفسراً:
_ وأنت هتعمل معاهم إيه يا يوسف؟

أخبره يوسف ما ينتظره بفروغ صبر:
_ ليهم عم مسافر انجلترا هتواصل معاه وهبعتهم عنده

أومأ رمضان بفهم وردد بنبرة سوية:
_ ربنا يجازيك خير على اللي بتعمله يابني

حضرت الفتاة برفقة ميمي فتوجهت تلقائياً إلى يوسف الذي تنحى جانباً تاركاً لها مساحة كافية لتشاركه الأريكة، لم ترفع إيمان بصرها من عليهما فتلك الفتاة لم تروق لها مطلقاً.

رفعت لينة رأسها ناظرة إلى يوسف وألقت سؤالها باهتمام:
_ فين علي يا يوسف؟

أجابها بلُطف:
_ لسه نايم

أماءت له والتزمت الصمت بينما تدخلت إيمان بعدmا أصدرت شهقة قوية انتبه لها الجميع:
_ يوسف! إزاي تناديه كدا من غير أبيه، دا أكبر منك ولازم تحترميه ولا أنتِ متعلمتيش كدا في بيتكم؟!

تفاجئ يوسف بثورة إيمان التي لا داعي لها على الصغيرة ولم يستطيع منع نفسه دون أن يرد عليها يفحمها:
_ لينة تناديني زي ما تحب وبعدين أنا مش كبير لدرجة أبيه يعني

اتسعت مقلتي إيمان بصدmة حين عارضها يوسف فلم تحسب لذلك، حمحمت بحرج شـ.ـديد وحاولت تغير الحوار:
_ لو سمحتي يا لينة ممكن تجبيلي مية

أسرعت ميمي في النهوض فلحقتها لينة بقولها:
_ أنا عارفة طريق المية، هجيبها أنا

قابلتها ميمي بإبتسامة عفوية ورددت بخوف:
_ طيب يا حبيبتي بس خدي بالك وأنتِ راجعة بيها

أسرعت لينة إلى الخارج وعادت بعد ثوانٍ قليلة حاملة لزجاجة المياه بـيُمناها وبالأخرى كوباً زجاجياً، توجهت مباشرةً ناحية إيمان وأردفت:
_ اتفضلي يا أبيه

شهقت إيمان بصدmة ورددت بحنق مصحوب بالإستياء الشـ.ـديد:
_ نعم! إيه أبيه دي؟

شاكستها لينة قائلة:
_ أنتِ مش قولتيلي أنادي اللي أكبر مني أبيه

انفجرا يوسف وزياد مقهقهين عالياً كذلك لم تستطيع ميمي منع ضحكاتها على ما اقترفته الصغيرة، تجهمت تعابير إيمان وازدادت حنقاً من خلف ضحكات الجميع الذي يتناولنها سوياً.

انتفضت من مكانها ورفعت ذراعها للأعلى قاصدة صفعها لقلة احترامها فتلقت هي الصفعة الأقوى حين أمسك يوسف بيدها قبل أن تمس لينة، رمقها بنظرات احتقارية متوعدة فهتفت ميمي قبل أن يقع مكروهاً:
_ يوسف..

دفع يوسف بيدها بعيداً ثم جذب الفتاة من يدها وأولى الجميع ظهره وغادر دون استئذان، حمحمت ميمي وحاولت تلطيف الأجواء بخذى من تصرف ولدها الأرعن:
_ أعذروا يوسف معلش، هو لسه متأثر بمـ.ـو.ت زميله، دا اتقــ,تــل قدام عنيه وحضر مـ.ـو.ت أمهم لما يا حبة عيني عرفت إن ابنها مـ.ـا.ت، ومفضلش غير لينة وتوأمها اللي بقوا يتامى بين يوم وليلة..

لم يريد رمضان إلقاء اللوم عليه بمفرده حيث قال:
_ إيمان اللي بدأت بالغلط والمفروض مكنتش تعمل كدا، في الآخر دي طفلة ومينفعش بنتي الكبيرة العاقلة تمد إيدها عليها

تعمد رمضان النظر في عيني ابنته وهو يلقي اللوم معاتباً إياها، لاحظت هادية الأجواء المشحونة بينهما فحاولت تهوين الأمر:
_ خيراً إن شاء الله، هما كلهم في الآخر عيال في بعض

بوجه عابس ونبرة صارمة أمر أبنته:
_ لازم تعتذري ليوسف، إحنا مش جاين عشان نزعله

لم يكن هناك مجالاً للرفض فهذا أمر واجب تنفيذه وإلا حتماً ستُعـ.ـا.قب بحرمانها من إحدى هواياتها، لم تطيل إيمان الوقوف مكانها وانسحبت من بينهم إلى الخارج بخطى مهرولة غير مستقيمة، لم تبحث عنه طويلاً فكان جالساً برفقة الفتاة في الخارج.

حمحمت لتجذب انتباهه فامتعض يوسف حين لمح طيفها يقترب منه، وقفت أمامه وبنبرة جـ.ـا.مدة اعتذرت:
_ أنا آسفة، مكنتش أقصد

رفع يوسف بصره عليها وبجمودٍ في ملامحه أمرها:
_ متعتذريش ليا، المفروض تعتذري لـ لينة

صاحت إيمان مهللة بعدm استعياب لطلبه:
_ نعم؟ أعتذر لمين؟

لم يجيبها يوسف بل فضل رمقها بتحدٍ وإصرار إلى أن تجرأت إيمان هاتفة على مضضٍ:
_ أنا آسفة..

أولاتهما ظهرها فور اعتذارها وعادت إلى عائلتها بغضب مرسوم على تقاسيمها هاتفة بنبرة آمرة:
_ يلا نمشي..

نظر إليها والدها بعتاب لنبرتها الغير ملائمة فأخفضت من حِدة صوتها معللة أسباب ذهابها:
_ عندي جامعة بكرة بدري ولازم أنام بدري

لم يحب رمضان أن يطيل الزيارة بعد المشادة التي حدثت وفضل المغادرة، نهض أمراً زوجته أيضاً بالرحيل فصاحت ميمي بخجل واضح:
_ مرواح إيه بس، أنتوا لسه جاين حتى لسه مضايفتكوش
"إحنا صحاب البيت يا ميمي يختي مش ضيوف، كنا جاين نشوف يوسف والحمدلله اطمنا عليه، بالإذن إحنا

لم تعترض ميمي فإن كان هذا يريحهم فليكن، ودعتهم بحرج إلى الباب بينما انسحب يوسف إلى غرفته حين رأى الرد المنتظر قد وصل للتو.

تحدث مع الرجل في الهاتف وأخبره بالأحداث التي حدثت في الآونة الأخيرة ثم هدر مطالباً:
_ حضرتك هتبعت تاخدهم عندك امتى، عايز أسلم الأمانة اللي صاحبي وصاني عليها

أجابه الطرف الآخر قائلاً:
_ بس فيه شرط..
"أنا مش هقدر أتحمل مسؤولية طفلين، فلوسي بتكفيني انا ومراتي وابني بالعافـ.ـية لدرجة إننا درسنا الموضوع واكتفينا بإبن واحد عشان نقدر نوفر له حياة مستواها كويس، بس ممكن أدبر أموري لرعاية طفل كمان لكن أكتر من كدا مقدرش، لو أخدت الإتنين هيكون ظلم ليهم وليا"
لحظة من الصمت سادت حين وقعت كلمـ.ـا.ته على آذان يوسف، طالع الفراغ أمامه محاولاً استيعاب ما يطالبه به، بائت محاولات استيعابه بالفشل الذريع فهو يرفض أطفالاً صغيرة خشية من عدm استطاعته للإنفاق عليه كأنه هو من يرزقهم!!

كادت أعصابه أن تنفلت لكنه صمد لكي يقنعه حتى وإن كلف الأمر التوسل إليه:
_ إيه اللي حضرتك بتقوله دا؟ أنا مش بقدm لك سلعة هتقبل تشتريها أو ترفضها، دول ولاد أخوك وأنت المسؤول قدامي عنهم، مفيش مجال إنك ترفض حد فيهم، وفي الآخر ياسيدي ربنا اللي بيبعت الرزق مش أنت زي ما أنت فاكر

قاطعه الآخر بعملية غير مقتنع بوجهة نظره:
_ أنا فاهم كويس اللي بتحاول توصله، بس البلد هنا ليها حسابات تانية غير اللي اتعودنا عليها في مصر، عندكم لو واحد احتاج لمساعدة هيلاقي اللي يمد له إيده ويساعده ومش واحد بس هيلاقي كتير أوي ساندينه وواقفين في ضهره لغاية ما يرجع زي الأول ويمكن أحسن، لكن هنا مفيش الكلام دا، تقدر تقولي وقتها إيه العمل لو مقدرتش أوفر لهم تعليم وآكل وشرب؟

أخذ يلتقط أنفاسه وتابع:
_ أنا بشتغل ليل نهار عشان ميجيش يوم مقدرش أوفر فيه أقل الحقوق لعيلتي، إحنا في عالم مختلف تماماً عنكم، مفيش مساعدة مفيش دعم حتى لو شافوك بتسف التراب، هنا تشتغل تاخد مقابل غير كدا مفيش مقابل تحت مسمى المساعدة، لو سمحت حاول تفهمني، أنا مش رافضهم بس أنا مش هقدر أعول طفلين زيادة فوق عيلتي، الوضع هيكون فوق طاقتي

بهجوم ونبرة صارمة صاح يوسف:
_ مش موافق حضرتك في الرأي نهائي، المسائل دي مش بتتشاف من منظورك دا، بتتشاف من منظور تاني إسمه صلة الرحم، هما عيلتك وولاد أخوك، وكل اللي يخصهم المفروض يهمك، أنت واجب عليك تحميهم وتفكر فيهم وفي مصيرهم لو اتفرقوا عن بعض بعد مـ.ـو.ت والدتهم وأخوهم، هما ملهمش غير بعض وأنت بعد ربنا، أنت آخر أمل ليهم، حضرتك ليه مش شايف كدا؟

صمت يوسف وحاول التحلي بالهدوء قدر المستطاع، أخفض من نبرته الحادة واسترسل متابعاً:
_ بعيداً عن كدا لنفترض إنه أي كلام من وجهة نظرك، أنت ناسي إن ربنا اللي بيرزق، بأي وجه حق ترفض واحد فيهم كأنك أنت اللي بتبعت رزقهم؟

بلا مبالاة قـ.ـا.تلة أردف الآخر:
_ لسه مش قادرين نوصل لنقطة مشتركة، واللي اتكلمنا فيه بنعيده تاني من غير حل في الآخر، أنا بعتذر منك بس مضطر إني أقفل لأن عندي شغل ضروري، ياريت تتفهم وضعي وأنا هستنى منك مكالمة تبلغني فيها قرارك، وعايز أعرفك إني متكفل بمصاريف سفر الطفل اللي هتبعته عندي

حالة من الذهول وعدm الإستيعاب تملكت يوسف وحاول إقناع عقله أن ما يتسامران به حقيقي، تابع الطرف الآخر حديثه قبل أن ينهي المكالمة بقوله:
_ آه قبل ما أقفل ياريت تبعت لي الولد عشان أنت عارف طبعاً إن مينفعش بنت وولد في نفس المكان، أكيد أنت فاهم بتكلم عن إيه؟ سلام..

انتهت المكالمة، شعر يوسف بنيران تأجج داخله من خلف كلمـ.ـا.ت ذاك المختل، كيف يتحدث بإسم الدين وهو بعيد كل البعد عنه، يخشى مكوث الفتاة مع ولده ولا يخشى مكوثها مع رجل غريب عنها، ألقى يوسف الهاتف أرضاً من فرط غضبه، في تلك الأثناء اقتحمت والدته غرفته بوجه ثائر على ما تسبب به:
_ أنت إزاي تتعامل مع بن.....

توقفت عن الحديث حين رأت حالته المذرية، قطبت جبينها بغرابة من أمره وأخفضت من نبرتها متسائلة عن سبب ثورته:
_ مالك في إيه؟

لم يجيبها فكان في حالة لا تمسح له بالنقاش، ظل يحرك قدmيه بضيق شـ.ـديد ناهيك عن أسنانه التي تحتك ببعضما بشـ.ـدة حتماً سيفتك بهم إن زاد من ضغطه عليهم لحظة أخرى، اعتلت ميمي الفراش بجواره وحاولت فهم الأمر منه:
_ قولي حصل إيه؟ على الأقل عرفني كنت بتتكلم مع مين؟

ابتلع ريقه وهو يعيد كلمـ.ـا.ت ذاك المختل في عقله، وبهدوءٍ يشوبه الغضب أخبرها:
_ دا عم لينة وعلي، بيقول إنه مش هيبعت ياخد غير علي بس..

التفت برأسه ناظراً إلى والدته والشر يتوهج من بؤبؤتيه وتابع بصدmة جلية على تعابيره ولهجته:
_ بيقول إنه مش هيقدر ياخد الإتنين، مش هيقدر يوفر لهم اللي محتاجينه، مش مهم مصير البنت إيه حتى لو اتشردت، بس المهم إنه يوفر حياة مستواها كويس ليه ولعيلته!!

عاد يطالع الفراغ الماثل أمامه وعقله يكاد يجن، تابع هتافه بتجهم يشوبه الإستياء:
_ الناس دي ملتهم إيه؟
خالهم ورماهم في الشارع ورجع لبيته عادي ومهتمش ممكن يحصلهم إيه، مأنبوش ضميره لحظة وحس بنـ.ـد.م ورجع لهم، والتاني فاكر إن وظيفته هي اللي بترزقه مش ربنا!
أكيد الناس دي متربوش على كلام ربنا اللي كبرنا عليه،
ميعرفوش قوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
مش معقول يكونوا عارفين إن كل حاجة بإيد ربنا ويعملوا كدا

تشـ.ـدقت ميمي فكانت قليلة الحيلة لا تملك حتى مواسته، فهناك أناس بقلوبٍ جاحدة وتصرفات ظالمة لا يبرر لهم غلظتهم وعدm رحمتهم على الآخرين، أخرجت ميمي تنهيدة مهمومة فكم كان قلبها يعتصر حـ.ـز.ناً على الصغار وما أصاب رؤوسهم في عمرٍ صغير للغاية.

بعد تفكير لم يأخذ وقت طويل، حسمت أمرها فلن يكون هناك حلاً سوى ما يدور في عقلها، بكامل قواها هتفت بنبرتها الحنونة:
_ انا اتمنيت كتير إن ربنا يرزقني ببنت، بس حكمة ربنا إني أخلف ولدين والحمدلله رضيت، مش عارفة يمكن يبان كلامي غريب شوية بس حاسة إن اللي حصل للبنت دا سبب إني اعتبرها بنتي، عايزاها يا يوسف، لينة اللي اتمينتها كتير مش عايزاها تمشي، خليها تعيش وسطنا

لوهلة ظل يوسف يحدق بما هو أمامه دون وعي، فكيف يتخذونها بنتاً لهم وهناك من يعولها من أقاربها؟
عاد بأنظاره إلى والدته التى ابتسمت له تستحث قلبه على القبول، فما كان منه سوى الرضوخ لطلبها، فلن يسمح لها بالتشرد في النهاية هي أمانة صديقه وسيفعل ما في وسعه حتى يُأمن لها حياة كريمة طيبة.

أستند يوسف بكفيه على ساقيه ناهضاً عن مقعده وهتف بحسم:
_ لازم أرجع بلدهم عشان أجيب كل أوراقهم اللي هحتجاها لسفر علي، وعشان كمان أقدm لـ لينة في المدرسة، مش عايزها تفوت أكتر من كدا

وافقته الرأي وهتفت وهي تربت على كتفه:
_ الله المستعان يا حبيبي

تركته وغادرت المكان بينما عاد يوسف بأدراجه إلى الفراش ولازالت كلمـ.ـا.ت ذاك الرجل تتأرجح ما بين الذهاب والإياب في عقله، لا يصدق أنه بالفعل استطاع التميز بين الأخوين بتلك السهولة دون النظر إلى مشاعرهم وإلى حالة الذُعر التي ستنتابهم ما أن تفرقا.

حاول إفراغ عقله من أي أمور قد تضايقه فيكفي ما مر به في الآونة الأخيرة لا يريد المزيد، أخذ نفساً عميق قبل أن يعيد التفكير في كيفية إخبـ.ـارهم بذلك الأمر، كيف سيواجه أعينهما وهو يخبرهما بافتراق أحدهما عن الآخر، ألا يكفي من فارقهما؟!

حك يوسف مؤخرة رأسه بعصبية شـ.ـديدة فلا يملك قدرة التحدث عن ذلك، عاد بجسده إلى الفراش مطالعاً السقف بحدقتاه البنية لعله يأتي بفكرةٍ ما..

بعد مرور بعض الدقائق على وضعه لم يراوده سوى حلاً واحد وعزم على تنفيذه فلا يوجد سواه من الأساس.

***

استيقظ يوسف على آنين خافت على مقربة منه، يبدوا أن أحدهم يتألم، كان هناك ضوءًا ساطعاً يحجب رؤياه لما يتمثل أمامه، فرك عينيه لعله ينجح في رؤية مصدر الصوت بوضوح لكن الوضع كما هو عليه لا يرى سوى إضاءة شـ.ـديدة السطوع بالكاد يستطيع فتح عينيه.

_ "لينة يا يوسف"
عقد يوسف ما بين حاجبيه فتلك اللهجة يحفظها جيداً، إنه أحمد!

حاول يوسف النهوض من مكانه لكنه يفشل لا يدري أين هو، لا يشعر بشيء يستطيع ملامسته وكأنه يحلق في الفراغ، لازال آنين صديقه يدوي في شحمتي أذنه فهتف هو بإسمه:
_ أحمد، أنت فين أنا مش شايفك

أعاد يوسف تكرار ندائاته التي لم تتوقف قط ولم يبادله الآخر أي إجابه وفي ثانية اقتحم أحمد تلك الظُلمة التي تحولت إلى ملامحه مردداً أمام وجه يوسف:
_ "لينة يا يوسف"

انتفض يوسف من مكانه مشهوراً بشـ.ـدة، طالع أمامه بأعين جاحظة، ارتفع تدفق الدmاء في نبضات قلبه بشـ.ـدة من فرط الخوف، رجفت يده التي يستند بها على الفراش فاستقام في جلوسه وطالع المكان من حوله يتأكد من غرفته.

أوصد عينيه حين استشف أنه كان حُلم، تنفس الصعداء ثم تمتم مترحماً على صديقه بحـ.ـز.ن:
_ ربنا يرحمك يا أحمد

نهض عن فراشه وتوجه إلى الخارج لكي يطمئن بنفسه على الصغار، كان المنزل يتمتع بسكون مخيف قاطعه صوتٍ ما صدر من غرفة "زياد".

توجه يوسف بخُطاه إليها، طرق الباب ثم ولج داخلها فتفاجئ بوجود زياد برفقة علي، اتسع ثغره بإبتسامة مطمئنة وسألهم مستفسراً:
_ بتعملوا إيه متأخر كدا؟

أسرع زياد في الرد عليه بحماس يشوبه التردد من ردة فعله:
_ كنا بنلعب بابجي..

قطب يوسف جبينه مستاءً منه وبهدوء عاتبه:
_ لعب ودلوقتي! أنت ناسي إنك عندك مدرسة بكرة بدري؟ أقفل الكمبيوتر ويلا على سريرك بسرعة

وجه نظريه إلى علي متابعاً استرساله:
_ وأنت كمان يا علي، بطل لعب ونام عشان هنصحى بدري، هنروح مشوار مع بعض

أماء له بقبول فانسحب يوسف من الغرفة موصداً بابها خلفه، توجه إلى غرفة والدته وبتردد شـ.ـديد في فعل ذلك طرق الباب بخفة فلا يوجد لديه حل غيره لكي يطمئن على التؤام الآخر، تنهد وأدار مقبض الباب بحذر ثم مال برأسه من خلف الباب حتى وقع نظره عليها غافية بجوار والدته، أغلق الباب وعاد إلى غرفته وصاح عالياً حين رأى إضاءة الغرفة المجاورة لازال مضئ:
_ قولت ناموا

جائه الرد على الفور:
_ نمنا خلاص..

عاد لغرفته وحاول مراراً أن يعود إلى النوم لكن النعاس قد جفى عينيه، يبدو أن هناك ليل سيطول ساعاته إلى أن يمر.

تذكر شيء ما فنهض عن كرسيه وتوجه إلى الكومود خاصته والتقط إحدى الروايات الرومانسية التي يقوم بقرأتهم باستمرار، استلقى على فراشه واضعاً ذراعه الأيسر خلف رأسه وظل يهمهم بالكلمـ.ـا.ت التي يقرأها بخفوت وغرق بين صفحات الكتاب الذي بيده غير آبِه لما يدور حوله.

***

سطعت الشمس فتناثرت أشعتها على البنايات وغيرها من الأشجار لتضيف لأوراقها الخضراء لمعة ساحرة كصفاء لمعة البحر التي تنقلب مع موجاته منتجة منظراً عظيماً تطمئن النفس له.

أنتبه يوسف على رنين منبه هاتفه فأغلقه وقام ليتجهز حتى يلحق ميعاد القطار قبل أن يفوته، خرج من غرفته فهاجمته تلك الرائحة الذكية التي تغلغلت داخل أنفه دون استئذان.

توجه نحو مصدرها فتفاجئ بهذا الكم من الطعام الموضوع في عُلب ورقية، جذبت والدته انتباهه بإلقائها التحية عليه:
_ صباح الخير يا حبيبي

رد عليها متعجباً مما يحدث فالأمر مريباً له بعض الشيء:
_صباح النور يا أمي، مين اللي هياكل كل دا؟

أجابته بتلقائية عابثة:
_ الأكل دا بدل اللي باظ امبـ.ـارح، مش أنت قولتلي إنك عايز توزع أكل علي المحتاجين وأنت رايح محطة القطر، وبيكون هناك ناس كتير محتاجة للأكل

لمعت عينيه ممتناً لها، فكيف لا يحبها وهي عشقه، أخذ نفساً وحرك قدmيه ناحيتها ثم قام بعناقها هاتفاً بنبرة مُتيمة:
_ ربنا يخليكي ليا يا أمي

ربتت علي ظهره بحب شـ.ـديد وهي تجيبه بحنو أمومي:
_ ربنا يرضيك يابني ويرضى عنك، ويكتب لك الخير في كل خطوة

آمن على دعائها وهو يتراجع للخلف:
_ آمين، هروح أصحي علي الأول وبعدين أغير هدومي على لما يخلص هو كمان

أولاها ظهره وقام بإيقاظ علي وأمره بتبديل ثيابه وكذلك قام هو ثم ساعد ميمي على تعبئة العُلب في الأكياس البلاستيكية ومن ثم هموا بالمغادرة سريعاً قبل أن تستيقظ لينة.

وصلا كليهما باكراً إلى محطة القطار، قسم يوسف الأكياس بينهما لكي يساعدان بعضهما البعض وينهيا الأمر سريعاً، أعطى يوسف أول عُلبة طعام لأول سائل قابله فشكره الآخر ودعا له بطيب نفس، ثم تابع يوسف ما يفعله لكنه أنتبه على الفتى حين ناول إحداهن عُلبة وقال لها:
_ ادعي لماما وأخويا بالرحمة

انهالت المرأة بالدعوات لهما فتبسم علي بسعادة بالغة مما شجعه على إعطاء الآخرين الطعام حتى يجمع أكبر قدراّ من الدعوات لأحبته، تشكلت ابتسامة مشفقة على شفتي يوسف لحالته، ثم قام بمواصلة ما يفعله مطالباً ممن يعطيه الطعام بالدعاء لأحمد ووالدته.

بعد مرور وقت ليس بقصير، انتهوا من توزيع جميع الأطعمة، أعطى يوسف كفه للفتى الذي قام بصفع كف يوسف فرحين بذاك الإنجاز الذي أضاف ليومهم مزيج من البهجة والحماس.

استقل يوسف مقعده داخل القطار وكذلك رافقه علي المقعد المجاور ثم سأله بفضول:
_ إحنا رايحين فين؟

علم يوسف أن تلك اللحظة قد حانت وعليه إخبـ.ـاره فكم سيخفي عنه الأمر؟، شهيقا وزفيراً قد فعل يوسف ثم مال بجسده للأمام ونظريه على علي يتابع ملامحه وبدأ يخبره:
_ أنا قدرت أتواصل مع عمك امبـ.ـارح..

استشف من علي عدm الضيق حين رأى تشـ.ـدق شفتيه للجانب فسرها بالقبول لحديثه فواصل مردفاً بتردد:
_ وافق على كلامي بس بشرط إن واحد بس منكم اللي يسافر عنده، وفي الآخر المكالمة قالي إنه عايزك أنت..

قطب علي جبينه وسأله مستفسراً:
_ ولينة؟ مش هتيجي معايا؟

زم يوسف شفتيه واكتفى بتحريك رأسه نافياً سؤاله فهتف الآخر حاسماً الأمر:
_ يبقى أنا مش هروح في مكان من غيرها

لم يعلم يوسف ما عليه قوله تلك الأثناء، حاول التفكير معه بصوت عالٍ لعله يصل إلى نقطة ترضيهم:
_ وأنا معنديش أي مانع إنكم تقعدوا معانا، ومن الوقتي أنا متكفل بيكم، بس لو سألتني عن رأيي هقولك أقبل وسافر، هناك هتلاقي ألف فرصة عمرك ما تحلم بربعها هنا، هتلاقي تعليم كويس ونضيف، وهتعيش حياة مرفهة، ولما تكبر إن شاء الله هتلاقي وظيفة تليق بيك وفي سياق دراستك

طالع يوسف الخارج بحـ.ـز.ن وواصل ما لم ينهيه بعد:
_ هعطيك مثال يمكن تفهم كلامي، أنا أهو قدامك درست واجتهدت واتخرجت وفي الآخر مش عارف أشتغل في مجال دراستي
وبرده القرار في الآخر يرجع ليك، دا مجرد رأي لا أكتر ولا أقل، لو قررت تسافر هبدأ في إجراءات سفرك من النهاردة ولو قررت تقعد هنا فأهلاً بيك أنت ولينة في عيلتنا

طالع علي الفراغ أمامه وعينيه تتلألأ فيهما العبرات التي تهدد بالسقوط مردداً بنبرة متحشرجة:
_ مش عايز أبعد عن لينة، هتبقى لوحدها وأنا مش موجود

ربت يوسف على كتفه بآسى وحاول التخفيف عنه:
_ أختك في أمانتي يا علي، أنت عاشرتني يومين قولي أنت شايفني واحد ميعتمدش عليه وميقدرش يشيل مسؤولية عشان تخاف على أختك معايا؟

التفت علي برأسه ناظراً إليه وقد سقطت على مقلتيه العبرات التي حاول جاهداً إخفائهم وأردف بمزاج غير سوي:
_ مفيش غيرك اللي ساعدنا يا يوسف!

انعقد حاجبي يوسف تلقائياً متأثراً بحديثه، جذبه من ذراعه وعانقه بقوة فردد علي من بين بكائه:
_ هتخلي بالك عليها، مش كدا يا يوسف؟

تراجع يوسف ليطالعه وأخذ وعداً أمامه:
_ أقسم لك إني هعمل كل اللي أقدر عليه عشان متكنش محتاجة لحاجة، وطلاما لسه فيا النفس عمري ما هخليها تحس بنقص أبداً، هي بس تشاور وأنا أنفذ قبل ما ترمش، متقلقش يا علي هي هتكون في حمايتي على لما أنت ترجع لينا بالسلامة.

حرك علي رأسه مراراً وتابعا كليهما سفرهما إلى البلدة، نجح يوسف في استعادة جميع أوراقهم وعاد بعلي إلى منزله بعد غياب الشمس.

في غصون عِدة أيام، استطاع يوسف إنهاء جميع الأوراق اللازمة لسفر علي، وقف يشير إليه من بعيد مودعاً إياه، فرت دmعة من عينيه حين اختفى علي خلف باب الطائرة.

عاد يوسف بأدراجه إلى منطقته بعد أن أطمئن بتحليق الطائرة، لم يود مواجهة لينة باكراً كما أنه لم يفضل العودة قبل أن يطمئن بوصول الفتى أولاً.

جلس على مقهى قريبة من منزله ولم يبعد الهاتف عن عينيه ثانية، فلقد أوصى عمه بأن يخبره فور لقائهما، تمر الثوانِ عليه وكأنها دهراً، لا يستطيع التحمل كل هذا الوقت، كاد أن ينهض إلا أن اقتحام صديقه قد منعه حين عاتبه بقوله:
_ كل ما أسأل عنك يقولولي مش موجود، أسبوعين بحالهم يا يوسف متسألش عن صاحبك؟

اعتذر منه يوسف بلهجة مشحونة بالتـ.ـو.تر:
_ معلش يا بلال، بس كنت واقع في ظروف انشغلت فيها شوية، هحكيهالك بعدين..

أعتلى بلال المقعد المجاور له متسائلاً بفضول حول تلك الظروف الغامضة:
_ وليه بعدين، أحكي دلوقتي

أسبق يوسف بالرفض فمزاجه لا يمسح له بالنقاش حالياً:
_لا لا مش النهاردة، مش رايق أتكلم في حاجة

نهض عن كرسيه تحت نظرات بلال المتعجبة من حالته، توقف عن الحركة حين شعر بإهتزازة هاتفه معلناً عن وصول رسالة، أسرع في فتح هاتفه ليتمعن الرسالة الواردة.

تقوس ثغره بإبتسامة عريضة ناهيك عن شعور الراحة الذي راوده حين رأى صورة علي برفقة عمه، أغلق الهاتف وأعاد وضعه في جيبه ثم التفت إلي بلال الذي مازال يطالعه مندهشاً لما هو عليه.

جلس يوسف حيث كان هاتفاً بنبرة أكثر راحة:
_ خلاص هحكيلك، متبصليش كدا

بادله الآخر ابتسامة عفوية، فبدأ يوسف في قص ما مر به من البداية تحت نظرات بلال المذهولة لما يقع على أذناه.

انتهى يوسف من الحديث رافعاً كتفية للأعلى مع زمه لشفتيه مردفاً:
_ شوفت بقا اللي حصل لصاحبك!

أخرج بلال تنهيدة مهمومة فلديه هو الآخر نصيباً من المصائب يجهلها يوسف:
_ والله يا صاحبي مش عارف أواسيك ولا أنت اللي تواسيني؟

ضاق يوسف بعيناه عليه متسائلاً بقلق قد تمكن منه:
_ عندك إيه أنت كمان؟

تشـ.ـدق بلال وهو يقلب عينيه ثم بدأ حديثه بتأفف:
_ الصبح لقينا أختي جاية بتعيط، جوزها ابن ال*** مد أيده عليها، من وقتها ودmي محروق وكنت هروح أقــ,تــله لولا إن أبويا مانعني إني أتعرض له، ولغاية دلوقتي لسه مهدتش وبتعصب أكتر كل لما أفتكر منظرها

انتفض يوسف من مكانه فأثار الذعر في نفس بلال وسأله مستفسراً:
_ في إيه يابني؟ وقفت فجاءة كدا ليه؟

بلهجته الحادة التى لا تريد نقاش هتف:
_ قوم، هنروح مكان

نهض بلال عن مقعده وهو يكرر سؤاله الفضولي:
_ قولي هنروح فين؟

"هنروح نجيب حق أختك "
هتف بهم يوسف ونبرته لا تبشر بالخير، لحق به بلال وأمسكه من ذراعه مرغماً إياه على التوقف وقال محذراً:
_ استنى بس أنت ناوي على إيه، أبويا حذرني مقربش منه، وأكيد لو حصله حاجة أنا اللي هلبسها

حرر يوسف ذراعه من بين قبضتي صديقه وببرودٍ يشوبه السخرية قام بتوبيخه:
_ يا دلوعة أبوك، الراجـ.ـل ضـ.ـر.ب أختك وأنت خايف من أبوك!
حرك رأسه باستنكار مختلط بالإستهزاء وتابع سيره إلى الأمام، تسببت كلمـ.ـا.ته في إشعال نيران المروءة لدى بلال الذي احتقن وجهه وفارت دmائه، وعزم على أن يكـ.ـسر ضلوع شبيه الرجـ.ـال هذا.

تحرك خلف صديقه بخطوات مهرولة لا يرى أمامه سوى القصاص لشقيقته التى هانها زوجها وألقنها ضـ.ـر.باً مبرحاً بكت بغزارة إثره.

وصلا كليهما إلى البناية التي تعود إلى ذاك الدنئ، كاد بلال أن يهم بالصعود إليه إلا أن يوسف تريث ومنعه فنظر إليه متعجباً من أمره:
_ وقفتني ليه؟

شرح له يوسف خطته بهدوء وهو يتابع المكان من حولهما:
_ أكيد مش هنروح نتخانق معاه في بيته، مش عايز حد يشوفنا، إحنا هنستنى لما سيادته يظهر وبعدين هنمشي وراه وأول ما نلاقي فرصة هنعلمه درس يفكر بعده ١٠٠مرة قبل ما يمد ايده على أختك تاني

كز بلال أسنانه بعصبية فلا يطيق الإنتظار حتى يلقن ذاك المعتوه درساً لن ينساه طوال حياته، مر الكثير من الوقت حتى ظهر مرادهم وهو يتغنج بجسده مع تغريداته التى تدل على رونقه صفوه.

تبعوه إلى حيث يذهب ومن حُسن حظهم أنه ذهب من زقاق جانبي من بين البنايات، استغلوا تلك الفرصة الثمينة وحاصروه، أحدهما قد ظهر له من الأمام والآخر من الخلف لكي لا يمكنه الهروب من بينهما.

اقترب منه يوسف أولاً وعيناه ينطق منهما الشر، لم يبذل مجهوداً في الصراخ عليه فكان دوماً يستعمل أسلوباً مبسطاً لكن الجميع يهابه، هدوء يشوبه التهديد في نبرته أردف وهو يلاصق صدره:
_ الإيد اللي تتمد على الحريم متستحقش يتكتب في بطاقتها دكر يا... ربع دكر أنت

هتف كلمته الأخيرة باستهزاء ثم ضـ.ـر.به برأسه فسقط الآخر أرضاً هاتفاً بحنق:
_ أنتوا بتعملوا إيه يا أغـ.ـبـ.ـية، أقسم بالله لو ما...

قاطعه يوسف بنبرة صارمة:
_ متقدرش تعمل حاجة، عارف ليه يا قذر أنت؟

صمت حين جذب انتباهه ثم سحب هاتفه وقام بالعبث فيه لثوانِ وتابع ما لم ينهيه مهدداً بعد أن وضع الهاتف أمام نظري الرجل:
_ شايف كل الأسامي دي، كلهم مصادر أمنية ورُتب عالية، أقل واحد فيهم يقدر ينفيك من على وش الدنيا، وأنا متمناش حتى لأعدائي إنهم يتعاملوا معاهم أبدا، لأنهم مش بيحبوا الغلط ولو وقع في أيديهم واحد زيك كدا بيسفروه لفوق، فوق أوي

ارتاب الرجل تهديد يوسف وسأله بنبرة مرتجفة:
_ أنت عايز إيه الوقتي يا يوسف؟

حاول يوسف منع ضحكاته من التسرب من شفتيه حتى لا تضيع هيبته التي فرضها عليه، أخذ نفساً ليواصل الحوار أمامه على نفس نبرته الحازمة:
_ تروح عند مراتك تتأسف لها وتراضيها، وخليك متأكد إنك لو فكرت تعيد عملتك دي تاني أنا مش هجيلك تاني هروح للناس اللي شوفت أساميهم بعنيك وأبعتهملك هما يتعاملوا معاك، وأنت عارف كويس هما هيقدروا يعملوا فيك إيه؟!

أماء له بتفهم فانسحب يوسف برفقة بلال الذي انبهر من طريقة صديقه في تهديد الرجل، انتظر بلال حين ابتعدا كليهما قدراً كافياً عنه وهتف معجباً به:
_ إيه اللي حصل حالاً دا؟ أنت خرسته ومعتش قدر ينطق بكلمة قدامك، أنت بقيت مهم وأنا معرفش ولا إيه؟

قهقه يوسف على حديث بلال وعلق ساخراً:
_ الموضوع مش زي ما أنت فاكر، دول مجرد صحابي في الجيش كنت مسميهم بألقاب مهمة عشان لو وقعت في موقف يحتاج مساعدة زي اللي إحنا كنا فيه دا

ضـ.ـر.ب بلال كفاً على الآخر لا يصدق أنه افتعل كل ذلك من خلف اكذوبة وضيعة لا يصدقها عقل، عادوا إلى حيث جاءوا فتفاجئ يوسف بهرولة زياد نحوه، وقف أمامه وتحدث فور وصوله بأنفاس لاهثة:
_ إلحق لينة يا يوسف..

"لينة اضـ.ـر.بت يا يوسف"
هتف بهم زياد بينما انتفض يوسف من مكانه مذعوراً، تحولت ملامحه ولم يستطيع كبح جِماح غضبه الذي ظهر في نبرته المنفعلة:
_ مين اللي عمل كدا؟

أخبره زياد من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه إليه:
_ كنا بنلعب بالكورة قدام البيت مع صحابي، ولينة وهي بتلعب خبطت واحد منهم بالكورة فالتاني اتغاظ منها وضـ.ـر.بها بالقلم، بس أنا مسك....

لم ينتظر يوسف سماع المزيد بعد، فتوجه بخُطاه عائداً إلى منزله ووجه يميل إلى الإحمرار من فرط غضبه، تفاجئ بجلوس الفتاة أمام بوابة البناية خاصتهم تبكي.

اتسعت حدقتاها حين رأت يوسف يتقدm منها، نهضت عن مقعدها وهرولت نحوه ثم هتفت وهي تعانق ساقيه:
_ متسبنيش تاني..

ملس يوسف على خصلاتها بحنو، أوصد عينيه لبرهة يحاول استعادة رونقه لكي لا يخيفها بحدته الطاغية الآن، زفيراً قوياً أخرجه على مهل وردد بنبرة أكثر هدوءً:
_ مش هسيبك متقلقيش، تعالى معايا

مد لها يده فاختفت يدها ما أن وضعتها داخل كفه، أغلق عليها يوسف وتقدm إلى الأمام وهو يتسائل عمن فعل ذلك بها:
_ مين اللي ضـ.ـر.بك فيهم يا لينة؟

أجابته وهي تشير بإصبعها على فتى ما يلعب على مقربة منهم:
_ اللي هناك دا، إسمه أمجد

حرك يوسف رأسه بتفهم وتابع سيره حتى وصل إلى الفتى، وضع يده على كتفه من الخلف وأرغمه على الإلتفاف إليه، ومن بين أسنانه المتلاحمة صاح به بنبرة أرعـ.ـبته:
_ أنت إزاي تمد إيدك عليها؟

دفع الفتى يد يوسف بعيداً عن كتفه وهتف بعدm احترام:
_ هي اللي بدأت ودا عقـ.ـا.بها

رفع يوسف حاجبيه مستاءً من وقاحته، التفت برأسه حيث تقف لينة وأمرها قائلاً:
_ أضـ.ـر.بيه زي ما ضـ.ـر.بك يا لينة..

تفاجئت لينة بأمره، كذلك تفاجئ الجميع مما يريده يوسف، تدخل بلال محاولاً حل تلك المسألة بقوله:
_ إهدى بس يا يوسف دا عيل صغير زيها بالظبط

أعاد يوسف تكرار ما قاله وكأنه لم يصغي إلى حرف مما تفوهه صديقه:
_ قولتلك اضـ.ـر.بيه يا لينة..

نظرت إليه الفتاة بذهولٍ تام وبتردد كبير رفعت ذراعها، ثم دوت صفعة قوية تركت أثراً على وجه الفتى، الذي احتقن وجهه من الغضب، تراجعت لينة للخلف محتمية في يوسف حين خشيت رد الأذى من الفتى، أنتبه الجميع إلى عويل إمرأة تتقدm نحوهم بخطى مهرولة:
_ مين دا اللي اتجرأ ومد أيده على ابني؟

تصدى لها يوسف بأعين يتوهج فيهما الشر وأجاب على سؤالها بجمودٍ قاسِ:
_ أنا اللي قولتلها تعمل كدا

تفاجئت المرأة من جرأته الوقحة دون احترام لها، وهتفت بحنجرة غليظة معنفة إياه:
_ دا ولد صغير إزاي تخليها تضـ.ـر.به، أنت بتحط عقلك من عقل عيل يا يوسف؟

حرك رأسه مستنكراً سخريتها التي أنهت بها حديثها، رد عليها بفتورٍ يشوبه التقزز:
_ ابنك اللي بدأ بضـ.ـر.ب البنت، وعشان كدا أنا اللي خليتها تضـ.ـر.به

رفعت المرأة حاجبها الأيسر وهي تحدج الفتاة بنظراتها المشتعلة، تمتمت من بين شفتيها ساخرة:
_ ومين دي إن شاءالله؟ السفيرة عزيزة وإحنا منعرفش؟

بثقة عمياء قام بالرد عليها باستهزاء:
_ لأ، دي تبقى السفيرة لينة، وطول ما أنا فيا النفس مفيش حاجة تقدر تمسها، سواء كان بسبب ابنك أو غيره!

أولاها يوسف ظهره وحدج من يتناثرون على النواصي وتابع هتافه محذراً:
_ الجميع سواسية واللي اتقال للست عواطف حالاً نفسه اللي ساري على الكل، أنا بحترم الصغير قبل الكبير وعشان كدا أنا عايزكم تحترموا البنت زيها زيي بالظبط، ومن النهاردة هي من عيلتي وأنا مش هسمح أبداً إن يحصلها حاجة، اللهم بلغت

لم ينتظر يوسف سماع إجابة من أحدهم يكفيه نظراتهم التي تتأجج فيهما الريبة، أمسك بيد الفتاة ثم توجه عائداً إلى منزله، تبعه زياد وهو يسير رافعاً رأسه بعجرفة فخوراً برد أخيه على الجميع، فلن ينكر أن تصرفه سيعود إليه بالإيجاب ولن يقدر أحدهم على التطاول عليه منذ ذلك الحين.

تقدm يوسف برفقة الفتاة إلى المنزل وتوجه نحو الأريكة التى تقربه، جلس أعلاها وأرغم لينة على الوقوف أمامه وبنبرة واثقة حثها على عدm الخوف بعدmا رفع رأسها المنحنية إلى الأعلى وأردف:
_ متحنيش راسك تاني يا لينة، مكانها يبقى مرفوع كدا دايماً، اوعديني إنها تفضل مرفوعة مهما شوفتي ومر عليكي

ابتلعت لعابها ورمقت أهدابه الكثيفة التي تحيط بعينيه البُنية لبرهة قبل أن تسترسل بنبرة واثقة:
_ أوعدك إني مش هحنيها تاني خالص

إلتوى ثغر يوسف للجانب فظهرت غمازته التي انتبهت عليها لينة، مشكلاً ابتسامة سعيدة عـ.ـذ.بة وهو يرفع كفه لها:
_ كفك يا لولي

ابتهجت لينة من ذلك اللقب الفريد من نوعه، فكان أول من ناداها بدلال بذاك الإسم، رفعت ذراعها اليُمنى وقامت بصفع كفها الصغير في كفه المرفوع فهتف يوسف ممازحاً:
_ Good girl

اختفت إبتسامة الفتاة تدريجياً وهي تجول بنظريها في المكان متسائلة بقلق:
_ علي فين؟ هو مرجعش معاك ليه؟ أنا مشوفتوش خالص من وقت ما كنا تحت..
حل السكون بين الجميع، لقد حانت اللحظة الذي يخشاها يوسف، يجدر عليه أن يأتي برد في الحال، مرر يوسف أنظاره بين الواقفين فاستشف تأثر والدته بموقفه، حتماً تشعر بما يجول في خاطره تلك اللحظة.
قطع ذلك الصمت يوسف باسترساله المتـ.ـو.تر من ردة فعلها:
_ علي مشى..

قطبت جبينها فلم يعي عقلها الصغير تفسير معنى رحيله وهتفت متسائلة ببراءة:
_ مشى فين؟

نهض يوسف عن مقعده فحركت لينة رأسها عفوياً معه، حمحم قبل أن يردف موضحاً لها بنبرة مهزوزة:
_ سافر، سافر عند عمكم

تجهمت ملامحها تدريجياً حين استشعرت حقيقة ما قد قيل، وقبل أن تثور بطفولة لفظت سؤالها بنبرة تهدد بالبكاء التي تحاول كتمه:
_ سافر وسابني؟

زم يوسف شفتاه ولم يقدر على مواجهة عينيها التي لم تُرفع من عليه في إنتظار إجابة صريحة منه، اقتربت منها السيدة ميمي حين شعرت بوضع ولدها الذي لا يحسد عليه، حاولت التدخل والتخفيف من عليه، جلست على الأريكة وجذبت الفتاة من ذراعها قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها الحنونة:
_ في حاجات مينفعش نسأل فيها، هو نصيب مقدر من ربنا ولازم نرضى بيه، أنا عارفة إنك كبيرة وعاقلة وأكيد فاهمة معنى كلامي، وعارفة كمان إنك مصدومة ومتفاجئة من الحياة اللي اتشقلب حالها بين يوم وليلة، بس بصى كدا حواليكي، هتلاقي كتير بيتمنوا سعادتك وإنهم يشوفوا ضحكتك، أنا أهو ويوسف وزياد كمان، كلنا جانبك ومش هنسمح أبداً إنه يحصلك أي حاجة وحشة طول ما إحنا فينا النفس

فرت دmعة خفية من عيناي لينة فرفعت ميمي يدها ومسحتها على الفور بأناملها، شكلت بسمة على ثغرها فظهرت بعض الكرمشة في وجهها وقالت:
_ من هنا ورايح تناديني بماما زي يوسف وزياد

شعر يوسف بأن وقته قد حان للتحدث، ابتلع ريقه ورتب كلمـ.ـا.ته قبل أن يسترسل بصوته الرخيم:
_ وكمان تقدري تعتبرينا إخواتك، إحنا هنا في خدmة السفيرة لينة

التفت يوسف برأسه حيث يقف زياد وحثه على تأكيد حديثه:
_ مش كدا برده يا زياد؟

وزع زياد أنظاره بين يوسف ولينة وداخله يرفض البتة اعتبـ.ـارها شقيقته، فهي في الأساس ليست كذلك كيف وهي فقط دخيلة، كيف سيرغم عقله على الإقتناع بهذا الهراء؟

اتسعت حدقتي يوسف موحياً إليه بالتحدث لكنه لم يأبى لما يريده يوسف فعله، تقدm ناحيتهم وقال بحدة باغتة وهو يرمق لينة بطرف عينيه:
_ لأ دي مش أختى، ومش هعتبرها كدا أبدا

فر هارباً إلى غرفته ما أن أنهى جملته، تفاجئ يوسف والسيدة ميمي بتصرفه الغريب، فلم يجدوا له تفسير واضح، تنهد يوسف مستاءً فموقف شقيقه قد ضاعف للوضع تعقيداً، فكيف سيطالبه بما كان يجول في خاطره الآن بعد رفضه الصريح لقبول الفتاة؟!

لم تكترث لينة كثيراً لكلمـ.ـا.ت زياد، فيوجد ما يشغل عقلها ويلهيها عن التفكير في شأن آخر، كادت أن تهم السيدة ميمي خلف صغيرها إلا أن يوسف ألحق بها بقوله وعينيه معلقة على باب غرفة أخيه:
_ خليكي أنتِ يا أمي مع لينة، أنا هتكلم معاه

توجه بخطاه اتجاه غرفة زياد ثم طرق بابه وولج إليه قبل أن يسمح له الآخر، لم يتفاجئ زياد من وجوده، فهو كان يعد داخله في انتظار مجيئه المعتاد، توقف عند الحادية عشر حين رأى يوسف أمامه وأسبق بالحديث لينهي أي توبيخ قد يمسه:
_ قبل ما تزعق سـ...

قاطعه يوسف بنبرة عكس التي كان يتوقعها زيادة، كانت أكثر هدوءًا ورزانة:
_ قبولك بيها أو رفضك ميهمنيش، كل اللي يهمني إنك تحترمها ومتفكرش تطاول عليها ودا أنا واثق منه، أنا متأكد إنك راجـ.ـل وهتقدر تشيل مسؤوليتها وقت غيابي زي ما أنا متأكد إنك هتحميها سواء كنت موجود أو لأ، بس فيه حاجة كنت عايز أقولهالك..

لم تهتز لزياد خصلة بل ظل يطالعه منتظراً مواصلة حديثه ببرود، هرب يوسف بعينيه بعيداً عنه وعرض طلبه قائلاً:
_ الأوضة دي لازم نسيبها لـ لينة

صعق زياد وحملق به مذهولاً من قراره المفاجئ، لم يخضع بسهولة وصاح عالياً مبدياً رفضه:
_ إيه؟ ليه إن شاءالله؟ سيب لها أوضتك أنت، ليه مفكرتش في كدا؟

لم يعرف يوسف أن تفكير شقيقه ساذج إلى ذلك الحد، وليكن ليوضح له حقيقة ما يتعمد التغافل عنه:
_ يمكن لأن أوضتي مساحتها أكبر من أوضتك فنقدر ننام فيها إحنا الاتنين مرتاحين، إنما أوضتك أخداك بالعافـ.ـية

برفض واضح في لهجته هتف زياد:
_ قولتلك لأ، مش هسيبها لحد

على ما يبدوا أن التهاون لن يجدي نفعاً مع ذلك العنيد، عليه وضعه أمام الأمر الواقع حينذاك لن يقدر على معارضته، تنهد يوسف وببرودٍ يشوبه الأمر أردف بلهجة صارمة:
_ لم حاجتك بسرعة عشان الليلة دي لينة تنام في أوضتها الجديدة

كاد زياد أن يعيد رفضه إلا أن يوسف منعه بحركه من إصبعه محذراً:
_ خلصنا يا زياد

أولاه ظهره وخرج من الغرفة تاركاً الآخر يثور غضباً بسبب أمره الحاسم، ضـ.ـر.ب زياد قدmيه في الأرض بتذمر شـ.ـديد وبعناد نظر أمامه وتمتم بغيظ:
_ والله لتشوف أنا هعمل فيها إيه

خرج من شروده وبدأ في لملمة جميع أشيائه الخاصة وهو يتأفف من حين لآخر، ناهيك عن توعده المستمر للفتاة، في الخارج بحث يوسف عن والدته والصغيرة فلم يراهن حيث تركهن.

أنتبه إلى ضجة محدثة يأتي أثرها من المطبخ فتوجه نحوه لكن قدmاه قد توقفت من تلقاء نفسها حين وقع على مسامعه نحيب الفتاة الذي يتسلل من غرفة والدته، تراجع للخلف برأسه ناظراً داخل الغرفة فإذا بها جالسه على الفراش مكورة في نفسها تعانق دmيتها وتبكي بألم واضح.

لم يتردد في الدخول إليها فتفاجئت به ومسحت عبراتها على الفور، تابع يوسف تقدmه منها إلى أن جلس مقابلها، بهدوءٍ في نبرته سألها:
_ بتعيطي ليه يا لينة؟ مش إحنا اتكلمنا برا وقولنا إننا عيلتك الجديدة، رجعتي تعيطي تاني ليه بقى؟

لم تجيبه بل فضلت عدm الرد فهي محرجة منه، حاول يوسف اختراق ذلك الحاجز الذي شكلته بصمتها فلم يوجد أفضل من الدُمية لكي يتحدث عنها:
_ عروستك جميلة، مين اللي جبهالك؟

رفعت رأسها بتهمل ورمقته بأعين لامعة، مرت ثانيتين قبل أن تخبره مختصرة بنبرة متحشرجة إثر البكاء:
_ أحمد

زم يوسف شفتيه بتأثر، وبعد لحظات أنتبه على صوت من خلفه فالتفت برأسه يعلم هوية الدخيل فإذا به والدته، بوجه بشوش قالت:
_ إحنا جمعنا اللي قدرنا عليه من الأوضة، هنكمل بكرة إن شاء الله

بادلها يوسف إبتسامة عـ.ـذ.بة وعاد بأنظاره إلى لينة وبأمر قال وهو يمد يده لها:
تعالي ورايا يا لينة

بعد تردد أمسكت يده وخرجت برفقته دون علم لها بوجهته، وقفوا على باب غرفة زياد الذي خرج حاملاً لحقيبة ظهره والغضب لا غيره مرسوم على تقاسيمه، تعمد لكزها بكتفه ربما يقلل هذا شعور الغيرة داخله.

لم تعقب لينة على فعلته، لكنها تابعت بنظراتها هرولته الغاضبة إلى غرفة يوسف، رفعت بصرها على يوسف وسألته بفضول:
_ هو ماله؟ مضايق كدا ليه؟

فعل يوسف حركة برأسه تعني لا أن تكترث له، ولج الغرفة وطالع الخزانة التي باتت خالية ثم استدار إليها وأردف بنبرته الرخيمة:
_ هاتي شنطتك ووضبي دولابك، دي بقت أوضتك خلاص، أعملي فيها اللي تحبيه ويريحك

تفاجئت لينة بما قاله، الآن فهمت سبب ثورة زياد، تراجعت للخلف قليلاً وهتفت رافضة:
_ لأ دي أوضة زياد، وأنا مش عايزة أخدها منه، أنا هنام مع ماما ميمي في أوضتها

حرك يوسف رأسه رافضاً ما تقوله وأوضح لها قائلاً:
_ متهتميش لزياد هو هياخد وقته ويرجع لطبيعته تاني، تاني حاجة أنتِ بنوتة وليكي خصوصية مختلفة عن اللي اتعودنا إحنا عليه، عشان كدا لازم يكون ليكي أوضة لوحدك، فهمتي ليه لازم تاخديها؟

أماءت له متفهمة فربت هو على كتفها مشجعاً إياها:
_ طيب يلا وضبي دولابك

توجهت أنظارها إلى الخزانة وكأن طاقتها على توضيبها معدومة، استشف يوسف ما يوجد خلف نظراتها وأراد مساعدتها فهتف بمرح:
_ تحبي أساعدك يا لولي؟

أماءت له بخجل، ثم أخبرها يوسف بإحضار حقيبتها، عادت إليه بعد ثوانٍ معدودة ثم فتحتها وقامت بإخراج بعض الفساتين لتعلقها في الخزانة، كذلك فعل يوسف وساعدها في وضع بقية الثياب داخل الخزانة.

كان يبتسم من حين لآخر حين يقابله فستان وردي فهو يفضل ذلك اللون في ثياب الفتيات الصغيرات، حمحم وأبدى إعجابه معلقاً:
_ أكيد اللون دا بيكون حلو عليكي

أجابته بمشاغبة وهي تتابع ما تفعله:
_ لا لون عادي يعني، أنت بتحبه؟

أكد على سؤاله بقوله:
_ بحسه لايق أكتر على البنات عن أي لون تاني

لم تعقب على حديثه فتعجب يوسف من صمتها لكنه لم يعلق أيضاً، كاد أن يسحب ثياب أخرى لكنه تفاجئ ببعض القطع الخاصة فتراجع للخلف دون أن يطيل النظر إليهم وهتف بحرج:
_ معتش فيه كتير، وضبيهم أنتِ وأنا هكلم واحد صاحبي، لو احتجتي لحاجة أنا في أوضتي نادي عليا

"ماشي"
أجابته مختصرة فخرج على الفور وعاد إلي غرفته، لم يتفاجئ من تذمر زياد وحالته المذرية، سيعتاد لا يملك سوى ذلك، تجاهله يوسف لكي لا ينشب شجاراً بينهما وتوجه إلى فراشه، اعتلى طرفه ثم شعر بإهتزازة هاتفه فقام بالرد على صديقه:
_ عايز إيه، مكتفتش مني؟

تشـ.ـدق بلال بفمه متهكما لتلك الثقة التي يحادثه بها يوسف ورد عليه ساخراً:
_ طبعاً، أصل أنا واقع في حبك

حرك رأسه مستنكراً وتابع بلهجته الساخرة:
_ أنت مشيت قبل ما تفهمني إيه اللي أنت عملته تحت دا، تطلع مين البنت دي عشان تقف قدام أهل منطقتك عشانها يا يوسف؟

تنهد يوسف مستاءً وهو يقلب عينيه، وأجابه بجمود:
_ لو كنت شوفت اللي أنا عيشته كنت هتعرف أنا مهتم بيها كدا ليه، أخوها اتقــ,تــل قدامي، ووالدتها مـ.ـا.تت برده قدامي وغير سفر توأمها، كل دا مش سهل أبداً عليها
بحاول أعمل أي حاجة يمكن دا يعوض لها ولو جزء بسيط من اللي راح منها، ودا مش هيحصل طول ما أنا مش بشتغل، لازم ألاقي شغل بسرعة عشان أعرف أقدm لها في المدرسة، كفاية اللي فاتها لغاية دلوقتي

أخرج يوسف تنهيدة أخرى مهمومة فالأمور ليست في صالحه، ولا يعلم كم الوقت سيستغرق لكي يجد عملاً، أنتبه إلى صديقه حين قال:
_ أبويا كان محتاج واحد يقف عنده في معرض العربيات بتاعه، روح له هناك بكرة، الشغل بتاعك من دلوقتي

اتسعت حدقتي يوسف وانتفض من مكانه بسعادة عارمة، كاد أن يهلل فرحاً إلا أنه تريث، ضبط من نبرته فباتت غير مبالية وأردف:
_ بس لازم تعرف أبوك الأول يمكن يكون حاطط مواصفات معينة للي عايزه يقف عنده

هتف بلال بثقة ملحاً:
_ قولتلك الشغل بتاعك من دلوقتي، متزيدش في الكلام، يلا أشوفك بكرة

أنهى بلال المكالمة وزفر أنفاسه براحة، بالكاد استطاع قول كلمتين وهو يكذب، عليه الآن التفكير جيداً في كيفية إخبـ.ـار والده بذلك فهو حاد الطباع ويكره أن يجبره أحداً على أمر.

ألقى يوسف الهاتف على الفراش والسعادة قد غمرت قلبه، شعر بأن الله يرضيه لانه تكفل بالفتاة، إلتوى ثغره للجانب بسعادة ثم قام بخلع ثيابه واكتفى ببنطال قطني يريحه، استلقى على الفراش لعله يذهب في النوم، لكن هيهات لسعادته التى تقطع أي سيبل للنوم.

لم يشعر بالضجر تلك المرة بسبب عدm نومه بسهولة، فهناك أمراً يستحق ذلك، لم يشعر بعينين أخيه التي تطالعه بغيظ شـ.ـديد فهو إلى الأن لم يهضم فكرة سحب غرفته من تحت يديه ولا يحق له الرفض فلقد قرر يوسف وأمر بالتنفيذ.

***

تجمعت بعض الطيور المتفرقة في مجموعات حتى باتوا في سِرب يجذب الناظرين إليهم، رفع بصره إلى السماء فاذا بالسواد قد اختلط بزُرقتها إثر الطيور المحلقة أسفلها.

أخذ شهيقاً عميق وهو موصد العينين، شاعراً بتلك البرودة التي تخللت أنفه، فالوقت مازال باكراً، لقد أدى فريضة الفجر، ولم يشعر بالنعاس لطالما يتدفق الحماس في الأدرينالين خاصته.

لم يبذل مجهوداً حتى واستطاع إيجاد فرصة عمل لن تتكرر مرة أخرى بفضل صديقه، هو على علم جيد بمستواهم المادي، ويدرك أن الحياة ستصبخ أفضل أمامه ما أن أتقن تلك الوظيفة، ناهيك عن حبه الشـ.ـديد للسيارات النادرة التي يعمل بها والد "بلال".

أخرج زفيراً ثم ظهرت ابتسامة عفوية على محياه لتلك الفرصة الثمينة، تنهد وأخذ يستدير بجسده ودخل من شرفة غرفته التي قام بغلق بابها حتى لا يقلق أخيه.

صغى إلى صوتٍ ما في الخارج فتعجب، فليس من المعتاد استيقاظ أحدهم في ذلك الوقت خصيصاً أن ميعاد صف أخيه لم يحين بعد، قرر الخروج ومعرفة مصدر الصوت لعل أحدهم بحاجة إلى مساعدة.

أنتبه على عودة الصغيرة إلى غرفتها حاملة بيدها زجاجة ماء، تنهد براحة وكاد أن يعود إلى غرفته إلا أنه تريث حين سمع همهمـ.ـا.ت مصدرة من غرفة "لينة"، شعر بالغرابة حيال ذلك فهو يعلم أنه لا يوجد معها أحد، مع من تتحدث إذاً؟

اقترب بخُطاه إلى الغرفة دون أن يصدر ضجيجاً عالياً، توقف أمام بابها وألقى أذنيه باتجاه الباب، تحولت تعابيره إلى التعجب البالغ حين كُشف أمر الهمهمـ.ـا.ت وبات يسمعها بوضوح وهي تدندن بصوتها الطفولي، لكنه كان أكثر جُرأة، وجمالاً، نبرتها تأسر قلبه كلما أطال الإستمتاع إلى كلمـ.ـا.تها وكأن في صوتها آلة تعزف بمفردها.

بعفوية مفرطة تشكلت إبتسامة سعيدة على ثغره، عاد إلى غرفته غير مصدق أنها تمتلك حنجرة ذهبية متميزة كالذي سمعها قبل قليل، بدل ثيابه بعد أن أدى فريضة الشروق فكان يوسف حريصاً على ألا يفوت أي صلاة.

خرج والحماس دون غيره يتغلغل داخله بكثرة، لم ينتظر استيقاظ الآخرين ورحل من المنزل، فهو لا يطيق الإنتظار حتى يبدأ في عمله الجديد.

***

استيقظ "بلال" باكراً اليوم على غير عادته، فمعروف عنه الكسل وعدm الإلتزام بأي مواعيد خصيصاً لو كان الوقت مبكراً، آثار فضول عائلته حين رآوه يخرج من غرفته يصيح من مكانه:
_ صباح الخير

أجاباه والديه في آن واحد:
_ صباح الخير يا بلال

اقتربت منه والدته عاقدة حاجبيها بغرابة وقلق وسألته وهي تتحسس جبينه:
_ أنت كويس يا حبيبي، حاسس بتعب؟

ضاق بلال بعينيه متعجباً من أمرها، تراجع للخلف وهو يجيبها:
_ أنا كويس، بتسألي ليه؟

أخبرته وهي تطالعه مستاءة من تصرفاته:
_ صاحي بدري النهاردة، مش عادتك يعني فاستغربت!

أماء برأسه وردد موضحاً سبب استيقاظه مبكراً:
_ كنت عايز ألحق بابا قبل ما يروح الشغل، عايز أتكلم معاه في حاجة

أتاه صوت والده من الخلف متسائلاً بفضول:
_ وإيه هي الحاجة اللي خليتك تقوم من بدري كدا؟

قلب بلال عينيه بضجر، فهما يعطيان الأمور أكبر من حجمها، أخرج زفيراً وتوجه ناحية والده الذي ترأس طاولة الطعام للتو، جلس بجواره ولا يعلم كيفية البدء فيما يريد التحدث به معه.

الأمر بات صعباً حين واجهه وجهاً لوجه، حاول الإسترخاء فالأمر لا يحتاج كل ذلك التـ.ـو.تر، حمحم ورفع نظريه على والده فتفاجئ بانتظاره لقول ما يريد، شجع نفسه وهدأ من روعه وقال بلهجة سريعة:
_ عايز منك خدmة صغيرة، تشوف ليوسف أي شغل عندك في المعرض

أظهر والده مدى استيائه من الأمر حيث هتف بتهكم:
_ والله يابني أنا عندي عمالة زايدة، لو عايز منهم شوية خد مش هبخل عليك

تفاجئ بلال برد والده الذي ألجم عقله ولسانه، فهذا ليس بوقت رفض لقد وعد صديقه وعليه أن يفي بوعده، تنهد وحاول استعطاف والده متوسلاً:
_ عشان خاطري يا بابا شوف له أي شغل بسرعة، أنا وعدته إني هشغله عندك، ومش عايز أبان صغير قدامه ومش قد كلامي

ترك والده الخبز من يده، فارت الدmاء في عروقه بغضب ثم التفت إلى الجانب مطالعاً بلال شزراً، لم يمنع صوته الذي كاد أن يسحقه من شـ.ـدته:
_ نعم، قولت إيه؟
وعدته! وأنت إزاي تعمل حاجة زي دي من غير ما ترجع لي؟
صاح بهم السيد سمير بينما تدخلت الأم في محاولة منها على تهدئة الأجواء المشحونة بقولها:
_ إهدى يا سمير مش كدا، بعدين ضغطك يعلى وإحنا في غنى عنه ياخويا

طالعها بغيظ عارم وعاد لهتافه بتزمجر:
_ أنتِ مش سامعة إبنك بيقول إيه؟!

ربتت على ذراعه وتابعت مسترسلة بحكمة:
_ إهدى بس وأكيد هنلاقي حل، أنت مش كنت مش قولتلي قبل كدا إن في واحد عندك تعب وطلب إجازة لمدة شهر، يعني في مكان فاضي، قصدي يعني إنك محتاج فعلاً ليوسف على الأقل الفترة دي

اعترض سمير بتجهم وعبوس:
_ وإيه اللي هيحصل بعد ما الشهر بعدي؟ هتصرف إزاي أنا مع الإتنين وقتها؟

نظرت إلى الأمام حيث ولدها ورمقته بنظرات معاتبة، أخذت نفساً قبل أن تعود بنظريها إلى زوجها مجيبة إياه:
_ أنت متعرفش بكرة فيه إيه، يمكن شغل يوسف ميعجبكش ويبقى ليك عذرك لو رفدته، أو مثلاً ممكن التاني ميجيش من أساسه

ضاق بعينيه عليها مستاءً من تفكيرها المحدود الذي لم يقنعه فهتفت هي لتنهي الحوار:
_ سيبها أنت بس على ربنا وهي هتتحل، إحنا منعرفش بكرة مخبي لنا إيه

تدخل بلال مؤكداً لحديث والدته:
_ أيوة يا بابا، الله أعلم بكرة إيه اللي ممكن يحصل، وافق يا بابا بالله عليك ومتصغرنيش

بعد تفكير طال حسم سمير رأيه في الأمر وأدلى به قائلاً:
_ قوله يجي النهاردة يقابلني

فغر بلال فاهه بسعادة مفرطة فتابع والده حديثه محذراً:
_ بس لو شغله معجبنيش مش هقول صاحبك وهمشيه، تمام؟!

أماء له بلال وردد ببلاهة:
_ اللي تشوفه يا بابا

نهض عن كرسيه بسرعة قصوة فصاحت والدته متسائلة:
_ مش هتفطر يا حبيبي؟

هلل عالياً وهو يعود إلى غرفته:
_ لأ، مش دلوقتي بعد ما أصحى

حركت والدته رأسها مستنكرة تصرفاته الخرقاء، قطع حبال أفكارها قول زوجها:
_ عاجبك تصرفاته دي؟ا دا منظر واحد عنده ٢٣ سنة؟ دا بيتصرف كأنه مراهق عبـ.ـيـ.ـط مش عارف يشيل مسؤولية نفسه حتى، فاكر إني هعيش له كتير وبيتكل عليا بالجـ.ـا.مد من غير ما يخاف ويفكر إني في يوم مش هكون موجود

أسرعت زوجته مستنكرة حديثه الذي سبب الحـ.ـز.ن لقلبها:
_ ربنا يبـ.ـارك في عمرك، متقولش كدا تاني، أنا مش بقدر أسمع الكلام دا

أوصدت عينيها لبرهة ثم تابعت ما لم تنهيه:
_ هو بس بيدلع عليك لأنه الولد الوحيد على البنتين، متزعلش نفسك والأمور هتمشي زي ما أنت عايز، أدعي له أنت بس بالهداية، أنت أب يعني دعاك مستجاب

بنبرة أهدى عن ذي قبل دعى سمير قائلاً:
_ ربنا يهديه يارب

تراجع بكرسيه للخلف ثم نهض عنه متمتماً:
_ ربنا يديم علينا نعمته

رافقته زوجته إلى الباب، أنهى ارتداء حذائه وأمرها قبل أن يرحل:
_ متسيبهوش يطول في النوم يا شهيرة، نص ساعة وصحيه، خليه يجي لي المعرض

أماءت له بقبول ودعت له بقلبٍ حنون:
_ ماشي، ربنا يستر طريقك يارب

أغلقت الباب ما أن اختفى خلف درجات السُلم وعادت للبدء في أعمالها المنزلية كالمعتاد.

***

كان يجلس أمام معرض السيارات في انتظار وصول والد بلال، فلم يريد الدخول قبل منه، بعد إنتظار طال لوقت، وصل السيد سمير بسيارته الفاخرة ( مرسيدس )، فهو رجل عاشق للسيارات والدراجات الغير معروفة إلا لديه، لقد نجح في بناء إسماً مميزاً له في تجارة السيارات.

أستقام يوسف من جلسته وبقامة منتصبة انتظر قرب سمير نحوه، رحب به بحفاوة مبالغة وهو يصافحه بود:
_ إزيك يا يوسف

" الحمد لله، إزاي حضرتك يا عمي"
هتف بها يوسف بمزيج من الخجل والحماس،
بينما ردد السيد سمير:
بخير الحمد لله

ولج سمير بقامته المنتصبة إلى مكانه برفقة يوسف التي وقعت عليه الأنظار متسائلين من هذا؟

فمن يريد مقابلة سمير يأخذ موعداً قبلها بفترة حتى يتمكن من رؤيته، فمن يكون ذلك الشاب الذي نال شرف مرافقته كتفاً بكتف؟!

ولج سمير مكتبه الزجاجي الذي يشاهد منه ما يدور في المكان بكل سهولة، نظر خلسة إلى الشاشة الكائنة أمامه، والتي تُجمِع كاميرات المكان، عاد بنظره إلى يوسف وسأله بلُطف:
_ تحب تشرب إيه، شاي، قهوة، ولا حاجة تانية؟

أسرع يوسف في الرد عليه بحرج بائن:
_ شكراً يا عمي، مش عايز أشرب حاجة

أصر سمير علي شربه لشيء فقال يوسف تحت ضغط:
_ الشاي يكون كويس

أمر سمير عامله بإحضار كوبان من الشاي لهما ثم حل الصمت الذي ارتبك يوسف إثره، ابتلع ريقه وحاول فتح معه أي مناقشة لكن دون جدوى، لا يدرى ماذا أصابه؟ ربما هدوء الرجل السبب في حالته.

خرج سمير عن صمته هاتفاً بهدوء يشوبه البرود:
_ بلال قالي أنك محتاج شغل، وأنا فعلاً محتاج لشاب يعرف يتعامل كويس مع الزباين، أول حاجة لازم تقعد مع عبد الرحمن، هو اللي بيستلم العربيات من برا وعنده خلفية كبيرة عن أنواع العربيات ومميزاتها وكل حاجة تقريباً عنها، لازم تعرفهم وتحفظهم كويس عشان أنت اللي هتعرف المشتري بكل اللي يخص العربية اللي يختارها، فهمت؟

اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه، فلم يريد أن يجادله فمن الممكن أن يستهزء به إن أخبره بمعلومـ.ـا.ته الكافية عن السيارات وأنواعها وكذلك مميزات كلٌّ على حِدَة، نهض عن مقعده حين حضر عبد الرحمن الذي لبى نداء مديره على الفور، وجه سمير حديثه إليه بنبرة عملية:
_ يوسف زميلك هنا لسه متعين جديد، عايزك تعلمه كل اللي يخص العربيات عشان يبدأ شغله بسرعة

أوماء عبد الرحمن برأسه مراراً وأجابه بلُطف:
_ تمام

وجه نظريه على يوسف وبإبتسامة هادئة هتف:
_ تعالى معايا

تبعه يوسف بعد أن استأذن من سمير، كان يحدج بالسيارات الفخمة الكائنة في المكان بحماس مختلط باللهفة لتجربة إحداهما، إلتوى ثغره للجانب بتهكم، فهل من الممكن تجربتهم حقاً؟!

أنتبه على صوت عبد الرحمن حين أشار إلى إحدى السيارات وبدأ يشرح له مواصفاتها وبعض المميزات التي تمتلكها السيارة، أخطأ عبد الرحمن من بين شرحه فعقب يوسف معدلاً على خطئه.

نظر له عبد الرحمن بتهكم وردد ساخراً:
_ أنت عايز تعرفني إنك عارف في العربية دي؟

شعر يوسف بالإهانة من خلف كلمـ.ـا.ته وبإستياء واضح بدأ يشير إلي بعض السيارات المتفرقة عن بعضها ويخبره كل ما يخصها بطـ.ـلا.قة وأسلوب سلِس، انبهر عبد الرحمن به للغاية، من الأقلاء أن يرى أحدهم يهتم لتلك السيارات الفاخرة، فمن ينظر إليها ويقوم بشرائها من رجـ.ـال الأعمال ذو المكانة الاقتصادية المرموقة.

حمحم عبد الرحمن بحرج وأبدى إعجابه به قائلاً:
_ طيب أنت كدا مش محتاج لمساعدة، ارجع للحاج سمير وعرفه إنك جاهز تبدأ في الشغل من الوقتي

دنى منه عبد الرحمن وهمس إليه بقُرب أذنه:
_ ومتقلقش مش هقول في حقك كلمة وحشة لو سألني عنك

تراجع عبد الرحمن للخلف وغمز إليه بعينه اليُمنى، ثم عاد إلى عمله، بينما صعد يوسف إلى مكتب السيد سمير لكي يخبره بأنه جاهز لتولي الوظيفة، تفاجئ سمير بعودته بتلك السرعة وسأله مستفسراً:
_ فيه حاجة صعبة عليك؟

استنكر يوسف سوء ظنهم به، لكنه حاول أن يكون أكثر لطافة فأردف مجيباً إياه:
_ لأ، بس أستاذ عبد الرحمن قالي أعرفك إني جاهز أشتغل من الوقتي

قطب سمير جبينه بعدm تصديق وردد مستنكراً حديثه:
_ بالسرعة دي قدرت تحفظ اللي المفروض تعمله؟

أستقام يوسف في وقفته حيث بات أكثر انتصاباً وبثقة تملكت منه قال:
_ لو حضرتك مش مصدقني، تقدر تكلم أستاذ عبد الرحمن بنفسه يقولك

"أكيد هكلمه، أنتوا بتهزروا؟!"
هتف بهم سمير وهو يهاتف عبد الرحمن الذي أجابه على الفور، فقام سمير بسؤاله بطريقة غير مباشرة عن يوسف، رُفع حاجبيه تلقائياً حين تلقى الرد الذي فاجئه، تنهد يوسف براحة حين تأكد من خلف ملامحه أنه سينال تلك الوظيفة حتماً.

تقوس ثغره ببسمة لم تتعدى شفاه حين أعاد السيد سمير الهاتف إلى مكانه ونظر إليه وأردف بعمليه:
_ مبروك عليك يا يوسف ياريت متخذلنيش، أنا بثق في عبد الرحمن جداً ومش هشكك في اللي قالوا عنك، بس أنا عايز أشوف الكلام دا بعيني

اتسع ثغر يوسف بإبتسامة هادئة لا تشبه الحماس الذي نشب داخله وأردف:
_ إن شاءالله أكون عند حسن ظنك يا عمي

حرك سمير رأسه وأشار بيُمناه إلى الباب مردداً بنبرة حازمة:
_ ودلوقتي تقدر تبدأ في شغلك

اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه ثم أولاه ظهره وغادر مكتبه، وقف بقُرب سيارته المحببة إلى قلبه، كم آراد امتلاكها وبشـ.ـدة، شعر لوهلة أنه اقترب من تحقيق هذا الحلم، فاليوم هو يقف بجوارها وغداً حتماً سيكون سائقها.

انتبه على دخول صديقه بلال الذي هلل متباهياً بصديقه:
_ حلال عليك الشغل الجديد

غمز له وواصل ممازحاً:
_ ألا قولي، بيعت كام عربية لغاية الوقتي؟

لكزه يوسف في ذراعه بقوة وهو يهاجمه مستاءً:
_ بيع إيه اللي بتتكلم عنه، أنا لسه مستلم الشغل حالاً

نظر كليهما إلى الأعلى حين جذب انتباههم صوت سمير من نافذته الزجاجية:
_ بلال، سيب يوسف في حاله وتعالى عايزك

مال بلال على يوسف وهمس له بضجر زائف:
_ لو كنت فاكر إنك ممكن تلعب أو تكسل هنا، فأنا بعرفك أهو، الراجـ.ـل اللي فوق دا مش بيحب كدا أبداً

دفعه يوسف بعيداً عنه وصاح فيه بتهكم:
_ اللعب والكسل بيجوا لما أنت تيجي يا بلال، وأكيد لما أنت تمشي هما هيمشوا معاك

اتسعت حدقتي بلال على رد صديقه الذي أفحمه، لم يعلم للرد سبيل، اكتفى برمقه بذهول بينما عاود والده ندائه مرة أخرى بانفعال:
_ بلال قولتلك سيب يوسف في حاله وتعالى عندي

تقوس ثغر يوسف بإبتسامة عريضة وطالع بلال بتشفي، فلم يرضى بلال نظراته المتشفية به وهتف بأمر:
_ يلا، ارجع لشغلك يا موظف ومتلعبش

حرك يوسف رأسه مراراً بينما صعد الآخر إلى والده الذي وبخه بقوله:
_ مش فالح غير في توظيف الناس عندي، لكن مبتبصش لنفسك يمكن تشغلها هي كمان، أنت معندكش دm؟، جحش في عمرك ولغاية دلوقتي بياخد مصروف من أبوه من غير ما يتكسف على دmه!

كاد بلال أن يبدي تزمره كسابق مـ.ـر.اته إلا أن والده ألحق به وتابع بنبرة صارمة:
_ بس أنا صبرت عليك كتير، ومش هقف أتفرج عليك أكتر من كدا من غير ما أعمل حاجة، من هنا ورايح رجلك على رجلي في أي مكان أروحه ومش هتمشي من هنا قبل ما أنا أمشي، مفهوم؟!

حمحم بلال وفغر فاهه ليعقب على ما قيل لكن والده قد أشار له بالتوقف، تعجب بلال من شرود أبيه في نافذته وتقدm نحوه حتى يعلم سر ما جذب انتباهه، تفاجئ بصديقه يوسف يتشارك الضحك مع أحد المشترين فظل يتابع مع والده مع ما يحدث في صمت.

تشـ.ـدق بلال بفمه للجانب مشكلاً إبتسامة إعجاب حين قام الرجل بشراء السيارة دون مجهود كبير من يوسف مثلما يفعل غيره من العاملين، لم يشعر بنفسه سوى وهو يردد عالياً بفخر:
_ قولتلك حلال عليك يابني والله

التفت يوسف برأسه ناحية بلال وأظهر ابتسامة هادئة على محياه عكس المشاعر المضطربة التي اجتاحته، عاد برأسه إلى الرجل الذي دس يده في جيبه وأخرج منه نقوداً ثم صافح يوسف مردداً:
_ دول علشانك

رفض يوسف أخذ المال، وتراجع عدة خطوات للخلف، خشية أن يُساء فِهمه من قِبل السيد سمير، قطب الرجل حاجبيه بغرابة فلم يرفض عامل مثله نقود من قبل، رفع رأسه وصاح موجهاً حديثه إلى السيد سمير:
_ يا حاج سمير قوله ياخدهم مني

أمر سمير يوسف بعملية باغتة:
_ خد منه الفلوس يا يوسف، معلش يا سالم بيه هو لسه مستلم الشغل جديد

شكل سالم إبتسامة رخيمة على ثغره ومد يده إلى يوسف مرة أخرى، فتردد يوسف في أخذهم لكنه امتثل لأمر رب عمله وتناولهم منه ثم بلُطف قال:
_ شكراً

ربت سالم على كتفه ثم صعد إلى مكتب سمير لكي ينهي إجراءات شراء السيارة بينما نزل بلال إلى صديقه وهو يهتف بسعادة:
_ إيه يابني دا؟ دا أنت أقنعت الراجـ.ـل يشتري العربية في أقل من خمس دقايق، قولتله إيه عرفني

إلتوت شفتي يوسف بثقة وأجابه بعجرفة وهو يضبط ياقة قميصه:
_ دا سر المهنة يا صاحبي، مش هتزعل طبعاً لو مقولتلكش

فغر بلال فاهه كما اتسعت مقلتيه بذهولٍ، حرك رأسه مستنكراً وصاح متهكماً:
_ شكلي كدا غلط لما عملت لك معروف، أنت ناكر للجميل يالا

ضم يوسف سبابته داخل إبهامه في شكل دائري، رافعاً بقية أصابعه في حركة تعني أنه كذلك بالفعل، توجه إلى المرحاض ثم رفع يده الممسكة بالنقود وتردد في معرفة كم عددهم لكنه حسم أمره وقام بعدهم، ابتسم حين رأى ورقة مالية قدرها مئتان جنيهاً.

دسهم في جيبه في حركة سريعة حين صغى لكلمـ.ـا.ت صديقه من الخارج:
_ يوسف تعالي أبويا عايزك

خرج على الفور وذهب إلى السيد سمير الذي شكره ممتناً ثم أنهى حديثه بإعجاب لشخصيته:
_ شكلك شاب ذكي ودا أنا شوفته بعيني، ومش بعيد عليك تخلق ليك مكانه خاصة هنا

فتح أحد أدراج مكتبه وأخرج منها ورقة قدرها مئتان جنيهاً ثم ناولها إليه وأردف:
_ كل ما بيعت عربية هتاخد زيهم، ومتقلقش هي خارج مرتبك

بإبتسامة خجولة عـ.ـذ.بة قال يوسف ممتناً له:
_ شكراً لحضرتك، عن إذنك لو مكنتش محتاجني في حاجة تاني

أشار إليه سمير بالخروج فخرج يوسف على الفور وهو يشعر بالسعادة لكونه امتلك ذلك المبلغ في أقل من ستون دقيقة، تنهد براحة وشعر بأن الأيام المقبلة ستضحك في وجهه وسيكفي حاجة عائلته بكل ما يلزمهم وخصيصاً تلك الفتاة اليتيمة.

أنتبه على اهتزازة هاتفه في جيبه فسحبه وإذا بها والدته، ابتسم تلقائياً وأجاب على الفور بنبرة سعيدة:
_ حزري يا أمي أخدت كام من أول ساعة

أجابته بنبرة هادئة استحث منها يوسف قلقها أو ربما خوفها حين قالت:
_ تتهنى بيهم يا حبيبي

عقد ما بين حاجبيه بغرابة وتسأل في قلق تملكه:
_ في حاجة حصلت يا أمي، صوتك مش عاجبني

حمحمت وبتردد مبالغ أخبرته:
"لينة مش بتبطل عـ.ـيا.ط يا يوسف"
أردفتهم السيدة ميمي ونبرتها حزينة لفشلها في إرضائها، اضطرت إلى اللجوء لمهاتفة ولدها ربما يجيد التعامل معها، قلق يوسف مما سمعه للتو وسألها بلهفة:
_ بتعيط ليه يا أمي، إيه اللي حصل؟
بتردد شـ.ـديد في إخبـ.ـاره، أرغمت ذاتها على التحدث وهي تحدج "زياد" الجالس أمامها منكس رأسه بنظرات تحمل المعاتبة:
_ هقولك، بس الأول اوعدني إنك مش هتتعصب

لقد بلغ يوسف ذروة تحمله، فهو لا يحب المماطلة في الحديث، ناهيك عن كُرهه لأخذ الوعود قبل أن يعلم بحقيقة الأمور، فكيف له أن يعطي وعداً على شيء لا يعلم مدى خطورته؟!

تأفف بصوت مسموع وبنبرة تحمل من الغضب قدراً قال:
_ يا الله، يا أمي أنتِ عارفة كويس إني مش بحب المماطلة في الكلام ولا أخد وعود قبل ما أعرف السبب!

توقف عن الحديث، وأوصد عينيه مع أخذه لشهيقاً زفره على مهلٍ، عاد لمواصلة المكالمة بنبرة هادئة عكس التي كان عليها:
_ عشان خاطري يا أمي،  عـ.ـر.فيني إيه اللي حصل وإن شاءالله أحاول متعصبش لو الموضوع ميستاهلش

علمت ميمي أنها لن تأخذ منه وعداً كما حثته، كما علمت أن عليها إخبـ.ـاره لا مجال من الهرب بعد، بهدوء حاولت لملمة الأمر فأردفت:
_ أخوك مقصدش إنه يقطع عروسة لينة..

حسناً، الأن علم الحقيقة كاملة دون أن تكمل والدته، هز رأسه بتفهم وبهدوء مخيف أردف كلمـ.ـا.ته:
_ ناولي الموبايل لـ لينة عايز أكلمها

ثوانٍ معدودة ثم وصل إليه نحيب الفتاة التي بات واضحاً للغاية لأذنيه، فتحدث بنبرته الرخيمة:
_ لينة، أنتِ معايا؟

أجابته من بين بكائها بنبرةٍ متحشرجة:
_ آه

تنفس بعض الهواء وتابع مكالمته:
_ متعيطيش لو ليا خاطر عندك، عايزة تزعليني؟

ردت عليه بعد محاولات فاشلة في التوقف وهي تطالع دُمـ.ـيـ.ـتها الممزقة بين يديها:
_ مش عارفة، دي هي اللي فضلالي، هي كمان مشيت زيهم..

أغلق يوسف عينيه حين وقعت كلمـ.ـا.تها على مسامعه، لقد شعر بوخزة قوية في قلبه إثرهم، ابتلع ريقه وحاول أن يعود لرشـ.ـده فلا مكان للتأثر الآن، عليه تهدئتها فقط، هذا ما عليه فعله في ذلك الحين.

عاد إليها ولا يدري أي من الحديث يقول، هـ.ـر.بت كلمـ.ـا.ته ولا يعلم سبيل لهم، فلم يشعر بنفسه سوى وهو يقول:
_ طيب متعيطيش، أنا موجود جانبك يا لينة، يعني مفيش داعي للزعل، طلاما فيه يوسف يبقى فيه حل دايماً

أنتبه يوسف لنزول السيد سمير برفقة بلال فحاول إنهاء المكالمة على الفور حيث قال:
_ أنا هقفل دلوقتي لأن عندي شغل، بس اوعديني الأول إنك هتبطلي عـ.ـيا.ط

بعد وقت ليس بطويل أجابته بمزاج غير سوي:
_ هبطل عـ.ـيا.ط..

أنهى الإتصال فور إعطائها وعداً له، وضع هاتفه في جيبه سريعاً، شكل ابتسامة وهو يتابع خروج السيد سمير من المكان، اقترب منه بلال حيث لكزه في كتفه وهتف ممازحاً:
_ كنت عارف إن دmاغك هتعجب أبويا، بس أنا مال أهلى بيك، أتهزأ كأني عيل صغير بسببك ليه؟

ببرودٍ أراد يوسف مشاكسته فهتف:
_ دي الحقيقة فعلاً، إيه الجديد؟

تفاجئ بلال من رده ولم يعقب عليه، فلن يكون لديه ما يكفي للرد عليه، تنهد مستاءً فسأله يوسف وهو ينظر إلى الساعة المعلقة أمامه:
_ هو مفيش هنا وقت للراحة؟

أجابه بلال وهو ينظر إلى وجهته ذاتها:
_ أكيد فيه، بس لسه بدري أوي عليه

عاد ببصره إليه وتابع استرساله:
_ بيكون حوالي الساعة ٢ بعد الضهر

قطب بلال جبينه بغرابة وسأله بفضول لمعرفة ما خلف سؤاله:
_ بتسأل ليه؟

باختصار شـ.ـديد أخبره يوسف مردفاً:
_ عايز أشتري حاجة وأنت هتيجي معايا

مازحه بلال كعادته:
_ والله دي حاجة ترجع ليك، هتدفع كام؟

طالعه يوسف باحتقار وصاح بالسُباب:
_ مشوفتش مادي حقير زيك قبل كدا

انحنى بلال بجسده إلى الأمام كالذي يرحب بجمهوره هاتفاً بفخر:
_ شكراً يا قليل الذوق

انفجر يوسف ضاحكاً على تصرفه الأخرق، هز رأسه باستنكار ثم تركه ومر بخطاه في المكان لكي يرى معالمه كاملة، رافقه بلال وبدأ يعرفه على بقية العاملين وأيضاً كان يعرفهم بيوسف بسعادة وفخر.

***

دقت عقارب الساعة وحانت الثانية ظهراً، كان يوسف يعُد الثوانِ بفروغ صبر حتى أتت ساعته المنتظرة، بحث عن صديقه ثم أسرع ناحيته، حاوط ذراع بلال بيده متمتماً:
_ يلا عشان نمشي

تأكد بلال من الوقت ثم سأله بفضول:
_ أنت مش هتقولي إحنا رايحين فين؟

رفض يوسف إخبـ.ـاره بوجهتهم لغرض ما في عقله وأجابه مختصراً:
_ هتعرف لما نوصل

ذهب معه بلال والفضول يزيد داخله عن ذلك المكان المجهول، بعد دقائق قليلة قد وصلا إلى السوق، صاح يوسف عالياً حين وقع نظريه على مراده:
_ استنى، أوقف هنا

صف بلال السيارة الذي استعارها من المعرض جانباً، ترجل منها وتابع خطواته خلف يوسف الذي يسبقه بسنتميرات قليلة، انعقد حاجبيه تلقائياً حين وقف يوسف أمام متجر ألعاب.

التفت إليه يوسف وحثه على القدوم بقوله:
_ تعالي يلا

بالتأكيد يمازحه، دوى سؤال بلال في الوسط قائلاً:
_ إيه دا؟ أنت مش كبرت على الحاجات دي يا يوسف، ولا أنت عندك طفولة متأخرة؟

قلب يوسف عينيه بضجر واضح، توجه إليه وأمسك بذراعه مستاءً من سخريته وأردف بتهكم:
_ هشتري عروسة عشان لينة

ازداد انعقاد حاجبي بلال وردد ساخراً:
_ يسلام! إيه كل الإهتمام دا يا بني، من امتى وأنت حنين كدا؟

نفخ يوسف عالياً بتزمجر، نـ.ـد.م لوهلة أنه اصطحب ذلك المتنمر معه، عاد لينظر إليه وبنفاذ صبر هتف:
_ عشان كدا أنا مردتش أعرفك إحنا رايحين فين، عشان عارف إنك مش هتبطل تريقة، وبعدين كام مرة هقولك إنها أمانة صاحبي، وغير كدا أنا وعدت علي إنها مش هينقصها أي حاجة طول ما أنا موجود، والبنت بتعيط عشان عروستها اتقطعت، مش المفروض أجيب لها غيرها؟

استند بلال بمرفقه على حائط المتجر مستند بوجه على كفه وطالع يوسف بأعين متأثر وبسخرية ردد:
_ مكنتش عارف إن قلبك رقيق كدا يا يوسف، شكلي هخبط عربيتي أنا كمان عشان تجيبلي غيرها

تجهمت تعابير يوسف فلقد فاق بلال الحماقة، أزاح يده من على ذراعه وتابع سيره إلى الأمام وهو يتمتم بغيظ:
_ أبقى غلطان لو أخدتك في مكان تاني

قهقه بلال عالياً، فكانت ضحكته مرتفعة فأثارت أنظار المارة، أسرع من خطاه إلى الداخل حين رأى الجميع ينظرون إليه، وقف خلف يوسف وحاول إرضائه بشتى الطرق لكن محاولاته بائت بالفشل الذريع، فيوسف كان صعب الإرضاء، ولا يقبل الإعتذار بسهولة، كان هذا المتعارف عنه.

شعر بلال بأنه مغفل كبير بعدm نجاحه في إرضاء صديقه مثلما نجح بجدارة في تعكير صفوه، إلتوي ثغره للجانب بسعادة حين أتى بفكرة ربما تصلح الأمر بينهما.

بحث في المكان بعناية عن مراده، وقام بانتقاء أكبر الدُمى وأغلاهم ثمناً، عاد إلى يوسف الذي كان يقف يحاسب على ثمن الدُمية التي قام باختيارها من بين جميع الدُمى على الرغم من أن هناك أجمل منها، لا يعلم بلال ما سبب اختيار تلك تحديداً، لكن حتماً هناك أمراً خلف ذلك الاختيار.

خرج يوسف من المكان دون أن يلتفت، استقل السيارة ثم أغلق الباب ولازال ينظر أمامه في انتظار عودة بلال، مرت دقيقتين وخرج بلال من المتجر، توجه إلى الأمام وهو يكاد يرى أمامه لحجم الدُمية الهائل.

أنتبه يوسف على ركلات خارجية على الباب، التفت برأسه فتفاجئ بوجود دُمية ضخمة يحملها بلال، صاح بلال بنبرة مرتفعة من خلف الدُمية:
_ بطل تتفرج على خلق الله وانزل افتح لي الباب اللي ورا

لم يبرح يوسف مكانه، بل اكتفى بفتح الباب الخلفى له من الداخل، هز بلال رأسه في استنكار شـ.ـديد، على ما يبدوا أنه مازال غاضباً منه، وهو لا يفعل سوى سكب البنزين على النيران بكلمـ.ـا.ته التي تزيده غضباً، عليه أن يصمت قليلاً.

تنفس الصعداء حين وضع الدُمية في المقعد ثم قام بغلق الباب بصعوبة قابلها لوقت بسبب حجمها، استقل كرسيه ونظر إلى يوسف وقال بمشاكسة:
_ جبت الباندا دي عشان لينة، قولها إني جبت لها هدية لما شوفت عروستك الصغيرة اللي أكيد مش هتعجبها

تعمد بلال النظر إلى الدُمية التي يمسك بها يوسف وضحك باستهزاء، ازداد تجهم تعابير يوسف أضعافاً وكاد أن يترجل من السيارة إلا أن بلال قد لحق به وحاول الإعتذار منه:
_ في إيه يابني، بهزر معاك، من امتى وأنت حساس وبتزعل من أقل حاجة كدا؟

رد عليه باقتضاب وعبوس:
_ أنت لسه محفظتش إني مش بحب المبالغة في التريقة والهزار؟

زفر بلال أنفاسه، شعر بالخجل الشـ.ـديد يجتاحه من قِبل كلمـ.ـا.ت يوسف، نظر إليه بنـ.ـد.م وأردف نادmاً:
_ خلاص هحاسب على كلامي بعد كدا، متزودهاش أنت كمان

بجمودٍ حدثه يوسف:
_ ماشي، ارجع بينا على البيت عندي

أمسك بلال بالطارة أمامه ثم عاد لينظر إلى يوسف، حاول انتقاء كلمـ.ـا.ته بعناية حتى لا يغضبه ثانيةً، لكنه لم يمنع ضحكته من التشكل على ثغره وأردف وعينيه مصوبتان على الدُمية:
_ هسألك سؤال، بس متتعصبش، بس بجد اشمعنا العروسة دي، كان في أجمل منها هناك

تنهد يوسف وأخبره عما وراء الدmية:
_ لأن دي العروسة اللي شبه عروستها اللي اتقطعت

أومأ بلال بتفهم ثم نظر أمامه وانطلق بالسيارة ليعودان إلى منزل يوسف.
بعد مرور ما يقرب الثلاثون دقيقة، وصل بلال إلى حييهم وصف السيارة أسفل البناية العائدة ليوسف وعائلته، ترجل من السيارة سريعاً وفتح الباب الخلفى وحاول سحب الدُمية وبصعوبة بالغة نجح في إخراج نصفها.

تشنجت عروقه بغيظ لعدm مساعدة يوسف له، نظر إليه حيث يقف مستند على باب البناية يشاهده دون مد يد العون له، فصاح به بغيظ عارم:
_ لو مش هتعب سيادتك يعني ينفع تساعدني

قلب يوسف عينيه بضجر فهو لم ينسى بعد تصرفاته الحمقاء، تنهد باستياء ثم توجه إليه، ترك ما معه على سقف السيارة ثم انحنى بجسده داخلها ليدفع الدmية إلى الأمام فيقوم بلال بسحبها للخارج.

جذب انتباه بلال تلك الطلة التي خفق لها قلبه، ازدادت نبضات قلبه بصورة مضاعفة حين رآها تتقدm منهما، ابتلع ريقه ولم يرفع نظريه عنها، تشكلت إبتسامة عفوية على محياه ونسى أمر الدmية تماماً.
"واقف عندك مش بتتحرك ليه، أسحبها يلا عشان نخلص"
صاح بهم يوسف باندفاع فقطع على بلال لحظته الخاصة، نفض أفكاره سريعاً ثم أمسك بطرف الدmية وقام بسحبها إلى الخارج فكان الوضع أسهل عن ذي قبل بمساعدة يوسف له.

أستقام يوسف فتفاجئ بمن تقف خلفه وردد إسمها بغرابة مختلطة بالضيق:
_ إيمان!

مرر أنظاره خلفها وعاد إليها متسائلاً بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ أنتِ جاية هنا تعملي إيه؟

طالعته إيمان بأعين جاحظة، فلقد أخجلها بسؤاله وأسلوبه الفظ، حمحم يوسف حين شعر بأنه كان فظاً أكثر مما ينبغي وأردف بنبرة هادئة:
_ قصدي يعني فيه حاجة حصلت؟

هزت رأسها نافية أي سؤاله وأخبرته عن سبب وجودها بنبرتها الرقيقة:
_ جاية أشوف عمتي وأطمن عليها

أومأ يوسف بتفهم ثم دعاها للصعود قائلاً:
_ اه تمام اتفضلي

نظر إلى صديقه الذي لم يرفع بصره عنها ويتبع تحركاتها باهتمام، أشار له بيده لإعادته إلى الواقع وقال:
_ Hi, أنت بتبص على إيه؟

نظر إليه بلال وقد تملكه التـ.ـو.تر وبنبرة مرتبكة أجابه:
_ مش ببص على حاجة، ينفع نطلع بقى..

وجه أنظاره إلى الدُمية وتابع حديثه:
_ عشان تقيلة أوي

أولاه يوسف ظهره وصعد الأدراج سريعاً، تبعه بلال ويكاد قلبه يخرج من مكانه بسبب قوة تدفق الدmاء به، صعد السُلم إلى أن وصل إلى الطابق المراد الوصول إليه.

دعاه يوسف إلى الداخل فلم يتردد في ذلك، ولج وعيناه تبحث عنها، كانت جالسه برفقة عمتها تتبادلن الضحك، توقفن حين رآوه، نهضت السيدة ميمي ورحبت به بحفاوة:
_ يا أهلا وسهلاً يا بلال البيت نور

بإبتسامة ونبرة رخيمة قال:
_ دة نورك، أخبـ.ـار حضرتك إيه؟ يارب تكوني بخير

بإمتنان شـ.ـديد ردت عليه:
_ أنا بخير الحمدلله

عقدت ميمي حاجبيها حين وقع بصرها على الدُمية التي يمسك بها بلال وبمعنى آخر يعانقها وسألته بحرج:
_ إيه كل دا يا بلال، جايبها لمين؟

أجابها على استحياء وارتباك شـ.ـديدان، فبندقيتي إيمان تطالعه، شعر لوهلة بعدm معرفته للوصول إلى رد مناسب، حمحم وقال مختصراً:
_ أشتريتها عشان لينة، عرفت من يوسف إن عروستها اتقطعت

شعرت ميمي بالحرج بسبب تصرف صغيرها الأرعن وشكرته ممتنة:
_ تعبت نفسك يا بلال، مش عارفة أقولك إيه

تدخل يوسف وهو يبحث عن الصغيرة في الأرجاء:
_ لينة فين يا أمي؟

ارتخت ملامح السيدة ميمي وأخبرته بهدوء يشوبه الحـ.ـز.ن:
_ في أوضتها، مخرجتش من فترة

أومأ يوسف بتفهم وتوجه ناحية غرفتها دون تفكير، بينما دعت ميمي بلال للجلوس بلطف:
_ اتفضل أقعد يا بلال، متقفش كدا

بادلها بلال ابتسامة هادئة ثم ترك الدُمية جانباً وتوجه إلى أقرب أريكة قابلته وكانت أبعدهم عن إيمان، كان منكس الرأس لكنه يختلس النظر إليها من حين لآخر، شعر باحتياجه لخـ.ـنـ.ـق أنفاسه التي تكاد تفضح أمره.

كلما حاول الهروب بعيناه بعيداً يعود إليها من جديد، حاول تشتيت عقله لكن دون جدوى في النهاية تفشل محاولاته ولا يستطيع السيطرة على عينيه التي تعود إليها في نهاية المطاف.

دق يوسف باب غرفة لينة ثم ولج إليها حين سمحت له، أخفى الدmية خلف ظهره وتقدm نحوها بإبتسامته الجذابة، تأثر من وضعها التي كانت عليه، فقط كانت جالسة في منتصف الفراش تحتضن ما تبقى من دmيتها الممزقة.

زفر أنفاسه على مهلٍ، جلس أمامها فلم ترفع نظريها عن الفراغ أمامها، تتساقط عبراتها في صمت، بهدوء قام يوسف بوضع الدُمية الجديدة أمامها، مرت ثانية تلاها أخرى بدأت تهتم الفتاة لما وضعه يوسف أمامها.

اتسعت مقلتيها بذهول حين رأت التشابه الكبير بينها وبين دmيتها الحبيبة، رفعت بصرها على يوسف الذي كان يتابع انعكاس ملامحها وأردفت متسائلة:
_ هي دي ليا؟

أماء لها بتأكيد، فأسرعت لينة في التقاطها، قامت بسحبها من العُلبة الكرتونية وهللت في سعادة:
_ دي شبه عروستي بالظبط، أول لما شوفتها فكرتها هي

نظرت إليه وقد تحول حـ.ـز.ن عينيها إلى سعادة وحماس، استشفهما يوسف بسهولة، ببراءة ونبرة مليئة بالحيوية قالت:
_ شكراً

إلتوى ثغر يوسف للجانب فظهرت ابتسامته وأردف بنبرة رخيمة:
_ أنا قولتلك طلاما فيه يوسف يبقى فيه حل، من هنا ورايح مش عايزك تفكري في أي حاجة طول ما أنا موجود، تمام

أماءت له عدة مرات مجيبة إياه بحماسة:
_ تمام

خرج يُوسف من الغرفة بعد أن تأكد من رضاء لينة التام عن الدُمية، تبعته هي إلى الخارج والسعادة دون غيرها قد سكنت قلبها وأعادت الحيوية لروحها كما أشرق وجهها من جديد.

نهضت السيدة ميمي حين رأت هطول يوسف وقالت بعفوية:
_ بما إننا كلنا موجودين، هروح أحضر الغدا ناكل مع بعض

كان بلال أول من عارض اقتراحها وأبدى رفضه وهو ينهض عن كرسيه:
_ لا متعمليش حسابي، أنا لازم أمشي

أصرت ميمي على اقتراحها وبنبرة لا تحتمل النقاش هتفت:
_ أنا مش بقولك عشان ترفض أو تقبل أنا بعرفك بس

أولاتهم ظهرها دون إضافة المزيد، فشعر بلال بالخجل وحاول أن يقنع يُوسف من جانب آخر:
_ أتكلم يا يوسف ساكت ليه؟

قلب يُوسف عينيه وهو يخبره بعدm قدرته على فعل شيء له:
_ مفيش في أيدي حاجة أقولها، ميمي صدرت الأمر خلاص

نفخ بلال بإزدراء ثم وقعت عيناه على لينة الواقفة خلف يُوسف وبيدها دُمـ.ـيـ.ـتها الجديدة، شكل بسمة على ثغره وقال بعجرفة:
_ تعالي يا لينة، شوفي عمك بلال جاب لك إيه؟

تقدmت الفتاة حين حثها يُوسف على ذلك فتوجه بلال إلى الدُمية الكبيرة وسألها متلفهاً لسماع إجابتها:
_ إيه رأيك فيها؟

طالعتها لينة بإنبهار شـ.ـديد، فلم ترى ذلك الحجم من قبل، ابتسمت وهي توزع أنظارها بين بلال والدُمية وهتفت بإعجاب:
_ دي كبيرة أوي، مشوفتش باندا كبيرة زي دي قبل كدا

رفعت كتفيها كما ازداد تقوس ثغرها وعادت إلى بلال بأنظارها متسائلة:
_ دي عشاني؟

حماسه أجابها بسرعة دون تفكير:
_ أيوة جيبتها عشانك

فغرت لينة فاها بذهول، ركضت مهرولة نحوها وهي تتمتم بفرحة واضحة:
_ جميلة جداً

التفتت برأسها إلى بلال وبامتنان قالت له:
_ شكراً

انحنى بلال بجسده للأمام قليلاً وهو يجيبها:
_ أي خدmة يا لولو

استقام بلال في وقفته ونظر إلى يُوسف الذي يتابع ما يدور بينهما في صمت، أراد مشاكسته فوجه سؤاله الساخر إلى الفتاة قائلاً:
_ بس قوليلي يا لينة مش هي أجمل من العروسة اللي يوسف جايبها؟

"أكيد لأ، عروسة يوسف مفيش أجمل منها حتى لو مكنتش كبيرة زي بتاعتك دي''
هتفت بهم لينة بتلقائية ونبرة مليئة بالثقة، اتسعت حدقتي بلال بذهول مصحوبة بالصدmة فلم يتوقع ردها ذاك، بينما قهقه يُوسف بعجرفة وهو يرى حالة صديقه الملحوظة.

تأففت إيمان بضجر بائن، فلم يعجبها إهتمام الجميع بتلك التعيسة الصغيرة، لقد جاءت ونالت اهتمام يُوسف بكل سهولة، فكم تمنت الحصول على ذرة اهتمام بسيطة منه، ناهيك عن توقعها بنجاحها في جذبه إليها ما أن ينهي خدmته العسكرية، لكن مجئ تلك الغـ.ـبـ.ـية قد خرب جميع مخططاتها.

انتفضت من مكانها بضيق، ولجت إلى عمتها لتساعدها في تحضير الطاولة، بينما لاحظ بلال زمجرتها وفسره بأنه غيرة على يُوسف لاهتمامه بالصغيرة بدلاً عنها.

نكس رأسه في حـ.ـز.ن قد تبدد في قلبه، فكم هو صعب شعور الحب الغير متبادل، وأن تكِن مشاعر لقلب يكِن مشاعر لغيرك.

انتهوا من تحضير الطاولة التي ترأسها يُوسف وبجواره والدته وإلى الجانب الآخر لينة، وكان لبلال نصيب لأن يجلس مقابل إيمان، لم يهدأ قلبه لحظة، شعر باحتياجه لخـ.ـنـ.ـق أنفاسه التي تكاد تفضح أمره.

لم يستطيع الصمود لوقت أكثر ونهض مستأذناً منهم:
_ سفرة دايمة، معلش أنا لازم أمشي، أكيد أبويا بيسأل عني، لأن أنا مقولتلوش إني هتأخر

لم تعترض ميمي فهي لا تحب أن ينال توبيخاً من خلفها، نهض يُوسف هو الآخر مردفاً وهو يمسح على فمه بالمنشفة:
_ تمام، يلا نرجع مع بعض

نهضت إيمان موضحة سبب نهوضها بتلك السرعة:
_ أنا كمان لازم أمشي يا عمتو، عندي مذاكرة كتير ولازم أخلصها النهاردة

"تعالي نوصلك في طريقنا"
توجهت الأنظار نحو بلال الذي هتف بهم، رمقه يُوسف بنظرات مشتعلة فرفع بلال كتفيه بقلة حيلة، لم يرتب لما قاله مطلقاً، ولا يعلم كيف تجرأ وقال ذلك..

***
يا ترى إيه ردة فعل يوسف بعد اقتراح بلال؟
مستنية رأيكم وتحاليلكم وريفيوهاتكم ♥️

«حرِر هَواكَ فَالحُب بَاتَ مُعلنَا»
«الفصل السادس»

***
بسم الله الرحمن الرحيم

حاول تهدئة روعه وزفر أنفاسه على مهل فتدخلت السيدة ميمي مرحبة بذلك الإقتراح:
_ تسلم يا حبيبي، المواصلات هنا صعبة أوي

نفخ يُوسف متزمجراً، وصل صوته إلى أذني ميمي فقالت له:
_ يوسف تعالي معايا

استأذنت منهم ودخلت إلى المطبخ، تبعها يُوسف إلى الداخل فأسرعت هي موبخة إياه:
_ أكيد مش هتسيب بنت خالك تروح مع صاحبك لوحدها!

تأفف يُوسف بصوت مسموع وهو يضـ.ـر.ب الحائط بغيظ عارم ورد عليها بغضب:
_ أكيد مش هعمل كدا، بس ليا كلام تاني مع الغـ.ـبـ.ـي اللي ورطنا الورطة دي

هرول يُوسف إلى الخارج بوجه جـ.ـا.مد، ودون أن ينظر إلى أحدهم خرج من المنزل فتبعه بلال الذي علم بحجم المصـ يـ بـةالتي اقترفها، حمحم بحرج ونظر إلى إيمان التي كانت تجلب حقيبتها وقال:
_ هستناكي تحت

نظرت إليه بحيرة فعدل حديثه قائلاً:
_ قصدي هنستناكي..

أولاها ظهره وهرول بخطاه إلى الخارج، بينما ودعت هي عمتها ثم غادرت، ركب ثلاثتهم السيارة وكان الصمت رابعهم، لم يُنطق حرفاً منذ ركوبهم السيارة، فكان يُوسف يطالع الخارج من النافذة والغضب يتأجج داخله، بينما كان بلال يختلس النظر إلى المرآة ليرى وجهها الخجول، لكنه كان يرى ما لا يسُر خاطره فنظراتها لم تُرفع من على يُوسف قط.

وصل بلال إلى منطقتها وأوقف السيارة تحت بنايتهم وسألها بلُطف:
_ البيت هنا، صح؟

انتبهت له إيمان وأجابته ممتنة:
_ أيوة هنا، شكراً

لم يرد عليها سوى بلال وكان لطيفاً للغاية معها:
_ معملتش حاجة، دا واجبي

بادلته ابتسامة هادئة ثم ترجلت من السيارة وألقت نظرة سريعة على يُوسف الغاضب ثم صعدت إلى منزلهم، التفت يُوسف إلى بلال الذي كان يخشى انفرادهما لتلك المواجهة وصاح بإزدراء:
_ أنت إيه اللي خلاك تقولها نوصلك؟ أنا مش عايز أكون معاها في أي مكان، أنت مش عارف كدا يعني؟! أنا مش بديها ريق حلو وهي مش شايفة غيري، تخيل بقى لو إديتها! أكيد هتقول إني واقع في حبها مش بعيد عليها والله

حرك يُوسف رأسه مستنكراً ما حدث، عاد لينظر إلى الخارج لكنه لم يتوقف عن توبيخه:
_ مش مصدقك بجد، ليه تقولها كدا وأنت أكتر واحد عارف إني رافض قربها مني، عملت كدا ليه يا بلال بجد مش لاقي تفسير؟

التفت يُوسف برأسه ثانيةً إليه وتابع أسئلته التي لم تنتهي بعد بنبرته المشحونة:
_ قولي، عرفني يلا، أمي اتفقت معاك تعمل كدا؟

بهدوءٍ مريب أجابه بلال:
_ لأ، الموضوع مش كدا خالص

نظر أمامه هارباً من عيناي يُوسف، فصاح الآخر متسائلاً بحُنق:
_ أومال؟ لو مكنش الموضوع كدا هيكون إيه؟

ابتلع بلال ريقه، لا يعلم هل إخبـ.ـار يُوسف عن مشاعره سيكون صائباً أم لا، أصر يُوسف إلى معرفة حقيقة الأمر فأردف بنبرة متحشرجة:
_ أنا بحبها يا يوسف!

حرك بلال رأسه لليمين ليستشف تعابير صديقه، فلم يرى سوى جمودٍ لا غيره، وأخيراً قد نطق يُوسف وردد بعدm استيعاب:
_ إيه؟

تبادلا كليهما النظرات وبدأ بلال في قص متى شعر بمشاعر نحوها، وكان يُوسف يصغي إليه باهتمام يشوبه الذهول فلم يتوقع ذلك البتة، حيث قال بلال باستحياء شـ.ـديد:
_ مش فاكر بالظبط الموضوع بدأ إزاي، بس فاكر كويس الكام مرة اللي كانت بتزوركم فيها وأنا مكنتش بقدر أشيل عيوني من عليها، وكل مرة كنت ببقى مركز معاها بطريقة غريبة، لغاية ما بدأت أستنى زياراتها ليكم بفارغ الصبر، كنت بعد الأيام وأوقات كمان الساعات لغاية ما أشوفها تاني، مكنتش عارف إيه اللي بيحصل دا إيه ولا إسمه إيه بس عرفت النهاردة!

أوصد بلال عينيه لبرهة وبحرج شـ.ـديد تابع استرساله وهو يحدج بعيني يُوسف:
_ عرفت إيه هو لما اتفاجئت بيها قدامي النهاردة، وقلبي دق جـ.ـا.مد، محستش بالإحساس اللي حسيته دا قبل كدا، عرفت لما لساني نطق لوحده وقالها نوصلك في طريقنا، صدقني مكنتش مرتب لكدا أبداً، حسيت إني عايز أفضل قريب منها أكتر وقت ممكن، واتاكدت برده لما غرت من نظراتها عليك، اتمنيت لو كنت مكانك عشان تكون نظراتها دي ليا أنا مش أنت!

تجهمت تعابير بلال وانعكست نبرته حيث مالت إلى الشـ.ـدة في قوله:
_ ولما اضايقت من أسلوبك معاها، مش عيب عليك تعامل واحدة بالرقة دي بأسلوبك الوقح دا؟

ذُهل يُوسف بل صُعق من حديث بلال وخصيصاً آخر ما قاله، ظل يطالعه بعدm تصديق حتماً يمزح فكيف سيكون إن لم تكن مزحة؟!

"أنت بتهزر، صح؟"
سأله يُوسف في انتظار تأكيد سؤاله، لكنه تلقى عكس ما أراد سماعه:
_ هو فيه هزار في المواضيع دي يا يوسف، فين الهزار في إني بحبها؟ أنا قولتلك لأني متأكد إن مفيش مشاعر ليها جواك..

توقف بلال عن الحديث فجاءة، وحدجه بطرف عينيه لثوانٍ قبل أن يعيد سؤاله بتردد:
_ أنت مش بتحبها، مش كدا يا يوسف؟

تفاجئ يُوسف من سؤاله الساذج، هز رأسه باستنكار شـ.ـديد، فكيف يكون داخلة ذرة شك به وهو على علم بما يدور في عقله، زفر يُوسف أنفاسه وبإستهزاء هدر به شزراً:
_ أنت بجد بتسألني! أنت مش شايف رفضي الواضح ليها من دقايق بالظبط عشان متفهمش هي إني عايزها تقربها مني؟!

نظر يُوسف في الفراغ أمامه يستوعب على مهل ما أخبره به بلال، شيهقا فزفيراً فعل ثم أردف بنبرة ساخرة:
_ وهو يجي ويأمرني إني أبطل أسلوبي الجـ.ـا.مد معاها!

عاد يُوسف بأنظاره إليه وتابع ساخراً:
_ يابني البنت مفيش وراها غيري وأنا بعاملها بالطريقة دي، ما بالك بقى لو حسنت معاملتي معاها؟ تخيلت للحظة إيه اللي ممكن يحصل وقتها؟

ارتخت ملامح بلال تدريجياً، انعكس حـ.ـز.ن قلبه على تعابيره، حاول يُوسف تخفيف الأجواء المشحونة، فلكمه في رأسه بخفة وهو يهلل ممازحاً:
_ إبننا وقع في الحب وإحنا منعرفش!

ابتسم بلال بحرج فقهقه يُوسف عالياً وواصل مزاحه:
_ لا وبيتكسف كمان، صفتين يظهروا فجاءة كدا، بجد مش قادر أصدق، مش متعود عليك كدا، بس أنا أوعدك إني من هنا ورايح مش هبطل تريقة عليك، والله وجالك يوم يا بيلو

حدجه بلال مذهولاً فقطع حبال ذهوله يُوسف بقوله:
_ ارجع بينا يلا على الشغل، إحنا اتاخرنا يا أبو قلب رقيق

لم يعقب بلال وفضل الصمت في تلك الأثناء، أعدل من جلسته ثم دعس على محرك السيارة وانطلق بها مبتعداً عن المكان عائداً إلى عملهما.

***

قُضي اليوم في سلام وفي صباح اليوم التالي، استيقظ يُوسف باكراً عن بقية أيامه، بدل ثيابه سريعاً ثم خرج من غرفته باحثاً عن أخيه الذي يهرول إلى الخارج بُخطى متعرقلة فتفاجئ زياد بصياح يُوسف:
_ استنى عندك، فاكر نفسك هتقدر تهرب مني زي ما هـ.ـر.بت إمبـ.ـارح طول اليوم، ولما رجعت من الشغل عملت نفسك نايم!

تعرقل زياد في الحديث على الرغم من لباسه لثوب الجُرأة:
_ وههرب منك ليه؟

تقدm يُوسف بقامة منتصبة توجس زياد خيفة إثرها، لكنه صمد لكي لا يظهر ضعيفاً أمامه، وقف يُوسف مقابله وتحدث بنبرة حادة صارمة:
_ ممم نقول مثلاً إنك خايف تقابلني..

ابتلع زياد ريقه وسأله مستفسراً:
_ وأنا هخاف منك ليه برده، أنت عايز توصل لإيه يا يوسف؟

علم يُوسف أنه سيماطل في الأمر ولن يعترف بسهولة، حرك رأسه ثم مد يده إليها وقال ببرود:
_ هات مصروفك

قطب زياد جبينه بغرابة وقبل أن يسأله عن السبب، أعاد يُوسف تكرار طلبه بغضب:
_ قولتلك هات مصروفك

دس زياد يده في جيب بنطاله وأخرج منه نقوده ثم ناولهم إلى أخيه وتابع ما يفعله باهتمام وخوف، تفاجئ بأخذه بعض الورقات المالية ثم أعاد القليل منهم إليه موضحاً سبب فعلته:
_ من أتلف شيء عليه إصلاحه، وأنت قطعت العروسة بتاعت لينة ودا عقـ.ـا.ب اللي عملته، وكل يوم هتيجي تديني جزء من مصروفك لغاية ما تمن العروسة الجديدة اللي اشتريتها يكمل، ومن هنا ورايح لو عملت أي حاجة هاخد منك مصروفك كله، مفهوم؟

كان يطالعه زياد بصدmة كبيرة، فلم يسبق ليُوسف وأن فرض عليه عقـ.ـا.ب كهذا، فما الذي تغير الأن
استشف يُوسف ما يدور في عقل زياد وأراد تأكيد حديثه حيث هتف بتجهم:
_ لو أنت فاكر إني سيبتك قبل كدا تدلع براحتك فدا عشان افتكرتك راجـ.ـل يعتمد عليه، لكن اللي ظاهر لي إنك لسه عيل صغير بتغير من البنات!

صعق زياد من حقيقة ما قاله يُوسف المؤسفة، طالعه بأعين جاحظة ولم يتحمل تلك الإهانة فهلل معترضاً:
_ أنا مش بغير من البنات، وأنت لو مش شايفني راجـ.ـل تبقى دي مشكلتك مش مشكلتي، أنا ماشي

استدار زياد بجسده وهرول نحو الباب بخطوات غاضبة، خرجت السيدة ميمي من غرفتها بعدmا تأكدت من انتهاء حوارهما، وأردفت بنبرة طيبة:
_ هو غيران من اهتمامك بيها، متقساش عليه يا يوسف، صعب عليه يتخيل إن حد تاني يشاركه فيك

زفر يُوسف أنفاسه بضجر ورد عليها باستياء:
_ يعني عاجبك اللي عمله؟

أسرعت هي نافية سؤاله بقولها:
_ أكيد لأ معجبنيش، وخير ما عملت يا حبيبي، تصرف حكيم، بس أنا بعرفك إنه عمل كدا من غيرته، متنسهوش هو كمان، سيب له نصيب من الدلع عشان تقدر تقوي علاقتهم ببعض

أومأ يُوسف بتفهم، انتبهت والدته من ارتدائه لثياب أخرى فسألته بفضول:
_ قولي الأول، أنت رايح فين من بدري كدا؟

أخبرها يُوسف مختصراً:
_ هقدm لـ لينة في المدرسة عشان مايفوتهاش أكتر من كدا، كفاية اللي فاتها لغاية دلوقتي

ربتت ميمي على كتفه بحنو ودعت له بقلبٍ حنون:
_ ربنا يعينك يا حبيبي ويجعلك في كل خطوة سلامة

آمن يُوسف على دعائها ثم قبل كفها وغادر لكي لا يتأخر عما ينوي فعله.

***

حل الليل سريعاً، عاد يُوسف إلى المنزل بعد أن أنهى عمله اليوم كما نجح في إلحاق لينة بالمدرسة، أخبرها أنها ستدوام بصفها ابتداءً من الغد، سعدت الفتاة كثير بهذا الخبر وهللت عالياً:
_ أخيراً هروح المدرسة

تدخل يوسف قائلاً:
_ بس الأول لازم نذاكر اللي فاتك، تعالي وأنا هشرحلك

جلست لينة على الطاولة البيضاوية الذي ترأسها يُوسف وبدأ ينشط ذاكرته بقراءة بعض الدروس التي سيقوم بشرحها لها، بدأ الشرح فور انتهائه من القراءة وهي تصغي إليه باهتمام شـ.ـديد.

وقف يُوسف في أحد المسائل الرياضية التي يجهل حلها، فقام بالإستعانة بالإنترنت لعله يفهم كيفية حلها.

على جانب آخر كان يتابع زياد ما يفعلاه، فكان يشاركهم الطاولة ذاتها يحل واجباته المدرسية، حمحم بحرج وبتردد مد يد المساعدة لهما فأردف:
_ أنا ممكن أساعدكم..

شعر يُوسف بالإمتنان له وكاد أن يشاركه أمرهما إلا أن لينة قد تدخلت واعترضت بنبرة حازمة:
_ مش عايزين مساعدتك، يوسف هيشرح لي هو

عاد يُوسف إلى نقطة البداية، وعلم أن عليه إفهامها مهما كلف الأمر وطال الوقت، بعد مرور بعض الوقت شعر أنه جاهز لشرحها لها، فطالعها مستاءً قبل أن يردف:
_ تمام يا غلبوية، ركزي معايا

قابلته لينة بإبتسامة عفوية حين لقبها بالمشاغبة وأرغمت عقلها على الإنتباه جيداً لكي تفهم سريعاً ولا تتعبه ويضطرون للجوء إلى زياد البغيض الذي كانت تأجج النيران داخله غيظاً من ردها ورفضها لمساعدته.

***

"منمتيش لغاية دلوقتي ليه؟"
صدح صوته التي باتت تحفظ نبرته جيداً، فقطع عنها حبال ذكرياتها، انتبهت لإقترابه، فنهضت عن الأريكة ووقفت مقابله مُشكلة بسمة رقيقة على ثغرها الوردي الصغير مرحبة به بنبرتها الأنثوية التي أكتسبتها مؤخراً:
_ كنت مستنياك ترجع، مش ناوي تغير معادك المتأخر دا بقى؟

وضع حقيبته الرياضية على الأريكة التي يستند على جدارها بمرفقيه وأجابها بعدmا تنهد بإرهاق:
_ دا الوقت المناسب ليا، الصبح عندي شغل ومش بلاقي وقت أروح الجيم غير متأخر كدا

أومأت بتفهم وأردفت بمشاغبة:
_ شكلك تعبان، لو مش قد الرياضة والجيم بتروح ليه؟

زم شفتيه مستاءً من سخريتها ورد عليها بتهكم:
_ أنتِ اللي مش قدها يا غلباوية مش أنا

قهقهت عالياً فأسرع هو بتحذيرها قائلاً:
_ وطي صوتك هتصحي اللي في البيت

قلبت عينيها بتهكم تشكل على تعابيرها ورددت ساخرة:
_ مين اللي في البيت؟ مفيش غير ماما ميمي، زياد لسه مرجعش

نفخ هو بيأس فمهما تحدث معه عن تأخيره لا يجدي نفعاً معه أي حديث، حمل حقيبته وتوجه إلى غرفته مردفاً بنبرته الرخيمة:
_ ممم، تصحبي على خير يا غلباوية

ابتسمت وهي تجيبه بعفوية:
_ وأنت من أهل الخير يا يوسف

وجهت بصرها على ساعة الحائط، إلتوى ثغرها للجانب مشكلة إبتسامة حماسية ثم توجهت إلى المطبخ فتفاجئت بخروج يُوسف من غرفته عاري الصدر، اعتادت هذا المنظر منذ زمنٍ ولم يعد يخجلها.

توقفت قدmيها تلقائياً أمامه، وحدجت عضلاته العريضة التي برزت مؤخراً وزادته وسامة، طالعت عينيه البنية وكذلك ذقنه التي أنبتت في الآونة الأخيرة مما جعلته جذاباً للغاية عن سابق أيامه.

فقط ثانيتين قد نجحوا في قلب كيانها بالكامل، تراجعت للخلف وتركته يمر من أمامها حتى اختفى خلف باب المرحاض، ثم صغت إلى ارتطام قطرات الماء في أرضية المغطس الرخامي، فهرولت إلى المطبخ ثم قامت بالتقاط كعكة مزينة من الثلاجة ووقفت في الممرر منتظرة خروجه بفروغ صبر.

بعد مرور دقائق قليلة، أخيراً اختفى صوت المياه مما يؤكد خروجه الوشيك، أوصدت عينيها لبرهة حين تضاعفت نبضات قلبها متمنية أن يسير كل شيء على ما يرام كما رتبت له تماماً.

ثم تمتمت داخلها قائلة بحماس:
_ ١ ٢ ٣..

انتبهت لمقبض الباب الذي انخفض ورُفع في اللحظة ذاتها، فظهرت طلته المثيرة وهو يميل برأسه يميناً ويساراً ينفض ما تبقى من المياه المتناثرة في خصلاته إلى أن وقع بصره عليها، تقف حاملة بيديها كعكة مزينة يتوسطها رقم ثلاثون.

" كل سنة وأنت طيب يا يوسف"
قالتهم هاتفة بحماس واضح، كز يوسف أسنانه بعصبية حتى كاد أن يفتك بهم من فرط الضغط عليهم، تجهمت تعابيره وظل يطالعها دون إبداء ردة فعل، تقدmت هي نحوه وبنبرة هادئة أردفت:
_ Happy birthday..

خرج يوسف عن صمته رغم ذلك خرجت نبرته هادئة مختلطة بالجمود:
_ قولتلك قبل كدا مبحتفلش بعيد ميلادي، مش عارف هتفهمي امتى؟

مر بجوارها وولج غرفته تاركها واقفة مكانها، راودها الشعور ذاته كمثله من الأيام الماضية من كل عام، شعور ناتج عن عدة مشاعر تجتاحها حينها، لنقل مثلاً شعور الفضول حول عدm احتفاله بيوم مولده، الحـ.ـز.ن واليأس لمحاولاتها الكثيرة معه للإحتفال بيومه ذاك والنتيجة ذاتها لا جديد وغيرهم من المشاعر المضطربة التي تعصف بها.

"متزعليش يا لينة، بس يوسف مش هيتغير، لسه محفظتيش طبعه؟"
هتفت بهم السيدة ميمي من خلفها بنبرة يملئها الشجن لحالتها المذرية التي باتت عليها، استدارت إليها لينة وقالت بهدوءٍ حزين:
_ أنا بس كنت حابة أكون أول حد يحتفل بعيد ميلاده..

أخذت شهيقاً عميق وزفرته على مهلٍ، وعادت لتتابع استرسالها بشجن يشوبه الفضول حول رفض يوسف الدائم:
_ أنا لو أعرف بس ليه بيرفض كدا كنت هحترم رغبته، هو فيه حد ميحبش يحتفل بيوم مميز زي دا؟، عشان خاطري يا ماما قوليلي، أنا متأكدة إنك عارفة السبب

شعرت ميمي بمحاصرتها بالأسئلة التي باتت تكره ذلك اليوم من خلفهم، لن تكف لينة عن السؤال حتى تعلم السبب وراء رفض يوسف للاحتفال بيوم مولده، لكنها ليست بتلك الشجاعة لتخبرها عن ذلك السبب المفجع، حتماً ستتسبب في فتح جروح لن تنغلق بسهولة.

أخرجت تنهيدة مطولة وحاولت الهروب منها فقالت:
_ مينفعش أنا اللي أقولك يا لينة، يوسف لو مقالكيش بنفسه فأنا معنديش حاجة أقولها يا حبيبتي، يلا تصبحي على خير ومتزعليش منه مش هينام قبل ما يصالحك

ابتسمت لها ميمي وربتت على كتفها بحنو ثم عادت إلى غرفتها، بينما التفتت لينة ناظرة إلى غرفة يوسف بحـ.ـز.ن تبدد داخل قلبها، دلفت بخطاها إلى المطبخ وأعادت وضع الكعكة في الثلاجة كما كانت ثم عادت إلى غرفتها تجر خيبة أمل أخرى خلفها.

كانت عروق يده بـ.ـارزة بصورة مخيفة بسبب ضمه لها بقوة، مشهد صديقه وهو يُقــ,تــل يُعاد من جديد أمام مرأى عينيه، لم تنجح تلك الأعوام السبع في إخماد غضبه ولا تضميد جروح تلك الليلة.

يكره يوم مولده لتلك الحادثة الفاجعة، لا يعلم متى سيتأقلم عليها، إن لم تعالج الأيام جـ.ـر.ح فراق أحمد الذي قُتل غدراً فمن سيداوي تلك الفجوة؟

تذكر وصية صديقه ولعن أسلوبه الحقير الذي تسرع وعاملها به، عليه إصلاح ما اقترفه، أليس هذا شعاره الذي يطبقه على الأخرين؟!

نهض عن فراشه والتقط قميصاً من خزانته وأيضاً سروال قصير ثم خرج وتوجه ناحية غرفتها، وقبل أن يطرق بابها صغى إلى صوتها العـ.ـذ.ب الذي أصبح ذو لذةٍ عن ذي قبل، بات أقوى وأكثر جُرأة، حيث تمكنت من الغناء بشكل رائع.

استند برأسه إلى الجدار الذي يفصل بينه وبين غرفتها وفضل الإستماع لغنائها أولاً قبل إرضائها، ظهرت ابتسامة عفوية على محيا يُوسف، طرق بابها بخفة ولازال مستنداً على الحائط.

ارتدت هي سريعاً حجاب رأسها الذي خلعته للتو وفتحت الباب، لم تتفاجئ به، بل هي كانت في انتظاره من الأساس، كادت أن تبتسم له إلا أنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، فتلك المرة لن تكون متهاونة معه.

شـ.ـدت ملامح وجهها فبدت أكثر حدة وسألته مستفسرة:
_ عايز إيه؟

فوجئ يوسف بنبرتها الحازمة، استقام في وقفته وردد بنـ.ـد.م:
_ أنا آسف، بس أنا قولتلك كتير إني مش بحب احتفل باليوم دا يا لينة، ياريت تحترمي رغبتي

عقدت لينة ذراعيها أعلى صدرها بتذمر وهدرت به:
_ مش هبطل أعمل كدا طول ما أنا مش عارفة إيه سبب رفضك يا يوسف!

تأفف يوسف وقلب عينيه، ابتعد عنها بضعة خطوات وهتف لعله يستطيع إنهاء الحوار بينهما:
_ متزديش فيها ويلا عشان أنام

صاحت به لينة متزمجرة:
_ محاولتك المرة دي منفعتش، أنا لسه مضايقة منك

أوصد يوسف عينيه لبرهة قبل أن يعود إليها:
_ لينة، لو سمحتي...

قاطعت محاولاته التي لن تأثر بها تلك المرة بإصرارها:
_ متتعبش نفسك كتير، أنا مش هرضى وهفضل زعلانة لغاية ما تعرفني الحقيقة، أنا معتش صغيرة عشان تضحك عليا كل مرة بكلمة أنا آسف وكلام كدا ميقعنش طفل أصلاً، بس المرة دي مش هتعدي زي كل مرة يا يوسف!!

ألقت آخر جملتها بتحدٍ، طالعها يوسف بذهول فلم تكن شـ.ـديدة الإصرار هكذا من قبل فما العمل الآن، كيف سيخبرها وهو متأكد أنها لن ترحب بذاك اليوم من بعد الآن، إن لم تكرهه!.

تأفف بضجر فعنادها ذاك سيقحمهما في طريق لا يود الوصول إليه، تركها واقفة بمفردها وتوجه للخارج وهو يتمتم بحنق:
_ مش عارف أنتِ مش بتريحي نفسك وتريحيني معاكي ليه؟

ذهبت خلفه وهي تجيبه بإصرار:
_ أنا هرتاح لما أعرف سبب رفضك وأكيد أنت كمان هترتاح من زني

جلس يوسف على الأريكة المستطيلة فجلست هي على الأريكة ذاتها تاركة مساحة كافية بينهما، شعرت أنه يلين شيء فشيء فأرادت أن تحثه على قول ما تريد سماعه بقولها:
_ يلا بقا يا يوسف قولي...

اقتربت منه قليلاً وتابعت توسلاتها بنبرة مُلحة رقيقة:
_ عشاني...

حمحم يوسف وطالع الفراغ أمامه لثوانٍ قبل أن يعود بنظريه إليها ثم أردف بنبرته الرجولية التي تميل إلى الحـ.ـز.ن:
_ اليوم دا مـ.ـا.ت فيه اتنين غاليين، كل حاجة اتغيرت في اليوم دا، مبقتش يوسف نفسه، عشت حاجات عمري ما عشتها، شوفت اللي عمري ما اتمنيت أشوفه، حسيت بالخوف لأول مرة في حياتي، اليوم دا كان صعب أوي عليا لدرجة إن حتى بعد ما عدى ٧سنين لسه متأثر بيه وبخاف منه، ولو سمحتي يا لينة بلاش الموضوع دا يتفتح تاني..

نهض عن مقعده ظناً أنه أخبرها كل شيء وتوجه ناحية غرفته، توقفت قدmيه تلقائياً حين وقعت كلمـ.ـا.تها على مسامعه:
_ الاتنين دول ماما وأحمد؟

أوصد يوسف عينيه لاعناً ضعف قدرته التي أخبرتها بهذا ولم يصمد، فكم هي فتاة ذكية وحتماً ستفهم ما خلف حديثه، كز أسنانه بعصبية ولم يكف عن تأنيب ذاته، التفت إليها وطالعها بجمود شكله هو عكس ضعف حيلته الذي يطغي على خلاياه، اقتربت هي منه بأعين لامعة تتلألأ فيهما الدmـ.ـو.ع.

ابتلع يوسف ريقه في محاولة منه على ارتداء ثوب الشجاعة والتماسك أمامها لكن هيهات لقلبه الذي انخلع فور هروب إحدى العبرات على مقلتيها.

اقتربت منه وهي تجمع شتات الأمر:
_ مش محتاج تكذب عليا وتقولي لأ مش هما، أنت أصلاً مش راضي تعرفني هما مـ.ـا.توا يوم إيه فأكيد هو نفسه يوم عيد ميلادك بما إنك مش راضي تحتفل بيه، أنا ازاي مفهمتش كدا من زمان؟

أخرجت تنهيدة وواصلت:
_ اليوم دا أنا بقيت فيه يتيمة، بس برده ربنا جبر بخاطري وإداني عيلة تانية بدل اللي راحت واللي أنا متأكدة منه إن عمرهم ما كانوا هيعملوا معايا اللي أنتوا بتعملوه!
قالتهم لينة بنبرة متحشرجة إثر البكاء، تفاجئ يوسف من ردها، لم يتوقع رد رزين كهذا، لقد لطف الله بقلبه وبكل شعور سيء شعر به حينما كان يتهرب من أسئلتها التي لا حصر لها عن رفضه لذلك اليوم.

خرجت لينة عن صمتها وهي تمسح عبرانها بأناملها الصغيرة وهتفت وهي تطالع عينيه التي لا تكف عن معاتبة نفسها:
_ أنا كنت صغيرة أوي يا يوسف فكان سهل إني أبدأ من جديد، ويمكن عشان أنت كنت موجود كل حاجة كانت أسهل، كل و.جـ.ـع هان وخف و.جـ.ـعه بسببك أنت، صدقني علي نفسه لو كان لسه معانا مكنش عمل اللي أنت عملته طول السنين اللي فاتت دي، أنا مش زعلانة على أي حاجة حصلت لأن عوض ربنا كان جميل أوي

تقوس ثغر يوسف بإبتسامة عفوية، فلقد شعر بالراحة النفسية التي عصفت به حينما تأكد أنه لم يفتح لها جـ.ـر.حاً وأنها ممتنة له ولعائلته، تنهد وقال بثقة:
_ ت عـ.ـر.في إن لو كان ليا أخت من دmي مكنتش هعمل معاها كدا؟!

دون تردد أجابته:
_ أنا متأكدة من دا

ازدادت إبتسامة يوسف بسعادة، تثائب رغماً عنه ففرد ذراعيه في الهواء شاعراً بالنعاس يتملك منه رويداً رويداً فأردف بكسل:
_ إذا كان كدا بقى هروح أنام لأني مش قادر، تصبحي على خير

باختصار مخالط بالإمتنان أردفت:
_ وأنت من أهل الخير

أولاها ظهره وعاد إلى غرفته لكنها أوقفته قبل أن يهم بالدخول قائلة:
_ يوسف..

التفت برأسه إليها فتابعت هي بإبتسامة عـ.ـذ.بة:
_ شكراً

قلب يوسف عينيه كما لوى شفتيه بعدm إعجاب لما قالته، لم يعيرها اهتمام فهو لا يحب تلك الكلمة وخصيصاً منها هي، دلف غرفته ثم ألقى ببدنه على الفراش، مرت ثانية ولم تمر الآخرى إلا وكان غافياً.

***

عادت لينة إلى غرفتها، أوصدت بابها ثم توجهت إلى المرآة ووقفت أمامها، طالعت صورتها المنعكسة بآسى وحـ.ـز.ن شـ.ـديدان، تذكرت مشهد سقوط والدتها أمامها ثم بعد ذلك تبدلت الأحوال ولم تراها بعد ذلك، لن تنكر أنها قد اشتاقت إليها، مهما مرت الأعوام دوماً تفتقد إليها وإلى ابتسامتها الصافية، حتى صعوبة أسلوبها وحدته معها قد اشتاقت إليه.

حاولت طرد أفكارها التي لن تأتي بالخير، حتماً ستنعكس عليها جروحها بصورة لا تحب أن تصل إليها، رفعت يدها وسحبت حجابها على مهل، ثم حررت قيود خصلاها التي كانت تندسر أسفل الحجاب فوقع كالشلال إلى آخر ظهرها.

كان مموج الشكل بصورة جذابة، لم تكن لتصففه البتة، فكانت تحبه هكذا، تحب لونه البندقي الذي يتخلله بعض الخصلات الذهبية، فتحت درج تسريحتها وأخرجت منه علبة التجميل خاصتها.

أخذت منها أحمر شفاه داكن وقامت بوضعه على شفاها بإتقان دون الإنحراف عنها، كما وضعت بعضاً منه على وجنتيها وقامت بتوزيعه بقطعة اسفنجية ناعمة الملمس حتى بات حسِن المظهر.

كذلك رسمت عينيها بأحد الأقلام الكاتمة فبدت عينيها قريبة الشبه من كليوبترا وغيرها من اللواتي كنا يعيشن في عصور قديمة.

مشطت خصلاتها جيداً وقامت بجمع بعض الخصلات ثم صنعت بهم دائرة في منتصف رأسها تاركة ثلثه محرراً كما كان.

وضعت سماعات الأذن خاصتها وبدأت تتمايل بجسدها مع بداية الأغنية التي قامت بتشغيلها للتو، كانت خصلاتها تشاركها الرقصة في التمايل والتغنج وكأنهما فريقاً مدرباً على ما يفعلانه.

كانت تلك طريقة لينة في الهروب من أحزانها، وكانت تجدي نفعاً معها دوماً في أكثر الأوقات انطفائاً لروحها.

***

في أحد الشوارع المظلمة، لا ينير المكان سوى تلك الإضاءة الخافتة التي تصدر من مصابيح السيارة الأمامية، المكان يشوبه هدوء مريب يخشاه من يمر به.

يصدر هو صوت لحوح من داخل السيارة قائلاً بنبرة رقيقة:
_ جبتك في مكان بعيد أهو، سبيني أمسك إيدك بقى

نظرت إليه الفتاة التي تجلس أمامه بريبة وتردد، حدجت المكان من حولها بتفحص ثم عادت إليه عنـ.ـد.ما شعرت بالطمأنينة لعدm وجود مارة، ابتسمت بعذوبة وخجل فأسرع هو بمسك يد وانهال عليها بالقبلات فبادرت الأخرى بسحب يدها وعاتبته مستاءة:
_ إيه اللي بتعمله دا يا زياد؟ مش معنى إني قبلت أخرج معاك تفكرني هقبل باللي بتعمله، أنت فاكرني إيه؟

قطب زياد جبينه بتهكم وصاح ساخراً:
_ نعم يختي، واحدة راكبة مع واحد متعرفوش العربية لوحدهم وش الفجر، عايزاني أفكر فيكي إزاي؟

شهقت الآخرى بصدmة وأردفت بنبرة مذهولة من حديثه الذي فجائها به:
_ دا جزائي عشان وثقت في واحد ندل زيك، أنتوا كلكم زي بعض محدش يثق فيكم أبداً

طالع زياد الفارغ أمامه وببرودٍ يشوبه الإهانة هدر بها شزراً:
_ محدش قالك تمشي معانا كلنا..

شعرت الأخرى بالغيظ الشـ.ـديد فلم تتردد لحظة وترجلت من السيارة وهي تتمتم بالسُباب:
_ الله يلعن أشكالكم القذرة

حرك رأسه باستنكار شـ.ـديد غير مصدق تلك المثالية الزائفة وردد بإهانة:
_ عملالي فيها شريفة أوي، ياستي غوري

دعس على محرك السيارة وانطلق بها مبتعداً عن المكان غير آبه لتلك الفتاة التي تسير بمفردها في شارع لا تطير في سمائه جناح عصفور.

أنتبه لإهتزازة هاتفة الموضوع على وضعية الصامت، سحبه من خلف المقود وأجاب بضجر:
_ خلاص ياعم أمجد أنا راجع أهو، مش هاكل العربية أنا

جائه الرد من الطرف الآخر بنبرة هادئه مليئة بالغضب:
_ ياعم زياد أبويا لو صحى يصلي الفجر وملقاش العربية في مكانها أنا اللي هشيل الليلة

تأفف زياد لعدm صبر صديقه وهتف بحنق:
_ خلاص أنا اتحركت أهو وراجع، عشر دقايق وأكون عندك، سلام

أغلق الهاتف وألقاه أمامه، أعيد تكرار الإتصال فصاح زياد بتجهم وعبوس:
_ يخربيت دي عربية اللي هتقرفني في عيشتي

أمسك بالهاتف وأجاب على الإتصال ونبرته لا تبشر بالخير:
_ ما خلاص يا عم أمجد قولت راجع أهو

صمت من تلقاء نفسه حين صغى إلى الصوت الصادر من الطرف الآخر، أبعد الهاتف عن أذنه ليتأكد بعينيه من الإسم جيداً قبل أن يعود ليجيب فردد:
_ ماما..

نهرته بأسلوب فظ رغم ذلك كانت محافظة على مستوى نبرتها لكي لا يصل لأذان الآخرين:
_ أنت فين لغاية دلوقتي يا زياد؟، الفجر خلاص هيأذن وأخوك هيصحى يصحى البيت كله، شوف أنت بقى لو ملقكش موجود هيعمل إيه

ببرودٍ قال:
_ أنا جاي داخل على البيت خلاص، سلام

أغلق الهاتف وألقاه بعيداً عنه وهو يعد الثوانِ لكي يصل إلى المنزل قبل أذان الفجر، وصل إلى منطقته وصف السيارة أسفل بناية مالكها وترجل وهو يهرول عائداً إلى منزله بينما سأله صديقه مستفسراً عن حالته الغريبة:
_ في إيه بتجري كدا ليه؟

رد عليه مختصراً:
_ مفيش مفيش

صعد الأدراج في درجتين، فتح الباب بتهمل لكي لا يصدر صريراً عالياً يفـ.ـضـ.ـح أمره، أغلق الباب ووقف خلفه يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو موصد العينين.

"حضرتك لسه جاي"
اتسعت حدقتي زياد حين سمع تلك النبرة وحملق به لبرهة مذهولاً، ثم ردد بتوجس:
_ يوسف!
صاح بنبرة حازمة مختلطة بالضيق لحالته التي لا تتغير مهما أعطاه قدراً من النصائح:
_ كنت فين لوش الفجر كدا؟

ابتلع ريقه بتوجس، حتماً تلك نهايته لا محال، حمحم ثم أجاب بنبرة مهزوزة:
_ كنت مع صحابي، هكون فين يعني؟

رفع يوسف حاجبه الأيسر بعدm تصديق وهدر به معنفاً:
_ صحاب إيه لحد الفجر يا زياد؟ يابني أنا عايزك تبطل سهر وتركز في السنة اللي لسه باقي منها شهور دي وتخلص، خلص المعهد الأول وبعدين ابقى أسهر زي ما أنت عايز، لكن دلوقتي لأ، دلوقتي فيه مذاكرة عشان تعدي السنة صافي مش زي السنة اللي فاتت، عديت منها بـ ٣ ملاحق!

_ عاتبه زياد بغلظة فلم يحب إهانته تلك وكأنه الجاني:
_ متنساش إنك أنت اللي أجبرتني أكمل في حاجة أنا مش حاببها، كار التعليم دا مش كاري، أنا دخلت صنايع عشان أخدها من قصيرها وأريح دmاغي بعد ما أخد الـ ٣ سنين، أنت اللي روحت وقدmت لي في المعهد من غير حتى ما تاخد رأيي!

زفر يوسف أنفاسه بضيق في محاولة منه على تهدئة روعه ومحي عصبيته التي لن تجدي نفعاً معه وتابع بنبرة هادئة لعل وعسى يستجيب إليه:
_ يا زياد أنا عايزك إنسان محترم الناس تحترمه، يالا أنت ابني وأخويا الصغير، يعني مستقبلك يهمني، مش هتفهم معنى كلامي دلوقتي بس متأكد إن هيجي يوم وتشكرني إني كنت وراك دايما

ربت يوسف على كتف أخيه بحنو، ثم أنتبه لأذان الفجر، ردد مع المأذن وحين انتهى الآذان أمر زياد بلهجة لا تحمل النقاش:
_ يلا روح اتوضى عشان ننزل نصلي

أماء له بقبول ثم تخطاه إلى أن وصل إلى المرحاض لكي يتوضأ، بينما ذهب يوسف إلى غرفة والدته وطرق بابها بخفة منادياً إياها بصوته الأجش:
_ اصحي يا أمي، الفجر أذن

أتاه صوتها المتحشرج من الداخل قائلة:
_ صحيت يا يوسف

تنهد ثم توجه إلى الأمام قليلاً حيث غرفة لينة المقابلة لغرفة والدته، وطرق بابها هي الأخرى منادياً عليها:
_ قومي يا لينة، الفجر أذن

لم يأتيه رد منها فكرر منادته قائلاً:
_ لينة الفج...

صمت حين فتحت له الباب بأعين يسيطر عليهما النعاس، أخفض يوسف بصره سريعاً وقال بعتاب:
_ متبقيش تفتحي الباب بعد كدا إلا لما تظبطي طرحتك كويس

قطبت لينة جبينها بغرابة، ثم رفعت يدها وملست على حجابها فتفاجئت ببعض الخصلات الشاردة فقامت بسحب حجابها للأمام خافية خصلات شعرها الظاهرة ورددت بصوت ناعس:
_ ظبطها خلاص

رفع يوسف نظريه ليتأكد من عدm ظهور أي خصلة من شعرها ثم انتبه إلى قدوم زياد الذي شكل إبتسامة على محياه وهتف:
_ صحاكي من النوم الظالم

قهقهت لينة ورددت ساخرة:
_ حكم القوي

غمز زياد إلى أخيه ساخراً منه:
_ شوفت أنك قوي عشان تصدقني

تشـ.ـدق يوسف مستهزءًا منهما وأردف بنبرة غليظة:
_ قوي آه بس باخد ثواب في الآخر مش زيكم

نظر إلى أخيه بحدة وأمره بنبرة صارمة:
_ يلا قدامي

تقدmا كليهما سوياً ثم توقف يوسف والتفت إلى والدته ولينة وهتف مؤكداً عليهن:
_ متصلوش قبل الإقامة

أماءت له والدته قائلة:
_ عارفين يا حبيبي

خرج من المنزل برفقة أخيه الذي بادر في سؤاله مستفسراً:
_ ميصلوش ليه قبل الإقامة؟

رمقه يوسف مستاءً وأجابه على مضضٍ:
_ ما أنت لو بتركز معايا كل مرة كنت بقولهم فيها مكنتش سألتني، مينفعش نصلي يا سيدي قبل الإقامة لأن الفجر مش متحدد وقته بالظبط فممكن يبقى فجر كاذب فلازم نستنى شوية بعد الأذان اللي يعني تقريباً لغاية مدة الإقامة وبعدها نصلي عشان نبقى متأكدين إن صلاتنا صحيحة، فهمت؟

دون تفكير أجاب:
_ لأ

أوصد يوسف عينيه لثانية وهو يحرك رأسه باستنكار ثم هدر:
_ كنت هستغرب لو قولت غير كدا

ولج كليهما المسجد وشرع في الصلاة تابعين للمأذن، انتهوا من الصلاة ثم عادوا إلى المنزل وفي خلال خمسة عشر دقيقة كان جميع من في المنزل في ثُبات عميق.

***

في الصباح، استيقظت على تغاريد العصافير التي لا تكف ولا تنتهي، فتحت عينيها بتهمل وهي تتثائب بكسل، نهضت رويداً رويداً وارتدت حذائها المنزلي ثم توجهت إلى النافذة وفتحت أبوابها وتمتمت بنشاط قد تغلغل إلى خلاياها:
_ Günaydın
(صباح الخير باللغة التركية)

ابتسمت لذلك العصفور الذي يأكل من زهرتها التي قامت بزرعها وأردفت معاتبة كأنه شخصاً يفهم عليها:
_ كدا أزعل منك، وردتي متجيش جنبها، جعان هجيب لك أكل لكن متاكلش وردتي، خليك عندك وأنا راجعة لك حالاً

أولاته ظهرها وهرولت راكضة إلى الخارج، كادت أن تدلف بخطاها إلى المطبخ لكنها توقفت قبل أن يلمحها أحدهم، عادت بأدراجها سريعاً إلى غرفتها باحثة عن حجابها التي نسيته تماماً ووضعته على رأسها ثم خرجت لتأتي بالطعام الخاص بالطيور.

توقفت قدmيها قبل أن تولج للمطبخ حين صغت إلى إسم تلك الفتاة مجدداً، يا تُرى لماذا يتردد اليوم من الصباح الباكر حيث قالت السيدة ميمي محدثة يوسف:
_ والله يابني بس لو تريحني وتقولي مالها إيمان، طيب إيه عيبها؟ البت بقالها سنين مستنياك يا يوسف وأنت مش بتاخد خطوة أبداً

تأفف يوسف فذلك الموضوع لا ينتهي الحديث فيه مطلقاً، لقد بلغ ذروة تحمله، كم يتمنى أن تختفي إيمان حتى لا يسمع إسمها من فاه والدته مرة أخرى، تنهد وحاول لبس ثوب البرود وهتف:
_ مين اللي قالك أنها مستنياني يا أمي؟

تركت ميمي ما بيدها جانباً وجلست أمامه على الطاولة الصغيرة التي تتوسط المطبخ وأجابته بنفاذ صبر:
_ تفسر بإيه كل العرسان اللي بترفضها دي؟ وكلهم بسم الله ما شاءالله حاجة تشرح القلب، مفيهمش غلطة واحدة، كل دا عشان مستنية حضرتك تتقدm وأنت واقف محلك سر، قبل كدا قولتلي عايز تكون نفسك فسكت وقولت عنده حق، بس دلوقتي حجتك إيه؟
الشقة وأنت خلاص الشهر الجاي هتكون خلصت آخر قسط فيها، العربية وصاحب الشغل مديلك كل الصلاحيات تستخدm أي عربية تحبها، الشغل وبسم الله ما شاء الله بقيت مدير المعرض، قولي لسه مستني إيه تاني، إيه اللي معطلك يابني قولي وريح قلبي

قضم آخر قطعة من شطيرة الجبن التي بيده وردد مختصراً:
_ لأنه مينفعش يا أمي، مينفعش إيمان بالذات تبقى مراتي!!

قطبت جبينها بغرابة وكادت أن تسأله عن سبب ذلك إلا أنهما صمتَ حين صدر صوت من الخارج، لعنت لينة قدmيها التي تحركت رغماً عنها فأصدرت صوتاً مسموعاً، لم يكن هناك داعٍ لأن تقف أكثر مكانها لكي لا يفـ.ـضـ.ـح أمرها، تابعت تقدmها وكأنها جائت للتو.

شكلت بسمة رقيقة على محياها ورحبت بهم:
_ Günaydın

ردت عليها السيدة ميمي بنفس لهجتها:
_ Günaydın canım
( صباح الخير يا عزيزتي )

تفاجئ يوسف برد والدته ورمقها بذهول شـ.ـديد، مرر أنظاره بينهما وهتف دون تصديق:
_ المسلسلات التركي عاملة عمايلها

انفجرن ضاحكتين فأسرعت لينة مؤكدة:

_ tabiki canım
( بالطبع عزيزي )

نهض يوسف عن مقعده ناهياً نقاشه معهن بقوله:
_ أنا كنت فاكر التركي كله بيتخلص في جملة "مراد بيك لا تتركني هيك"

لم تستطيع لينة الصمود وانفجرت ضاحكة، أجبرت من يقفون معها على الضحك، توقفت حين سمعت قرع الجرس، انسحب يوسف من بينهما ليفتح الباب فتبعته ميمي وكذلك لينة.

تسائل يوسف عن هوية الطارق وهو يقترب بخطواته من الباب:
_ مين؟

جائه صوت أنثوي من الخارج معلنة عن هويتها:
_ أنا شهيرة أم بلال

فتح لها يوسف الباب واستقبلها بترحيب حار:
_ أهلاً وسهلاً يا أم بلال اتفضلي

بإمتنان قالت:
_ يزيد فضلك يا حبيبي

رحبت بها السيدة ميمي بحفاوة قائلة:
_ يا أهلاً بالغالية اتفضلي يا حبيبتي

صافحن بعضهن البعض ناهيك عن القبلات التي تبادلنها ثم دعتها ميمي للجلوس في الصالون فحضرت لينة مرحبة بها بعد أن قامت بإطعام العصفور ثم شاركتهن الجلسة.

حمحمت شهيرة وأردفت لما جاءت من أجله:
_ معلش يا أم يوسف إني جاية بدري كدا، بس كنت جاية أخد أطقم الزينة أنتِ عارفة إن الفرح بكرة ولازم أروح أفرشهم دلوقتي، لأن مش هكون فاضية طول اليوم أنتِ عارفة الحنة ومشاغلها

ابتسمت لها ميمي وقالت بحرج شـ.ـديد:
_ أنا اللي آسفة والله إني اتاخرت عليكي بس شغل الزينة بياخد وقت عن الأطقم العادية، ثواني وهجيبهملك

باختصار رددت:
_ خدي راحتك يا حبيبتي

نهضت ميمي وابتعدت عنهم لكي تحضر لها الملائات التي قامت بصنعهم لإبنتها، بينما وجهت شهيرة حديثها إلى لينة قائلة:
_ متتأخريش النهاردة عن الحنة، أنتِ بالذات لازم تيجي بدري ترقصي مع أختك هدى

تفاجئت لينة بإفصاح شهيرة بذلك أمام يوسف، وجهت بصرها نحوه ثم نكست رأسها بخجل شـ.ـديد، بينما حمحم يوسف بحرج واستاذن منهما قائلاً:
_ عن إذنك يا أم بلال، صحيح هو فين؟

التفت برأسها إليه وأجابته بتلقائية:
_ تحت مستنيني في العربية عشان يوصلني شقة أخته

أماء لها بتفهم ثم انسحب إلى الخارج في هدوء، حينذاك استطاعت لينة رفع رأسها بعد أن تأكدت من مغادرته، زفرت أنفاسها براحة وتناولت بعض الأحاديث مع السيدة شهيرة التي لا تتوقف عن الحديث إذا بدأته.

في الأسفل، طرق يوسف بيده على نافذة السيارة حين لم ينتبه له بلال فجذب انتباهه، ترجل من السيارة واستند بظهره علي بابها وأردف:
_ على فين؟

أجابه مستاءً:
_ على معرض أبوك يا ظريف

أماء له بلال بتفهم واسترسل:
_ أنا يدوب أروح المعرض أقفل حسابات الأسبوع دا، وأروح أشوف الراجـ.ـل خلص لي البدلة ولا لأ، طبعاً أنت معايا

حرك يوسف رأسه بتأكيد:
_ أكيد، يلا سلام عشان ألحق أقفل الحسابات أنا كمان، مش عارف أبوك غاوي يمرمطنا ليه، ما يجيب ناس فاهمة تقفله حساباته

أخبره بلال عن وجهة نظر أبيه بقوله:
_ مشكلته إنه مبيثقش في حد بسهولة، دا أنا حتى سمعت إنه هيفتح معرض تالت ومأجل الموضوع على لما يشوف حد ثقة يقف فيه

لم يعقب يوسف على ما أخبره عنه بلال، بل حلق في سماء خياله بعيداً، تعجب بلال من شروده وأشار إليه بيده لكي يجذب انتباهه إليه مردداً بغرابة من أمره:
_ بتفكر في إيه يابني؟

قطع عليه بلال حبال أفكاره بسؤاله، بينما رد عليه يوسف مختصراً وهو يربت على كتفه:
_ هقولك بعدين، سلام

تركه واقفاً بمفرده واستقل إحدى السيارات الفاخرة وتحرك بها بعيداً عن المنطقة حتى اختفى طيفه تماماً، استدار بلال ورفع رأسه إلى الأعلى رامقاً تلك البناية وهتف بحنق:
_ ما يلا بقى، عارفك لما تفتحي في الكلام مش هتخلصي النهاردة

سحب هاتفه من جيب بنطاله وهاتفها، كان ينتظر إجابتها بفروغ صبر حتى تفاجئ بظهور من سكنت فؤاده على مقربة منه، خفق قلبه بشـ.ـدة، لم تفشل مرة في سلب عقله وتهيج نبضانه كأنه يراها للمرة الأولى.

أنتبه إلى صوت والدته الصادر من الهاتف:
_ يا بلال، خلاص نازلة أهو يا حبيبي

أسرع بلال في لحاقها بقوله:
_ لا لا خليكي، بقولك في بنت طالعة عندكم دلوقتي اعزميها على فرح هدى

قطبت جبينها بغرابة وعدm فهم، لم تستطيع سؤاله بعناية عن هوية الفتاة ومن أين يعرفها ولماذا تقوم بدعوتها كما طلب منها.

أغلقت الهاتف أثناء مجيء إيمان، التي رحبت بها ميمي وكذلك لينة، ثم قامت ميمي بتعريف هوية إيمان للسيدة شهيرة حيث أردفت:
_ دي إيمان بنت أخويا، ودي شهيرة جارتي من زمان

تصافحن وبادرت إيمان بالترحيب:
_ أهلاً بحضرتك

بادلتها شهيرة إبتسامة عريضة وردت علي لطفها:
_ أهلاً بيكي يا حبيبتي، اللهم صل على النبي قمر ١٤

تفحصتها شهيرة جيداً، ثم وجهت حديثها إلى ميمي ولازالت تحدج إيمان بنظراتها:
_ خليها تيجي معاكي الحنة والفرح يا ميمي

تدخلت إيمان قائلة:
_ ألف مبروك بس حنة وفرح مين؟

أجابتها شهيرة موضحة:
_ بنتي، هدى بنتي حنتها النهاردة وبكرة بإذن الله الفرح، هستناكي يا قمراية تيجي مع عمتك، يلا فاتتكم العافـ.ـية

ردت ميمي عليها بلطف:
_ الله يعافيكي

تابعتها إلى الخارج ثم ودعتها وأغلقت الباب، عادت إلى الفتيات وتبادلن المزاح بينما هبطت شهيرة الأدراج وأسئلتها تزداد فضولاً كلما تخطت درجة من السُلم وعزمت على معرفة الأمر كاملاً.

انتبه بلال لوالدته فور ظهورها أمام مدخل البناية، أسرع نحوها وأنهال عليها بعشرات من الأسئلة:
_ ها شوفتيها؟ قولتلها تيجي ولا قعدتي تتكلمي ونسيتي؟ ها يا ماما عملتي إيه؟

استنشقت بعض الهواء لكي تضبط من أنفاسها اللاهثة وأردفت بهجوم:
_ اصبر عليا، أخد نفسي الأول

هدأ بلال من لهفته قليلاً وساعد والدته على ركوب السيارة، التفت إليها في انتظار إجابتها على أسئلته، تعجبت هي من حالته تلك، فلم يكن ملهوفاً كهذا من قبل، عقدت ما بين حاجبيها وسألته بفضول أمومي:
_ مين دي واشمعنا عايزني أعزمها؟

طالعها بلال بأعين جاحظة غير مصدق ما استشفه من وراء كلامها وردد بتجهم:
_ يعني أنتِ معزمـ.ـيـ.ـتهاش؟!

رفعت شهيرة حاجبيها ونظرت أمامها لتجيبه بنبرة متهكمة:
_ عزمتها، عزمتها

عادت بأنظارها إليه ثم تابعت:
_ على الحنة والفرح

تفاجئت بتلك الإبتسامة التي غزت شفتي بلال ثم حاول إخفائها بعضه على شفتيه السفلى وهو يطالع الخارج أمامه، فقطعت عليه لحظته بقولها:
_ للدرجة دي واقع؟

اختفت إبتسامته فور تلقيه سؤالها، حمحم بحرج وأردف محاولًا الهروب منها وهو يطالعها بذهول:
_ واقع! البنت قريبة يوسف وتهمه فأنا حبيت نعزمها بس مش أكتر

مالت شهيرة بجسدها بالقرب منه وبنبرة مريبة تعجب لها بلال هدرت:
_ بقا هي تهم يوسف قولتلي، طيب وهو مش ناوي يخطبها على كدا

دهشت شهيرة بسرعة رد بلال بلهجته الرافضة لاقتراحها:
_ لأ مفيش خطوبة ولا الكلام دا

رفعت حاجبيها الأيسر ولم تستطيع منع ابتسامتها التي حاولت جاهدة إخفائها وسألته لتتاكد من حدسها:
_ مش بتقول يابني إنها تهمه، يعني أكيد هيخطبها

تنهد بلال على الرغم من اختناقه لمجرد التخيل في ذلك وأوضح لها حقيقة ما تجهله:
_ تهمه زي أخته كدا، زيها زي لينة بيعتبرهم اخواته

هزت رأسها بتفهم ورددت:
_ آه كدا فهمت، يلا ربنا يبعت لها عدلها قريب

حافظ بلال على هدوئه لكنه لم يمنع شفتيه من الترديد بنبرة خافتة:
_ آمين

أسرعت شهيرة في النظر إلى الخارج لكي لا يرى ابتسامتها التي تشكلت حين آمن على دعائها، حمحمت ثم صاحت به متزمجرة:
_ طيب يلا عشان نلحق نروح شقة أختك ونرجع قبل ما الست بتاعت الحنة تيجي

أماء لها بقبول ثم دعس على محرك السيارة وابتعد عن المنطقة قاصدين منزل العروس.

***

في منزل السيدة ميمي التي تركت الفتاتان بمفردهن لتحضر الطعام قبل أن يحين موعد ذهابهم إلى حفل الحناء.

ولجت لينة غرفتها ورافقتها إيمان مستمعة لما تريد فعله في الغرفة:
_ عايزة أغير اللون، أوضة ولادي خالص، عايزة أدهنها أوف وايت وأدهن الأوضة بينك وأجيب مرايا اللي فيها لمبات كتيرة، آه وعايزة أحط في الزاوية دي مرجيحة من اللي بتكون نازلة من السقف وجنبها أرفف أحط عليها كل الروايات والكتب اللي قرأتها، ها إيه رأيك؟

تقدmت إيمان من الفراش وجلست أعلاه، وجهت نظريها إلى لينة التي تنتظر إجابتها بحماس، فلم تستيطع إيمان مجراة حماسها وأردفت ببرود:
_ بس كل دا مكلف جداً، هتعمليه إزاي؟

زمت لينة شفتيها بإحباط قد عصف بها، تقدmت هي الأخرى واعتلت الفراش بجوار إيمان وقالت بقلة حيلة:
_ مش عارفة، بفكر أقترح على يوسف أفكاري و...

قاطعتها إيمان بحدة:
_ معتقدش إن دي فكرة كويسة يا لينة، يعني يوسف في الوقت دا المفروض يجهز شقته اللي هيتجوز فيها والكلام دا كله مش وقته خالص

قطبت لينة جبينها بغرابة فلم تستوعب حديثها ورددت بعدm فهم:
_ شقة إيه اللي يجهزها مش لما يشوف عروسة الأول!!

"ولو، يمكن العروسة موجودة والطلبات دي اللي منعاه ياخد خطوة عشان خايف ميقدرش يفتح بيتين"
هتفت بهم إيمان موحية إليها برسالة متمنية أن تكون قد فهمت مضمونها، تنهدت ثم تسائلت دون استحياء:
_ مش جايز برده ولا إيه؟

طالعت لينة الفراغ أمامها وهزت رأسها دون اقتناع مما تحدثن به وتمتمت بنبرة خافتة:
_ جايز...

نهضت إيمان مبتعدة عن الفراش وأردفت موضحة:
_ هروح أشوف عمتو لو محتاجة حاجة أساعدها، تعالي لو حابة

رمقتها لينة لبرهة ثم اعترضت بلطف:
_ لا أنا هجهز حاجتي عشان ورايا دروس

أماءت لها إيمان بتفهم ثم خرجت من الغرفة موصدة الباب خلفها وذهبت إلى عمتها لربما تكون بحاجة إليها بينما جلست لينة تفكر في كلمـ.ـا.ت إيمان وقد شعرت بالإختناق يتملك منها رويداً رويداً كلما تصورت أنها السبب في عدm سير حياة يوسف كما ينبغي وعزمت على التأكد منه حتى يطمئن جوفها.

***

ارتفع رنين الهاتف معلناً أنه قد حان الوقت المطلوب التي قام بضبطه يوسف، أغلق الهاتف ونظر إلى ساعة الحائط ليتأكد من تمام الساعة الثانية ظهراً ثم عاد ليجمع تلك الملفات المبعثرة أمامه على المكتب سريعاً وخرج منه بعد أن التقط مفتاح سيارته وهاتفه الجوال.

هبط السُلم مهرولاً إلى الخارج ثم استقل سيارته وانطلق بها عائداً إلى منطقته، وصل بعد دقائق بسيطة فمكان عمله يبعدها بمسافة قريبة، صف السيارة أسفل منزله ثم قام بعمل مكالمة هاتفية.

آتاه صوتها الرقيق من الطرف الآخر:
_ يوسف..

رد عليها بصوته الأجش:
_ أنا تحت يلا انزلي عشان أوصلك دروسك

تذمرت لينة في قولها:
_ يا يوسف مفيش مرة تنسى وتسيبني أروح لوحدي، صحابي كلهم بيروحوا كل مكان لوحدهم، اشمعنا أنا؟

أجابها دون تفكير:
_ ربنا ابتلاكي بيا هنعمل إيه بقى، استحمليني لحد ما الأجل يـ...

قاطعتها مستنكرة كلمـ.ـا.ته التي لم تتحمل سماعها:
_ بعد الشر عليك متقولش كدا تاني، ربنا يخليك لي...

توقفت عن الحديث مانعة لسانها من إكمال ما لم تنهيه خشية أن يتم فهمه بسوء فأوضحت قائلة:
_ لينا، كلنا

بنبرة لا تتحمل النقاش أمرها:
_ طيب يلا انزلي

مر ما يقرب الخمس دقائق حتى ظهرت لينة أمام مرأى عينيه، ركبت بجواره بهدوء دون أن تتناقش معه في أمراً فهذا ليس المعتاد، التفت يوسف برأسه ونظر إليها بعد أن قطع مسافة ليست بقصيرة متعجباً من صمتها:
_ مش معقول مفيش رغي النهاردة؟!

تنهدت لينة فتابع هو ممازحاً:
_ للدرجة دي الموضوع كبير؟

طالعته بلهفة وسألته بتوجس:
_ عرفت منين؟

قطب يوسف جبينه، فهو لم يقصد ما أصاب، فقط كان يمازحها، حمحم وأردف موضحاً:
_ معرفش حاجة، أنا بهزر معاكي، بس الظاهر إن فيه حاجة فعلاً؟

طالعت لينة الطريق أمامها بضيق لعدm قدرتها على السيطرة على لسانها، تأففت بخفوت لكي لا يسمعها يوسف، انتبهت على سؤاله الذي يحثها على البوح بما تخفيه:
_ ها، فيه إيه؟

ابتلعت ريقها وتحلت بالشجاعة قدر المستطاع، التفتت إليه وهي تعض على شفاها السفلى بحرج شـ.ـديد ثم ألقت بسؤالها في الوسط قبل أن تتراجع:
_ أنت ليه مش متجوز لغاية دلوقتي؟

تعجب يوسف كثيراً من سؤالها ولم يستطيع مواصلة القيادة دون أن ينظر إليها ليستعلم عن سبب سؤالها المريب، صف السيارة جانباً واعتدل في جلسته حيث يكون مقابلها واسترسل مستفسراً:
_ إيه السؤال الغريب دا؟

تنهدت بقوة قبل تعيد سؤالها بحزم:
_ جاوبني الأول، ليه متجوزتش لغاية دلوقتي؟

قلب يوسف عينيه لعدm إتيانه بإجابه تريح فضولها، زفر أنفاسه بصوت مسموع ونظر إلى الخارج يفكر في سبب ما لربما يحصل على إجابة لسؤالها، كانت تطالعه لينة بفروغ صبر، تنتظر إجابته حتى تريح عقلها من فرط التفكير.

انتبهت له حين هتف بعدm توازن في حديثه:
_ مش عارف، هو ليه الإنسان ممكن مـ.ـيـ.ـتجوزش، يمكن لأنه مفكرش في كدا قبل كدا؟

رفعت لينة حاجبيها بعدm رضاء لتلك الإجابة الناقصة ورددت دون تصديق:
_ هو فيه حد مش بيفكر في الجواز، أو مثلاً خطط مأجلها بعد ما يتجوز، أفكار مـ.ـجـ.ـنو.نة سايبها عشان ينفذها مع شريك حياته؟ فيه حاجات كدا مينفعش تتعمل في الوقت دا أو لوحدنا، لازم تتعمل مع شريك! إزاي مفكرتش على الأقل مرة في الجواز؟!

حاول التفكير بصوت عالٍ لعله يصل إلى نقطة ترضيها:
_ بجد مش عارف، مفكرتش قبل كدا، يمكن لأن مفيش وقت عندي، يومي كله مشغول

نكست لينة رأسها بحـ.ـز.ن جلي، وانعكست تعابيرها إلى الخذي وتمتمت بنبرة بحـ.ـز.ن مصحوب بالخجل:
_ مشغول بيا، مشغول بدراستي ودروسي، ومشاكلي وكل حاجة تخصني، أنا السبب يا يوسف..

استنكر يوسف ظنونها حتى وإن كانت صحيحة لكنه لم يشعر بالملل يوماً، إنه يفعل ذلك بكل حب وصدق، أسرع في الرد عليها موضحاً:
_ وإيه يعني لو مشغول بيكي؟ حد قالك إني مضايق؟ أنا الكبير يعني المسؤول عنك وعن زياد حتى ميمي مسؤول عنها لأني الراجـ.ـل، الرسول صل الله عليه وسلم قال "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
يعني دا دوري مش مفروض عليا، ثم مين قالك إنك السبب؟ أنا حلمي لسه موصلتلوش، وبسعى عشان أوصل له، ولغاية ما أوصله مش هفكر أبدا في الجواز، وبطلي تلومي نفسك وتفكري كدا تاني عشان المرة الجاية هزعل بجد، تمام؟!

أماءت له ورددت بحياء:
_ تمام

كاد أن يعيد تشغيل السيارة إلا أنه توقف وعاد إليها ليسألها مستفسراً:
_ أنتِ ليه سألتيني السؤال دا؟

إلتوت شفتيها للجانب فهي تخجل إخبـ.ـاره، وكان هو يعلم ما وراء ذلك التصرف فقال:
_ ممم، شكل كدا فيه حوار ويارب ميطلعش اللي في بالي..

ترددت كثيراً في إخبـ.ـاره عن الحقيقة، لم يكن هناك مفر فيوسف لن يتراجع قبل أن يلم بالأمر كاملاً، حمحمت وهتفت:
_ إيمان..

قاطعها يوسف هاتفاً بحنق:
_ إيمان، كنت متأكد

عاد بنظريه إليها وأردف بعبوس قد تشكل على تعابيره:
_ ها، كملي مالها ست إيمان

قصت عليه لينة ما دار بينهما وأنهت حديثها قائلة:
_ بس فحبيت أسألك أتأكد منك وكدا

هز يوسف رأسه بتفهم وبغيظ واضح في أسلوبه وأردف من بين أسنانه:
_ قولي لها هـ ولا أقولك سبيها مفاجأة

عقدت لينة ما بين حاجبيها عفوياً حين لم تفهم ما وراء حديثه وسألته بفضول أنثوي:
_ مفاجأة إيه؟

أجابها وهو يتحرك بالسيارة:
_ بعدين هت عـ.ـر.في..

انطلق بها إلى المكان المقصود الوصول إليه، التزم كليهما الصمت إلى أن وصلا إلى هناك.

***

حل المساء وكان يوسف برفقة بلال، مرت خمس دقائق على اختفائه خلف الستار ثم ظهر بعد أن ارتدى حِلته السوداء التي لاقت به، كانت متناسقة مع جسده الرفيع وطوله اليافع.

نهض يوسف عن مقعده وأصدر صفيراً عالياً مبدياً إعجابه بمظهر صديقه، اقترب منه بلال ليتفحص ذاته في المرآة المجاورة ليوسف الذي هلل بإعجاب:
_ مظبوطة عليك بالملي، بس قولي إيه المنظر اللي أنا شايفه دا، أومال لو مكنتش بتروح جيم؟

رمقه بلال من خلال المرآة، وكأنه أصاب فيما يشغل تفكيره، استدار بجسده إليه وردد:
_ يا أخي والله أنا نفسي أعرف ليه، المدة تقريباً زيك وشوف أنت شكلك إيه..

أشار بلال بيديه إلى جسده وتابع بإسيتاء:
_ وأنا شكلي إيه؟

أسرع يوسف بوضع كفه أمام عيني بلال هاتفاً بتوجس:
_ خمسة خمسة، أهدى كدا أنا مش ناقص

رفع بلال طرف شفتيه للأعلى مبدي استيائه منه وقال بحنق:
_ أنا برده عايز أفهم ليه؟

فكر يوسف لبضعة دقائق ولم يصل إلا لإجابة دون غيرها:
_ ما يمكن بتلعب غلط

قطب بلال جبينه بغرابة وسأله مستفسراً:
_ غلط إزاي، أنا بعمل اللي كابتن بيعمله بالحرف

بادر يوسف في توضيح ما يقصده بقوله:
_ لا أقصد يعني في نوع الرياضة ممكن تكون مش زيي

عقد الآخر حاجبيه وتمتم ببلاهة:
_ هي أنواع؟!

ضـ.ـر.ب يوسف وجهه براحة يده، ثم وضعها على كتف صديقه وأردف:
_ اللي وداك جيم ظلمك، خلص يلا عشان نمشي

تركه يوسف واقفاً مكانه وتحرك مبتعداً عنه، بينما عاد بلال لغرفة تبديل الثياب ليخلع عنه حِلته ويرتدي ثيابه ثم يعودان إلى حيث جاءا.

***

في المنزل المُقام به حفل الحِناء، صعدت أدراجه لينة بعد أن أنهت جميع دروسها برفقة إيمان الصامتة كعادتها، تتبعهم السيدة ميمي بخطوات متهملة عكس خطواتهم المليئة بالحيوية.

وصلا إلى الطابق الكائن به الحفلة، ثم طرقت لينة باب الشقة فأتاها الترحيب بعد لحظات من قِبل السيدة شهيرة، قبلتها من وجنتيها للمرة الرابعة ثم فعلت التصرف ذاته مع إيمان وميمي.

رفعت لينة يدها ومسحت على وجنتيها بتقزز، فهي تكره تلك القبلات التي تترك أثر لُعاب البعض على وجهها، أعادت وضع يدها إلى جانبها حين رأت هطول شقيقة بلال الكُبرى، شكلت إبتسامة على محياها ورحبت بها وكذلك فعلت هي ثم لاحظت لينة اهتمامها البالغ بإيمان وخصيصاً حين تأكدت من إسمها وكأنها كانت في انتظارها.

جلسن ثلاثتهن على مقربة من الحفل الذي بدأ للتو، كانت الفتيات والنساء يملئن المكان، لم يكن هناك أنش في الردهة تستطيع إحداهن الوقوف به من كثرة الحاضرات.

اقتربت الأخت الكبرى لبلال من لينة ودعتها للرقص بقولها:
_ تعالي يا لينة، دا إحنا مستنينك من بدري

شعرت لينة بالخجل فشجعتها ميمي على النهوض فلم تعترض ونهضت في هدوء، لكنها تفاجئت بدعوتها لإيمان هي الأخرة للرقص، لكنها بادرت بالرفض فور تلقيها الدعوة موضحة:
_ لا لا معلش اعذريني، مش بعرف ومليش في الجو دا خالص

صممت الآخرى على اصطحابها لكنها بقدر ما صممت تلقت رفض واضح من إيمان، تدخلت شهيرة لتنهي الأمر فأردفت:
_ خلاص يا هدير سبيها على راحتها، يمكن تاخد على الجو دلوقتي وتقوم من نفسها

أماءت هدير برأسها ثم توجهت نحو الدائرة التي شكلنها الفتيات حول العروس، ودفعت لينة بداخل تلك الدائرة مشجعة إياها:
_ يلا يا لولو

تفاجئت لينة بهتاف الأخريات مشجعين إياها فلم تطيل هي في خجلها وبدأت بالفعل تتمايل حتى استحثت الإعجاب في نظرات الواقفات، كما كانوا يدعون بعضهن البعض للمجيء ومشاهدة تلك الرقصة المثيرة للإعجاب.

لم تكف لينة عن الرقص فكانت جديرة بفعل ما يبهر الجميع، على جانب آخر اقتربت شهيرة من السيدة ميمي ورحبت بها مرة أخرى ثم انتقت كلمـ.ـا.تها بعناية حتى لا تفهم ميمي شيء:
_ بنت أخوكي باينها هادية أوي

هتفت ميمي مؤكدة:
_ أيوة هي فعلاً كدا، البنت الوحيدة ومنطوية مع نفسها يعني بعد ما خلصت جامعتها مبقتش تخرج من البيت غير ليا أنا وبس

شكلت شهيرة إبتسامة على محياها واسترسلت متسائلة:
_ مش مخطوبة؟ أصل مش شايفة في إيديها دبلة

زمت ميمي شفتيها مستاءة ورددت بحـ.ـز.ن وهي تتذكر المرات التي حاولت بها إقناع يوسف بخطبتها:
_ بيجيلها كتير والله يا شهيرة وبترفض كله، ربنا يبعت لها نصيبها يارب

آمنت شهيرة على دعائها وهي بالكاد تخفي ابتسامتها:
_ آمين يارب آمين

استأذنت منها وابتعدت عنها لترحب بالحضور جميعاً، بينما انشغلت ميمي في مشاهدة لينة وابتسامتها لم تختفي قط على تصرفاتها العفوية، وكانت تتناول بعض الأحاديث من حين لآخر مع إيمان.

انتهت الحفلة في وقت متأخر فاستأذنت ميمي ومن معها في الذهاب، شكرتهم شهيرة على الحضور ثم انحنت على أذن ميمي وهمست لها:
_ استني يا ميمي لما أجيب لك تمن المفارش

أسرعت ميمي بالرفض بذوق:
_ خليهم الوقتي يا حبيبتي، أنا مش مستعجلة عليهم، أنتوا في أيام محتاجين فيها كل جنيه

ردت عليها شهيرة ممتنة لذوقها البالغ:
_ الخير كتير يا ميمي الحمدلله ودا حقك ولازم تاخديه، استني هرجع على طول

أولاتها شهيرة ظهرها وأدلفت بخطاها نحو غرفة نومها، التقطت مطوية ورقية من أحد الأدراج ثم عادت بها إلى ميمي التي دعت لها بالبركة وإتمام الزيجة ثم غادرت.

تحدثت إيمان فور وصولهم إلى الطريق:
_ أنا هروح بقى يا عمتو عشان الوقت أتأخر وبابا رن عليا

أبدت ميمي رفضها بلهفة:
_ لا لا استنى بس نشوف يوسف فين يروحك، متمشيش متأخر كدا لوحدك

كادت إيمان أن تعترض إلا أن ميمي تدخلت بإصرار:
_ مش هسيبك تمشي لوحدك

صعدن الأدراج معاً إلى أن وصلا إلى الشقة، فتحت ميمي الباب وولجت للمنزل، تابعتها إيمان ولينة التي عقدت ما بين حاجبيها بغرابة حين وقع بصرها على مصباح غرفتها المنير.

اتجهت بخطاها ناحية غرفتها وهي تتسائل بغرابة:
_ مين اللي منور أوضتي؟

أصدرت صرخة قوية حين وقفت أمام باب غرفتها فهرولن الأخريات إليها مذعورات، اتسعت حدقتي إيمان وطالعت الداخل بصدmة جلية حلت على وجهها حين رأت...
لم تقف مكانها وهرولت إلى الداخل بسعادة عامرة حين رأت يوسف يقف على سُلم خشبي، وبيده فرشاة ويقوم بطلاء الجدار باللون الأبيض تماماً كما أخبرته.

وقفت لينة تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها، فالسعادة لا تسعها، هللت عالياً بسعادة واضحة:
_ أنت، أنت بتعمل إيه؟

مررت أنظارها على الغرفة ثم عادت إليه وتابعت أسئلتها بحماس شـ.ـديد:
_ أنت وديت الأوضة فين؟

أجابها يوسف بعد أن مسح حبات عرقه التي تجمعت على جبينه:
_ الأوضة بتدهن، مش كنتي عايزاها بينك باين؟!

غمز إليها بعينيه فصاحت الأخرى بفرحة عارمة:
_ أنت أحلى يوسف في الدنيا كلها

هبط يوسف درجات السُلم وردد وهو يعيد الفرشاة في الدلو المليء بالطلاء:
_ ممم ماشي يا غلباوية، ها هي دي الدرجة اللي أنتِ عايزاها، كنت بجرب على الحيطة على لما ترجعي

شكلت لينة بسمة عريضة على ثغرها الوردي الصغير وطالعت الحائط بلهفة وقالت:
_ حلو أوي كدا

أماء لها يوسف بتفهم ثم عزم على البدء على الفور:
_استعنا على الشقى بالله

وقعت عينيه على إيمان التى تحاول إخفاء غيظها لكنها كانت محاولة فاشلة، حمحم وطالعها ببرودٍ وسألها قائلاً:
_ إيه رأيك يا إيمان في اللون؟

بعد وقت طال أجابته مختصرة:
_ حلو..

تدخلت السيدة ميمي ملقية حديثها بتلقائية عابثة:
_ وكان إيه لزومه ما كانت الأوضة حلوة يا يوسف

نظر يوسف إلى لينة وأردف بثقة:
_ ست لينة تؤمر، وإحنا ننفذ على طول

ابتسمت ميمي بفرحة وتمتمت بنبرة حنونة:
_ ربنا يخليك ليها ولينا يارب

لم تتحمل إيمان الوقوف لأكثر وسماع تراهات سخيفة وبنبرة تسيطر عليها الغيرة قالت:
_ أنا مروحة يا عمتو عايزة حاجة

كادت ميمي أن تدعو يوسف لتوصليها إلا أنه لحق بها وتحدث هو:
_ زياد مستنيكي تحت يا إيمان هيوصلك

رمقته ميمي بنظرات معاتبه وهي تزم شفتيها بعدm إعجاب، فكم ودت لو ينفردا ببعضهما البعض لربما يحدث ما يتمناه قلبها، أولاتهما ظهرها ثم تبعت إيمان إلى الخارج وودعتها قائلة:
_ سلمي على رمضان وهادية وأسامة

"الله يسلمك يا عمتو، تصحبي على خير"
هتفت بهم إيمان مجيبة عمتها ثم غادرت بينما عادت ميمي
إلى غرفتها لكي تبدل ثيابها.

كان يوسف يقف حائراً يطالع الجدران، يقرر بأي جهة يبدأ، لم يشعر بتلك العينين التي لم تُرفع من عليه، تطالع ذراعيه الذي يستند بهما على خصره، رافعاً أكمام قميصه للأعلى، تحدق ببنيان جسده التي بات أكثر جاذبية منذ ظهور تلك العضلات البـ.ـارزة من أسفل قميصه، ناهيك عن خصلاته المرتبة بشكل يجعله وسيماً، لم هناك أثراً لذاك اليوسف التي تعرفت عليه منذ سنوات، لقد بات رجلاً مختلفً في شكله وطباعه، لكن مالم يتغير إلى الآن طريقة تعامله معها، وكأنها أميرة كما ادعى مسبقاً.

لم يرفض لها طلباً قط، يؤجل ما يحتاجه الجميع لوقت يراه مناسباً لفعل تلك الحاجة، إلا لها فقط قبل أن تشير بإصبعها يهرول مجيباً لطالباتها.

انتبهت عليه وهو يستدير بجسده نحوها، فحاولت أن تبدوا طبيعية، حمحم هو وردد:
_ هتنامي اليومين دول مع ماما ميمي على لما الأوضة تدهن وتيجي

أومأت له بقبول ثم تابع وهو يشير بأنظاره إلى الخارج:
_ يلا روحي شوفي أنتِ رايحة فين، عايز أخلص الأوضة دي

لم تعقب وتركته بمفرده، صعد يوسف الأدراج مرة أخرى ليواصل عمله حتى ينتهي منه قبل بزوغ الفجر، تفاجئ بعودتها إليه بعد تبديلها الثياب، والأحر أنها صعدت للجانب المقابل له من السُلم، أسرع هو في رفض وجودها عليه خشية أن تفقد توازنها:
_ لينة انزلي وسبيني أخلص

هزت رأسها برفض تام وبإصرار يتوهج في عينيها هدرت:
_ أنا هدهن معاك، عشان ننجز ونخلص أسرع

ابدى رفضه مستاءً:
_لا يا لينة لو سمحتي انزلي، اتنين على السلم ممكن حد يقع وطبعاً سهل إنك أنتِ اللي تقعي عشان أضعف، عايزة تقعدي هاتي كرسي واقعدي بس متخلنيش مشغول بيكي، كدا مش هننجز ولا حاجة

قلبت عينيها شاعرة بمدى مبالغته بالأمر، وضعت كلتى يديها في خصرها وتراجعت للخلف بحركة عفوية ودون أن تشعر انزلقت قدmيها، صرخت بخوف عارم لولا أن لحق بها يوسف وحاوط خصرها بيمناه وباليد الأخرى أمسك الجدار لكي لا يحدث خلل في توازنه ويسقط هو الآخر.

تمسكت لينة في ياقة قميصه خشية السقوط، أعادها إلى وضعها فكان الوضع مريباً بعض الشيء، فهي باتت بين أحضانه لا يفرقهما سوى خشبة السُلم الفاصلة بين أدراجه، شعر يوسف بتلك الرجفة التي سرت في أوصاله، تقابلت أعينهم سوياً فراوده شعور مختلف لم يذقه من قبل.

أنتبه لذاك الوضع الذي باتوا عليه، فسحب يده بهدوء من حول خصرها وهرب بعينيه بعيداً عنها حيث أولاها ظهره، وأردف كلمـ.ـا.ته بصوت متحشرج:
_ قولتلك انزلي، مبتسمعيش الكلام!

لم تطيل في عنادها فهي بحاجة للهروب من تلك الغرفة، توخت أدراج السُلم بحذر، ورددت بخفوت:
_ أنا هنام

لم تنتظر إجابته وانطلقت مسرعة إلى الخارج، ومنه إلى المرحاض، تريد الانفراد بذاتها قليلاً، وقفت تستنشق الصعداء ما أن أوصدت بابها، رفعت يدها ووضعتها على يسار صدرها فلمست تلك النبضات العنيفة، لم يسبق وأن تعرضت لذلك الموقف من قبل.

وكذلك يوسف لم يكن في حالة يرثى لها، فكان تجتاحه مشاعر لم يستطع تفسيرها هو، تأفف بضيق فلم يستطيع مواصلة ما يفعله، استقام في وقفته وأوصد عينيه للحظات يضبط بها أنفاسه المضطربة ثم ردد داخله:
_ يلا عشان تخلص قبل الفجر..

استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم عاد ليواصل عمله، بينما عادت لينا إلى غرفة السيدة ميمي على أمل أن تغفو سريعاً ولا تدع فرصة لأفكارها بالسيطرة على عقلها، لكن هيهات لضعف قدرتها أمام تلك الأفكار اللعينة حتماً لن تتركها وشأنها.

***

مر ما يقرب الساعة حتى انتهى يوسف من طلاء جدران الغرفة، فكانت صغيرة المساحة وهذا ما ساعده على الإنتهاء في وقت قياسي، خرج من الغرفة وهو يشم رائحة عرقه التي تخللت أنفه، كاد أن يولج للاستحمام إلا أنه توقف حين رأى الباب يفتح.

كز أسنانه بضيق وانتظر قدوم أخيه إليه حتى ينفجر به، ولج زياد المنزل وهو يهاتف أحدهم، أنهى المكالمة فور رؤيته ليوسف قائلاً:
_ ماشي خلاص بكرة نكمل في المعهد، أنا تعبت النهاردة ومعتش شايف قدامي، أقول إيه بس في اللي دبسني في المعهد دا، يلا سلام

عقد يوسف ذراعيه وسأله بنبرة مرهقة:
_ كنت فين؟

أسرع زياد في الإيجاب على سؤاله بلهفة:
ما أنت سامعني وأنا بتكلم، كنت بذاكر مع صحابي لما معتش _ شايف قدامي

بهدوء يتخلله التحذير أردف يوسف:
_ كلها شهرين ونشوف التأخير دا سببه المعهد فعلاً ولا حاجة تانية

_ أولاه ظهره وتقدm بخطاه نحو المرحاض فبادر زياد بسؤاله:
_ إيه ريحة الدهان دي؟

باختصار يشوبه الجمود أجاب:
_ كنت بدهن أوضة لينة

اختفى جسده خلف باب المرحاض، تبعه زياد وألقى بأذنيه على الباب، استمع إلى صوت مياه الصنبور فتأكد من عدm خروج يوسف على الفور

أسرع بخطاه إلى غرفتهما وأعاد وضع هاتفه على أذنه فهو لم ينهي المكالمة بعد، وردد وعينيه مصوبتان على الباب يراقب بهما طيف يوسف إن ظهر أمامه:
_ إيه يا قلبي، كنا بنقول إيه؟

***

في الصباح، استيقظ يوسف باكراً، وصنع له فنجان من القهوة ثم عاد لغرفته، استعار إحدى الروايات من مكتبته الصغيرة وجلس على أريكته المتحركة التي قام بشرائها مؤخراً، تسللت أشعة الشمس من النافذة وانعكست على يديه الممسكة بالكتاب فأضاءت له كلمـ.ـا.ت الرواية.

ظل يرتشف ويقرأ حتى شعر باكتفاء حاجته من القراءة، أعاد وضعها إلى المكتبة وخرج من الغرفة بعدmا ارتدى جلبابه ناصعة البياض استعداداً لصلاة الجمعة.

في تلك الأثناء، خرجت لينة من الغرفة هي الأخرى وألقت عليه التحية قائلة:
_ صباح الخير، خلصت امتى امبـ.ـارح

أجابها وهو يحاول أن يتلاشي ما حظي البـ.ـارحة:
_ صباح النور، مختش وقت طويل

أماءت له ثم سألته بفضول:
_ نسيت أسألك امبـ.ـارح، هي الأوضة راحت فين؟

استند بمرفقه على الحائط وهتف مجيباً إياها:
_ لا سألتي وقولتلك مش كنتي عايزة لونها pink باين!!

بحماس شـ.ـديد أظهرت ابتسامتها وهللت في سعادة:
_ آه سوري نسيت، أنا مش مصدقة بجد، مكنتش أعرف إنك أخدت بالك من التفاصيل دي؟

صدح صوت القرآن في المآذن، استقام يوسف في وقفته وقال بصوته الأجش:
_ نتكلم بعدين، أنا نازل

أماءت له دون تعقيب، مر بجانبها حتى تخطاها بعدة خطوات ثم استدار إليها فوقعت أنظاره على جسدها الذي شعر بتغيره الواضح، كأنه سمِن قليلاً عن ذي قبل، حمحم وحاول النظر إلى وجهها متسائلاً:
_ هي ميمي فين؟

أجابته مختصرة:
_ بتقطف ملوخية، هناكل النهاردة ملوخية بأرانب

هز رأسه ثم تابع سيره إلى الخارج وما رآه لا يريد الإقلاع عن عقله، ظل يستغفر ربه داخله لعله يتناسى الأمر.

أدى صلاة الجمعة بعد سماعه الخُطبة، تعجب من عدm ظهور بلال في الأرجاء فلم يفوت صلاة جمعة من قبل، خرج من المسجد يصافح الجميع ببشاشة وجه ثم ابتعد عن المسجد عدة أقدام وهاتف صديقه ليطمئن عليه:
_ أنت مجتش تصلي ليه؟

أجابه الآخر وهو يبتعد عن تلك الضجة:
أنا في الفندق يابني، العيلة الطويلة العريضة دي كلها مفيهاش غيري، وصاحبك متمرمط مرمطة محدش اتمرمطها قبل كدا، روح هات خالتك، لأ روح هات عمتك، صحابي يا بلال روح جيبهم، بنت بنت خالي جاية روح استقبلها، لأ بنت بنت عمي ست كبيرة ولازم تساعدها، أنا طهقت طلب كمان وهطلع من هدومي

قهقه يوسف عالياً ثم عاتبه بلطف:
_ مكلمتنيش ليه؟

لم يصل بلال إلى إجابة بعد فردد بملل يشوبه نفاذ الصبر:
_ مش عارف بقى مجتش في دmاغي، يمكن عشان مفيش وقت أفكر أصلاً

دون تفكير مد يوسف يد المساعدة بحسم للأمر:
_ هطلع أغير واجيلك، قولي اسم الفندق إيه؟

أخبره بلال عن إسم الفندق بينما أغلق يوسف الهاتف وعاد إلى المنزل، قابل أخيه بعبوس وبنبرة جـ.ـا.مدة هاجمه:
_ منزلتش تصلي الجمعة ليه؟

ببرودٍ وعدm اكتراث أجابه:
_ راحت عليا نومة

هز يوسف رأسه فلم يتفاجئ، هذا الرد المتوقع منه، تنهد ثم حاول كبح جماح غضبه الذي لو ثار لن يهدأ قبل أن يقلب المنزل رأساً على عقب:
_ قولتلك ١٠٠ مرة قبل كدا إلا الصلاة يا زياد، ممكن أتهاون عن أي حاجة إلا الصلاة، دي أول حاجة ربنا هيسألك عنها وأنت واقف قدامه، هتتسئل عن كل صلاة لوحدها، لما تتسأل مصلتش الجمعة ليه هتقوله راحت عليا نومة؟

ارتاب زياد لمجرد تخيله وقوفه أمام ربه وهو لا يعلم طريق للإجابة على سؤاله، ابتلع ريقه ولم يبدي عناده في تلك المسألة وأردف بنبرة مهذبة:
_ إن شاء الله تبقى آخر مرة

"يارب"
دعى يوسف متمنياً أن يصدق تلك المرة وتكون الأخيرة، تنهد ثم قال بنبرة هادئة عن ذي قبل:
_ يلا اتفضل روح صلي الضهر

رفع زياد كفه عند رأسه كأنه تلقى الأمر من أحد الضباط مجيباً إياه بانضباط مبالغ:
_ تمام يا فنـ.ـد.م

نجح في اضحاك يوسف الذي لكزه في كتفه بقوة فآنة الاخر بألم وردد معاتباً وهو يوليه ظهره:
_ آه إيدك جـ.ـا.مدة، جيم بقى وعضلات يلا الله يسهلك

أسرع زياد من خطاه إلى الداخل حين رأى اقتراب يوسف منه، تقابل مع عصفورة المنزل في الممر الذي يفصل بين الغرف وهي تغرد كعادتها، بينما استند يوسف على جدار غرفتها يستمع إليها باهتمام:
ولمّا تلاقينا على سفح رامة
وجدت بنان العامرية أحمرا
فقلت خضبت الكف على فراقنا
قالت معاذ الله ذلك ما جرى
ولكنني لما وجدتك راحلاً
بكيت دmاً حتى بللت به الثرى
مسحت بأطراف البنان مدامعي
فصار خضاباً في اليدين كما ترى

اعتدل يوسف في وقفته وردد ممازحاً إياها:
_ نفسي أعرف إيه حبك في الأغاني اللي مش مفهومة دي؟
في حد يسمع أغاني بالفصحى؟
بتستمتعي ازاي؟

أجابته بنبرة مليئة بالشغف تجاه ذلك النوع من الأغاني:
_ دي أحلى حاجة أصلاً، الكلمـ.ـا.ت كدا بتدخل على القلب عدل، وبعدين كفاية إن محمد عبد الرحمن اللي بيغنيهم دا يخليني أحبهم حتى لو مش دا لوني

رفع يوسف حاجبيه بعدm تصديق وسألها قائلاً:
_ للدرجة دي بتحبيه؟

أخرجت لينة تنهيدة مطولة ثم استندت بذراعها على الجدار وأسبلت عينيها في عيناي يوسف وأجابته بنبرة رقيقة ناعمة:
_ دا أنا واقعه في حبه..

شعر يوسف بشيء غريب حينها، فقط أخبرته بمدى حبها لذاك الرجل فلم تشعر ماذا فعلت به، لا يعلم ماذا يحدث الآن داخله، لا يستطيع وصف ذلك الشعور الغريب، أطال النظر إليها لعله يفهم ماذا يجري لكنه لم يصل إلى شيء.

قطع عليه محاولاته البائسة في فهم حالته، صوت أخيه الذي يغني بصوت عالٍ لحظة خروجه من المرحاض:
_ ناس مني ومن دmي
محدش فيهم شال همي
محدش كان خيره عليا

صرخ عالياً وهو يتابع غنائه المنفر:
_ فين خالي وفين عمي

انفجرت لينة ضاحكة على تصرفاته الحمقاء، كان يلوح بيديه في الهواء تحت مسمى الرقص، حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفاته الخرقاء، وعلى الرغم من مدى استيائه بما يحدث لم يستطيع منع ضحكته التي رُسمت على شفتيه.

صاحت لينة متسائلة بفضول وهي تنظر إلى يوسف:
_ متقولش إن الأغاني دي اللي بتعجبك؟

أسرع يوسف في نفي حبه لذاك النوع من الأغاني موضحاً:
_ لأ طبعاً، الأغاني اللي تستمتعي وأنتِ بتسمعيها زي أم كلثوم، وردة، نجاة، عبد الحليم، محمد عبد الوهاب كدا يعني

أؤمـ.ـا.ت لينة بتفهم بينما رفع زياد شفتيه العليا باستهزاء وقال:
_ أم كلثوم إيه وعبد الحليم إيه، دا أنا بنام والأغنية لسه مبدأتش

نهره يوسف باقتضاب:
_ أنت بتفهم حاجة أنت، خليك في رضا البحراوي وعصام حاحا بتوعك

أولاهما زياد ظهره وواصل غنائه أو ربما صراخه:
_ أنا مش مرتاح، أنا كل مشاعري وأحاسيسي مليانة جراح.....

وضع يوسف راحة يده على وجهه بتهكم، فلن يتغير ذلك الصبي المراهق، يتسائل متى ستنتهي فترة مراهقته تلك، لقد طالت أكثر من المعتاد، انتبه على صوت والدته التي وجهت حديثها لهما:
_ الغدا خلص يا ولاد تعالوا عشان تأكلوا أنتوا مفطرتوش

رفض يوسف بلطافة فلا يريد أن يتأخر عن صديقه أكثر من ذلك، لقد وعده بالقدوم إليه ومساعدته:
_ معلش يا أمي كلوا أنتوا أنا لازم أغير وأروح لبلال بسرعة، محتاجني معاه النهاردة، هبقى أجيب أي حاجة أكلها

تذمرت ميمي وهتفت بنبرة غير راضية:
_ مش هيحصل حاجة لو اتاخرت عشر دقايق يا يوسف أنت مش هتقعد تاكل لنص اليوم

أوضح لها بكلمـ.ـا.ت لطيفة:
_ أنا أصلا متأخر بسبب ابنك ورغي لينة اللي مش بيخلص، معلش بقى كلوا أنتوا

أسرع خطواته نحو غرفته حتى لا يواجه ضغط آخر، بدل ثيابه سريعاً ثم خرج ونظر إلى ثلاثتهم وهم يلتفون حول المائدة، ودعهم وكاد أن يغادر المنزل إلا أن سؤال لينة قد أوقفه:
_ أنت رايح لبلال فين؟

أجابها بنبرة سريعة وهو يرتدي حذائه:
_ في الفندق، العروسة حاجزة هناك

صرخت لين عالياً مما سببت الذعر في قلوب الجميع:
_ واو، نفسي أحضر فرح كدا أوي

"نبقى نعملك فرحك كدا إن شاء الله"
بإختصار ردد يوسف ثم أغلق الباب وهبط درجات السُلم سريعاً ومنه إلى سيارته ثم إلى الفندق المقصود.

كان الذراع اليمين لبلال، شاركه نصف المسؤولية التي وقعت على عاتقه اليوم، فباتت أسهل بوجوده، انتهوا مما يفعلاه في وقت متأخر، استند يوسف على سيارته وقد شعر بالجوع الشـ.ـديد لدرجة أنه سمع صوت بطنه التي تتوسله أن يطعمها.

نظر إلى بلال وأردف بخفوت:
_ أنا جعان مأكلتش حاجة من الصبح

رد عليه بلال بصوت يكاد يُسمع:
_ والله وأنا، تعالى ندخل نتغدى، المطعم هنا اوبن بوفيه يعني مش هنستنى أكل يتحضر

ضغط يوسف على زر إغلاق في مفتاح السيارة وهرول إلى المطعم فتبعه بلال وهو يقهقه على ركضه الغير متوقع، دخلا كليهما المطعم وبدأ في وضع كميات كبيرة من الطعام في الصحن الذي بيدهم ثم جلسَ ليتناولا بشراهة.

أنهى يوسف طعامه كاملاً، شعر باكتفائه التام من الطعام اليوم، عاد بظهره إلى الخلف وقال وهو يمرر يُمناه على بطنه:
_ أأأه أنا كلت لسنة قدام

ضحك الآخر على داعبته، ثم رفع يده ليتفحص ساعة يده، شرق حين رأى أنهما متأخران عن ميعادهم، ساعده يوسف على ارتشاف القليل من الماء، نهض بلال عن كرسيه حين شعر أنه في حال أفضل الآن، حث يوسف على النهوض بقوله:
_ قوم يابني اتأخرنا

سأله يوسف وهو يسحب هاتفه:
_ على فين؟

أجابه وهو يواصل هرولته إلى الخارج:
_ حاجز أوضة، يعني بعد المرمطة دي ومحجزش ليا أوضة كمان

تذمجر يوسف وعاتبه قائلاً:
_ مقولتش ليه؟ أنا مجبتش هدومي

توقف بلال عن السير فجاءة فارتطم به يوسف، التفت إليه وردد مستاءً:
_ بتهزر يا يوسف!!

صاح الآخر به شزراً:
_ وأنت كنت قولت يعني يا بلال؟!

تأفف بلال بصوت مسموع، حاول يوسف تهدئة الأجواء التي انعكست عليهم بالسلب، فهذا ليس بوقت جدالهم الأخرق، زفر أنفاسه وأردف حاسماً للأمر:
_ خلاص أنا هرجع أنا وألبس في البيت وأبقى أحصلك

لم يكن هناك مجالاً للرفض، أماء له بلال بقبول ثم سار كليهما في طرقات مختلفة، عاد يوسف إلى المنزل فاستقبلته والدته بوجه بشوش:
_ أهلاً يا حبيبي

جاءته لينة راكضة فتفاجئ يوسف بكم الأسئلة التي سألتها دفعة واحدة:
_ عملت إيه؟ الفندق شكله إيه؟ عملوا الفريست لوك ولا لأ؟ ولو أه العريس كان رد فعله ايه لما شافها؟

قاطعها يوسف حينما لم تتوقف عن السؤال عن أشياء يجهلها:
_ حيلك حيلك، أنا مدخلتش الفندق أصلاً دا أنا حتى دخلت المطعم الخارجي عشان آكل

لوت شفتيها مستاءة لأنها لم تخرج باجابات ترضي فضولها، قلب يوسف عينيه ثم مرر أنظاره عليهن حين لاحظ عدm استعدادهن بعد وصاح متزمجراً:
_ أنتوا لسه ملبستوش؟!
بتهزروا بجد، أنا هدخل ألبس تكونوا خلصتوا عشان نمشي، لازم أكون مع بلال من بدري

اتجه ناحية غرفته وقام بطرد أخيه منها لكي يبدل ثيابه، ارتدى قميصاً أبيض اللون يعلوه سترة لونها زيتي، وبنطال ذو اللون البيج، وحذاء رملي قاتم

كذلك لم ينسى ساعة يده الذهبية، ومن ثم نثر عطره ذو الرائحة الذكية على سترته، مشط شعره حتى بات بصورة جذابة مثيرة.

تراجع خطوتين للخلف لتظهر هيئته كاملة أمام المرآة، ألقى نظرة سريعة على صورته المنعكسة، شعر بالرضاء التام بمظهره الوسيم.

استدار بجسده والتقط مفاتيح سيارته وهاتفه الذي صدح رنينه فور سحبه من على الفراش، كان بلال من يهاتفه، أجابه بنبرة رخيمة:
_ إيه يا بلال أنا خلصت ونازل

"تمام إحنا مشينا ورايحين على لوكيشين التصوير حصلنا على هناك"
هتف بهم بلال أثناء خروج يوسف من غرفته، تقابل مع لينة التي خرجت للتو من غرفة السيدة ميمي، لم يستطيع إشاحة نظره على تلك الطلة المميزة، ابتسمت لينة بحياء حين رأت عينيه يحدجان بها، دارت حول نفسها فحلق فستانها الزيتي في الهواء ظاهراً حذائها ذو الكعب المرتفع الذي يتماشى لونه مع لون حجابها الرملي القاتم.

تنهدت ثم سألته متلهفة لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟

"أنت يابني روحت فين كدا؟"
أنتبه يوسف على سؤال بلال الذي مازال هناك على الخط، حمحم واسترسل ونظراته مازالت عليها:
_ لا سلام أنت يا بلال دلوقتي

أغلق الهاتف قبل أن يسمع رد الآخر الذي تعجب من حالته المفاجئة، بينما قهقهت لينة عالياً وأردفت من بين ضحكاتها:
_ قفلت في وشه..

اقترب خطوات بسيطة منها وهتف مبدياً إعجابه:
_ سيبك منه، أنتِ مطقمة معايا؟!!

تصنعت لينة الذهول، ووجهت نظريها على ثيابه كأنها لم تلاحظها وهتفت بدهشة زائفة:
_ إيه دا مختش بالي، دا نفس الألوان بالظبط!!

ضاق يوسف بعينيه عليها فلم يصدق أنها لا علم لها أنه سيرتدي ثيابه تلك، أسرعت لينة نافية ما يدور في عقله بقولها:
_ وأنا أعرف منين يعني إنك هتلبس الألوان دي؟

ظهرت السيدة ميمي من خلف باب غرفتها وهي تقول بنبرة لاهثة:
_ أنا خلصت ياولاد

طالعت نقطة ما في قميص يوسف ثم عادت بنظريها على لينة قائلة:
_ مكوتيش الياقة كويس ليه يا لينة؟

صعقت لينة مما تفوهت به ميمي للتو وطالعتها بأعين جاحظة بينما حاول يوسف حشر أنفاسه داخله لكنه فشل وانفجر ضاحكاً، لم تتجرأ لينة على مواجهته بعد فضح أمرها، هـ.ـر.بت من بينهما معللة ذهابها:
_ هكلم شهد صحبتي أشوفها مشيت ولا لسه

هرولت إلى الخارج دون أن تلتفت بينما تمتمت ميمي متعجبة من شأنها:
_ مالها دي، أنا قولت حاجة غلط؟

نفى يوسف بإيماءة من رأسه ومازالت ابتسامته لم تختفى من على شفتيه، تعجبت ميمي أيضا من ضحكه دون سبب وسألته مستفسرة:
_ أنت مالك بتضحك على إيه؟

حاول يوسف إلهاء عقلها بعيداً عن مجرى حوراهما بقوله:
_ مفيش يا أمي

تلفت ينظر من حوله وتسائل بفضول:
_ هو زياد فين؟

أجابته وهي تضع حقيبتها على كتفها:
_ زياد سبق هو وقال إنه هيروح مع صحابه

اومأ لها يوسف بتفهم ثم انطلق إلى الخارج ولم يستطيع المرور بجوار لينة دون ضوع بصمته فقال وهو يطالعها ووجهه يبتسم بمكر:
_ ها شهد راحت ولا لسه؟

أجابته دون أن تنظر إلى عينيه من شـ.ـدة خجلها:
_ لا لسه..

حرك رأسه قبل أن يردف:
_ تمام يلا بينا لو جاهزين

نزل ثلاثتهم خلف بعضهم، ثم استقلوا السيارة، انطلق بهم يوسف الذي أنتبه لحديث والدته:
_ هنروح نجيب إيمان الأول

" إيمان!!"
نطق بإسمها يوسف وهو يدعس على فرامل السيارة، التي أصدرت حكة شـ.ـديدة إثر وقوفها المفاجئ الذي سبب الذعر لكلتاهن

استدار يوسف بجسده ناحية والدته وصاح بنبرة غاضبة:
_ أنتِ برده يا أمي مُصرة تـ..

قاطعته ميمي بتوضيحها لسوء الفهم الحادث:
_ أم بلال شافتها لما كانت عندي وعزمتها، أنا مقولتش حاجة..

نفخ يوسف بصوت مسموع، خبط يديه على الطارة بعصبية واضحة ثم دعس على المحرك مرة أخرى وتحرك بالسيارة متجهاً إلى منزل خاله.

وصل إلى الحي الذي يسكن به خاله، صف السيارة أسفل البناية وردد بإقتضاب:
_ كلميها استعجليها عشان متأخرين

"حاضر"
أردفتها السيدة ميمي ثم سحبت هاتفها وكادت أن تهاتف إيمان لكنها توقفت حين رأتها تقترب منهم، شكلت بسمة على ثغرها وكذلك بادلتها الآخرى ثم استقلت بجانب لينة، رحبت بهم إيمان بحميمية ثم انتبهت على كلمـ.ـا.ت لينة اللطيفة:
_ الدريس بتاعك جميل جداً

شكرتها ممتنة:
_ شكراً، دي عيونك الجميلة، الدريس بتاعك حلو برده بس ليه مختارة لون غامق كدا مغمق بشرتك؟!

تفاجئت لينة بردها الوقح بينما تولى يوسف مهمة الرد عليها بعدmا أعدل المرأة على وجهها مباشرةً:
_ تقريباً أنتِ محتاجة نضارة يا إيمان!!

كان رداً أفحم إيمان ولم تجرأ على التعقيب من فرط صدmتها المختلطة بالخجل، طالعته والدته بغضب ثم حمحمت لكي يصلح ما اقترفه في حقها، بادلها يوسف النظرات وبنبرة غير مبالية أردف:
_ مش كان خالي قال حاجة زي كدا تقريباً؟! كنت بسأل يعني هتعملها امتى؟

أعاد يوسف أنظاره في المرآة ليرى وجه إيمان الذي أسود من كظم غيظها وتابع متسائلاً:
_ ها هتعمليها امتى؟

حمحمت إيمان بحرج بائن ثم رفعت بصرها على المرآة ذاتها لترى عينيه التي تطالعها، وبصوت متحشرج أجابته بهدوء:
_ أنا مش محتاجة الحمدلله، يمكن أنت فهمت غلط ولا حاجة

حرك يؤسف رأسه بعدة إيماءات وهو يتمتم:
ممم يمكن كان يقصد أسامة بقى..

أسندت لينة رأسها على نافذتها الزجاجية ولم تمنع تشكل ضحكتها السعيدة على شفتيها الوردية اللامعة، لم ترى عينيه التي ابتسمت تلقائية فور رؤيته بإبتسامتها.

ساد الصمت بين الجميع حتى وصلا إلى المكان المقام به حفل الزفاف، صف يوسف السيارة في أحد الأماكن الخالية وكان هذا يبعد عن مكان الحفل عدة أمتار قليلة لعدm وجود مكان خالٍ بالقرب من مكان الزفاف.

تقدm يوسف أولاً لكي يأمن لهم الطريق لكي لا تؤذيهم أي سيارة قد تمر بسرعة عالية، انتبهت لينة على اكسسوارها الذهبي الذي لم يكن في يدها كما وضعت، توقفت عن السير في منتصف الطريق ونظرت خلفها باحثة عن اكسسوارها ولم تلاحظ تلك السيارة التي تقود نحوها بسرعة فائقة

لم يراها أحد سوى يوسف الذي كان يتابع مرورهن من خلفه من حين لآخر كلما تخطى مسافة بسيطة، لم يشعر بقدmيه التي أعادته إليها ثم لَقِفها بين ذراعيها مبعداً إياها عن السيارة التي شعر بحكتها في جانبه الأيمن.

صرخت السيدة ميمي بذعر شـ.ـديد حين رأت احتكاك السيارة بيوسف، هرولت نحوه راكضة وكذلك تبعتها إيمان بتوجس شـ.ـديد خشية مكروه قد أصابه.

أوقف السائق السيارة وترجل منها ثم هرول نحوهم ليتأكد من أنه لم يصيب أحدهما بسوء، وسألهم بنبرة لاهثة:
_ أنتوا كويسين، حد حصله حاجة، أنا بجد متأسف بس هي وقفت قدامي فجاءة و...

فشل في مواصلة حديثه فلم يكن هناك كلمـ.ـا.ت قد يقولها يمكنها أن تشفع له، أزاح يوسف يديه من على لينة التي تجمدت مكانها وكأنها باتت كالحجارة لا تنطق ولا تتحرك، حدجها بخوف وسألها بنبرة مهزوزة:
_ أنتِ كويسة

لم تجيبه من صدmتها التي لم تخرج منها بعد، أحاطها يوسف بيديه وهو يردد:
_ امشي نرجع العربية..

بصعوبة بالغة قابلتها لينة حركت قدmيها ببطئ شـ.ـديد حتى وصلا جميعهم إلى السيارة، فتح يوسف الباب الخلف لها وساعدها على الجلوس، ثم جلس القرفصاء أمامها، يريد الإطمئنان عليها فحسب، فسألها بهدوء:
_ خلاص مفيش حاجة حصلت، أنتِ كويسة

جذب انتباهه يديها المرتجفة فأعاد النظر إليها ليطمئنها مرة أخرى:
_ الموضوع عدى يا لينة خلاص اهدي

ازدادت رجفة يديها فصاحت ميمي بخوف:
_ أصل تكون دي الحالة اللي بتجيلها يا يوسف

فكانت تأتيها حالة من عدm الإستيعاب لبضعة ثوانِ ولا تصغي لما يقال من حولها، لقد اكتشفوا هذا الوضع بعد سفر تؤامها مباشرةً كلما حـ.ـز.نت، وعملوا كثيراً على إنسائه لها لكنه دوماً يعود إليها في أوقاتها الأكثر خوفاً وحـ.ـز.ناً، التفت يوسف برأسه وطالع والدته لبرهة ثم عاد بنظره إلى لينا التي باتت رجفة جسدها واضحة للجميع، حاول أن يهدئ من روعه ثم أمسك بكلتى يديها وربت عليهم بقوة وهتف:
_ لينة، أنا هنا محصلش حاجة، بصيلي يا لينة

بعد محاولات كثيرة من يوسف حركت لينة بؤبؤتيها عليه فابتسم هو لها، ثم هتفت ميمي متسائلة بتوجس:
_ أنتِ كويسة يا لينة، نوديكي المستشفى؟

حركت لينة رأسها رافضة وقالت بنبرة تكاد تُسمع:
_ لأ، أنا كويسة..

أخفضت بصرها على ذلك الجالس أمامها وطالعته بأعين لامعة، انتبهت تلك يديه التي تحتضن يديها الصغيرة فلم تمنع إبتسامتها من التسلل والرسوم على ثغرها ثم شـ.ـدت على يده ممتنة لوجوده.

قطعت إيمان تلك اللحظة الحميمة التي أشعلت نيران الغيرة داخلها بهتافها الغاضب:
_ مش فاهمة أنتِ إزاي تجازفي بحياتك وحياة يوسف بالشكل دا، كنتي بتفك....

هاجمها يوسف معنفاً إياها بعدmا سحب يديه واستقام في وقفته:
_ خلاص..

لم تصمت إيمان تلك المرة، يكفى سخافة إلى هذا الحد، فتابعت هتافها بتذمر:
_ لا مش خلاص، أنت كان ممكن يحصلك...

قاطعها للمرة الثانية بنبرته المنفعلة:
_ لما أقول خلاص يبقى خلاص، متدخليش أنتِ

طالعها بوجه عابس يحوي من الغضب قدراً، لم تتحمل إيمان نظراته وإهانته فهي لا تريد نظرات غاضبة كتلك وأخرى بـ.ـاردة كأسلوبه معها، أولاتهم ظهرها وعادت حيث جائت فانهالت والدته عليه بالكلمـ.ـا.ت المعاتبة:
_ والله عيب تكلمها كدا قدامنا، مش فاهمة أنت بتعامل البنت دي كدا ليه، يا أخي دا حتى هي بنت خالك مش من الشارع!!

وقعت كلمـ.ـا.ت ميمي على آذان لينة كالصاعقة، رفعت لينة رأسها وطالعتها بأعين مصدومة، تكاد تجزم أنها سمعت صوت تحطيم قلبها الذي تفتت إلى أشلاء ترى بالعين المجردة.

رمشت بعينيها مرات عديدة ولازالت تنظر إليها لعلها تعيد إصلاح ما تفوهت به للتو، أولاتهما السيدة ميمي ظهرها وتوجهت إلى إيمان لكي تطيب خاطرها حتى لا يحدث سوء تفاهم بينها وبين شقيقها من خلف حماقة يوسف المتكررة.

وقفت لينا الذي انتبه لحركتها يوسف واستدار إليها مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة على محياه رغم بركان غضبه الثائر داخله ففجائته هي بسؤالها:
"هي تقصد إيه"
خرجت الكلمـ.ـا.ت من فاه لينا متسائلة بنبرة مرتجفة تخشى سماع الإجابة، على الجانب المقابل قطب يوسف جبينه بعدm فهم، فلم يستشف الذي يدور في عقلها حول ذلك السؤال فأجابها بتلقائية عابثة:
_ معرفش، هي بتتكلم عن معاملتي لـ...

توقف من تلقاء نفسه حينما تجمعت الصورة بوضوح في عقله، مال برأسه قليلاً وحدجها بنظراته الثاقبة ثم ردد متسائلاً بنبرة بـ.ـاردة:
_ أنتِ.. تقصدي إيه بسؤالك دا؟

شعرت لينة بالخجل الشـ.ـديد، فتراجعت خطوة للخلف ونكست رأسها، فهي لا تجرأ على مواجهته والإعتراف بما استحثته من كلمـ.ـا.ت ميمي.

أرخى يوسف أعصاب وجهه فباتت ملامحه هادئة ثم لوى شفتيه ساخراً من سذاجتها، لم يحب أن يطيل في الأمر الذي لا معنى له، حمحم وهو يحك مؤخرة رأسه وأردف بإقتضاب:
_ يلا ندخل القاعة، ملهاش لزوم الواقفة هنا

رفعت عينيها عليه فتفاجئ يوسف بتلألأ العبرات فيهما، ابتلع ريقه فلم يستطيع مقاومة تلك العبرات، تعجب من تلك الوخزة التي شعر بها في يسار صدره، لم يتحملهم فأولاها ظهره وحثها على السير قائلاً:
_ يلا..

سارت إلى جواره وتوجها معاً إلى مكان الحفل، كانت لينة تختلس النظر إليه دون أن يلاحظها، لم تعتاد ذلك الهدوء مطلقاً، دخلا كليهما القاعة ثم بحث يوسف عن والدته وتابع سيره نحوها فلم تعطيه وجهاً، لقد كانت ضجرة من تصرفاته.

سحب يوسف كرسي لتلك الواقفة وأشار إليها بالجلوس، ثم أولاهن ظهره وغادر باحثاً عن صديقه، أو ربما الهروب منهن، فعقله يكاد ينفجر من كثرة التفكير.

لم يشعر بتلك الأعين التي تتابع خطواته بدقة، لم يرفعن أعينهن عنه سواء كانت إيمان أو لينة، فإيمان ترمقه بنظرات بها مزيج من الغضب والحب، تثور لعدm اهتمامه بها، فقط تتمنى أن ينظر في عينيها، تجزم أنه سيستشف عشقها المهيمن به، سيرى عبـ.ـارات الحب الذي تكنه له، سيفهم مشاعرها التي تلومه في كل لحظةٍ عاملها بقسوة، سيسمع قلبها الذي ينبض فقط حين تراه عينيها، فقط لو ينظر إليها مرة واحدة، مرة واحدة فقط حتماً سيتغير كل شيء!.

على الجانب الآخر، كانت تطمح كثيراً في أن تنهض وتشاركه وقوفه، أو ربما تساعده في البحث عما يريد، كانت تختنق من جلوسها هكذا ومطالعته من بعيد، تشعر بالحاجة الشـ.ـديدة لإقترابها منه، فقط كل حُلمها أن تحيا بجواره، هو دون غيره، لكن هل يراها هو؟
هل يشعر بها؟
لن تكذب أنها شاغله الأساسي، لكن هل يكِن لها حباً غير حبه الأخوي؟! هل يمكن أن تنعكس مشاعره يوماً وتتحول إلى حب كالذي يخلق بين الحبيبان؟!
إنه حلم جميل للغاية، تتمنى أن يصبح حقيقة.

تنهدت لينة بضجر فلم تستطيع الجلوس مكانها وهي تراه يقف بمفرده، نهضت وتوجهت نحوه دون تردد، شعرت بضيق ملامحه فخمنت أنها السبب، وقفت إلى جواره وانتظرت انتهائه من مكالمته الهاتفية الذي أنهاها بقوله:
_ تمام أنا مستنيك على الباب

حمحمت وسألته بعفوية كوسيلة لإخبـ.ـاره بقدومها:
_ دا بلال؟

التفت يوسف برأسه وتفاجئ بها ثم سألها بعبوس:
_ أنتِ قومتي من مكانك ليه؟

أجابته وهي ترمق المكان من حولها بملل:
_ الجو رخم والعروسة لسه مجتش وبصراحة حسيت إنك زعلان، فجيت أشوف مالك

ببرودٍ ردد يوسف وعيناه على الباب في انتظار حضور صديقه:
_ لا مش زعلان، هزعل ليه؟

اقتربت منه خطوة وشبكت كفوفها في بعضهما، ثم أردفت بنبرة خجولة:
_ عشان سؤالي برا و..

قاطعها يوسف بجمود:
_ أنتِ شايفة إني مش من حقي أضايق لما أحس إنك شيفانا مش عيلتك؟!

نكست لينة رأسها وعضت على شفاها السفلى بحرج شـ.ـديد، حاول يوسف أن يهدئ من عصبيته، أخرج تنهيدة وعاد إليها بنظره وهتف:
_ روحي أقعدي يا لينة، نتكلم بعدين

رفضت أن تغادر قبل أن تقوم بمصالحته، رسمت إبتسامة رقيقة على محياها وأردفت بنبرة مختلفة كلياً، كانت تستخدmها في بعض الأحيان إن تطلب الأمر، لكنها تستعمل فقط من أجل يوسف دون غيره:
_ طيب ولينة لو قالتلك إنها مكنتش تقصد بجد هتقول إيه؟

في تلك الأثناء حضر بلال الذي سمع ما قالته لينة، انتظر مكانه حين شعر أن هناك ثمة أمر ربما يكون كبيراً، زفر يوسف أنفاسه فخرجت عصبيته مع أنفاسه وتبخر حـ.ـز.نه، شكل بسمة على شفتيه وبنبرته الرخيمة قال:
_ هقولها محصلش حاجة

اتسعت إبتسامة لينة بسعادة فوجه يوسف لها أمراً بلطافة:
_ يلا ارجعي مكانك

أماءت له بقبول وعادت إلى مكانها ولم تكترث لنظرات إيمان المشتعلة، بل كانت تغمرها السعادة لنجاحها في محي أي خلاف بينهما.

لم يستطيع بلال الوقوف مكانه لوقت أكثر، وجاور صديقه بعينين جاحظتين، وبنبرة مذهولة ردد:
_ إيه اللي حصل دلوقتي دا؟!، هو إيه اللي لينة لو قالتلك إنها مكنتش تقصد فترد تقولها محصلش حاجة، بالسهولة دي اترضيت!
دا أنا محتاج أقعد معاها بقى عشان تعلمني بتعمل كدا إزاي بدل عمري اللي مقضي نصه أصالحك فيه دا

انفجر يوسف في الضحك، لم يستطيع السيطرة على قهقهته التي استمرت لما يقرب الدقيقة تحت نظرات بلال المذهولة لما شاهده بأم عينيه، فلقد عانى كثيراً معه إن تسبب في مضايقته بدون قصد، فما هذا الهراء الآن.

وضع يوسف يده على ظهر بلال وربت عليه ثم هتف وهو يطالع نقطة ما خلفه:
_ تعالى نبعد من هنا، أختك وصلت

لم يلتفت بلال ولم يثيره شيء سوى يوسف الذي تهاون في محي خلافه بتلك السهولة، لم يكف يوسف عن الضحك كلما رأى نظرات بلال عليه، وقفا بعيداً عن الممر التي ستسير منه العروس وشاهدا لحظة استقبالهم في صمت يشوبه الإعجاب بما يحدث أمام مرأى عينيهم.

***

نهضت لينة عن مقعدها ثم انحنت بقرب أذن السيدة ميمي وقامت بالهتاف إليها:
_ هخرج أرد على شهد، لأني مش سمعاها من هنا

وافقت السيدة ميمي ثم نبهت عليها قبل أن تذهب:
_ متتأخريش

أماءت لها لينة بقبول ثم ابتعدت عن المكان، قاصدة الخروج لكي تجيب على هاتفها بعيداً عن تلك الضجة، لمحها يوسف الذي كان يتابع الطاولة خاصتهم من آن لآخر فتوجه نحوها دون تردد ليعلم إلى أين هي ذاهبة.

وقفت لينة أمام مجموعة من الشباب، في انتظار تنحيهم جانباً لكي تمر لكن المكان كان مزدحماً ولم يستطيع أحدهم التحرك من مكانه، شعرت لينة بالفزع حين شعرت بهمس أحدهم من خلفها:
_ بتعملي إيه هنا؟

وضعت راحة يدها على صدرها تطمئن قلبها حين عرفت هويته من نبرة صوته، ثم استدارت إليه موضحة بصوت عالٍ لكي يسمعها:
_ هرد على شهد، المكان هنا دوشة أوي ومش سمعاها

تفهم يوسف الوضع فتخطاها بجسده وأزاح بيديه الشباب الواقفين أمامه، لم يتجرأ أحدهم على التطاول والإعتراض، بل كانوا يتنحون جانباً حتى بات هناك مكان يمكنها السير فيه، تقدmت بخطوات سريعة حتى أصبحت خارج المكان وأجابت على هاتفها:
_ الو، أنتِ فين يا شهد؟

جائها الرد من الطرف الآخر التي أخبرتها أنها ستصل في غضون دقائق معدودة، أغلقت لينة الهاتف ونظرت إلى يوسف الذي تحدث وهو يكتم ضحكاته ما أن وقعت عينيها عليه:
_ لا بس الـ matching (التطابق) فظيع

شعرت لينا بالخجل يجتاحها من كلمـ.ـا.ته التي يثير بها وتر حساس للغاية لديها، عضت على شفاها السفلية شاعرة بتلك الحرارة في وجنتيها، حتماً من فرط الخجل.

قهقه يوسف قاصداً ذلك، ولن يطيل في الأمر فأخبرها بحضور صديقتها بلهجة مازحة:
_ ريا وصلت

رفعت لينة رأسها ورمقته متعجبة فأوضح ذلك وهو يشير بعينيه خلفها:
_ قصدي صاحبتك وصلت

حمحم ثم تابع:
_ أنا هقف على الباب عشان أعديكي يلا متطوليش في وقفتك هنا

أولاها ظهره وتوجه ناحية الباب ووقف ينتظر عودتها كما أمرها، بينما التفتت الآخرى لتستقبل صديقتها، رحبت بها وبعائلتها التي تركوا لهن المساحة للحديث وولجوا هم للداخل.

تبادلن العناق ثم حضر على ذهن لينة لقب يوسف لصديقتها فانفجرت ضاحكة مما أثارت الفضول داخل شهد التي بادرت في سؤالها عن سبب ضحكها المفاجئ:
_ أنتِ بتضحكي على إيه؟

حركت لينة رأسها يميناً ويساراً نافية أن هناك أمراً، وأردفت حين تحكمت في ضحكاتها:
_ مفيش، تعالي ندخل يلا

لمحت شهد طيف يوسف الذي يختلس النظر فصاحت مهللة:
_ روميو واقف هناك أهو

لكزتها لينة بقوة في كتفها وعاتبتها معنفة:
_ ملكيش دعوة بيه ومتبصيش نحيته تاني

حركت شهد فمها بحركة ساخرة وهي تردد ما قالته لينا:
_ ملكيش دعوة بيه ومتبصيش نحيته تاني

لكزتها لينة للمرة الثانية لكن بقوة أشـ.ـد فآنت شهد بألم وهي تملس على كتفها:
_ حـ.ـر.ام عليكي إيدك جـ.ـا.مدة

في تلك الأثناء أنتبه يوسف لدخول شقيقه بصُحبة بعض الشباب، اعتدل في وقفته ونصب عينيه على الفتاتان جيداً، على الجانب الآخر هتفت لينة حين رأت زياد مع أصدقائه:
_ أخوكي جه

التفتت شهد برأسها ثم عادت إليها ورددت:
_ طيب يلا ندخل بدل ما يتعصب عليا

قلبت لينة عينيها ساخرة:
_ أنتِ بتخافي منه بجد، دا أمجد يابنتي!!

شبكت شهد يدها في ذراع لينا وحثتها على السير ثم أجابتها بإزدراء:
_ آه صعب أوي في قلبته

تقوس ثغر لينة بابتسامة عريضة حين راودتها ذكرى تلك الصفعة التي لازال صوتها يدوى في أذنها من شـ.ـدته، رفع أمجد يديه وتحسس وجنته بغضب حينما رأى لينة، فكان يشعر بالألم في كل مرة يراها بها، إلى الأن لم يشفى من صفعتها، مهما مرت السنين يزداد غضبه منها لكن ما باليد حيلة، أنه على علم بما سيصيبه إن تجرأ واقترب منها، فإن كانت صفعة واحدة لا تُنسى فماذا سيفعل أمام ردة فعل يوسف؟!

"مالك يابني، وقفت كدا ليه؟"
خرج أمجد من شروده على سؤال زياد، طالعه لبرهة ثم ردد بتجهم:
_ مفيش..

تابعا سيرهما للداخل والغضب داخل أمجد يزداد كلما مرت الأيام ولم يأخذ بثأره من تلك الفتاة التي تركت بصمتها على وجهه، كيف لا يستطيع الإنفراد بها وتلقينها درساً لربما يشعر ببعض الراحة حينذاك..

على الرغم من تنقله المستمر من مكان لآخر إلا أن عينيه كانت مسلطة عليها طوال الوقت، فقط ينتظر اللحظة المناسبة حتى ينفرد بها ويرد لها الصاع أضعاف.

***

مر وقتاً كان ممتعاً للبعض والبعض الآخر كان ثقيلاً مملاً، ضجرت لينة من عدm فعلها لشيء وذلك كان المعتاد، فانسحبت من بينهن بعدmا أخذت إذناً لذهابها إلى المرحاض من السيدة ميمي.

أشارت لينة إلى صديقتها الجالسة مع عائلتها لكي تلحق بها فأماءت لها الأخرى بقبول ثم نهضت لتلحق بها إلى الخارج، كان يتابع ما يحدث في صمت وشعر أنها فرصته للانتقام منها، نهض ولحق بشقيقته قبل أن تصل إلى الخارج، شـ.ـد على ذراعها وبنبرة غاضبة أمرها:
_ ما تقعدي بقى كل شوية رايحة جاية والشباب بيبصوا عليكي، ارجعي مكانك

حاولت شهد أن توضح له الأمر ومافيه بلطافة حتى لا يمنعها:
_ أنا بس هشوف لينة عايزة إيه وهر...

قاطعها أمجد بحنق وبعصبية مبالغة هتف:
_ قولتلك ارجعي مكانك، أصل والله أقول لابوكي وأنتِ عارفة ممكن يعمل فيكي إيه

تأففت شهد بضجر بائن ثم أولاته ظهرها وعادت إلى الطاولة، والعبوس دون غيره قد تشكل على وجهها، بينما خرج هو حينما تأكد من جلوس شقيقته، بحث عنها فلمح طيف فستانها يختفى خلف باب المرحاض، وقف يفكر في فكرة ما تطفئ من لهيب غضبه المشتعل، فلم يجد سوى تلك الفكرة التي راودته لحظتها.

ظل يتلفت ويتفحص المكان من حوله جيداً، وعنـ.ـد.ما لم يرى أُناس بالقرب منه، توجه إلى المرحاض الخاص بالسيدات واختلس النظر سريعاً من حوله مرة ثانية ثم أوصد الباب وغادر سريعاً قبل أن يراه أحد.

انتبهت لينة لصوت غلق الباب، فتوجهت إليه ظناً أن صديقتها قد حضرت، لكنها لم تجد أحد، بحثت جيداً والنتيجة ذاتها، وقفت أمام الباب وأدارت مقبضه والمفاجأة أنه لم يُفتح، انقبض قلبها لحظتها بذُعر سيطر عليها، لكنها حاولت أن تهدأ فالأمر لن يخرج عن صديقتها، حتماً تمازحها كعادتها.

هتفت لينة عالياً متوسلة إياها:
_ شهد بلاش هزار سخيف، افتحي الباب

تأففت لينة بضجر فالأمر قد فاق الحماقة، طرقت الباب بعنف وصاحت بنبرة ضجرة:
_ يا شهد مبحبش كدا، بجد هقفش

أسندت رأسها على الباب بقلة حيلة وهي تتمتم:
_ يا شهد..

لقد تأكدت أن الأمر خارج صديقتها، فهي لن تبالغ هكذا، أغمضت عينيها في محاولة منها على تهدئة روعها، شعرت بالإختناق يعصف بها وكأن الجدران تطبق على صدرها.

لم تمر ثوانٍ الا وقد استمعت إلى ذاك الصوت الذي صدح، ابتعدت عن الباب وحاولت فتحه ففُتح تلك المرة، تنفست الصعداء وهمت بالخروج سريعاً، شاهدته وهو يهرول راكضاً مبتعداً عن المكان.

ركضت خلفه وهي تناديه بصوت عالٍ:
_ استنى، أقف كلمنى، أنت اللي فتحت لي؟

لم يجيبها بل تابع هرولته إلى الخارج فتبعته هي بإصرار واضح لمعرفة ما أن كان هو أم لأ، ثم أعادت محاولاتها مراراً لإيقافه متوسلة إياه:
_ لحظة بس، طيب أنت عرفت منين إني جوا؟

جمعت لينو الأحداث فأدركت حينها أنه من فعل ذلك، فهروبه دليل على فعلته، فلم يكن أمامها سوى تحذيره لكي يقف وتتأكد من حدسها:
_ لو موقفتش هقول ليوسف..

توقفت قدmيه فور تلقيه تحذيرها، ابتلع ريقه بتوجس، فهو يخشى مواجهة يوسف، في الماضي عنـ.ـد.ما كان صغيراً أمر بضـ.ـر.به دون رأفة لعمره الصغير، فماذا سيفعل معه بعدmا أصبح رجلاً بقدر الحائط؟!

استدار إليها وملامحه تبدو خائفة، اقتربت لينة منه وسألته باستفسار:
_ أنت عملت كدا ليه؟

لم يجيبها على الفور، بل ظل يطالعها في صمت مريب، أعادت هي سؤالها بنبرة حادة:
_ ها، سمعاك

هرب أمجد بعينيه وبصعوبة بالغة هتف:
_ كنت عايز أخوفك، بس مقدرتش..

تعجبت لينة من تصريحه، فلما يريد إخفاتها؟، قطبت جبينها بغرابة من أمره ورددت بعدm فهم لما صرح به:
_ تخوفني! أنا بيني وبينك إيه عشان تخوفني؟

لم يرفع نظريه عليها بل ظل منكس رأسه وهو يجيبها بخذي واضح:
_ أنا لسه منستش القلم، لسه مكانه بيوجـ.ـعني كل ما بشوفك، وكنت عايز أعمل حاجة تخليني أهدى شوية، بس حتى فشلت إني أنتقم منك..

لم تصدق لينة ما وقع على مسامعها، انتقام ماذا حباً في الله الذي يحدثها عنه، حركت رأسها بعدة إيماءات لا تستوعب حقاً سذاجة حديثه، لم تمنع نفسها من السخرية في استرسالها:
_ إحنا كنا عيال!!
بس تقريباً أنا كبرت لوحدي وأنت لسه زي ما أنت عشان تفكر كدا!

رفع أمجد بصره عليها بذهول فرمقته هي بنظرات احتقارية وهدرت به شزراً:
_ مقرف..

كادت أن توليه ظهرها إلا أنه توسلها قائلاً:
_ وغلاوة شهد عندك متقوليش ليوسف حاجة

انقبض قلبه حين رأى خروج زياد، لم يقف لثانية أخرى وأسرع خطاه إلى الخارج هارباً من صديقه، بينما تعجبت لينة من هروبه المفاجئ وظلت تتابعه بعينيها إلى أن اختفى من أمامها.

"أنتِ كنتي بتتكلمي مع أمجد ولا أنا بيتهيقلي؟"
حشرت لينة فزعها داخلها إثر سؤاله المفاجئ، أوصدت عينيها لثانية تعود إلى صوابها ثم التفتت إليه وأردفت ببرود:
_ بيتهيقلك..

تخطته فأسرع زياد في محاوطة ذراعها فحررت هي ذراعها من بين قبضته وحذرته معنفة:
_ إلزم حدودك معايا يا زياد، وإيدك تاني مرة متلمسنيش

أولاته ظهرها وعادت إلى الحفل بوجه عابس لاحظه الجميع، لكن لم يعقب أحد فليس بوقت سؤال، نهضت إيمان مبتعدة عن مقعدها واقتربت من عمتها ثم انحنت على أذنها وهتفت بصوت مرتفع لكي تسمعها الأخرى:
_ عمتو أنا همشي لأني أتاخرت

لحقت بها السيدة ميمي قائلة وهي تبحث بعينيها على أولادها:
_ استني حد يوصلك م...

قاطعتها إيمان وهي تشير إلى الهاتف:
_ لا لا أنا طلبت عربية وخلاص على وصول مش هينفع ألغيها، خليكم أنتوا هبقى أطمنك عليا لما أوصل

اضطرت ميمي للقبول، ثم نهضت لتوديعها، قبلتها بحرارة ثم غادرت إيمان دون أن تعير لينة أي إهتمام، كذلك الأخرى لم تنتبه على ذهابها من الأساس.

لمح بلال طيف إيمان التي تجاهد للمرور بين الجميع لكي تصل إلى الخارج، لم يتردد في اللحاق بها لعله يحظى بحديث معها حتى وإن كان عابراً.

تعجب من وقوفها دون فعل شيء سوى مطالعة الهاتف من آن لأخر، تردد كثيراً في التدخل لكن قلبه قد تغلب على معتقدات عقله وذهب إليها.

حمحم قبل أن يردف سؤاله بنبرة رخيمة:
_ مستنية حد؟

تعجبت إيمان من تلك النبرة الغريبة، التفتت برأسها وقد شعرت بالغرابة المختلطة بالخجل، وأجابته بصوت متحشرج:
_ مستنية أوبر

عقد بلال حاجبيه مبدى استيائه من ردها، ثم أردف بعتاب:
_ أوبر وأنا موجود، ميصحش

إزدادت غرابة إيمان منه، فما هذه الثقة التي يحادثها بها، فلم تراه سوى مرات معدودة، اعترضت طلبه الذي سيليه عرضه لتوصيلها بلطف:
_ متشكرة جداً، بس أنا خلاص طلبت العربية، مش حابة أتعبك

بعفوية مبالغة قال:
_ يا خبر تعب إيه بس، ثواني هجيب العربية وأجي

كادت إيمان أن ترفض عرضه الصريح فالسيارة التي قامت بطلبها على وشك الوصول، لكنه لم يعطيها فرصة لقد اختفى من أمامها على الفور، وضعت أصابعها على وجهها وهي تحاول فهم ما يحدث لكنها فشلت.

وأخيراً وصلت السيارة فأسرعت إيمان نحوها لكي تهم بالمغادرة قبل مجيئه، فتحت بابها لكنها تفاجئت بترجل بلال من سيارته التي أوقفها في الإتجاه المعاكس لهما، واقترب من السائق ثم انحنى بجسده مستنداً على نافذته لكي يحادثه:
_ بقولك يا باشا بكام الرحلة اللي بدأتها للأنسة؟

طالعه السائق بغرابة وردد بدون استيعاب:
_ نعم؟!

وضح له بلال ما يوجد خلف سؤاله بقوله:
_ الآنسة خلاص هتروح معايا، وأنت أكيد بدأت رحتلك على الأبليكشن فقولي كنت هتاخد كام وأنا أحاسبك عشان متخسرش

أخبره السائق بالمبلغ المطلوب فأعطاه له بلال ثم انطلقت السيارة بعيداً عنهما تحت نظرات إيمان المذهولة، لم ترى في جُرأته من قبل، ابتسم لها بلال بعذوبة ثم أشار على سيارته وأردف بلطف:
_ اتفضلي..

لم تبرح إيمان مكانها فالدهشة كانت سيدة الموقف، تحاول فهم تلك الشخصية القاطنة أمامها لكنها لم تصل لشيء، تفهم بلال الوضع وحاول وضع حلاً يقنعها:
_ كدا كدا كنتي هتروحي مع واحد غريب، اعتبريني أوبر..

تحركت إيمان نحوه واستقلت المقعد الخلفي، لم يعقب بلال على ذلك يكفيه أنها سترافقه في سيارته ويكونان بمفردهما.

كان يختلس النظر إليها من المرآة من حين لآخر، لا يعرف وصف تلك السعادة التي تغلغلت داخله، أراد خلق حديث معها فبدأ بإعتذار على سخافة تصرفه:
_ أنا آسف على اللي عملته، بس مش بقدر أشوف حد أعرفه ومساعدوش، وخصوصاً إنك تبع يوسف، وطلاما هو بيعتبرك أخته، يبقى أنتِ في اعتبـ.ـار أختي برده.

صعقت إيمان من كلمـ.ـا.ته، حتماً يوسف من أرسله إليها ليخبرها بتلك الكلمـ.ـا.ت الغـ.ـبـ.ـية، بينما لعن بلال لسانه الذي صرح بأنها في اعتبـ.ـار الشقيقة، شعر بالإختناق يجتاحه من خلف حماقته.

التزم الصمت إلى أن وصل إلى منطقتها، شكرته إيمان مراراً ثم ناولته ورقات نقدية وأردفت ممتنة:
_ شكراً ليك بس أنت ملكش ذنب تدفع لي تمن أوبر

اعترض بلال ورفض أخذ أي نقود منها وعاتبها قائلاً:
_ لا والله مش هاخد حاجة، خلاص كدا خالصين

لم تنجح إيمان أمام إصراره على عدm أخذ النقود، شكرته مرة أخرى ثم ترجلت من السيارة وصعدت إلى منزلها، بينما كان يحرك هو رأسه متابعاً إياها حتى اختفت تماماً.

ضـ.ـر.ب الطارة بعصبية شـ.ـديدة وصاح محدث نفسه بإزدراء:
_ أختك! يا أخي منك لله

تأفف بضجر ثم حرك السيارة بسرعة فائقة لكي يعود سريعاً إلى الحفل أن يفوت شيئاً.

بعد مدة كافية انتهى الحفل بسلام، انسحب يوسف بمن معه أولاً قبل إزدحام الجميع على بوابة الخروج، فتح لهن السيارة ثم انتبه على نداء أخيه من خلفه، استدار إليه فأشار إليه زياد بالإقتراب.

توجه يوسف إليه وسأله بفضول:
_ عايز إيه؟

اقترب منه زياد وانحنى على أذنه فقامته كانت أطول من يوسف وهمس إليه ببعض الكلمـ.ـا.ت فاحتدت تعابير يوسف إثرها، ابتعد عنه زياد حين انتهى من إخبـ.ـاره بما لديه فتفاجئ بأمر يوسف:
_ طب يلا اركب

"لا أنا هرجع مع صحابي"
هتف بهم زياد معارضاً لأمر أخيه فطالعه يوسف بنظرات لا تحتمل النقاش وهدر من بين أسنانه بعصبية:
_ مش هعيد كلامي تاني

أولاه يوسف ظهره وتوجه إلى السيارة بينما تمتم زياد بحنق:
_ يعني هي تغلط وأنا أشيل الليلة

توجه إلى السيارة وبدل مكانه مع والدته التي جاورت لينة في الخلف، لاحظ الجميع انعكاس حالة يوسف الواضحة، لكنهم فضلا الصمت لحين عودتهم.

***

دفع يوسف الباب فكان آخر من دلف الشقة، تنهد ثم صدح سؤاله الذي اهتزت له أعمدة المنزل:
_ كنتي واقفة مع أمجد ليه يا لينة؟

صعقت لينة من سؤاله الذي فاجئها، استدارت لتنظر إليه وقبل أن تجيبه تابع هو بحدة:
_ ومتكذبيش عليا..

وقفت ميمي تتابع ما يحدث بتعجب، بينما كان يرمقها زياد بتشفي، فإن حاولت الكذب عليه فلن تستطيع أمام يوسف.

شهيقاً وزفيراً فعلت لينة ثم أجابت على سؤاله وهي تطالع زياد بنظرات مشتعلة:
_ أنا كنت في التويلت واتقفل عليا الباب..

حركت رأسها باتجاه يوسف الذي ينتظر متابعة الحديث، فواصلت هي قائلة:
_وهو اللي فتح لي..

حالة من التعجب المصاحب للغرابة قد تملكت من الجميع، فالحديث ناقص ولا يتماثل مع بعضه، هناك ثمة شيء مريب يجهلوه، تدخل يوسف مرة أخرى بعشرات من الأسئلة:
_ وهو عرف منين إنك في الحمام؟! وعرف منين إن الباب مقفول ويعني إيه أصلاً الباب يتقفل عليكي؟!

ابتلعت لينة ريقها فإجابتها حتماً ستتسبب في كارثة، لكنها أهون من نظرات الإتهام في عيناي يوسف، زفرت أنفاسها ثم أخبرته بالحقيقة:
_ هو اللي قفل الباب عليا، تقريباً كان متابعني واستغل فرصة إني لوحدي وعمل كدا، بس مقدرش وجه فتح لي الباب، كنت عايزة أعرف هو إيه اللي حصل وخمنت أنه هو اللي عمل كدا فهددته اني أقولك عشان يتكلم..

كان الجميع يصغي لكلمـ.ـا.تها بعدm تصديق ودهشة واضحان، اقترب منها يوسف بعض الخطوات وقال متسائلاً بهدوء مخيف:
_ وعمل كدا ليه؟

نكست لينة رأسها فمواجهته عن قرب باتت أصعب، لكن لا مفر ولابد من الإعتراف بالأمر كاملاً فتابعت بإسيتاء:
_ كان عايز ينتقم مني عشان ضـ.ـر.بته بالقلم زمان!!

تفاجئ يوسف بذلك، شـ.ـد على يده بقوة فبرزت عروقه التي كادت أن تنفجر، أولاها ظهره وهو يتوعد داخله لذلك الفتى الذي جنى على نفسه، فتح الباب فلحقت به لينة وقامت بغلق الباب ثم وقفت أمامه فكانت حاجزاً منيعاً بينه وبين الباب وهتفت متوسلة:
_ عشان خاطري متعملش حاجة، هو عقل وعرف غلطه مش مستاهلة نكبر الموضوع

حاول يوسف منعها بنبرته القاسية وهو يمسك بمقبض الباب بيده:
_ ابعدي من قدامي يا لينة

رفضت أن تبتعد ثم وضعت كلتي يديها على صدره مانعة إياه من الخروج:
_ عارفة إني خاطري عندك كبير، مش عايزة مشاكل، تخيل إننا ربيناله عقدة بسبب قلم وإحنا كنا لسه مجرد عيال صغيرة، ما بالك لو حصلت مشكلة وهو كبير صدقني هنربي له عقدة تانية والمشاكل مش هتخلص..

رققت لينا من نبرتها وواصلت توسلها:
_ عشان خاطري يا يوسف

طالعته في انتظار رجوعه عما ينوي فعله، بادلها يوسف النظرات ثم أخفض بصره على يديها الموضوعة على صدره، شعرت لينة بالحرج وسحبت يديها بهدوء وهـ.ـر.بت بنظريها بعيداً عنه لكنها لم تستطيع الإبتعاد قبل أن تتأكد من رجوعه وأنه لم يمسسه بسوء.

تدخلت ميمي قائلة:
_ خلاص يا يوسف طلاما عرف غلطته، متكبرش الموضوع يابني وتخلق بينا عداوة، إحنا في الآخر أهل وجيران

لم يرفع يوسف عينيه من على لينة الخجولة، لم يشعر بتلك الإبتسامة التي كادت أن تتشكل على ثغره إلا أنه لحق بها وحد من ملامحه فعادت كما كانت، انسحب من بينهم وولج لغرفته، اعتلى طرف الفراش وطالع الفراغ أمامه لبرهة، ثم رفع يُمناه ووضعها على صدره موضع يدي لينة، ثم أوصد عينيه وهو لا يدري ما الذي يحدث له.

في الخارج، استغل زياد فرصة أن الجميع قد دلفوا غرفهم وخرج هو ليبحث عن عديم الشرف ذاك ليلقنه درساً يجبره أن يعيد التفكير مراراً قبل أن يقترب من عائلته مرة أخرى.

***

صباحاً، ارتدى يوسف ثياب عمله والتي كانت بنطال جينز وقميصاً أسود، خرج من غرفته فتقابل مع والدته، ألقى التحية عليها ثم استرسل:
_ متزعليش مني يا أمي عشان إمبـ.ـارح

تنهدت ميمي وهي تطالعه بقلة حيلة وأردفت بدون مماطلة:
_ تفتكر يعني أقدر أزعل منك، بس البنت بتصعب عليا من تصرفاتك معاها يا يوسف، عاملها كأنها أختك حتى لو مفيش أمل تشوفها زوجة

حرك يوسف رأسه بقبول وتمتم:
_ ربنا يسهل يا أمي، زياد فين مش موجود في الأوضة

أشارت ميمي بعينيها على الخارج وأجابته:
_ برا، بيفطر بيقول عنده امتحان

صمتت ثم تذكرت شيئاً فأوقفته قبل أن يبتعد بقولها:
_ استنى يا يوسف، عايزاك

نظر إليها فتوجهت إلى غرفتها وعادت إليه في غضون ثوانٍ، مدت يدها إليه فظهرت بعض النقود التي كانت تمسك بهم وأردفت موضحة:
_ دول فلوس المفارش اللي عملتها لأم بلال، خليهم معاك المصاريف زادت عليك أوي

مد يوسف يده وأطبق على يدها قائلاً بإمتنان:
_ خليهم معاكي ياست الكل، الحمدلله أنا مش محتاج

أصرت ميمي على أخذه النقود بقولها:
_ أنا مش بعمل بيهم حاجة، أنت مش مخليني محتاجة لحاجة، فخليهم معاك يا حبيبي، مصاريف زياد على مصاريف لينة والبيت وأنا كتير أوي

شكل يوسف بسمة على محياه وقال بنبرة راضية:
_ والله يا أمي لو ت عـ.ـر.في ربنا مسهلها معايا إزاي، الحمد لله، أنا فعلاً مش محتاجهم أعملي بيهم أي حاجة دا تعبك أنتِ، ولو مُصرة يعني ممكن تشتري بيهم هدوم بيتي لـ لينة

عقدت ميمي حاجبيها بتعجب وسألته مستفسرة:
_ هي قالتلك إنها محتاجة حاجة

أسرع يوسف في نفي سؤالها وأعاد توضيح حديثه:
_ لا لا، مقالتش حاجة، بس مش هنستنى لما تقول يعني يا أمي، شوفي وقت كدا تكون هي فاضية فيه ومفيش وراها دروس وانزلوا اشتروا كل اللي تحتاجه

ربتت ميمي على كتفه ورددت بإبتسامة راضية عنه:
_ ماشي يا حبيبي، بإذن الله

أولاها يوسف ظهره لكن سرعان ما عاد إليها وبحرج بائن هدر:
_ ياريت يا أمي تجيبوا الهدوم واسعة..

تعجبت ميمي مما قاله وسألته بفضول:
_ ماشي بس هو فيه حاجة؟

حمحم يوسف وبتردد واضح أخبرها:
_ عشان تكون مرتاحة فيهم، بس يعني..

على الرغم من أن كلمـ.ـا.ته لم تقنعها إلا أنها لم تطيل وذهبت لإحضار الفطور له، بينما خرج يوسف وهو يزفر أنفاسه براحة لأنها لم تعقب على هرائه.

سحب كرسي وجلس بجوار شقيقه وهو يهلل عالياً غير مصدق:
_ عجايب الدنيا بقت ٨ بصحيانك بدري

ضـ.ـر.ب زياد جبينه براحة يده وهو ينفخ بنفاذ صبر:
_ عجايب الدنيا هتبقى ٩ لو عديت صافي السنة دي

هتف يوسف مشجعاّ إياه ببعض الكلمـ.ـا.ت:
_ لا اتجدعن كدا مش هقبل بدرجات أي كلام

رفع زياد يديه للأعلى داعياً ربه:
_ ربك يسهل

حضرت ميمي ومعها صحنان من الشطائر ووضعت إحداهما أمام يوسف ثم توجهت إلى غرفتها فتسائل يوسف بفضول:
_ أنتِ رايحة فين؟

باختصار أجابته:
_ هدي الفطار لـ لينة

قطب يوسف جبينه وأعاد سؤالها بقلق قد راوده:
_ هي تعبانة ولا إيه؟

أومأت السيدة ميمي برأسها مؤكدة سؤاله وقالت:
_ شوية..

نهض يوسف عن مقعده ثم أعاد الشطيرة التي كانت بيده في الطبق واقترب من والدته وهو يقول:
_ مالها في إيه؟، خليها تلبس ونروح للدكتور

أسرعت ميمي في تهدئة روعه وطمأنته بكلمـ.ـا.تها:
_ أهدى يا يوسف الموضوع مش مستاهل

وكأنها لم تقل شيء، لم يكترث وهتف متلهفاً:
_ قولي لها تلبس بس

لم تنجح ميمي في السيطرة على قلقه فاقتربت من أذنه وأخبرته عن سبب مرضها لكي يهدأ، شعر يوسف لوهلة بالحرج الشـ.ـديد ولعن إصراره لمعرفة ما بها.

لم يعقب على حديث والدته وسرعان ما أولاها ظهره هارباً من نظراتها ثم عاد لمقعده يتناول فطوره لكي يفر هارباً من ذلك المنزل.

استغل زياد فرصة أنه لا يوجد سواهم، فانحنى بالقرب من أخيه وهمس إليه بنبرة رجولية:
_ بقولك أنا اتعاملت مع أمجد خلاص، متتكلمش معاه أنت بقى

تعجب يوسف من ثقة زياد في حديثه وسأله بنبرة حادة:
_ اتصرفت معاه إزاي؟

عاد زياد بظهره للخلف وبعجرفة حاول إنهاء الحوار:
_ خلاص يا يوسف اتصرفت، متشلش همه بعد كدا

لم يعقب يوسف، بل نهض حين انتهى من فطوره وأمره:
_ طيب يلا عشان متتأخرش على امتحانك

أماء له زياد بقبول ثم نهض وتابع يوسف إلى الخارج إلى أن افترق كليهما في طرقات مختلفة.

وصل يوسف إلى مكان عمله، وأمر أحد العاملين وهو يصعد درجات السلم:
_ناديلي أستاذ عبد الرحمن يابني

توقف يوسف حين أخبره العامل أنه مريـ.ـض منذ يومين ولم يأتي، لم يتابع يوسف صعوده بل عاد بأدراجه للأسفل ثم وجه حديثه للعامل وهو يتوجه إلى الباب:
_ هروح مشوار نص ساعة وراجع

استقل خلف مقود السيارة وانطلق بها قاصداً منزل عبد الرحمن لكي يطمئن على صحته، كان الطريق سريعاً بسبب قرب المسافة بين منزله ومكان عمل يوسف.

صف السيارة في زقاق على يمين البناية ثم ترجل منها وصعد إلى الشقة المقصودة، حمحم وتردد لبرهة، فهو لم يعطي خبراً بمجيئه وهذا عيب في حقه، لكنه فقط أراد الإطمئنان عليه.

طرق الباب بخفة ووقف جانباً ليعطي مساحة لمن سيفتح الباب بمعرفته دون أن يسبب حرج له، مرت دقيقة ثم فتحت الباب فتاة في ريعان شبابها، كانت ممسكة بحجابها الذي وضعته سريعاً أعلى رأسها ثم شـ.ـدت عليه بقوة حين رأت يوسف.

أخفضت بصرها بحياء ورحبت به بنبرة رقيقة:
_ أهلا يا أستاذ يوسف، اتفضل

حمحم يوسف وسألها وهو منكس الرأس:
_ أستاذ عبد الرحمن موجود، كنت حابب أطمن عليه

أجابته بلطف:
_ أيوة موجود، اتفضل

لم يرفع يوسف نظريه عن الأرض، بل تحرك وهو على نفس وضعه، ولج المنزل فأخبرته هي بعدmا أخذت الإذن من والدها:
_ اتفضل هو مستنيك

أدلف يوسف بخطاه للغرفة، ثم رفع رأسه وشكل إبتسامة على ثغره فور رؤيته لعبد الرحمن وأردف بذوق:
_ ألف لا بأس عليك يا راجـ.ـل يا طيب، لسه عارف حالاً، متأخذنيش إني مسألتش عليك

أردف عبد الرحمن كلمـ.ـا.ته لكي يمحي الحرج في نبرة يوسف:
_ الله يخليك يا يوسف، ولا يهمك من غير ما تقول أنا عارف إنك أول ما هتعرف هتيجي جري

بنفس إبتسامة يوسف الهادئة هتف متسائلاً باهتمام:
_ طمني عليك، روحت لدكتور ولا لأ؟

تشكلت بسمة متهكمة على شفتي عبدالرحمن ثم ردد بحـ.ـز.ن جلي في نبرته:
_ روحت، الظاهر إن العمر خلاص بينتهي يا يوسف

لم يتقبل يوسف شؤمه ودعى له بحب:
_ متقولش كدا، ربنا يبـ.ـاركلنا في عمرك

فرت دmعة من عيني عبد الرحمن وهو يقص عليه بنبرة مرتجفة:
_ العمر خلاص، معتش فيه حاجة وأقابل وجه كريم، المرض خلاص أتملك مني ويمكن الروح تروح للي خالقها وأنا بكلمك

مزيج من الدmـ.ـو.ع المختلطة بالإبتسامة الراضية وهو يتابع حديثه:
_ عرفت إن معتش فيه أمل خلاص، المرض في المرحلة الأخيرة

رفع عبد الرحمن بصره على يوسف الذي لم يبدي ردة فعل، فاستشف ذهوله المرسوم على تعابيره، بالكاد يصدق يوسف ما سمعه منه، شعر بوخزة في قلبه آلامته بشـ.ـدة، لم يكن لديه ما يقوله ليواسيه، فأي مواساة ستهون د ذلك المرض؟!
أي كلمـ.ـا.ت ستطيب مرضه وتداويه؟!

أخذ عبد الرحمن شهيقاً عميق وأخرجه بتهمل وأردف وعيناه مصوبتان على يوسف:
_ أنا مش فارق معايا، الحمدلله أنا معملتش حاجة لحد النهاردة إلا في سبيل ربنا ورضاه، بس خايف على البنتين اللي هسيبهم ورايا، يا ترى هيعملوا إيه من غيرى وهما يتامى من غير لا أب ولا أم؟!
الموضوع دا تاعبني أوي يا يوسف، أصلهم في الآخر ولايا، لو كانوا شباب كنت هقول هيقدروا يصلبوا جدورهم ويعتمدوا على نفسهم، نفسي أطمن عليهم قبل ما ربنا يسترد أمانته

انحنى عبد الرحمن للأمام قليلاً وربت على يد يوسف فكان الأمل الوحيد أمامه، التوسل دون غيره يتوهج في عينيه وبنبرة تخشى ردة الفعل أردف:
استشعر يوسف ما يجري خلف كلمـ.ـا.ت عبدالرحمن، فلم يعطيه فرصة لإكمالها، فهذا بعيداً كل البعد عنه، حمحم وأسبق بالحديث وهو يربت على يدي عبد الرحمن الموضوعة على يده:
_ أنا مش عايز حضرتك تقلق من حاجة، أنا متكفل بيك وببناتك، صدقني أنتوا في عنيا، مرتبك هتوصلك وكأنك موجود، وكل اللي أقدر أعمله معاكم مش هتردد لحظة إني أعمله، أطمن.

رده كان رفضاً قاطعاً لطلب عبد الرحمن قبل أن يطالبه به، استشف عبد الرحمن ذلك جيداً، فهو على علم بذكاء يوسف وحتماً هو قصد كلمـ.ـا.ته تلك.

لم يكن له عين يطالبه بما تمناه وفكر فيه طويلاً، على الرغم من أنه لن يطمئن على ابنتيه إلا معه، فهو يخشى الله، ومن يتقى الله في تصرفاته لا خوفاً على بناته معه.

تنهد عبد الرحمن وتبسم في وجهه ممتناً له ثم شكره بلطف:
_ فيك الخير يا يوسف، ربنا يجازيك خير يارب

بادله يوسف الإبتسام ثم تفحص ساعة يده وأستاذن منه:
_ عن إذنك، مضطر أمشي لأني لسه مروحتش المعرض،لو احتجت أي حاجة متترددش تكلمني

شكره عبد الرحمن مراراً ثم غادر يوسف الغرفة، فتقابل مع إبنة عبد الرحمن الكُبرى، تعجبت من سرعة زيارته وقالت على استحياء:
_ حضرتك لسه مشربتش الشاي

رد يوسف بإحترام وهو يغض بصره عنها:
_ معلش مضطر أمشي، المرة الجاية أشربه

تقدm خطوات من الباب ثم توقف عن سيره وعاد برأسه إليها وأردف بحرج:
_ آنسة فاطمة، بعد إذنك لو احتجتم لحاجة كلميني، هتلاقي رقمي مع والدك

أماءت له بقبول وشكرته ممتنة لذوقه:
_ أكيد، شكراً

_"عفواً، على إيه بس"
أردفهم يوسف ثم غادر وعاد إلى عمله، جلس على كرسي مكتبه وأسند رأسه على حافته وظل يعيد ما قاله لعبد الرحمن خشية أن يكون قد أخطأ وجـ.ـر.حه دون قصد.

فزع حين اقتحم بلال مكتبه بأسلوب غير حضاري، ألقى ما معه من أوراق وهو يوضح له ماهم بنبرة مريبة:
_ دول أوراق عربيات جديدة عايزين نخلصهم من الجمارك

ألقى كلمـ.ـا.ته وأولاه ظهره لكي يخرج لكن يوسف أوقفه بسؤاله:
_ استنى، فيه إيه مالك على الصبح

أراد بلال الهروب فقال بتجهم وعبوس:
_ مفيش حاجة

أسرع يوسف في اللحاق به، أمسكه من ذراعه مجبراً إياه على التوقف ثم بهدوء هتف:
_ تعالى أقعد بس كدا

سار بلال معه ثم جلس على الكرسي بإهمال، باتت تعابيره عابسة كلما تذكر ما اقترفه، جلس يوسف مقابله وسأله بقلق:
_ حصل إيه لكل دا؟

مال بلال بجسده للأمام مستنداً بمرفقيه على فخذيه، شهيقاً وزفيراً فعل مراراً لعله يتمالك أعصابه التالفة لكنه لم يستطيع فصاح عالياً بعصبية شـ.ـديدة:
_ أصل أنا غـ.ـبـ.ـي، جيت أكحلها عمـ.ـيـ.ـتها..

حاول يوسف تهدئته فهدر بنبرته الرزينه:
_ طيب إهدى يا بلال عشان تعرف تتكلم، فهمنى بالراحة، إيه اللي حصل؟

عاد بلال بظهره إلى الخلف ثم وضع قدmيه على الطاولة الزجاجية أمامه، طالع سقف الغرفة لبرهة قبل أن يقص عليه ما حدث البـ.ـارحة:
_ إمبـ.ـارح روحت إيمان و...

قاطعه يوسف بسؤاله:
_ إيمان مين؟

طالعه بلال بنفاذ صبر وهدر به مستاءً:
_ بنت خالك..

عقد الآخر حاجبيه متعجباً مما يقوله فاستشف بلال نظراته وأوضح له:
_ شوفتها وهي خارجة من القاعة وكنت عايز أتكلم معاها بأي طريقة، طلعت طالبة أوبر، المهم مشيت العربية وقولتلها أعتبريني العربية اللي طلبيتها، قمت أنا بعقليتي الفذة قولت لما أقولها إنك بتعتبرها أخوها يمكن تحل عنك، أقوم قايلها يوسف بيعتبرك أخته تبقى في اعتبـ.ـار أختي أنا كمان!

إعتدل بلال في جلسته ونبرته باتت حادة وتابع بإستهزاء:
_ قولتلها إنها أختي يا يوسف!!

طالعه يوسف لبرهة قبل أن تدوي ضحكاته في المكان، حاول التوقف لكن دون جدوى، كلما حاول السيطرة على قهقهته ينفجر مرة أخرى بقوة أكبر، استاء بلال للغاية من ضحكاته التي استفزته، انتفض بعصبية وهو يتمتم بلوم:
_ أنا غلطان إني قولتلك حاجة

لحق به يوسف وهو يحاول جاهداً بألا يضحك:
_ خلاص خلاص، معتش هضحك، أقعد

رفض بلال طلبه معللاً أسبابه:
_ لا مش فاضي ورايا شغل

أصر يوسف على جلوسه مرة أخرى، فعاد بلال عنـ.ـد.ما رأى إلحاحه، جلس يوسف وبالكاد يستطيع تمالك ضحكاته، تأفف بلال بضجر وضيق واضحين، حرك رأسه مستنكراً تصرفه الساذج حتماً لديه حق للضحك.

وضع بلال يده على وجهه لثوانٍ ثم انفجر ضاحكاً وهو يتمتم:
_ قولتلها إنها أختى..

شاركه يوسف الضحك وبات كليهما لا يعرفان طريق للتوقف، بعد دقائق قضاها يضحكان على فعلة بلال الغـ.ـبـ.ـية هتف بنفاذ صبر:
_ ما تتجوز بقى يا يوسف خليها تفقد الأمل فيك

هدأت ضحكات الآخر تدريجياً وهو يتذكر عبد الرحمن، تنهد ثم قال مستاءً:
_ بمناسبة الجواز، روحت أشوف أستاذ عبد الرحمن لأنه تعبان، وعرفت أن عنده كانسر

احتدت ملامح بلال متأثراً بما أخبره به يوسف الذي واصل مالم ينهيه:
_ قالي إنه خايف على بناته وعايز يطمن عليهم، الكلام كله كان بيدور عليا طبعاً

فغر بلال فاهه بذهول وررد بدهشة:
_ طلبك للجواز؟!

_ كان هيطلب فعلاً، بس أنا مدتلوش فرصة، بس وعدته إني متكفل بيهم، لكن جواز لأ صعب أوي

فكر بلال بصوت عالٍ مع صديقه وهو يجيب المكان من حوله بنظراته:
_ بس أنا عارف بناته، محترمين أوي والكبيرة مبترفعش وشها من الأرض طول ماهي ماشية، أوقات كنت بشوفها وهي جاية له هنا

نهض يوسف من مكانه وتوجه إلى كرسي مكتبه واعتلاه ثم هتف بوجهة نظره:
_ ما أنا عارفهم يابني، بس لأ، مش هتجوز عشان أرضي حد دي هتبقى مراتي بقيت عمري، يعني لازم أكون أنا اللي مختارها، لما أشوفها أقول أيوة هي دي اللي تنفع مراتي

طالع يوسف الفراغ أمامه وهو يواصل حديثه بتهكم يشوبه الغرابة من تفكيره:
_ أنا الموضوع مكنش شاغلني بجد، بس هو فيه حد مش بيفكر في الجواز؟
على الأقل يرسم حياته اللي جاية في أفكاره، أنا مفيش خلاص، أنا بدأت أقلق على نفسي

عاد يوسف بأنظاره على بلال وتابع ساخراً:
_ لا بجد بدأت أقلق، يعني واحد تافه زيك يحب ويبقى عايز ياخد خطوة زي دي وأنا مبفكرش إزاي؟!

قلب بلال عينيه لعله يأتي بفكرة لتلك العقدة، زم شفتيه وهو يقترح عليه:
_ يمكن بسبب لينة؟

_ "إزاي؟"
تسائل يوسف بفضول فهتف بلال موضحاً:
_ يعني تقريباً هي اللي أخدة كل وقتك، بسبب مسؤولياتها ودروسها، أنت يومك كله ليها يا يوسف عايز تفكر في حد تاني إزاي؟

أخرج يوسف تنهيدة مطولة ثم مال للأمام واستند بساعديه على مكتبه الخشبي وأردف برضاء تام:
_ وعمري ما اضايقت، ولا حسيت في مرة إني زهقت، أنا حابب أعمل كدا، بحس إني صاين الأمانة كويس مش أي كلام

قاطعه بلال بإسيتاء:
_ أيوة يا يوسف بس دي أنانية، لازم تفكر في نفسك شوية، إيه المشكلة إنك تعطي نفسك حقوقها زي أي شاب، فيه شباب في سننا دا وعندهم عيال!

تشـ.ـدق يوسف وهو يحك ذقنه وأردف وجهة نظره:
_ ما أنا خايف اللي تيجي متتقبلش الوضع، أو تغير منها أو مثلاً أتلهي معاها وأنسى لينة ودا مش هيريح ضميري، خليني مستني بقى لما تقدر تعتمد على نفسها وهي اللي تقولي خلاص اكتفيت منك ووقتها أبقى أشوف حالي

جحظت عيناي بلال وصاح بتزمجر:
_ وأنا هفضل أستناك وأستناها إن شاء الله؟!

_ "ما تروح تتقدm لها وتخلصني"
يريد يوسف الخلاص فحثه على أخذ خطوة رسمية بينما شهق بلال بذهول كأن يوسف قد قام بسبِه:
_ أنت عايزني أروح أتقدm لها وأنا عارف إنها بتفكر في راجـ.ـل غيري؟!!

ضاق يوسف بعينيه فحماقته حقاً لا تصدق، هرب بلال من عيناي يوسف ووضح له الأمر الحاضر:
_ تفرق يا صاحبي، أنا الوقتي لسه على البر ومستني يحصل جديد، لكن إني أخد خطوة رسمية كدا مبقاش راجـ.ـل

تنهد يوسف وحاول تعديل مفاهميه الخاطئة:
_ متحسبهاش كدا، فكر فيها إنك بتعوضها مثلاً، هتلاقي الوضع اختلف، وبعدين يلا اتفضل مع السلامة عشان أنا قايم أودي لينة دروسها

انسحب بلال دون إضافة المزيد فهو تأخر على عمله أيضاً وحتماً سيتلقى توبيخاً بهذا القدر من والده، بينما التقط يوسف مفتاح السيارة وغادر.

***

بعد مرور بعض الساعات، أدى يوسف فريضة العشاء ثم ذهب لأخذ لينة ليعود بها إلى المنزل، كان يلاحظ صمتها طيلة اليوم، لم يعتادها هادئة هكذا، فالمشاكسة خلقت فقط لأجلها.

حمحم ليجذب انتباهها إليه، فنظرت إليه متسائلة بفتور:
_ في حاجة يا يوسف؟

_ "مالك، مش متعود عليكي كدا؟"
سألها بفضول فأجابته هي مختصرة:
_ عادي، مليش مزاج واليوم كان طويل وتعبانة وكدا

حرك رأسه ثم تذكر شيئاً عزم على فعله، استدار بالسيارة عند أول منعطف قابله وسار في وجهته المقصودة.

بعد دقائق قد وصلا إلى وجهته، مررت لينة نظريها على المكان بين يوسف وبلهجة مرهقة سألته:
_ إحنا جايين هنا ليه؟

بإختصار أردف:
_ هعمل حاجة فوق، انزلي تعالي معايا

رفضت طلبه بإيماءة من رأسها معللة:
_ لا سيبني أنا هنا

صمم يوسف على رأيه فقال:
_ أنا ممكن أطول فوق ومينفعش تقعدي لوحدك في العربية في وقت زي دا

زفرت لينة أنفاسها بملل مختلط بالضجر، امتثلت لأمره ورافقته لحين وصولهم إلى الشقة المقصودة، طرق يوسف بابها وانتظر حتى فتحت له زوجة خاله، قابلتهم بوجه بشوش ورحبت بهم بحفاوة:
_ البيت نور، لا البيت إيه دا الشارع كله نور والله أهلاً وسهلا اتفضلوا

بادلها يوسف الإبتسام والترحيب:
_ منور بأهله يا مرات خالي

اكتفت لينة بإبتسامة لم تتعدى شفاها، دعتهم هادية إلى الصالون ثم استأذنت منهما لتخبر إيمان بوجود يوسف، حتماً ستأسرها السعادة إن علمت بحضوره.

لم تتطرق هادية باب غرفتها بل ولجت على الفور، وجهها خير دليل على تلك الحماسة التي تملكتها، تعجبت إيمان من دخولها المفاجئ وتصرفاتها المريبة وسألتها بفتور:
_ في إيه، ومين اللي جه؟

بنبرة متحمسة أجابتها:
_ يوسف برا!!

بعدm استيعاب لهوية يوسف ذاته سألتها إيمان:
_ يوسف مين؟

قلبت هادية عينيها بتهكم وصاحت مستاءة من سذاجة سؤالها:
_ إحنا نعرف كام يوسف؟

انتفضت إيمان من مكانها، تريد التأكد من حدسها، اقتربت من والدتها وقلبها يكاد يخترق ثيابها من فرط تدفق الدmاء به وهتفت متسائلة بنبرة مرتجفة:
_ يوسف مين؟ يوسف إبن عمتي؟

أماءت لها هادية مؤكدة، طالعتها إيمان بأعين متسعة ثم أردفت وهي تدفعها للخارج:
طيب اخرجي عشان أغير هدومي بسرعة

ضحكت هادية على تصرفاتها ثم عادت إلى ضيوفها لحين حضور إيمان، اختارت إيمان من الثياب أجملهم ثم وقفت أمام المرآة تضع مورد على وجنتيها ثم أضافت بعضاً منه على شفتيها.

نظرت إلى صورتها المنعكسة نظرة متفصحة قبل أن تهم بالخروج، كانت تتعرقل قدmيها لسيرها العفوي إلى أن وصلت إلى الصالون الخاص بهم.

أخذت شهيقاً وأخرجته بتهمل ثم خطت إلى الداخل وعينيها لا تريان سوى يوسف، رسمت بسمة سعيدة على ثغرها ورحبت به قائلة:
_ إزيك يا يوسف؟

بنبرة لطيفة عكس المعتاد منه قال:
_ بخير يا إيمان، أنتِ أخبـ.ـارك إيه؟

السعادة دون غيرها تتراقص داخلها، تنهدت ثم أجابته بنبرة حيوية:
_ أنا كويسة الحمدلله

حمحمت هادية وأشارت بعينيها إلى لينا التي تجاورها فهتفت إيمان مرحبة بها وعينيها مازالت مُسلطة على يوسف:
_ إزيك يا لينة معلش مختش بالي

بفتور يشوبه الضيق أجابتها:
_ كويسة..

أنتبه الجميع ليوسف حين أصدر صوتاً ليعيروه اهتماهم، نظر إلى إيمان وبإبتسامة هادئة وجه حديثه لها:
_ ممكن نتكلم شوية..

وكأن دلو من المياه البـ.ـاردة قد سُكب على الجميع في آن واحد، ذُهلت لينة بطلبه الجرئ أو ربما الوقح أمامها، خشيت أن يكون قد أطاع والدته في طلبها المتكرر، لن تحتمل تلك المفاجئة بل ستقضي عليها حتماً.

لم ترفع إيمان نظريها عنه مذهولة من طلبه، وكأن أمنياتها لطلاما دعت بتحقيقها ستتحقق الآن، التفتت حيث والدتها وأشارت إليها بالخروج فامتثلت الأخرى على الفور برفقة لينة التي لم تستوعب إلى الأن طلب يوسف.

اعتدلت إيمان في جلستها، وانتظرت ما يود قوله بفروغ صبر، بينما تـ.ـو.تر يوسف قليلاً فالمواجهة حتمياً ليست بتلك السهولة التي ظنها.

حمحم ثم بدأ حديثه قائلاً:
_ إيمان أنتِ بنت ذكية، وطيبة وتستاهلي اللي يقدرك، اللي يكون شبهك ويحبك..

لمعت عيناي إيمان بفرحة عارمة، فكل ما دعت به على وشك الإستجابة، ازدادت نبضاتها بقوة ناهيك عن أنفاسها التي ازداد معدلها، شعر يوسف بكل ما يدور في عقلها الآن، لكن عليه إستكمال الأمر حتى وإن جاء على غير هواها.

تابع كلمـ.ـا.ته المنتقاه بعناية لكي لا يجـ.ـر.ح قلبها:
_ أنا بتكلم معاكي كأخت ليا وعايز مصلحتك...

توقف عقلها عند تلقيبه لها بالشقيقة مرة ثانية، لا يهم ما سيقال بعد ماقيل، لم تصغي لحرفٍ واحد بعد ذلك، أخفضت رأسها في إنتظار انتهائه مما جاء لأجله لكي تنهض وتعود إلى غرفتها.

استشعر يوسف رفضها لسماع المزيد، لكنه لن يتوقف قبل أن يردف جميع ما لديه:
_ مش عايزك توقفي حياتك عشان حد، بصي لنفسك وإنك تستاهلي تعيشي زي أي بنت، تحب وتتحب في إطار علاقة شرعية، حاولي تبصي لنفسك شوية هتشوفي الدنيا بشكل تاني، هتلاقيها تستحق، فكري في كلامي كويس ولو عايزة نصيحتي خدي اللي بيحبك مش اللي بتحبيه، اللي بيحبك هيديكي مشاعره وقلبه ووقته وفلوسه وهيتقي ربنا فيكي، على عكس اللي بتحبيه ممكن يتقي ربنا فيكي بس مش هيديكي مشاعره ولا قلبه، الحياة هتبقى جافة أوي وملهاش طعم..

نهض يوسف وهو يتمتم:
_ أنا كدا خلصت اللي عندي، ربنا يكتب لك الخير يارب

لم ينتظر رداً بل توجه إلى الخارج على الفور، استأذن من زوجة خاله وغادر برفقة لينة التي تشتعل غيظاً من تلك الجلسة المنفردة.

لم تستقل السيارة بعد فسألته بنبرة حادة:
_ هنشرب الشربات قريب؟

توقف يوسف عن تشغيل السيارة ونظر إليها بغرابة وهو يردد ما قالته بعدm استعياب:
_ شربات إيه اللي هنشربه؟

التفتت لينة بكامل جسدها إليه وبهجوم أردفت:
_ طلبت تقعدوا لوحدكم، أكيد فيه سبب كبير

ابتسم يوسف بتهكم وهتف معللاً تصرفه:
_ شوفي أنا مكنتش حابب حد يعرف بس هقولك، بس إياكِ ميمي تاخد خبر

أماءت له فاستكمل حديثه:
_ كنت بقولها تشوف نفسها ومتستناش حد، مش هفضل شايل هم إنها قاعدة مستنياني وعمرها بيضيع على الفاضي

فغرت لينة فاها بذهول شـ.ـديد ورددت بعدm تصديق:
_ أنت قلت لها كدا؟

أسرع يوسف في نفي سؤالها موضحاً:
_ لا طبعاً أنا بقولك أنتِ بس أنا عملت كدا ليه

بالكاد أخفت لينة ابتسامتها السعيدة بصعوبة، تصنعت الحماقة وأعادت سؤاله بنبرة ماكرة:
_ وأنت ليه قولتلها كدا، أقصد يعني فيها إيه مش عاجبك؟

هز يوسف رأسه باستنكار شـ.ـديد، نظر أمامه ثم أشعل محرك السيارة وأجابها باختصار:
_ هو مش لازم الجواز يتبنى على دوافع؟!، سواء بقى حب أو إعجاب أو حتى راحة، التلاتة مش حاسسهم يبقي أكيد مش هروح أتجوز لمجرد إن حد عايز كدا

_ "حتى لو كان الحد دا مامتك؟"
تسائلت بتوجس خشية سماع إجابته فأردف بثقة دون تفكير:
_ حتى لو كانت أمي، في قاعدة للعلماء بتقول "ليس من الحقوق عقوق " حقي إني أختار شريكة حياتي لأنها حياتي أنا ولو رفضت طلب ليها ميبقاش عقوق أبداً بس طبعاً مش هجيب واحدة متكنش مش موافقة عليها برده، فهمتي؟!

اكتفت بإيماءة من رأسها، طالعت الطريق أمامها ولم تستطيع منع ابتسامتها تلك المرة، الآن أطمئن قلبها، ياليته يعلم بمشاعرها، ياليته يقرأ عبـ.ـارات الغزل التي في عينيها، ياليته يرى نفسه من عينيها هي ليعلم مدى غلاوته.

إنه الصديق والحبيب، والأهل والسكن، إنه دوماً كان ملجئها الوحيد لطالما لم يتبقى غيره، كان الملاذ الأمن لها يوم تركهما خالهما دون رحمة، كان الكتف الحنون التي مالت عليه منذ سبعة أعوام حين خشية سرعة القطار والكثير من المشاعر التي اكتسبتها بفضله..!

أخرجت تنهيدة وكذلك ذكرياته من عقلها، وبحماس واضح أردفت:
_ شغلنا حاجة نسمعها

برفض واضح أردف يوسف:
_ لا إحنا خلاص هنوصل أهو

بنبرة لحوحه رقيقة هتفت:
_ Lütfen (أرجوك)

لم يعقب يوسف بل اكتفى بإبتسامة فاستشفت الأخرى قبوله وأسرعت في اختيار أغنية قبل أن يصلا إلى منطقتهما.

قطع يوسف نصف المسافة فاقترحت لينة شيئاً ما خطر على بالها:
_ يوسف، ممكن تقف عند أي ماركت

لم يمانع يوسف طلبها وعند رؤية أول بائع صف السيارة أمامه، أخذ نفساً ونظر إليها وقال:
_ ها هتجيبي إيه؟

اتسعت إبتسامتها بمبالغة فاستشف يوسف ما ترمي إليه وهلل ممازحاً:
_ يا فلوسك اللي هتطير يا يوسف

عضت لينة على شفتيها بخجل فتابع يوسف ساخراً:
_ بتتكسفي أوي

بنبرة مائعة أردفت وهي تميل رأسها بدلال:
_ طبعاً مش بنوتة

"وأحلى بنوتة"
هتف يوسف بعفوية، فلمعت عيناي لينة كبريق ثغرها المبتسم، ترجل يوسف أولاً فتبعته هي والأدرينالين خاصتها في أذهى سعادته.

هرولت للداخل كالطفل الذي لقى مأواه، سار خلفها يوسف ولم يعلق على اختياراتها، بل انتظر حتى فرغت من متطلباتها ثم حاسب عليهم وغادرا عائدين إلى منزلهما.

أسبقت لينة في صعود درجات السُلم، قرعت الجرس مرات متتالية فلم يجيب أحدهم، استدارت وطالعت يوسف بحيرة وتسائلت بقلق:
_ ماما ميمي نامت ولا إيه؟

استبعد يوسف تلك الفكرة وجاء بفكرة بديلة:
_ أكيد لأ لسه بدري، ممكن تكون بتصلي قيام

_ "ممكن"
هتفت بها لينا فاقترح عليها يوسف وهو يستدير بجسده ليعطيها جانبه الأيسر:
_ طلعي مفتاحي وافتحي

تفاجئت لينة باقتراحه وبتردد مدت يدها في جيب بنطاله وحرصت بألا تنظر في عينيه في تلك اللحظة، أتت بالمفتاح ثم قامت بفتح الباب وإذا بالسيدة ميمي تهرول من غرفتها، تمهلت حين رأتهما قد دلفا إلى المنزل.

اعتذرت منهما معللاً عدm استقبالهما:
_ كنت بصلي ياولاد معلش

هتف يوسف ماحياً حرجها بقوله:
_ مفيش حاجة يا حبيبتي

حدجت ميمي الأكياس البلاستيكية التي في يدي يوسف وسألته بفضول:
_ دا إيه كل دا يا يوسف؟

نظر يوسف إلى يمينه حيث تقف لينة وأجاب والدته بمزاح:
_ لا دي لينة نوت تفلسني بس

انفجرت لينا ضاحكة ثم عاتبته مازحة:
_ محدش بيسمع صوتك وأنا بشتري يعني؟!

رد عليها بدون تفكير:
_ الماركت كله مش كتير عليكي

رفعت لينة كفوفها مشكلة إياهم على هيئة قلب مع ابتسامتها العـ.ـذ.بة، انسحبت من بينهما لتبدل ثيابها ويبدأوا سهرتهما.

توقفت عن السير لتذكر شيء فوجهت حديثها ليوسف:
_ كلم زياد يجي

أماء لها بقبول وهاتف أخيه لكي يهم بالمجيء على الفور، بينما انشغلت لينة في تحضير بعض الحلوى لقضاء سهرة سعيدة معاً.

***

"يابنتي بقالي ساعة بتحايل عليكي تتكلمي، هو قالك إيه عشان كل العـ.ـيا.ط دا؟"
هتفت هادية بنفاذ صبر وعدm تحمل لكثرة بكائها التي تجهل سببه، تأففت بضيق واضح ثم صاحت منفعلة:
_ خلصي قولي في إيه قبل ما أبوكي وأخوكي يرجعوا

مسحت إيمان أنفها المسيل بظهر يدها، ابتلعت ريقها وأجابتها بنبرة مرتجفة:
_ جاي عشان يقولي إني أبطل أستناه، وأشوف نفسي، وموقفش حياتي عشان حد مبيحبنيش، وأخد اللي بيحبني عشان دا اللي هيسعدني، وأنا أستحق أحسن منه!!

بذهول تام تمتمت هادية:
_ هو قالك كدا؟!

أعادت إيمان مسح عبراتها بعصبية وهي تجيبها:
_ هو متكلمش عن نفسه، قال الكلام بصيغة نصيحة، بس لا هو أهبل ولا أنا غـ.ـبـ.ـية عشان مفهمش الكلام عليه، أنا بعد كل السنين دي يرفضني بالشكل دا؟

نهضت عن مقعدها وجابت الغرفة ذهاباً وإياباً وتابعت تمتمتها بحنق ونـ.ـد.م شـ.ـديدان:
_ أنا اللي غلطانة فعلاً، فكرت إن فيه أمل، فكرت إني لو استنيت كل حاجة هتتغير، مفيش حاجة اتغيرت، محاولش يبص لي لو لمرة، والمرة اللي بص فيها في عيني كان عشان يقولي أنسيني وشوفي حياتك بعيد عني، أنا اللي أستاهل اللي حصلي، أنا اللي أستاهل!!

اقتربت منها والدتها وربتت على ظهرها مآزرة إياها، طالعت الفراغ أمامها وهي تكز أسنانها بعصبية، زفرت أنفاسها وصاحت من بين أسنانها المتلاحمة:
_ يبقى تشوفي نفسك، مع أول عريس هيتقدm لازم نوافق، عشان تثبيتله إن الحياة مش واقفة عليه والرجـ.ـاله غيره كتير، وكانوا بس يتمنوا رضاكي!

هدرت إيمان عالياً وهي تحرر جسدها بعيداً عن والدتها:
_ بس أنا مش عايزة إلا هو، مش شايفة راجـ.ـل غيره ينفعني، مش هقدر أضحك على نفسي وأنا عارفاني كويس

لم تتحمل هادية المزيد من السخافة وصاحت بها مندفعة:
_ فين كرامتك من كل دا يا إيمان، دا داس عليها بأقذر جزمة وأنتِ تقوليلي مش شايفة غيره!

لم تقتنع إيمان بكلمـ.ـا.ت والدتها وهتفت معارضة:
_ مفيش كرامة في الحب

فغرت هادية فاها بذهول، فلم تتوقع رد وضيع كردها ذاك، لم تستطيع مجاراة الحوار قبل أن تعدل مفاهيمها الخاطئة:
_ مين اللي قال كدا، الحب لو مصانش الكرامة وحافظ عليها مـ.ـيـ.ـتساهلش يتقال عليه حب، الراجـ.ـل اللي معاكي لو محترمكيش وزعلك مفرقش معاه، ميستاهلش يتقال عنه راجـ.ـل، الرجـ.ـا.لة بتصون وتحافظ وتغير ولو غلط يعتذر ويصلح غلطه، وتكوني أبقى عنده من نفسه، لكن أنتِ مش فارقة معاه يبقى هو كمان ميفرقش معاكي، وأنا بعد كدا مش هسمع لك تاني، ولو جه عريس محترم أنا أول اللي هيوافقوا طلاما أنتِ مش عارفة مصلحة نفسك

تركتها هادية بعدmا انتهت من قول ما يحتم عليها قوله، لعلها تعود إلى رشـ.ـدها وتنظر إلى مصلحتها، لم تقتنع إيمان بذلك الهراء بسهولة، فكيف تبدله برجلاً غيره بتلك البساطة وكأنه مزهرية ستغير مكانها.

ألا تعلم والدتها ما عاشته فيما مضى؟، ألم ترى كم عانت لأجل نظرة منه، ألم تشعر بقلبها المحطم في كل مرة يقسو عليها بها، شاهدت رفضه المستمر ولم تستطيع كرهه، فكيف تنساه الأن لأن والدتها من أرادت ذلك؟

جلست إيمان على طرف الفراش بإهمال ورددت من بين بكائها الغزير:
_ هو اللي عايز كدا، هو اللي طلب مني كدا..

طالعت الفراغ أمامها معيدة جميع ذكرياتها المؤلمة معه فتملك الغضب منها حتى ظنت أنها كرهته حينها..!

***

عادت راكضة بعدmا أحضرت دفتراً وقلم، وقفت أمام ثلاثتهم وبدأت تشرح اللعبة التي اقترحتها بحماس:
_ كل واحد هيكتب كلمة توصف أنت شايف اللي قدامك إزاي، وليكن ماما ميمي هتكتب لزياد وزياد يكتب لها وأنا أكتب ليوسف والعكس، بعد كدا هنلزقها على جبينا والمفروض نشرح للي هنبتدي بيه كل حاجة معناها نفس معنى الكلمة وهو المفروض يعرفها من نفسه.

وافقوها ثم بدأوا في تدوين الكلمـ.ـا.ت لبعضهم البعض، انتهوا مما يفعلونه ثم قاموا بلصق الورقة على جبهتم.

اقترحت لينة اختيار السيدة ميمي أولاً لأنها تكبرهم عمراً، بدأ يوسف في شرح ما دونه زياد على جبينها:
_ حاجة بتساعد المرضى إنهم يمشوا

عقدت ميمي حاجبيها وهي تفكر جيداً في تفسير ما قاله يوسف، اتسعت عينيها وهي تهلل:
_ العكاز؟

صفقوا لها جميعاً فتعجبت من ذلك اللقب ووجهت لزياد سؤالاً قبل استكمال لعبتهم:
_ اشمعنا عكاز يا زياد؟

على الرغم من خجله الذي كان ظاهراً للجميع إلا أنه لم يدعه يسيطر عليه، وأجابها بأسلوبه الساخر:
_ ياستي مدققيش

أصرت ميمي على معرفة اختياره لتلك الكلمة التي وصفها بها بنبرة ملحة:
_ خلاص مش هكمل طلاما مش هتقول

تذمرت لينة وصاحت بحنق موبخة زياد:
_ لا قولها بقى عايزين نكمل

أخفض زياد رأسه وحدج كفوفه التي كان يفركها بتـ.ـو.تر ثم أردف بنبرة هادئة لا تشبه قط:
_ عشان أنتِ اللي شيلتي البيت بعد ما بابا الله يرحمه مـ.ـا.ت، إحنا كبرنا وبقينا في العمر دا بسببك...

شعر زياد بحماقته، فلم يعتاد البوح بتلك الصراحة ناهيك عن نبرته الرقيقة، بالله شعر بالإهانة في حقه فتراجع ساخراً كما كان:
_ وكفاية كدا عشان حسيت إني أهبل أوي

انفجرا جميعهم ضاحكين، وعلى الرغم من المرح الذي تسبب به زياد، إلا أن والدته قد غمرتها السعادة بكلمـ.ـا.ته، واستحثت مدى حبه لها رغم أنه لم يعترف لها من قبل.

تابعوا لعبتهم باختيار لينة ليوسف، فبدأت هي موضحة ما دونته خصيصاً من أجله:
_ طبعاً أنا اللي لازم أوضح، مش عارفة ليه بس مش مهم

ابتسمت بعفوية فأجبرت يوسف على الإبتسام لذلك الغموض المريب، ثم واصلت استرسالها:
_ حاجة مينفعش البيت من غيرها، بيتبني البيت على أساسه، ومن غيره البيت يتهد

حاول يوسف مراراً الوصول إلى معنى كلمـ.ـا.تها فلم يستطيع، هز رأسه نافياً لمعرفته بالكلمة وقال:
_ مش عارف، أنتِ كاتبة إيه

ردت عليه بتلقائية:
_ فكر شوية يا يوسف، طيب بص هسهلها عليك، عندنا منه ٣ في البيت، يبقى إيه؟

_بعد لحظات ردد يوسف ما أخبرته به في عقله ثم هتف غير متأكداً من إجابته:
_ عمود؟

صاحت لينة بفرحة:
_ برافو

تشـ.ـدق يوسف مع عقده لحاجبيه متسائلاً بفضول:
_ اشمعنا عمود؟

هـ.ـر.بت لينة منه بإرتشافها بعضاً من كأس العصير وأجابته دون أن ترفع عينها عليه:
_ إجابتي في كلامي اللي قولته في الأول

لم يعقب يوسف وأعاد كلمـ.ـا.تها وشعر بالسعادة تغلغلو داخل قلبه، تدخل زياد بقوله:
_ دوري أنا بقى، هقول لينة مكتوب لها إيه؟

حمحم وهو يعتدل في جلسته ليكون مقابلها، ثم فكر قليلاً فيما سيخبرها به قبل أن يردف باستخفاف:
_ حاجة بند.بـ.ـحها في العيد

صعقت لينة مما قاله ورمقت يوسف بذهول وهي تردد:
_ خروف يا يوسف؟!!

كاد يوسف أن يوضح لها إلا أنها أسرعت في إزالة الورقة لكي تتأكد بنفسها، ارتخت ملامحها حين قرأت المدون بها وتمتمت:
"أمانة"

أخرجها زياد من حالتها بضحكه الذى دوى في الأرجاء، رفعت لينة نظريها إلى يوسف بنظرة خجولة نادmة لتصديقها ألاعيب زياد، بادلها يوسف إبتسامة هادئة لكي يمحي خجلها البائن، تحدثت السيدة ميمي معاتبة زياد:
_ بطل رخامة ياواد، دوري أنا بقى أقولك مكتوب لك إيه

ابتسمت بعفوية ثم قالت مازحة:
_ والله ما أنا عارفة أقولك إيه، الكلمة ملهاش معنى تاني

تدخل يوسف ساخراً منه:
_ معناها مبتريحش نفسك

قطب زياد جبينه، ولم يستطيع صبراً حتى أزال الورقة ليقرأ المدون بها، رفع شفتيه العُليا باستهزاء وهو يقرأ:
_ شقاوة!!

طالعته لينة بتهكم وهي تردف مشاكسة إياه:
_ دي الشقاوة دي ثغره في قاموسك

ضحك جميعهم عدا زياد الذي قلب عينيه ضجراً من كلمـ.ـا.تها، وكعادته لن يمرق الليلة دون أن يتصرف بحماقة، صوب عينيه على الكأس خاصتها وبحركة سريعة لم ينتبه لها أحدهم، سرقه من على الطاولة ثم ارتشف قدراً منه.

انتبهت له لينة فصرخت وهي توبخه:
_ أوف على الرخامة، مبحبش حد يشرب من مكاني، بقرف..

هدر به يوسف بغضب:
_ زياد، هات الكاس، ودي آخر مرة تعمل كدا تاني

ناوله زياد الكأس وهو يطالع لينة بنظرات متشفية، نهض يوسف عن أريكته وتوجه إلى المطبخ ثم أحضر كأساً آخر من العصير، كاد أن يهم بالخروج، إلا أن قدmيه توقفت وعاد ينظر إلى الكاس الذي ارتشف منه أخيه.

شيء ما داخله يحثه على أخذ رشفة، فما المانع؟، رفع الكأس ونظر إليه بغرابة فحاجته المُلحة على تذوقه تبدوا مريبة، لم يمانع من أخذ رشفة واحدة، رفع الكأس عند فمه ثم تراجع وبحث عن المكان نفسه التي شربت منه لينة وقام بأخذ رشفة سريعة.

لا يعلم سبب تلك الإبتسامة التي تشكلت على محياه، ولا عن ذلك الشعور الذي راوده، أعاد وضع الكأس على الطاولة الرخامية وعاد حيث يجلس الجميع.

توسط أريكته بعدmا ناول لينة الكأس فشكرته بلطف، صدح رنين هاتفه فتعجب من ذلك المتصل في وقت متأخر، تفاجئ برقم السيد عبد الرحمن، فأجاب على الفور:
_أستاذ عبد الرحمن!

جائه صوتاّ باكي متحشرج:
_ أستاذ يوسف، بابا مـ.ـا.ت!
قُضيت ثلاثة أيام العزاء، لقد قام يوسف بدوره على أكمل وجه بمساعدة بلال، كان ثلاثة أشخاص في آن واحد، يتابع عمله ويقف في العزاء مع أهل المتـ.ـو.في وأخيراً لم ينسى لينة من يومه.

لقد عانى للغاية في تلك الأيام، فلقد وقع على عاتقه مسؤوليات عديدة وكان جديراً بها.

ولج لمنزله بعد منتصف الليل، فكان لديه بعض الأعمال في المعرض عليه إنهائها أولاً قبل عودته، ألقى بجسده المنهك على أقرب أريكة قادته قدmيه إليها.

تراجع برأسه للخلف وأوصد عينيه، لقد شعر لوهلة أنه لن يتخلص مما كان فيه، اخترق سؤالها أذنيه بنبرتها الأنثوية الرقيقة:
_ يوسف.. أنت كويس؟

فتح عينيه بتمهل وهو يجيبها بصوته الخافت:
_ كويس، أنتِ لسه صاحية ليه؟

ابتسمت بعفوية ناظرة لدفترها الذي بين يديها وأردفت بحماس:
_ كنت بتعلم تركي

اعتدل يوسف في جلسته ورمقها بنظرات معاتبة قبل أن يردد مستاءً:
_ دا وقت تعليم تركي يا لينة؟، أنتِ ناسية أنك تالتة السنة دي، يعني مفيش وقت عشان يضيع..

تفهمت معاتبته لها، اقتربت منه وجلست على الأريكة المجاورة له، تنهدت قبل أن تخبره:
_ متقلقش والله أنا عاملة اللي عليا وزيادة، بس مش طبيعي يعني أقعد للساعة ٢ أذاكر يا يوسف، كفاية دروس طول اليوم والمذاكرة اللي بعدهم، بسلي نفسي عشان مزهقش من كتر المذاكرة

تفهم يوسف موقفها ولم يعقب، أخفض بصره على دفترها ثم قال بنبرته الرخيمة:
_ وريني اتعلمتي إيه؟

ناولته لينة بحماسة شـ.ـديدة، بينما لم يفهم يوسف ما دونته فأعاد النظر إليها وحاجييه معقودان:
_ إيه الكلام دا، مش فاهم حاجة

قهقت لينة بعجرفة فهي فقط من تفهم ما دونته، أخذت دفترها ومالت بجسدها لليمين لكي تكون أقرب إليه، لم يكن هناك ما يفرقهما سوى سنتيمترات قليلة، بدأت تشير إلى بعض الكلمـ.ـا.ت بسبابتها وهي تنطقها:
_ دي مثلاً معناها "ماما" بتنطق "annem"،
"آ نيـ م"

ردد يوسف الكلمة خلفها فاتسعت ابتسامتها لإستجابته معها، فنطقت كلمة أخرى وهي تردد بتهمل لكي ينطقها صحيحة:
_ دي معناها "أخي" بتنطق "kardeşim"، " "كـارديشم"

رددها يوسف نطقها الصحيح فازدادت لينة تلهفاً لإخبـ.ـاره المزيد، فتوقف قليلاً لتستمد بعض الشجاعة قبل أن تنطق كلمة بحد عينها، زفرت أنفاسها ثم أشارت على كلمةٍ ما ونطقتها بهُيام:
_ دي بقى "Seni seviyorum"، "سيني سيڤ يورم"

تعجب يوسف من أسلوبها الذي انعكس عن بدايته، فكانت تخبره بمعنى الكلمة قبل نطقها، التفت إليها متسائلاً عن معناها بفضول:
_ معناها إيه؟

ابتلعت لينة ريقها ونظرت في سودتاه مجيبة إياه بنبرة مُتيمة:
_ "بحبك"

خفق قلب يوسف بشـ.ـدة، وكأنه اعتراف صريح إليه، لم يشعر بتلك الإضطرابات من قبل، ماذا يحدث لقلبه، إنه مجرد توضيح لمعنى الكلمة، فما كل تلك الضجة الحادثة؟!

شعر يوسف بافتضاح أمره أمامها إن مكث لثانية أخرى، انتفض من مكانه وهو يهرب بنظريه بعيداً، معللاً سبب هروبه:
_ معلش بقى معتش قادر أفتح عيني، يلا تصبحي على خير

_ "وأنت من أهل الخير"
قالتها هامسة وهي تتابع طيفه الذي اختفى خلف باب غرفته، تنهدت ثم ولجت لغرفة السيدة ميمي راجية النوم، فمن كان السبب في إبقائها مستيقظة قد عاد ولم يعد هناك مجالاً للهرب بعد.

على الصعيد الآخر، كان يحاول تهيئة عقله أن الأمر عادياً، ولا يوجد به شيء مريب، فهي لينة ودوماً ما يصدر منها تصرفات غريبة، الأمر لا يستحق كل ذلك التفكير.

بدل ثيابه سريعاً فلم تكن لديه القدرة على أخذ استحمام، استلقى على الفراش بهدوء لكي لا يسبب الإزعاج لأخيه، لكنه كلما أغفل عينيه يُعاد الموقف في ذاكرته ناهيك عن قلبه الذي يخفق بشـ.ـدة وكأنه مازال أمامها.

تأفف حين فشل في استخراج تلك الذكرى من عقله، سحب الوسادة من أسفل رأسه ووضعها أعلاها لربما تنجح في سلب كل أفكاره حتى يستطيع النوم.

***

أشرقت الشمس فسقط عموداً ذهبياً على غرفة السيدة ميمي، متسللاً من زجاج النافذة على عيناي لينة المتناثر شعرها الكستنائي على الوسادة.

فركت عينيها حينما ضجرت من الضوء ثم مدت يدها حاجبة الضوء عنها، استقامت بجسدها فانسدل بعضاً من خصلاتها على وجهها، رفعتهم بأناملها ونهضت باحثة عن إسدالها.

ارتدته ثم خرجت من الغرفة باحثة بعينيها عن الجميع، لمحت ذلك الجالس هناك يرتشف كوباً من الشاي، عضت على شفتيها ولم تتردد في الإقتراب منه.

حمحم بصوت عالٍ فانتبه لها يوسف، ألقت تحية الصباح وهي تجلس جواره:
_ صباح الخير

"صباح النور"
قالها يوسف وهو يضع الكوب أعلى الطاولة، صدح رنين هاتفه فعقد حاجبيه متعجباً حين قرأ الإسم المدون، تنهد ثم أجاب بصوته الأجش:
_ آنسة فاطمة..

انتبهت حواس لينة بالكامل بعد نطقه إسم إمرأة، حرصت على سماع صوتها لعلها تعرف هويتها، لكن صوتها كان منخفض للغاية ولم تستطيع معرفة من تكون.

"أنا كنت محتاجة أقابل حضرتك ضروري النهاردة"
أردفتها فاطمة بينما أجاب يوسف بتلقائية:
_ بس أنا مش هينفع أجي البيت

اتسعت مقلتي لينة بذهول لما وقع على مسامعها، سيطرت عليها الغيرة فلم تشعر بتعابير وجهها التي احتدت وهي تطالعه بغيظ في انتظار انتهائه من تلك المكالمة، بينما تابع يوسف حواره مع فاطمة التي قالت باستحياء:
_ أنا متفهمة طبعاً، وأكيد مينفعش تيجي لأني لوحدي، لو ينفع أجي أنا المعرض؟

لم يعترض يوسف على اقتراحها فهذا أنسب حل، زفر أنفاسه ثم رد عليها بجدية:
_ تمام هستناكي هناك، بس ياريت لو قبل الضهر عشان بعد كدا مش بكون موجود

"بإذن لله هكون عند حضرتك الساعة ١١"
أخبرته بموعد مجيئها قبل أن تغلق، لاحظ يوسف نظرات لينا المشتعلة، كاد أن يسألها عما بها لكنها بادرت بسؤاله:
_ مين دي؟ وعايزاك تقابلها في البيت إزاي يعني؟

تعجب يوسف من اهتمامها المبالغ، ابتسم بخفة وأجاب على أسئلتها بتلقائية:
_ دي بنت أستاذ عبد الرحمن الله يرحمه، عايزة تتكلم معايا

بدون تفكير سألته بغيرة واضحة:
_ تتكلم معاك في إيه؟

بتهكم شـ.ـديد أردف يوسف:
_ معرفش، لسه مقابلتهاش

طالعته بأعين ضائقة ثم هتفت بآخر أسئلتها أو ربما هناك المزيد بعد:
_ ممم وهتتقابلوا فين؟

باختصار هدر:
_ في المعرض

أنهى جملته ثم نهض ليذهب إلى مكان عمله، تابعته لينة بخطوات مهرولة، تتآكلها الغيرة حتى كادت أن تقــ,تــلها من شـ.ـدتها.

أدار يوسف مقبض الباب فتفاجئ بوقوف "شهد" خلفه، ابتسمت بسماجة ثم رددت:
_ إزيك يا يوسف؟

حد يوسف نبرته حتى بات صوته خشن وقال:
_ كويس

لم يضيف المزيد وغادر، فتملقت الأخرى من أسلوبه البـ.ـارد معها، وعادت بنظراتها إلى صديقتها قائلة:
_ يا باي دmه سم، بتحبي فيه إيه دا؟!

لم تتحمل لينة كلمـ.ـا.ت شهد السخيفة وهدرت بها شزراً:
_ أوف، مليون مرة أقولك ملكيش دعوة بيه

تعجبت شهد من عصبيتها المبالغة، طالعتها لبرهة قبل أن تتسائل بفضول:
_ في إيه مالك، مش معقول كل العصبية دي عشان كلمته!!

تأففت لينة ثم أولاتها ظهرها وتوجهت للداخل، تبعتها شهد ورحبت بالسيدة ميمي التي ظهرت للتو ثم ولجت خلف لينة الغاضبة.

جلست على طرف الفراش وسألتها باهتمام:
_ ها قولي مالك؟ أكيد الموضوع مش هيخرج عن سي روميو!!

رمقتها لينة بنظرات مشتعلة فتأكدت الأخرى من حدسها، قهقهت بسماجة ثم اقتربت منها حتى أصبحت ملاصقة لها وأردفت بحماس:
_ احكي بقى..

زفرت لينة أنفاسها بضجر ثم بدأت تقص عليها ما أثار غيرتها بعصبية مبالغة..

***

في تمام الساعة الحادية عشر ظهراً، طُرق باب مكتب يوسف فسمح للطارق بالدخول، فُتح الباب من قِبل فاطمة بزيها الأسود حداداً على أبيها، ابتسمت بإستحياء ثم تعمدت ترك الباب مفتوحاً.

نهض يوسف ورحب بها باحترام:
_ اتفضلي يا آنسة فاطمة

جلست الفتاة فبادر يوسف متسائلاً بذوق:
_ تحبي تشربي إيه؟

رفضت مسرعة:
_ شكراً، أنا مش جاية أشرب، ياريت تسمعني وتقدر تساعدني في مشكلتي..

عاد يوسف بأدراجة إلى كرسيه، وكلمـ.ـا.تها تتأرجح في عقله، يا تُرى ماذا تريد، حمحم قبل أن يهتف مع مراعاته عدm إطالة النظر إليها:
_ اتفضلي، ولو في إيدي حاجة مش هتردد

أخذت فاطمة شهيقاً عميق قبل أن تبدأ في قص ما جاءت لأجله:
_ يمكن الكلام دا مش وقته بس مضطرة أقوله، فيه واحد كان متقدm لي في حياة بابا، وهو للأسف رفض، وأنا متعلقة بالشاب دا جداً وبصراحة رجع يكلمني تاني بعد وفاة بابا وعايز يتقدm تاني، وأنا خايفة أقول لحد من أعمامي لأنهم كانوا عارفين إن بابا رفضه يعني أكيد هيرفضوا هما كمان، كنت عشمانك فيك تكلمهم وتقنعهم بيه، هما عارفينك وعارفين غلاوتك عند بابا الله يرحمه يعني كلامك هيفرق جداً..

ضاق يوسف بعينيه أمامه لدقيقة دون تعقيب، ثمة
أموراً لم تخبره بها، هناك الكثير يجهله، رفع عينيه عليها وسألها مستفسراً:
_ معلش اعذريني، بس طلاما أنتِ طلبتي مساعدتي وعايزاني أدخل في الموضوع فأنا مش هقدر أتكلم من غير ما أعرف شوية تفاصيل كدا، أولهم ليه أستاذ عبد الرحمن رفضه؟

ترددت الفتاة كثيراً في إخبـ.ـاره، لكن ما عليها سوى ذلك وإلا لن يساعدها، أخفضت رأسها ونظرت إلى كفوفها التي تفركهم بشـ.ـدة ثم بدأت تخبره بهدوء:
_ معندوش شقة، ومعندوش دخل ثابت..

رفعت عينيها على يوسف وواصلت متلهفة:
_ بس هو بيحبني و..

قاطعها يوسف بسؤاله من منطلق العقل:
_ حبه دا هيأكلكم وهيعشكم؟!

طالعته فاطمة بخجل اجتاحها وتشكل على وجنتيها فباتوا حمرواتين، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ هنعيش في بيتنا مؤقتنا على لما يجيب شقة..

تفاجئ يوسف مما قالته، لم يستطيع رفع بصره عنها مذهولاً من حديثها الوضيع، استشف ضعف شخصيتها وأنه قد نجح في اللعب بها، حمحم وبهدوء حاول أن يريها الأمر من منظور آخر:
_ آنسة فاطمة أنتِ زي أختي، وأنا لو واحد اتقدm بالمواصفات اللي أنتِ قولتيها دي مش هوافق، أستاذ عبد الرحمن كان عنده وجهة نظر إنه يرفضه، أنتِ للأسف مضحوك عليكي بكلمتين حلوين ودا اللي هو بيسعى ليه عشان يوصل لبيتكم، والدليل أنه محترمش حرمة المـ.ـيـ.ـت وكلمك أول ما عرف أن والدك توفى، رغم أنه هو لو راجـ.ـل كان أتقدm لعمامك وأقنعهم بأسباب منطقية مش يكلمك أنتِ، الراجـ.ـل يتفق مع راجـ.ـل زيه، إنما اللي يدخل للحريم دا بنقول عليه نطع!
هو عارف إنك متأثرة بيه وبكلمتين هتوافقي بيه تاني!

أخذ يوسف نفساً عميق قبل أن يسترسل ما تبقى لديه:
_ تقدري تقوليلي أختك هتروح فين؟ هتعيش معاكم إزاي؟ طيب أنتِ تقبلي إن راجـ.ـل غريب يكون معاها في نفس البيت؟!

تدخلت فاطمة موضحة:
_ دا مش غريب، دا هيبقى جوز أختها!

بإبتسامة هادئة هتف:
_ جوزك أنتِ، إنما هيفضل غريب عنها ودا حـ.ـر.ام

جادلته فاطمة بعظم اقتناع:
_ حـ.ـر.ام إزاي وهو هيبقى من محارمها؟!

أوضح لها يوسف بنبرته الرزينة:
_ في حديث للرسول صل الله عليه وسلم بيقول
"إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو المـ.ـو.ت."
الحمو دا شامل أختك!! نهى الرسول عن الخلوة بيها حتى لو في وجودك، أنتِ مت عـ.ـر.فيش جوزك نيته إيه؟ ولا بيبص لها إزاي، وأنتِ عايزة تقعديهم في بيت واحد!!

احتدت ملامح فاطمة وهي تلقي كلمـ.ـا.تها بإقتضاب يشوبه الإتهام:
_ على حد علمي إنك مقعد بنت عندك في البيت ولا هي قريبتك ولا فيه بينكم اللي يخليها قاعدة في بيت فيه شابين!!

فارت الدmاء في عروق يوسف، فهو لن يتحمل إهانة لينة بشتى الطرق، كز أسنانه وحاول إخماد غضبه، فهي في النهاية وصية شخص عزيز عليه، طالعها بجمودٍ قبل أن يردف كلمـ.ـا.ته البـ.ـاردة:
_ أنا واثق من نفسي، وواثق من أخويا، لكن مش واثق من اللي أنتِ جيباه!

لم يروق لفاطمة ما أردفه يوسف، نهضت عن مقعدها ونظرت إليه بحسرة:
_ أفهم من كدا إنك بترفض تساعدني

نهض يوسف وأوضح لها نواياه:
_ أساعدك بالأصول يا آنسة فاطمة، باباكي نفسه رفضه، أنا هوافق إزاي؟، يوفر لك سكن ويشتغل شغلة كويسة ووقتها أقدر أساعدك وأتكلم مع عمامك، لكن أروح أقولهم إيه؟ واحد متقدm لبنت أخوكم وطمعان يعيش معاها في بيت والدها!!
دا كلام يُعقل يطلع من راجـ.ـل لرجـ.ـا.لة؟!

شعرت فاطمة بغصة مريرة في حلقها، تلألأت العبرات في عينيها، فلقد تبخر آخر آمالها، فكيف ستقنعهم بهذا الشاب إن رفض يوسف؟

بصعوبة تحدثت قبل أن تجهش باكية:
_ شكراً لحضرتك وأسفة على الإزعاج

أولاته ظهرها وتوجهت إلى الباب فأوقفها يوسف بندائه:
_ آنسة فاطمة..

التفتت إليه بأملاً قد خلق داخلها فواصل هو:
_ ياريت تسيبي لي رقمه، ومعتيش تكلميه، متخونيش ثقة والدك عشان أي حد

لم يراودها الخجل تلك المرة بل دهسها وكأن سيارة نقل هائلة قد دهستها، ابتلعت ريقها وعادت إليه فكان قد أحضر يوسف قلماً ودفتر، دونت به الرقم ثم هرولت إلى الخارج سريعاً دون أن تنظر إليه.

طالع يوسف الرقم بنظرة مطولة وهو يرتب لمكالمة هاتفية لذلك الشاب، أنتبه لرنين هاتفه فأجاب على الفور:
_ رمضان باشا بيكلمني بنفسه!

في تلك اللحظة قد دلف بلال إلى المكتب وبيديه بعض الأوراق فأشار إليه يوسف بالجلوس، بينما أشار بلال إلى ساعة يده يحثه على التعجل لكي يذهب.

_ "عريس!"
هتف بها يوسف وهو يطالع بلال بصدmة، بينما علم بلال أن المكالمة سوف تطول مدتها فنهض لكي يغادر فأشار إليه يوسف مرة أخرى بالجلوس مجيباً على خاله:
_ وإيمان موافقة عليه؟

تجمدت حواس بلال حين صغى لكلمـ.ـا.ت يوسف ولم يستطيع الجلوس، بل اقترب منه لعله يسمع ما يخبره خاله به، كان يقف على أحر من الجمر ينتظر إنهاء يوسف المكالمة.

_ "ماشي يا خالي، هسألك عنه وأرد عليك"
أنهى يوسف المكالمة بجملته، فصاح بلال غاضباً لا يصدق ما سمعه:
_ هو إيه دا اللي هسألك عليه؟
عريس!!
وهي موافقة؟

أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم:
_ اصبر يابني، لسه مفيش حاجة حصلت، دا واحد متقدm وخالي عايز يسأل عنه قبل ما يدخله البيت عشان لو حصل نص...

قاطعه بلال بهجوم شـ.ـديد:
_ بس يا يوسف أنت بتقول إيه؟!

جن جنون بلال، جاب الغرفة ذهاباً وجيئاً بخطى مهرولة وهو يردد بعدm تصديق:
_ وهو كل عريس بيتقدm بيقولك أسأل عليه؟

هز يوسف رأسه نافياً سؤال بلال الذي ازداد حنقاً، لقد وضحت الصورة أمام عينيه الآن، جلس على المقعد بإهمال ورفع نظريه على يوسف مردداً بعصبية:
_ معنى إنه يخليك تسأل عليه، يعني موافق، وإلا كان رفض زي اللي قبله، دا غير إنها هي نفسها مرفضتش، عن كلامك هي اللي بترفض مش أبوها!!

دار يوسف من حول المكتب وجلس مقابل بلال، حاول تهدئته قدر المستطاع:
_ ممكن تهدى..

لم يهدأ بلال بل هتف عالياً غير متقبل أمر يوسف:
_ أهدى! أهدى إزاي بعد اللي سمعته دا؟

تأفف يوسف ورفع من نبرته لكي يجبر بلال على سماعه:
_ أيوة تهدى لأن مفيش حاجة تخليك متعصب كدا، هو قالي أسأل عليه يعني لسه موافقوش..

قاطعه بلال بحنق:
_ومرفضوش!

تأفف يوسف تلك المرة بصوت عالٍ وصاح به شزراً:
_ يابني أفهم بقى، أنا قصدي إن الموضوع كله في إيدي، خالي مستني أسأل عليه يعني في إيدي أطول المدة على قد ما أقدر، وفي إيدي برده أكلمه يا بلال عنك، ومش كلام على إنك عريس زي أي حد، لا خالص أنا قادر إني أخليكم تتجوزوا آخر الشهر دا لو تحب!!

تفاجئ بلال من كلمـ.ـا.ت يوسف الواثقة، طالعه بأعين جاحظة فتابع يوسف بتهكم:
_ وكنت أقدر أعمل كدا من زمان، بس أنت اللي كنت رافض..

شعر بلال بضياعها منه، ولن يتحمل ذلك قط، مال للأمام ليكون أقرب ليوسف وقال:
_ يعني إيه، المفروض أعمل إيه دلوقتي؟

بهدوء أخبره يوسف:
_ مش هتعمل حاجة أنا اللي هعمل

"متأكد إني مش هترفض؟"
سأل بلال بتوجس، فهو على علم بمشاعرها تجاه يوسف، بثقة أجابه يوسف:
_ يابني عيب عليك دا أنت بتكلم يوسف الراوي..

تقوس ثغر بلال بإبتسامة عريضة ثم نهض مردداً:
_ ماشي يا إبن الرواي، ورينا هتعمل إيه

كاد أن يغادر إلا أنه تريث حين تذكر ما جاء لأجله، عاد إلى المكتب ودفع الأوراق بيديه أمام يوسف موضحاً ماهما:
_ بص على العربيات دول مش حاسسهم وأبويا مُصر يجيبهم، قولت أكيد أنت اللي هتقنعه لو فيهم حاجة

اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه بينما غادر بلال على الفور، سحب يوسف الأوراق ليتفحص السيارات جيداً قبل أن يبدى رأيه فيهما.

***

حل المساء، فعاد يوسف ليصطحب لينة ويعودان إلى المنزل، لم تحظى لينة بسؤاله طيلة اليوم عن مقابلته مع فاطمة، فكانت شهد مرافقة لهما اليوم.

لم تطيق الإنتظار بعد، التفتت إليه وبنبرة مليئة بالغيرة سألته:
_ كانت عايزة منك إيه؟

عقب يوسف على سؤالها دون أن يلتفت إليها:
_ هي مين؟

"اللي كلمتك الصبح"
قالتها لينة بصوت حاد فأجبرت يوسف على التعجب من أسلوبها، حدجها لبرهة قبل أن يردف:
_ اه، فاطمة..

ازدادت غيرة لينة وكزت أسنانها بعصبية، لم تخفض نظرها عنه قط، تنتظر استكمال حديثه الناقص، لكن لا تدري هل ستصمد وهو يحادثها عن إمرأة أخرى أم ستقلب الوسط رأساً على عقب؟

قطع يوسف بكلمـ.ـا.ته حبال أفكارها:
_ فيه واحد متقدm لها وعايزاني أقنع اعمامها بيه..

شعرت لينة ببعض الراحة داخلها، تنهدت ثم بفضول تابعت أسئلتها:
_ واشمعنا أنت، ما تروح تقولهم هي

حاول يوسف إنهاء الحوار سريعاً، فلا يحب التحدث عما لا يعنيه فقال:
_ عادي يا لينة، أنا كنت قولتلها لو محتاجة حاجة كلميني

عقدت ذراعيه لأعلى صدرها وبتذمر واضح صاحت:
_ وأنت متعود بقى تساعد كل واحدة كدا؟!!

بهدوءٍ يشوبه الريبة من أمرها أردف:
_ بساعد أي حد محتاجني يا لينة..

نطق اسمها وهو يطالعها بغرابة، ثم عاد ناظراً أمامه لكي يسير من ذلك الطريق القريب منهما، انتهبت لينة لتغير سيرهما فتسائلت بملل:
_ أنت جايبنا هنا تاني ليه؟

صف السيارة وهو يجيبها:
_ عايز أتكلم مع خالي في موضوع مهم

قلبت لينة عينيها فهدر هو متعجباً:
_ أنتِ بتضايقي ليه لما بتيجي هنا؟

تـ.ـو.ترت لينة من سؤاله، حتماً لن تخبره السبب الحقيقي، ابتلعت ريقها لتعطي فرصة لعقلها في إيجاد عِلة تخبره بها، نظرت إليه ثم وضحت بكلمـ.ـا.ت زائفة:
_ مش بضايق، بس أنت كل مرة بتيجي هنا بليل وأنا بكون تعبانة من الدورس، بس كدا

هز رأسه وهو يتمتم داعياً:
_ إن شاءالله منطولش

صعدا كلاهما ثم قرع يوسف جرس المنزل، فُتح له في خلال ثانيتين، تقوس ثغر يوسف بإبتسامة حين رآى إبن خاله ورحب به:
_ دا أنا حظي حلو بقى عشان أشوفك

بادله أسامة الإبتسام مع ترحيبه الحار:
_ واحشني يا جو والله

_ "وأنت كمان أخبـ.ـار الكلية إيه"
سأله يوسف بينما أجاب أسامه بتذمر:
_ أهو ماشية..

صوب أسامة عينيه على لينة الواقفة خلف يوسف ورحب بها:
_ إزيك يا لينة؟

باختصار مصاحب للحياء أردفت:
_ الحمد لله

دعاهم أسامة للداخل، ثم نادى على والده الذي جاء على الفور عند علمه بوجودهما، رحب بهما بحفاوة شـ.ـديدة على عكس هادية التي كانت بـ.ـاردة معهما.

اختفت من أمامهم مسرعة، ولجت لغرفة إيمان وحذرتها بألا تخرج، يكفي تقليل من شأنها لهذا الحد، ثم عادت هي لمضايفتهم على مضضٍ.

بعد أحاديث تبادلاها الرجـ.ـال، حمحم يوسف قبل أن يطالب خاله بما يريد:
_ لو سمحت يا خالي، كنت محتاج أتكلم معاك في موضوع كدا..

مرر رمضان نظراته على الجميع فانسحبوا خلف بعضهم، رافقت لينة هادية بينما دلف أسامة إلى غرفته.

قلق رمضان من طلب يوسف وسأله بتوجس:
_ مش خير يا يوسف؟

شكل يوسف بسمة على شفتيها لكي يبث فيه الطمأنينة، وقال بصوته الرخيم:
_ كل خير إن شاء الله، فيه عريس متقدm لإيمان..

تفاجئ رمضان بهذا الخبر، فهو قد أخبره في الصباح بوجود خاطب فمتى ظهر الآخر، قطب رمضان حاجبيه بغرابة مردداً بذهول:
_ عريس!! دا غير اللي قولتلك عليه؟

أماء يوسف برأسه مؤكداً قبل أن يوضح له:
_ دا بلال صاحبي، أكيد عارفه

أبدى رمضان معرفته ببلال قائلاً:
_ أيوة أعرفه عز المعرفة

اتسعت إبتسامة يوسف وتابع حديثه:
_ الرسول صل الله عليه وسلم قال "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج"
وقالنا برده "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"

تمم رمضان على ما قاله يوسف بقوله:
_ صدق رسول الله صل الله عليه وسلم

عاد يوسف لمواصلة حديثه:
_ وبلال خلق ودين، وجدع وصاحب صاحبه، دا لولاه مكنتش وصلت للمكانة اللي أنا فيها دي،
راجـ.ـل يعتمد عليه وبيتقي ربنا في شغله وحياته
دا غير إن مادياً كويس جداً جداً وهيقدر يعيشها في مستوى مرفه، أنا أضمنهولك براقبتي يا خالي.

شعر رمضان بالحيرة، فلم يقع في أمراً هكذا من قبل، طالع في الفراغ أمامه للحظة قبل أن يهتف متسائلاً:
_ طيب والعريس التاني دا أقوله إيه؟

تدخل يوسف باقتراحه:
_ أعتقد يا خالي إن مش صعب رفضه، أنا فهمت من كلامك الصبح إنكم لسه موفقتوش عليه

أكد رمضان على حديث يوسف بصوته الأجش:
_ فعلاً، أنا كنت عايز أسأل عليه الأول ولو شخص كويس كنت هحاول أقنع إيمان

أسرع يوسف في الحديث متلهفاً:
_ يبقى تقوله كل شيء قسمة ونصيب زي اللي قبله، طلاما كدا كدا إيمان مش موافقة، وبدل ما تقنعها بيه أقنعها ببلال!!

أخفض رمضان نظريه ليفكر في كل ما قيل، لم يجد صعوبة في رفض الخاطب، فهو ليس أول من
رفضوه، هو يثق في يوسف كثيراً وحتماً لن يتدخل في الأمر إلا لمصلحة إبنة خاله.

رفع رمضان بصره على يوسف وبهدوءٍ هدر:
_ مبدأياً يابني طلاما أنت شايف أنه مناسب ووكويس أنا مش هراجع وراك، بس اديني مهلة أتكلم مع هادية وإيمان وأرد عليك

وافقه يوسف في رأيه لكنه حاول التأكيد عليه بقوله:
_ براحتك يا خالي، بس حاول تقنعهم بلال فرصة مش هتتكرر تاني، أنا واثق من كدا.

"إن شاء الله يابني، اللي فيه الخير يقدmه ربنا"
أنهى رمضان حوارهما بكلمـ.ـا.ته، نهض يوسف مستأذناً منه:
_ استأذن أنا بقى، تصبح على خير

نهض رمضان غير موافقاً على ذهابه:
_ لا لا تمشي إيه، لسه هتتشعى معانا

رفض يوسف بلطف:
_ لا معلش يا خالي مرة تانية، لينة تعبانة طول اليوم من الدورس وبتبقى عايزة ترتاح

لم يطيل رمضان، فخرج يوسف إلى الخارج فتفاجئ بجلوس أسامة برفقة لينة بفردهما يتسامران، لم يشعر بأسنانه التي كادت أن تُفتك.

حمحم وبصوت غاضب صاح:
_ لينة..

ذعرت لينة من نبرته فنهضت تلقائياً عند رؤيته، اقترب منها وأردف أمراً:
_ يلا عشان نمشي..

أماءت له بقبول وخوف معاً، لا تعلم من أين أتى ذاك الرعـ.ـب الذي تملك بخلاياها، أوقفهما أسامة بسؤاله الذي وجهه إلى لينة:
_ لينة عندك انستجرام؟

كادت ليناة أن تجيبه إلا أن يوسف قد أسبق بالإجابة بحدة:
_ لأ، معندهاش

أرخى يوسف من ملامحه المشـ.ـدودة وابتسم على مضضٍ قبل أن يوجه حديثه للآخرين:
_ تصبحوا على خير

رد جميعهم في آن واحد:
_ وأنت من أهله

نظراته كانت كفيلة لإرهاب لينة، ابتلعت ريقها وتابعت خطواته السريعة، إلى أن استقلا السيارة،
ثم لم يتحمل يوسف لثانية أخرى وسألها مستفسراً بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ أنتِ إيه اللي قعدك مع أسامة لوحدكم؟

لم تتفاجئ لينة من السؤال، فكانت على استعداد له، حركت رأسها ناحيته وهي تجيبه بهدوء:
_ آبلة هادية دخلت المطبخ، معرفتش أعمل إيه

"وكان بيتكلم في إيه؟"
هتف يوسف بسؤال آخر بحدة فأجابت لينة بتلقائية:
_ معرفش، مركزتش، سيبته يتكلم وخلاص..

لم يعقب يوسف، تعجب من انفعاله المبالغ، فماذا يمكن أن يحدث إذا تحدثا قليلاً، إنها لينة اخر، أكثر من يثق فيها، لكن مشكلته إنه لا يثق فيمن يقفون أمامها.

هدأ رويداً رويداً لكنه لم يتناول الأحاديث معها إلى أن وصلا إلى منطقتهم، ترجلت لينة أولاً بخطوات مهرولة فهي متعبة للغاية، تريد فقط الإستلقاء لتنعم ببعض النوم.

كانت رؤيتها مشوشة بعض الشيء لركضها بتلك السرعة الذي أدى إلى إلتواء قدmها اليمنى، فآنت بألم شـ.ـديد ثم أمسكت بسور الدرج لكي لا تفقد توازن جسدها.

حاولت الصعود لكنها لا تتحمل الضغط على قدmها، في تلك اللحظة قد تابعها يوسف وتعجب من وقوفها، اقترب منها متسائلاً بحيرة:
_ مالك، واقفة كدا ليه؟

أخبرته بما حدث فحاول تشجيعها على الصعود بقوله:
_ طيب امسكي في الطرابزين واطلعي براحة

بنبرة مرتجفة تهدد بالبكاء تمتمت:
_ مش عارفة أضغط عليها، بتو.جـ.ـعني..

هتفت آخر جملتها ثم بكت من الألم، فلم يتحمل يوسف بكائها المفاجئ، مسحت لينة عبراتها بأناملها سريعاً، رفعت عينيها للأعلى لا تدري كيف ستصعد بتلك الحالة إلى الطابق الثاني.

حشرت أنفاسها حين شعرت بذراعه الذي حاوط به خصرها، التفتت ناظرة إليه لتتأكد مما هما عليه، ازدادت دهشتها حين قال:
_ اسندي إيدك على كتفي

طالعته لينة لبرهة غير مصدقة ما يحدث، حثها هو بإشارة من عينيه فامتلثت على الفور، أصبحت بين أحضانه دون سابق إنذار، شاعرة بنبضاته التي تعزف خلف كتفها.

كان يرفعها يوسف من آن لآخر حتى تخطوا جميع الدرجات، طرق يوسف الباب فلن ينجح في فتحه وهي بين ذراعيه.

فتح له أخيه الذي تعجب من وضعهما وتسائل بريبة من أمرهما:
_ في إيه؟

هاجمه يوسف مستاءً:
_ وسع ندخل الأول

تنحى زياد جانباً فأدلف يوسف أولاً ليساعد لينة على الدخول، ثم مال بها بحذر عند وصوله للأريكة حتى اعتلتها، كانت تخرج منها آنة كلما حاولت تحريك قدmيها، فحذرها يوسف بقوله:
_ معتيش تحركيها، هدخل أشوف لو فيه مرهم هنا ينفعك

انسحب يوسف من بينهما باحثاً عن شيء يضمد به آلامها، عاد زياد بنظريه عليها وتسائل باهتمام:
_ إيه اللي حصل لرجليكي؟

أجابته بنبرة خافتة:
_ اتلوت وأنا طالعة على السلم

خرجت السيدة ميمي من غرفتها بعدmا أدت ركعتان قيام ليل، ذعرت حين رأت دmـ.ـو.ع لينة على مقلتيها، هرولت إليها متوجسة خيفة خشية أن مكروه قد أصابها، بخوف واضح سألتها:
_ مالك يا لينة، بتعيطي ليه؟

أخبرها زياد من خلفها:
_ رجليها اتلوت وهي طالعة السلم..

"يا حبيبتي، وريني رجلك كدا"
هتفت ميمي بآسى وحـ.ـز.ن ثم جلست القرفصاء لكي تتفحص قدmها، شهقت بذعر حين رأت تورم كاحلها وتمتمت بحـ.ـز.ن:
_ رجليكي وارمة خالص

حضر يوسف الذي وقعت كلمـ.ـا.ت ميمي على أذنيه فرد عليها:
_ أنا ملقتش حاجة هنا تنفعها، هنزل أشتري من الصيدلية

اختفى يوسف فور إخبـ.ـارهم بذهابه، بينما نهضت السيدة ميمي قائلة:
هروح أجيب مية دافية أعملك كمادات عليها

اختنقت لينة من ذلك الحجاب الذي لم تخلعه منذ عدة ساعات، تريد التحرر منه بأي ثمن، حاولت النهوض لربما تستطيع التوجه إلى غرفة السيدة ميمي وتعطى خصلاتها بعض الحرية.

لم تنجح في الوقوف بمفردها، يزداد الألم كلما دعست على قدmها، أشفق زياد على حالتها المذرية فأراد مساعدتها، اقترب منها ثم مد يده لها وهو يهتف:
_ تعالي وأنا أساعدك..

لم تفكر لينة ثانية بل أبدت رفضها بتعب:
_ لأ شكراً..

حاول زياد مرة أخرى، فهو يرى معاناتها ويريد فقط تقديم العون لها:
_ يابنتي تعالي هدخلك الأوضة

هزت رأسها رافضة ثم مالت على جدار الأريكة وأوصدت عينيها لحين حدوث أمراً يهدئ من آلامها، أطلقت صرخة قوية حين لامست تلك المنشفة المبللة بالماء الدافئ قدmها.

آزرتها ميمي وحثتها على التحمل:
_ معلش يا لينة، استحملي عشان تهدى شوية

كررت السيدة ميمي فعلتها حتى عاد يوسف، أقترب منهم وخصيصاً لينة، وضع ما معه جانباً ثم وقف أمام لينة وانحنى عليها، ثم أحاطها بذراعيه وهو يردد:
_ قومي معايا براحة

تشبثت لينة في ذراعيه ثم نهضت بصعوبة بالغة، رفع زياد حاجبيه متعجباً من أمر تلك الفتاة، لقد رفضت مساعدته منذ دقائق لكنها لا تبدي أي ردة فعل أمام يوسف!!
ولم تكن المرة الأولى، بل منذ دلوفها من ذلك الباب ترفضه دوماً، شعر زياد بغرابة تصرفاتها معه، كز أسنانه وهو يتابعهم بغضب تأجج داخله.

ساعد يوسف لينة على دخول غرفة والدته ومن ثم ساعدها على الاستلقاء، نظر إلى والدته وأمرها بلطف:
_ شوفي يا أمي عندك مراهم ادهني لها أنتِ، أنا برا لو احتجتوني

أماءت له ميمي ثم جلست بجوار قدmي لينة وبدأت تملس على كاحلها المتورم بحذر لكي لا تؤلمها.

بينما ولج يوسف لغرفته، فك أزرار قميصه الذي ألقاه على الفراش، كاد أن يتابع تبديل ثيابه إلا أن رنين هاتفه قد منعه، توجه نحو الفراش واختلس النظر إلى هاتفه الموضوع أعلاه، عقد حاجبيه تلقائياً فور رؤيته لاسم المتصل.

جلس على طرف الفراش ثم تناول الهاتف وأجاب:
_ إيمان!

"أنا هسألك حاجة وأقفل على طول"
قالتها إيمان فشعر يوسف بالغرابة حول سؤالها، تنهد وانتظر مواصلة حديثها التي تابعته بنبرة مهزوزة:
_ سبق وقولتلي إني أختك ومصلحتي تهمك، أنا عرفت من بابا إن أنت جيت النهاردة، أنا عايزة أعرف رأيك..

قطب يوسف جبينه، فما أهمية رأيه في ذلك، حالة من السكون طالت مدتها حتى أجاب يوسف مختصراً:
_ رأيي قولتو لخالي
_ "وأنا عايزة أسمعه منك"
قالتها إيمان مُصرة على سماع إجابته بينما أخرج يوسف تنهيدة مطولة، على الرغم من نفوره من تلك المحادثة إلا أنه سيواصل من أجل صديقه:
_ لو فعلاً عايزة رأيي، فأنا قولتلك رأيي قبل كدا

بعدm استيعاب سألته:
_ قولت إيه؟

نهض يوسف من على الفراش وسار في الغرفة ثم استرسل:
_ قولتلك خدي اللي بيحبك هيديكي مشاعره وقلبه ووقته وفلوسه وهيتقي ربنا فيكي، ووقتها كنت أقصد "بلال"
أنا كدا قولت كل اللي عندي، فكري كويس قبل ما تبلغي خالي برأيك

كلمـ.ـا.ته كانت بمثابة إنهائه للمكالمة، لم تطيل هي وكادت أن تغلق إلا أن يوسف لحق بها:
_ إيمان..

أجابته بلهفة:
_ نعم

بهدوء أردف:
_ لو سمحتي لو حصل نصيب بلاش المكالمـ.ـا.ت دي تاني..

تشـ.ـدقت إيمان بسخرية، لم تعقب بل أنهت المكالمة على الفور ثم ألقت هاتفها على الفراش بعصبية وهي تهتف بعدm تصديق:
_ بلاش المكالمـ.ـا.ت دي تاني!!

نظرت حيث تمكث والدتها أمامها وقالت من بين بكائها وهي تشير على نفسها:
_ أنا حاسة إنه طلب من صاحبه يتقدm لي عشان يخلص مني!

نهضت هادية بوجه عابس وصاحت هاتفة لإعادتها لصوابها:
_ يبقى تنـ.ـد.ميه، تثبتي له إن صاحبه مشافش النعيم غير على إيدك، وإنه دخل الجنة لما خطبك!

بكت إيمان كثيراً، لا تستوعب ما تطالبها به، وكأن الأمر بتلك السهولة، توجهت نحو الفراش واعتلت طرفه وأردفت وهي تطالع الفراغ أمامها بنبرة مهزوزة:
_ محسساني إن فيه زرار هدوس عليه أعرف أتعامل مع حد تاني

حركت رأسها ناحية والدتها وتابعت بتحسر شـ.ـديد:
_ دا أنا معرفتش أعمل صاحبة واحدة طول الـ السنين اللي فاتت دي، معرفتش راجـ.ـل حتى على سبيل الزمالة، مبعرفش أتعامل مع أي حد غريب عني، كل دا عشان كنت مركزة مع واحد وبس، واحد مفكرش مرة إنه يبصلي بنظرة مختلفة، محاولش يديني فرصة يمكن نظرته ليا تتغير ويحبني، دا أنا ضيعت عمري وشبابي كله بتمناه، برسم وبخطط لحياتي معاه، كل دا ضاع!
أنا حاسة إني كنت نايمة وصحيت فجاءة على عالم مش بتاعي، عالم معرفوش، مطلوب مني أتعامل مع ناس معرفش إزاي أتعامل معاهم، اتأقلم على راجـ.ـل تاني غيره!
إزاي هقدر أعمل كدا؟
أنا مقهورة أوي على كل اللي ضاع من عمري عشان واحد ميستاهلش ربع حُبي، أنا كنت مغفلة لما أقنعت نفسي إن الدنيا وردية والأحلام بتحقق
مفيش حاجة بتتحقق يا ماما
والمصـ يـ بـةإني كنت شايفة دا بعيني، بس عاندت وفي الآخر عِندي مكـ.ـسرش غيري.

ربتت والدتها على ظهرها بحنو وأردفت بعض الكلمـ.ـا.ت المشجعة:
_ يبقى تعملي اللي قولتلك عليه، تثب...

قاطعتها إيمان بتحركها من مكانها وصاحت بإنفعال شـ.ـديد:
_ بس أنا مش عايزة أثبت لحد حاجة، أنا عايزة أعيش لنفسي وأعوضها عن اللي اتسببت فيه

وقفت هادية أمامها ولم تعترض ما تريده بل وافقتها الرأي حيث قالت بهدوء:
_ خلاص يا حبيبتي، اعتبري العريس دا هو العوض ليكي..

جهشت إيمان باكية بحرقة، لا يتقبل عقلها ذلك التغير المفاجئ، كيف عليها السير في طريق لا تعلم إن كانت ستنجح في تخطيه أم لا، كيف تتقبل رجلاً آخر غير الذي سكن فؤادها، كيف ترسم طريقاً جديد لحياتها مع غيره بعدmا اجتازت طريقها مع يوسف في عقلها، كيف ستفعلها؟!

ضمتها والدتها بقوة لعلها تضمد جروحها وتدواي آلامها.

***

أنتبه يوسف لدخول شقيقه فترك الملف الذي كان يتفحصه، لاحظ جمود الآخر فسأله مستفسراً عما به:
_ في إيه مالك؟

شكل زياد بسمة لم تتعدى شفتيه وهو ينفي وجود أي شيء مريب:
_ مفيش، عايز أنام

حرك يوسف رأسه متفهماً أمره ثم انسحب إلى الخارج ليكمل قراءة ملف السيارات التي أحضره بلال في الصباح.

"بلال!"
ردد يوسف إسمه حينما تذكره، كاد أن يهاتفه إلا إنه تريث، فالوقت كان متأخراً، ولابد أن يكون قد غفى، ففضل مراسالته بدلاً عن مهاتفته، أرسل إليه رسالة على الواتساب مضمونها كان
"أنا عملت اللي عليا، الباقي عليك، ورينا شطارتك"

تقوس ثغره للجانب مشكلاً إبتسامة حين تخيل ردة فعله عنـ.ـد.ما يقرأ رسالته، لم تمر دقيقة إلا وهاتفه بلال الذي هلل غير مصدق:
_ أحلف

قهقه يوسف مؤكداً:
_ والله خلصت لك الموضوع، الدور عليك

بحماسة شـ.ـديدة هلل:
_ يعني المفروض أعمل إيه؟

أخبره يوسف قائلاً:
_ تتكلم مع أهلك وتروحوا تتقدmوا

أوصد بلال عينيه لبرهة وهو يعض على شفتيه السُفلى يحاول استيعاب الأمر، زفر بعض الأنفاس قبل أن يواصل استرساله بتردد:
_ قول إنك مش بتهزر يا يوسف وغلاوة لينة عندك

حالة من الذهول تملكت يوسف حينما ذكر بلال اسم لينة، تعجب من انتقائه لها خصيصاً دون غيرها، لكنه لم يريد أن يفسد تلك اللحظة الفريدة من نوعها على صديقه فأجابه دون تعقيب عما قاله:
_ والله ما بهزر، شوف اليوم اللي يناسبكم وعرفني أظبط مع خالي

صاح بلال الذي أسرت قلبه السعادة:
_ يا أخي ياريتك كنت قدامي، كنت بوستك

شعر يوسف بالتقزز منه وهتف مستاءً:
_ دا الحمد لله إني مش قدامك

انفجر بلال ضاحكاً بينما أردف يوسف بخبث:
_ وفره لبعدين..

لحظة إدراك ما يدور خلف كلمـ.ـا.ته الجريئة، نهره بلال غير مصدق وقاحته:
_ اتلم يالا، تصبح على خير

"وأنت من أهله"
هتف يوسف قبل أن ينهي المكالمة، واصل قراءة الملف الذي شعر بالغرابة حيال تلك السيارات الحديثة، يجب عليه الإنتباه جيداً قبل أن يقبل دخول تلك الصفقة معرضه.

بعد فترة ليست بقصيرة، استمع لأحد الأبواب الذي فُتح فرفع نظريه تلقائياً مع سماعه صرير الباب، خفق قلبه بشـ.ـدة حينما رأى تلك الطلة التي لم يرى مثلها من قبل.

لم يتوقف قلبه عن الخفقان بصورة مضطربة لرؤيته لخصلاتها الكستنائية المموجة التي تنسدل بعضاً منها على عينيها خافية جزءاً من وجهها، مظهراً جذاباً لم يتمكن من غض بصره تلك المرة.

لم يتحلى بتلك القوة التي يمتلكها أمام النساء فيغض بصره عنهن، شعر بنفسه الضعيفة التي أطالت النظر باستمتاع كأنه يشاهد فيلماً سينمائياً.

اختفت لينة خلف باب المرحاض، لم ترتدي حجابها ظناً أن الجميع نيام، فهي تكرر فعلتها من حين لآخر إن كانت في وقت متأخر متأكدة أنه لن يراها أحدهما، لكنها لم تحسب لتلك المرة مطلقاً.

جمع يوسف أوراقه سريعاً ثم هرول نحو الغرفة قبل خروجها لكي لا يسبب لها الحرج إن رأته، كان في حالة لا يرثى لها، مازال قلبه يخفق بقوة، تمايل خصلاتها لا يريد الإقلاع عن عقله.

لا يستطيع تفسير ما يحدث له، فقط عليه النوم لكي ينسى ما رآه، فلم يكن عليه رؤيتها في تلك الحالة الخاصة، التفت برأسه ناظراً إلى شقيقه النائم، راودته عشرات الأسئلة حينها وكان الأهم من بينهم "ماذا إن كان رأى أخيه تلك الطلة من قبل؟"

نفخ بضيق قد تملكه، شعر باختناق صدره، المزيد من الأوضاع التي تجتاحه دون أن يلم بمعناها، تشتت عقله ففضل النعاس ليجبر عقله على عدm التفكير بعد الأن.

لم يجافيه النوم إلا بعدmا تأكد من عودة لينة إلى غرفة والدته وأن أخيه لن يراها على تلك الحالة، أغمض عينيه فتشكلت صورتها في ظلامه، تسللت إبتسامة عفوية على ثغره لكنه سرعان ما أخفاها معاتباً نفسه الأمارة ثم حاول جاهداً أن ينام.

***

في الصباح الباكر، وخصيصاً في مطبخ المنزل، يجلس يوسف برفقة والدته التي هتفت بعدm تصديق:
_ بلال!

أماء لها يوسف مؤكداً:
_ أيوة يا أمي بلال، مالك استغربتي كدا ليه؟

جابت ميمي المكان من حولها بنظريها، في محاولة منها على هضم ما أخبرها به يوسف للتو، أجابته وهي تتشـ.ـدق، لا يستوعب عقلها بعد:
_ مستغربة إن بلال اللي يطلبها، مش عارفة ليه بس حاسة الموضوع غري...

صمتت ميمي من تلقاء نفسها حينما جمعت الحقيقة في عقلها، عادت ببصرها إلى يوسف ورددت بأعين ضائقة:
_ أنت عشان كدا مكنتش موافق تتقدm لها؟!

حرك يوسف رأسه بتأكيد ثم أوضح بعض النقاط التي تجهلها:
_ دا سبب من الأسباب، أول سبب إني مش حاسسها، ومش هروح أتجوز واحدة لمجرد إنك عايزاني أتجوزها يا أمي، وتاني سبب كان بلال، وقت ما أعترف لي أنه بيحبها رفضت الكلام عنها معاكي، مينفعش أتكلم على واحدة ممكن في يوم تبقى عرض صاحبي.

للحظة أعادت ميمي أفكارها ثم تشكلت بسمة على ثغرها ورددت برضاء تام:
_ بس والله فرحت، بلال كويس وإيمان تستاهل كل خير

تنهدت قبل أن تواصل:
_ ربنا يتمم لهم على خير يارب

نهض يوسف عن كرسيه وهو ينهي آخر قضمة من شطيرته ثم تحدث بفاه ممتلئ:
_ أنا ماشي عشان أتاخرت

اكتفت ميمي بإيماءة من رأسها، بينما دعت له بالتـ.ـو.فيق، توقف يوسف حين رأى خروج لينة من غرفة السيدة ميمي، قابلته هي بإبتسامة خجولة.

لم يرفع عينيه قط من عليها، يتذكر خصلاتها المموجة التي لمست شيء به، يعاتب ذلك الحجاب الذي يمنع رؤيته له مرة أخرى.

لعن ذاته لأنها تفكر بتلك الوقاحة، منذ متى ولينة كانت محور تفكيره بهذا الشكل، حمحم وسألها باهتمام:
_ رجلك عاملة إيه النهاردة؟

اتسعت عينيها وهي تجيبه مستاءة:
_ هي مش أحسن حاجة بس أحسن من إمبـ.ـارح، أنا مش هقدر أروح النهاردة دورس هشوف مجموعة بكرة وأحضرها

حرك يوسف رأسه متفهماً وضعها ثم قال بلطف:
_ سلامتك يا لي لي

"لي لي!!"
_ بربك ماذا قلت للتو، تفاجئ كليهما بما قاله يوسف، لم يرتب لذلك قط، ابتلع ريقه وهو يطالع عينيها المصوبتان عليه بذهول، لا يستطيع تفسير ما يوجد خلفهما، أهذه نظرة إعجاب لتلقيبه الجديد، أم صدmة لأنها لم تتوقع منه ذلك؟

طالت إجابتها عليها فهرب يوسف من أمامها سريعاً معللاً سبب هروبه:
_ أنا نازل ورايا شغل كتير، لو احتجتي حاجة كلميني

ابتعد عنها بضعة خطوات ثم أوقفته لينة بندائها:
_ يوسف..

التفت برأسه فأردفت هي ببسمة عـ.ـذ.بة ونبرة رقيقة:
_ الله يسلمك

بادلها إبتسامة ثم تابع خطواته إلى الخارج، لم ترفع لينة نظريها عن الباب الذي اختفى خلفه، قلبها يطرب فرحاً لذاك اللقب الجديد والفريد من نوعه، فكان أول من يناديها "لي لي" وبالطبع لن تسمح لغيره بقوله.

قرع رنين الجرس فتقدmت نحوه لتفتحه، فإذا بها شهد صديقتها جاءت للإطمئنان عليها قائلة بشفقة:
_ سلامتك يا روحي

" الله يسلمك يا شهد، تعالي"
قالتها لينة مجيبة إياها ثم حضرت السيدة ميمي مرحبة بها:
_ إزيك يا شهد، وإزاي مامتك أخبـ.ـارها إيه؟

بحرج شـ.ـديد ردت عليها:
_ بخير يا طنط الحمد لله، معلش جيت بدري، بس كنت عايزة أطمن على لينة قبل ما أروح دروسي

تشكل الإستياء على وجه ميمي، وهتفت معاتبة:
_ دا بيتك يا حبيبتي تيجي في الوقت اللي تحبيه

هدرت شهد ممتنة:
_ ربنا يخليكي يا طنط

استأذنت كلتاهن لدخول الغرفة، اعتلت لينة طرف الفراش بحذر لكي لا تؤلمها قدmها ورددت بملل:
_ اليوم لسه طويل أوي، هقعد أعمل إيه كل دا لوحدي

تأففت بملل شـ.ـديد ثم تحولت تقاسيمها إلى الحيوية وبنشاط واضح في نبرتها أمرت صديقتها:
_ بقولك إيه هاتي لما نحط ميك آب أهو أي حاجة تغير لي مودي

فحصت شهد المكان من حولها باحثة عن مستحضرات التجميل ثم تسائلت ساخرة:
_ مش شايفة أي ميك أب خالص

أشارت لينة إلى إحدى الحقائب ذات اللون الوردي وقالت:
_ في الشنطة البينك اللي على التسريحة دي

اتجهت شهد ناحيتها ثم أحضرتها وبدأن في وضع المساحيق المبالغة، فلا تسنح لهن الفرصة في وضع الكثير منه في الخارج، رفعت لينة المرأة البيضاوية الصغيرة التي بيدها وتفحصت ملامحها، ثم أغلقت شفتيها على بعضهما البعض لكي توزع أحمر الشفاه عليهما كاملاً.

أخفصت المرآة ثم وجهت سؤالاً إلى صديقتها التي لازالت تضع اللمسات الأخيرة:
_ ها إيه رأيك؟

نظرت إليها شهد بطرف عينيها ثم أرغمت على ترك ما معها لتتفحص ملامح لينة جيداً، ابتسمت بعفوية وهي تخبرها عن رأيها بلهجة صعيدية:
_ يا بوي على الحلاوة يولاد، دي أني لو راجـ.ـل كنت اتچوزتك يابه

قهقهت لينة عالياً وهتفت من بين ضحكاتها:
_ ربنا يحرسني لشبابي

شاركتها شهد الضحك ثم قضين وقتاً ممتعاً معاً.

***

اقتحم بلال مكتب يوسف الذي لم يتفاجئ بطريقة دلوفه، حرك رأسه مستنكراً عادته التي لن تتغير وردد ساخراً:
_ حاسس إنك لو دخلت باحترام مرة واحدة الكوكب هينتهي

قهقه بلال ثم لم يكترث كثيراً لما قال، فالحماس دون غيره يسيطر عليه الآن، اقترب من يوسف ثم أخفض نظريه عليه وسأله وهو يفتح العُلبة التي بيديه:
_ إيه رأيك، بس بصراحة، لو وحش قولي عشان أرجعه

نظر يوسف لما تحتويه العلبة، ابتسم حين رأى خاتم رقيق، وأبدى إعجابه به:
_ جميل أوي، دا لمين دا؟

قلب بلال عينيه مستاءً من سؤاله الساذج، أولاه ظهره وذهب ليجلس على أحد المقاعد وأجابه:
_ لإيمان، هيكون لمين يعني؟

عقد يوسف ما بين حاجبيه متعجباً من رده، ثم حاول ألا يعطي الأمر أكبر من حجمه وسأله مستفسراً:
_ أنت حددت معاد خلاص؟

بتلقائية أردف بلال وهو يطالع الخاتم باهتمام:
_ ولا حد يعرف لسه

ضـ.ـر.ب يوسف وجهه براحة يده غير مصدق تصرفه الأرعن، تنهد قبل أن يلقي بكلمـ.ـا.ته المستاءة:
_ وشاري خاتم وبتسألني عن رأيي وأنت أصلاً مفاتحتش أبوك في الموضوع؟!

أغلق بلال العُلبة بإبهامه ثم التفت إلى يوسف ودون تكلف في الحديث هتف بعجرفة:
_ دي سهلة دي، هما كلهم يتمنوا أشاور بس على واحدة، بنت خالك هتشوف دلع عمرها ما شافته

تقوس ثغر يوسف ساخراً وهو يسأله بفضول عما وراء كلمـ.ـا.ته:
_ إزاي يعني؟

وضع بلال العلبة على طاولة المكتب واستند بمرفقيه عليه قبل أن يجيبه بتكبر:
_

دلع هتلاقي، فلوس، هدايا، وحب هتلاقي كل حاجة تتوقعها هتلاقيها عندنا

لم يتأثر يوسف بعقلية بلال الساذجة وأردف بحكمة:
_ كل دول صدقني ولا يفرقوا قصاد إنك تتقي ربنا فيها

قطب بلال جبينه وصاح متسائلاً بإقتضاب:
_ وأنت عندك شك في كدا ولا إيه؟

حرك يوسف رأسه نافياً ثم أكد بقوله:
_ عارف، بس بأكد عليك، عارف يا بلال إيه اللي ممكن ينجح أي علاقة؟

استند بلال بذقنه على راحة يده وطالع يوسف بنظرات ساخرة مجيباً إياه:
_ إيه يا روميو؟

رمقه يوسف بنظرات متهمكة ثم تابع بنبرته الرخيمة:
_ إنك في الزعل تفضل زي ما أنت، تتعامل بطبيعتك وطريقتك بس تتجنبوا الكلام في الموضوع اللي زعلانين فيه، وتحددوا له وقت تتعاتبوا فيه

بعدm استيعاب بعد لحديث يوسف تسائل بلال باستفسار:
_ يعني إيه أفضل زي ما أنا؟!

أوضح له يوسف ما يقصد بسلاسة دون تعقيد:
_ يعني متاخدش جنب وتتجنبها وتقوم بالدور اللي هي بتقوم بيه، متحسسهاش إنك تقدر تعمل كل حاجة بنفسك ومش محتاج لها، أنت كدا بتعمل حاجتين

رفع يوسف إصبعيه وأشار على الأول وتابع استرساله:
_ أول حاجة إنك بتقولها ملكيش لازمة

انتقل إلى إصبعه الثاني وواصل:
_ وتاني حاجة بتكبر الفجوة اللي بينكم وفعلاً بتقدر تستغنى عنها لو مش دلوقتي فبعدين

صاح بلال ساخراً:
_ قول يا نزار يا قباني قول وأطربني

بحث يوسف بعينيه سريعاً على شيئاً يمكنه إلقائه عليه، أمسك بمزهرية صغيرة الحجم وألقاها عليه بغيظ شـ.ـديد هاتفاً بحنق:
_ أنا غلطان إني بتكلم مع واحد زيك

لَقِفها بلال قبل أن تسقط أرضاً وأعادها إلى موضعها وهو يردف متسائلاً:
_ وأنت عرفت الكلام دا منين يا حنين؟

أشار يوسف بيده على الأرفف الخشبية خلفه والتي تضم بعض الكتب وقال موضحاً:
_ من القراية يا ظريف

حقاً ينتابه الفضول حول ذلك اليوم الملئ من الأمور التي ينهيها في فترة وجيزة، تنهد ثم سأله بفضول شـ.ـديد:
_ أمـ.ـو.ت وأعرف بتجيب وقت منين لكل دا، شغل وقراية ومننساش البرنسيس لينة

نهره يوسف بإقتضاب:
_ ملكش دعوة بيها يا خفيف وقصر

حرك بلال راسه لا يصدق رفضه المستمر في الحديث عنها، ابتلع ريقه وبحنق صاح:
_ لا أنا بدأت أغير منها، دا أنت مبتهتمش بصاحبك نص الإهتمام دا

تأفف يوسف ثم قلب عينيه وردد مستاءً:
_ أنت عبـ.ـيـ.ـط يا بلال، أنت يا حبيبي حاجة وهي حاجة، أنت صاحبي وأخويا

صمت يوسف وكأن الحوار انتهى، بينما لم يكتفي بلال بتلك الإجابة الناقصة وأردف سؤاله:
_ وهي إيه يا صاحبي؟

بتلقائية أجابه:
_ أمانة صاحبي.

أستاء من إجابته التي لم تتغير منذ سبعة أعوام، لم يستطيع أن يمرق الأمر كسابق مـ.ـر.اته وقال:
_ أنت ليه عمرك ما شوفتها مثلاً أختك، دايماً بترد إنها أمانة، يعني إيه أمانة دي؟ مكانتها إيه يعني؟

فكر يوسف لوقت قبل أن يجيبه:
_ مفكرتش قبل كدا في مكانتها، أصل هتفرق إيه يعني، المعاملة والأسلوب والمسؤولية عمرهم ما هيتغيروا

نهض بلال ليهم بالمغادرة، ثم التقط علبة الخاتم وهو يردد بحماسة:
_ طب سلام يا حنين

"سلام يا بـ.ـارد"
قالها يوسف ثم هاتف السيد سمير لكي يخبره بما توصل إليه حديثاً في مجموعة السيارات التي تفقدها جيداً.

***

مالت برأسها على كتف صديقتها متسائلة عما تفعله:
_ بتعملي إيه؟

تأففت لينة بضجر ثم ألقت بهاتفها على الفراش بعدmا فشلت في الوصول إلى مرادها، تنهدت شهد وطالعتها بشفقة وهي تقول:
_ أنتِ لسه بدوري عليه؟!

أوصدت لينة عينيها لبرهة في محاولة منها على التماسك لكي لا تتلف أعصابها وأردفت بنبرة مهزوزة:
_ مش لاقية حاجة عنه خالص، معقول في بني آدm في العمر دا معندوش أي صفحة تواصل؟!

أخرجت تنهيدة مهمومة قبل أن تواصل بحـ.ـز.ن شـ.ـديد:
_ مفكرش حتى يسأل فيا ولا يدور عليا، سبع سنين من غير ما أسمع صوته، من غير ما يطمن عليا معقول موحشتوش، أومال لو مكنتش توأمه؟!
والمفروض يبقى حاسس بيا، بس الظاهر إني مش في دmاغه أصلاً، إنجلترا نسيته أهله

صمتت لينة ثم رددت ساخرة:
_ تقريباً اعتبرني مُت مع اللي مـ.ـا.توا!

شعرت شهد بالشفقة حيالها، أدmعت عينيها متأثرة بمشاعرها التي تفيض بيها، اقتربت منها وضمتها بقوة لعل فعلتها تنجح في تضميد جـ.ـر.حها.

بعد مدة ابتعدت عنها لينة وأخبرتها بإمتنان:
_ شكراً عشان أنتِ موجودة مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه

اتسع ثغر شهد بإبتسامة وهي تشاكسها:
_ روميو موجود برده يسد مكاني

غمزت لها بعينها فابتسمت الأخرى بحياء، تلونت وجنتيها بالحُمرة فهللت شهد غير مصدقة:
_ بتتكسفي يا لينة مش ممكن

لكزتها لينة في ذراعها ومن ثم اختفت ابتسامتها وبدأت تردف ما يكمن بداخلها:
_ أوقات بحس إني غلط ومينفعش أعمل كدا، بس بجد غـ.ـصـ.ـب عني، يوسف هو مصدر الحماية والأمان بالنسبة لي، أنا ببقى مطمنة وهو موجود، البيت والدفا والعيلة بيتمثلوا فيه هو، هو اللي عطاني كل دول تاني بعد ما راحوا مني، ت عـ.ـر.في بحب ملامحه أوي..

تقوس ثغرها ببسمة عـ.ـذ.بة متذكرة ملامحه الرجولية الجذابة:
_ بحبه يضحك عشان أشوف غمزاته، بحب حتى النقار بينا، كل حاجة فيه حلوة، لكن أنا حلوة بيه وبوجوده، أنا بحبه أوي يا شهد...

زفرت دmعة على مقلتيها مناقضة حديثها السابق:
_ وفي نفس الوقت بحس إني أنانية أوي، أنا وقفت له حياته كلها، مش مهتم غير بيا وبمصلحتي وبرضايا، مأجل جوازه عشاني، مأجل مستقبله كله بسببي، والمشكلة إني مش مضايقة أنا مبسوطة بكدا عشان مش عايزاه يكون لحد تاني، عايزاه يوم ما يفكر في مستقبله يبقى معايا أنا وأكون جزء منه.

اقترحت عليها شهد وهي تطالع الفراغ أمامها:
_ ما يمكن أنتِ اللي شايفة كدا بس، يعني يمكن هو اللي عايز يأجل حياته ومستقبله، مش يمكن يكون بيح....

قاطعتها لينة بنبرة مهزوزة:
_ أنا بالنسبة له أمانة وصاه صاحبه عليها قبل ما يمـ.ـو.ت!

استنكرت شهد تفكيرها الساذج وهتفت بمعتقداتها:
_هو فيه حد بيعمل كدا لمجرد وصية؟ دا أنتِ خالك نفسه سابكم ومهتمش بيكم، واحد غريب هيصون الأمانة بالطريقة دي؟

عارضتها لينة قائلة:
_ أيوة يوسف يعمل كدا، يوسف بيتقي ربنا في أهله مش أنا بس، وفي شغله كمان، بيدي لكل حاجة حقها وزيادة وصاحب صاحبه أوي، وبما إني أخت صاحبه اللي وصاه عليا أنا وعلي فأنا شايفة اللي بيعمله دا طبيعي جدا لشخصية زي يوسف!.

شعرت شهد بأنها لم تعد تعي شيء، تفحصت ساعة يدها ثم شهقت بذعر حين رأت تأخر الوقت، انتفضت من مكانها وهي تردد:
_ أنا اتاخرت أوي

هرولت إلى الخارج بخطوات سريعة، تابعتها لينة بتهمل بعدmا التقطت حجاب رأسها، فهي بالكاد تستطيع الضغط على قدmها، ودعتها شهد بحرارة ثم أغلقت الباب.

تفاجئت لينة بفتح الباب مرة أخرى وإذا به يوسف، تعجبت من قدومه فهو لا يأتي في مثل ذلك الوقت، قطبت جبينها بغرابة وسألته مستفسرة:
_ أنت كويس، أصل مش بتيجي في الوقت دا

اقتربت منها يوسف وهو يجيبها بإبتسامة لا تعلم سببها:
_ جيت أطمن عليكي وراجع تاني..

كان يطالعها بنظرات مريبة، وابتسامته تزداد كلما مر الوقت عليهما، ابتلعت لينة ريقها بخجل وهـ.ـر.بت بعينيها بعيداً عنه، بينما لم يرفع يوسف نظريه عليها، يطالعها بإعجاب شـ.ـديد فلم يراها على تلك الحالة الجريئة من قبل.

حمحم يوسف قبل أن يردف متسائلاً:
_ ميمي فين؟

أجابته باختصار:
_ في المطبخ..

حرك رأسه متفهماً ثم همس لها وهو يمر بجوارها:
_ المكياج حلو أوي..

تركها وتابع تقدmه نحو المطبخ بينما اتسعت مقلتيها بذهول، مدت يدها وتحسست شفتيها فتفاجئت بذلك اللون الأحمر الذي ترك أثره على إصبعها، أخرجت زفيراً عميق وهو تعود إلى الغرفة حتى تمسح آثار المساحيق التي نسيتها تماماً.

وقفت أمام المرآة ثم سحبت أحد المناديل الدائرية من علبتها الإسطوانية، كادت أن تمسح زينتها إلا أنها تراجعت، طالعت ملامحها وكلمـ.ـا.ت يوسف تتردد في عقلها، تدفقت الدmاء في عروقها فشعرت بالحرارة في ثائر بدنها وخصيصاً وجنتيها.

ابتسمت بحياء يشوبه السعادة التي أسرت قلبها، تنهدت ثم أعادت المنديل القطني إلى علبته، قررت أن تترك زينتها بضعة من الوقت بعد، لربما يعيد كلمـ.ـا.ت الغزل خاصته ثانيةً.

استدارت بجسدها وأمسكت بمقبض الباب، زفرت بعض الأنفاس قبل أن تنسحب إلى الخارج، فتحت الباب أثناء خروج يوسف والسيدة ميمي من المطبخ، كذلك أنتبها ثلاثتهم إلى مجيء زياد من الخارج.

أعاد يوسف النظر إلى لينة التي مازالت على زينتها واقترب منها قبل أن تخطوا خطوة إلى الخارج وأمسك بمقبض الباب أمراً إياها:
_ امسحي اللي على وشك دا

أغلق الباب وتوجه ناحية أخيه متسائلاً عن أحواله:
_ ها عملت إيه في الإمتحان؟

بإقتضاب أجابه:
_ ماشي حاله

أوقفه يوسف بوضع يده على كتفه ثم أردف بنبرة هادئة:
_ كفاية إنك تعمل اللي عليك وبس

ابتسم زياد له مردداً:
_ بعمله يا يوسف متقلقش

بادله يوسف الإبتسام قبل أن يسأله مرة أخرى:
_ هتخلص امتى؟

تنهد بنفاذ صبر فهو يريد الخلاص من تلك الدوامة التي لا تنتهي:
_ كمان يومين

"وأنا هبدأ"
قالتها لينة من خلفهم بنبرة يملئها التـ.ـو.تر والخوف، استشعر يوسف خوفها، وحاول تشجعيها ببعض الكلمـ.ـا.ت:
_ أنتِ قدها يا لي لي ولا إيه؟

تلألأت العبرات في عينيها ثم انسحبت إلى الغرفة عنـ.ـد.ما فشلت في مجارة الحوار معه كما تفعل دوماً، تحدثت السيدة ميمي وهي تطالعها حتى اختفت من أمامهم:
_ مأصليش شوفتها خايفة كدا

شهيقاً وزفيراً فعل يوسف وهو يفكر في شيء يمكنه محي تـ.ـو.ترها ذاك، ابتعد عن الجميع بينما ولج زياد غرفته ليبدل ثيابه، كما انتهزت السيدة ميمي فرصة تواجدهم جميعاً وذهبت لتحضر الغداء.

أنهى يوسف مكالمته التي طالت لبضعة دقائق بقوله:
_ بس أكيد النهاردة، تمام شكراً، مع السلامة

جلس أربعتهم حول الطاولة وبدأوا يتناولون طعامهم، كما لاحظوا حالة لينة المضطربة، فهي في العادة لا تكون هكذا لكنهم لم يعقبَ.

***

حل المساء، الجميع في غرفهم، عدا يوسف الذي يقف في نافذة الردهة في انتظار أحدهم، لفت انتباهه إحدى السيارات التي وقفت أسفل بنايتهم، ومن ثم صدح رنين هاتفه.

أجاب وهو يعود إلى الداخل:
_ تمام، إحنا الدور التاني

وضع هاتفه على الطاولة ثم توجه إلى غرفة والدته، طرق بابها بهدوء، جاءته السيدة ميمي فأخبرها بنبرة خافتة:
_ الأوضة بتاعت لينة جت متخرجوش من الأوضة غير لما العمال يمشوا

أماءت له بقبول ثم أغلقت الباب بينما نادى هو بصوت جهوري على أخيه ليساعدهم، نقل العمال الغرفة بمساعدة يوسف وزياد وقاموا ببنائها، ثم ذهب يوسف إلى غرفته وعاد مرة أخرى بعدmا أحضر تلك الأرجوحة التي كان يخبئها في مكان بعيد عن الأعين.

قام بتعليقها في زاوية مناسبة لها، ثم قام بوضع الأرفف الخشبية على أحد الحوائط المجاورة للأرجوحة، وأخيراً وضع المصابيح الصغيرة في الفراغات الدائرية في المرآة، انتهى من عمله وجاب الغرفة بعينيه متفحصاً كل ركن بها باهتمام.

تنهد بـ.ـارتياح وخرج منها ولم يصبر ثانية ليرى وجه لينة عنـ.ـد.ما ترى غرفتها الجديدة لطالما حلمت بكل ثغرة فعلها هو بها.

طرق باب غرفتهما وهو يردد بحماس:
_ ممكن تخرجوا دلوقتي

فتحت ميمي الباب أولاً ثم تابعتها لينة التي سألته بملل فمزاجها ليس في محله:
_ أنت كنت بتعمل إيه كل دا؟

بإبتسامة هادئة أجاب:
_ تعالي وأنتِ تشوفي بنفسك

قرع رنين هاتف السيدة ميمي فاستأذنت منهما قائلة:
_ أنا جاية أهو ياولاد

عادت إلى غرفتها بينما توجه يوسف إلى غرفة لينة التي تبعته، ولج كليهما إلى الغرفة ثم فتح يوسف الإضاءة فظهرت معالم غرفتها الجديدة بوضوح.

اتسعت مقلتي لينة بذهول، لوهلة لم تصدق ما رأته، الغرفة تماماً كما كانت تتخيلها في عقلها، اختلست النظر إلى كل أنش بها، خفق قلبها بقوة كما ارتفع ادرينالها فتسبب في حماسة زائدة داخلها، ارتفعت ضحكاتها التي أسعدت قلب يوسف للغاية.

فهذا كان مراده من البداية، رؤية بشاشة وجهها وإعادة حيويته، تنهد ثم وقف يتابعها، بينما عادت إليه بسعادة غامرة لا تسعها، وبدون ترتيب مسبق عانقته ممتنة له:
_ شكراً

صعق يوسف من تصرفها المفاجئ، طالع أمامه بعينيان جاحظتان، لا يجرأ على التحدث أو إبداء أي ردة فعل وكأن حركته شُلت تماماً، تسارعت نبضات قلبه التي تستند عليه برأسها.

هناك مشاعر متناقضة داخله، فجزء يرفض البتة وضعهما ذاك، والآخر يتمنى لو لا تنتهى تلك اللحظة مطلقاً.

انتبهت لينة على سخافة تصرفها، تراجعت للخلف بهدوء وقد تلونت وجنتيها بالحمرة الصريحة، حمحمت بحرج وأردفت بنبرة متحشرجة:
_ أنا آسفة بس أنا اتحمست و...

"دا كأن الأوضة لسه جديدة"
قالتها ميمي مقاطعة كلمـ.ـا.ت لينة التي لم تنتهي، لم يرفع يوسف نظريه عنها بينما لم تحاول لينة النظر إليه قط، ظلت منكسة الرأس تعقب فقط إذا حدثتها ميمي.

انسحب يوسف من الغرفة وعاد إلى غرفته، لقد تملك الغضب منه، كز أسنانه بضيق شـ.ـديد، فالأمر لم يروق له بالمرة، جرأتها معه لم يحبها، بل أحبها لذلك لم يحب إعجابه للوضع.

هي تصرفت بتلقائية غير مرتب لها، لكن ماذا عنه؟ لماذا لم يمنعها؟ ما تفسيره عن ضعف شخصيته حينها، لماذا خفق قلبه بتلك القوة لحظتها؟ رفع رأسه وطالع سقف الغرفة وهو في حالة ضياع تام، أخرج تنيهدة غاضبة لاعناً تقبله للأمر.

"مالك؟"
سأله زياد باهتمام حين ولج للغرفة ولم يشعر به يوسف، حرك رأسه يميناً ويساراً نافياً وجود ماهو هناك، نهض وقال بإقتضاب:
_ مفيش، تصبح على خير

بدل ثيابه ثم اعتلى الفراش، دسر الغطاء أعلى رأسه لكي لا يواجه أخيه، لم يكف عن تأنيب ذاته عما حدث، وظل يذكر نفسه بأنها وصية صديقه ولابد أن يحافظ عليها ولا يسمح بحدوث شيء كهذا مرة أخرى.

في الغرفة المقابلة، انسحبت ميمي تاركة لينة تعيد كل ما يخصها في أماكنها كما كانت، أغلقت لينة الباب بعد ذهاب السيدة ميمي ووقفت خلفه لاعنة تصرفه الأرعن الذي حتماً تسبب في مضايقة يوسف.

بالتأكيد تضايق، فهو لم يردف حرفاً منذ ذلك الحين، تأففت بصوت عالٍ وضـ.ـر.بت رأسها بخفة متذمرة:
_ أنا غـ.ـبـ.ـية

***

شهيقاً وزفيراً فعل للمرة العاشرة، ثم ابتلع ريقه مراراً، يشعر بالتـ.ـو.تر الممزوج بالحرج، لكن إصراره على الأمر كان خير داعم له.

تنهد وهو يمرر أنظاره بين والديه، فقط يريد البداية وبعد ذلك سينطلق بالكلمـ.ـا.ت دون توقف، لا يدري كيفية البدء، تأفف حينما فشل، منذ متى وهو يفشل في إخبـ.ـارهما عما يريده؟!

يمكن لأنه يخشى رفضهم؟! ستكون فيها هلاكه حتماً، أوصد عينيه لبرهة طارداً أفكاره الغـ.ـبـ.ـية، فهم يتمنون زيجته اليوم قبل الغد، إذاً فاحتمالية رفضهم ضعيفة.

لاحظت والدته تصرفاته المريبة التي كان عليها منذ جلوسه معهما، قطبت جبينها وسألته مستفسرة:
_ مالك يا بلال، مش على بعضك كدا ليه من وقت ما قعدت معانا

ابتسم لها، فتلك هي البداية، شكرها داخله ثم بدأ حديثه بلهجة حيوية:
_ بصراحة عايزة أتكلم معاكم في موضوع كدا

سحب سمير جهاز التحكم ثم أخفض صوت التلفاز، التفت إلى بلال ناظراً إليه في انتظار ما سيخاطبهما فيه، أخرج بلال تنهيدة وبنبرة يسيطر عليها التـ.ـو.تر أردف:
_ أنا عايز أتقدm لـ بنت خال يوسف

دقت أسارير السعادة قلب شهيرة، فهذا الخبر الذي تنتظره بفروغ صبر، هذا وحيدها وتريد أن تراه في بيته مع شريكته، نهضت عن أريكتها وصاحت زغاريدها التي دوت في المكان.

تفاجئ كليهما بتصرفها وأسرع سمير في نهرها معنفاً إياها بحنق:
_ بس بس، أنتِ بتعملي إيه، دا لسه بيقول عايز يتقدm

توجهت شهيرة إلى بلال وجلست بجواره، طالعته بأعين لامعة وبنبرة سوية قالت:
_ دا أنا مستنية اليوم دا من زمان أوي

اتسعت إبتسامة بلال ثم أنتبه لأسئلة والده الذي
إنهال بها عليه:
_ إسمها إيه ومن عيلة إيه، أبوها شغال إيه و...

قاطعه بلال بإحترام:
_ إيه يا بابا كل دا، بقولك بنت خال يوسف يعني مش محتاج تسأل أصلاً

رمقه سمير بنظرات متهكمة لسذاجته وهتف مستاءً:
_ دا زياد أخو يوسف نفسه مش شبهه، والاتنين من نفس البطن، كل واحد فيهم مختلف، ما بالك ببنت خاله؟

لم يتحمل بلال سوء ظنه بها وأوضح له بنية حسنة:
_ لا يا بابا البنت محترمة جداً، أنا أعرفها

تدخلت شهيرة بقولها:
_ وأنا كمان، أينعم أنا متكلمتش معاها كتير، بس ارتحت لها وكفاية إنها بنت أخو ميمي

قلب سمير عينيه متزمجراً من عقليتهم المحدودة وصاح غاضباً:
_ برده هتقولي بنت أخو ميمي، أنا مليش دعوة هي قريبة مين، ليا دعوة بيها وبالبيت اللي اتربت فيه، هي وأهلها كويسين ومحترمين يبقى تمام

لم يرحب بلال بكلمـ.ـا.ته، شعر بالضيق يجتاحه، لكنه لن يستلم، زفر أنفاسه قبل أن يردف:
_ يعني هنتقدm امتى؟

بنفاذ صبر أجابه:
_ لما أسأل عليهم الأول قبل كدا لأ

أعاد صوت التلفاز وتابع إلى ما كان يشاهده، بينما نهض بلال متذمراً، فلم يتوقع رد كهذا مطلقاً، ظلت شهيرة ترمق زوجها بنظرات مشتعلة فهي استشعرت ضيق بلال وهذا آخر ما تحب أن تراه.
في الصباح الباكر، نهض يوسف محاولاً التغاضي عما حدث البـ.ـارحة، مشاعر مختلطة تتخبط به، فهناك النفور وعدm الرضاء بما فعلته تلك المشاكسة العفوية وشعور آخر الإعجاب بما فعلته، ولن ينكر أن هذا الشعور كان الأقوى من بينهما، وهذا ما يضايقه.

تناول شطيرة سريعاً قد أعدها بنفسه لكي يفر هارباً من المنزل قبل أن يواجه ساكنيه، تفاجئ بصوتها العـ.ـذ.ب الذي ناداه من خلفه:
_ يوسف..

توقف عن السير ثم استدار إليها فتفاجئ بوضعها، عقد ما بين حاجبيه بغرابة متسائلاً عن سبب حالتها:
_ أنتِ لابسة كدا وراحة فين؟

اقتربت منه والحُمرة تكسو وجنتيها ثم أجابته برقة:
_ المسيو عاملنا إمتحان، فلازم أروح بدري قبل معاد الدرس

رفع يوسف حاجبيها متفهماً الأمر، كان متعجباً من ابتسامتها المرسومة على ثغرها الصغير، شعر بعلامـ.ـا.ت استفهام خلفها لكنه لم يعقب، حمحم ثم أردف وهو يعود مارً بجوارها:
_ ثواني وراجع

تابعت لينة سيرها إلى الخارج لكي ترتدي حذائها لحين عودة يوسف، تفاجئت به يحمل شطيرة بيده ويناولها لها قائلاً بإختصار:
_ كلي حاجة قبل ما نمشي

اتسعت إبتسامتها وشكرته بمشاكسة:
_ تشكولار
(ترجمة: شكراً)

لم يمنع يوسف ضحكته التي تشكلت على شفتيه رغماً عنه، هز رأسه مستنكراً لغتها التركية التي تنطقها من آن لآخر ثم هتف:
_ مش عارف التركي دا آخرته إيه؟!

أجابته بتلقائية:
_ على تركيا أكيد، أومال أنا بتعلم كل دا ليه؟

رمقها يوسف بأعين ضائقة، فإجابتها مبهمة بعض الشيئ فقال بفضول:
_ ودا هيحصل إزاي يعني؟!

فكرت لينة لثوانٍ قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة تحديداً، يمكن رحلة أو يمكن أكمل تعليمي هناك، الله أعلم

حملق بها يوسف لبرهة، لوهلة لم يستوعب حديثها المراهق وصاح بعدm رضاء:
_ مفيش الكلام دا، تعليمك هنا إن شاء الله

قلبت لينة عينيها وبميوعة هتفت:
_ حضرتك بترفض بصفتك إيه؟ خطيبي؟ جوزي؟ مرتبطين؟!

تفاجئ يوسف من ردها الذي ألجم لسانه، طالعها لوقت ثم أبدى رفضه لحوارها السخيف بنبرته المحذرة:
_ لينة..

انفجرت ضاحكة وهي ترى عينيه يتأجج فيهما الغضب المصاحب للرفض التام وأردفت ممازحة:
_ بهزر معاك يا "سوفي"

"سوفي!!"
رددها يوسف وهو يطالعها بطرف عينيه لا يصدق تلقيبها له، من أين أتت به تلك؟

"طب بزمتك مش حلو؟"
قالتهم لينة متعمدة جرأتها معه، لعله يشعر بمشاعرها نحوه، كان الآخر متفاجئاً من جرأتها معه منذ البـ.ـارحة، لم يستطيع مجراتها كما يفعل، يشعر وكأن هناك خطأ في الأمر، ما الذي بدل أحوالها هكذا بين ليلة وضحاها؟

نظر إلى يدها التي مُدت له متعجباً فأوضحت هي مازحة:
_ أنتِ طمعان في السندوتش اللي جايبهولي ولا إيه؟

انتبه يوسف إلى الشطيرة التي لازالت بيده، أعطاه لها ثم حاول الخروج من عدm استيعابه لتصرفاتها التي باتت مبهمة بقوله:
_ يلا عشان متتأخريش

أغلق باب شقتهم وهبط درجات السُلم سريعاً، متجاهلاً تصرفاتها المريبة التي تفعلها، استقلا في السيارة دون حديث لكن الأجواء لم تخلوا من دندنة لينة بصوتها العـ.ـذ.ب:
"روق مبقاش في ما بينا فروق، ولا فـغلاوتك مخلوق يامعلي في قلبي الشوق،
يوم.. يوم ندي الدنيا طناش، لسه أنا وأنت معشناش، فك ومتحكبهاش"

ثم انتقلت إلى أغنية أخرى بخفوت:
"والشوق بيبات يا حبيبي في حـ.ـضـ.ـني ساعات وساعات لو زاد الشوق مينيمنيش،
لا نهار ولا ليل ملكش في خيالي بديل ولا من أيامك يوم مبيوحشنيش"

التفت يوسف حيث تجلس مستفسراً عن حالتها الغريبة اليوم:
_ مالك يا لينة؟!

طالعته بأعين لامعة مجيبة إياه بهدوء:
_ مفيش، بدندن..

أماء برأسه كأنه لم يكن يعلم أنها تدندن، عاد بنظريه متابعاً الطريق أمامه مشكلاً إبتسامة على محياه بسبب عودتها لمواصلة غنائها دون اكتراث لسؤاله كأنه لم يُسأل.

صمتت من تلقاء نفسها حين صدح رنين هاتف يوسف الذي أجاب بجدية بعدmا أوصله بسماعة أذنيه:
_ إيه يا عمار؟

أجاب الآخر بعملية:
_ معلش يا أستاذ يوسف بس عايزينك تيجي الوقتي

بإقتضاب قال يوسف:
_ أنا ورايا مشوار وجاي، قدامي حوالي نص ساعة وأوصل

أصر عمار علي مجيئه موضحاً السبب:
_ معلش يا أستاذ يوسف بس بنت سيلمان المحمدي هنا وطلباك بالإسم

شـ.ـد يوسف تقاسيمه معاتباً عقله على نسيانه مردداً بضيق:
_ دا أنا نسيت خالص، فعلا والدها كلمني وقالي إنها جاية النهاردة تغير عربيتها، بس أنا برده مش هعرف أجي قبل ما أخلص مشواري خليها تستنى شوية

وجه عمار نظريه على الفتاة التي تتأفف وتجوب المكان بعجرفة ثم أردف بقلة حيلة:
_ أمري لله هحاول ألهيها بأي حاجة على ما توصل، مع السلامة

كانت تتابع المكالمة بآذان صاغية، فهناك إمرأة يتحدثان عنها فكيف لن تصغي جيداً، حمحمت بتردد قبل أن تهتف:
_ أنا معايا وقت ممكن تروح تشوف شغلك وبعدين توصلني

نظر إليها يوسف لبرهة ثم أبدى رفضه قائلاً:
_ لا لا هوصلك الأول تستنى هي..

أصرت لينة علي ذهابه إلى عمله فهي تريد رؤية تلك المرأة:
_ بجد والله لسه معايا وقت متقلقش

بعد تفكير وإلحاح من لينة وافق يوسف الذهاب إلي عمله وإنهاء تلك المقابلة سريعاً حتى لا يخسر التعامل مع والدها الخلوق، ومن ثم يقوم بتوصيل لينة لاحقاً، على الجانب الآخر فرحت لينة بذهابها معه فقط لترى من يتعاملن معه.

بعد مدة قصيرة، وصل يوسف إلى مكان عمله، ترجل من السيارة بعدmا صفها أمام المعرض، ترجلت لينة أيضاً لترافقه إلى الداخل.

استقبل عمار يوسف بفرحة عارمة شاكراً إياه بداخله على وصوله سريعاً وإنقاذه من بين أسنان تلك الفتاة:
_ كويس أنك جيت يا أستاذ يا يوسف والله

"هي فين؟"
تسائل يوسف فلم يكن هناك فرصة لإجابة عمار، فكان ظهورها خير إجابة:
_ أخيراً وصلت يا جو

فغرت لينة فاها حين وقعت عينيها عليها، حدجتها كلياً بصدmة، بدايةً من خصلاتها البنية المحررة إلى تلك التنورة القصيرة التي تظهر بشرتها الحليبية المثيرة، ناهيك عن قميصها ذو الفتحة التي تبرز مفاتنها الواضحة للغاية، وحذائها الشفاش بحبال ملتفة حول كاحلها.

شهقت لينة بداخلها، الأمر كان صعب تصديقه، أشبه بالحلم، أهذه وأشباهها يتعاملن مع يوسف!
شعرت بغصة مريرة في حلقها، تابعت اقتراب الأخرى وانتبهت جيداً لأي تخطي في حدودها مع يوسف فهو ملكية خاصة ولا يمكن لأحد ملامسته أو الإقتراب منه.

"واحشني يا جو بجد"
أردفتهم الفتاة بحميمية وهي تصافحه، لكنها سرعان ما تراجعت معتذرة:
_ I'm sorry نسيت إنك مش بتسلم

بإبتسامة مقتضبة تحدث يوسف:
_ إزيك يا آنسة يُمنى، أستاذ سيلمان كان مبلغني إنك عايزة تغيري عربيتك، ياريت نبدأ نتفرج بسرعة لأني ورايا مشوار ضروري

اتسع ثغرها بإبتسامة ساخرة، ناظرة للأعلى بتهكم ثم هتفت مستاءة:
_ لا مشوار إيه بس أنت مش عارفني، لازم أخد وقتي في اختيار شريكتي الجديدة، أنت نسيت اخر مرة جيت هنا قعدت حوالي ٣ ساعات

لعن يوسف عقله الذي قبل عرض لينة وجاء لهذا المكان قبل أن يقوم بتوصيلها أولاً، تنهد في محاولة منه على كسب بعض الهدوء، ضغط على شفتيه السفلى مردداً بفتور:
_ بقول نبدأ نتفرج عشان نكسب وقت

بميوعة مبالغة هدرت:
_ Sure يلا..

شعرت لينة لوهلة أن رائحة حريق تفوح منها، هي تحترق فعلياً من الداخل، لا يوجد عضو لا يثور ويتآكل غيظاً من تلك المدللة، انتبهت إلى أمر يوسف الذي وجهه لها وهو يشير إلى زواية ما:
_ معلش لينة أقعدي في الصالون على ما أخلص

ببرودٍ معاكس تماماً لثورتها التي نشبت داخلها قالت:
_ لو سمحت بسرعة عشان متأخرش

رمقها يوسف بنظرات معاتبة فهي من أصرت على مجيئهم إلى هنا، لم يعقب على كلمـ.ـا.تها وتركها ليتبع الأخرى، بينما لم تستطيع لينة الإبتعاد عنهما، ظلت واقفة على مسافة قريبة منهما لكي تكون ملمة بما يحدث.

لم تتوقف عن سب الفتاة داخلها، فكانت تتعمد لمس يوسف في أي فرصة تسنح لها، تتدلل بخطواتها كـطفلة ذات عشر سنوات، تركض تارة وتقفز تارة وتتصنع حـ.ـز.نها الشـ.ـديد تارة أخرى إن لم يعجبها سيارة قامت بتجربتها.

تأففت لينة بضجر، فالصبر لديها بلغ ذروته ولم تعد تحتمل تلك السخافة التي تدور أمامها، كم ودت كثيراً أن تنقض عليها تنتف لها خصلاتها التي تداعبهن من آن لآخر.

على جانب آخر، تصنعت يُمنى الإرهاق ثم أردفت بتعب:
_ لا بجد تعبت، هاخد بريك خمس دقايق ونرجع نكمل

فقط كان يطالعها يوسف والغيظ يتآكله، فهي فتاة مدللة للغاية وهو يكره التعامل مع ذلك النوع من الفتيات، خرج من شروده على صوتها العـ.ـذ.ب:
_ هروح التويلت أعدل الروج وأجي تاني

ودعته بأصابعها البيضاء الرفيعة ظاهرة طلائها الأحمر الفاقع، أوصد يوسف عينيه حينما ابتعدت عنه، بينما هرولت لينة خلفها ودلفت إلى المرحاض بخطوات مهرولة متوعد لتلك المدللة.

وقفت يُمنى أمام المرآة تعيد وضع أحمر الشفاه خاصتها، ثم وضعت أعلاه مادة شفافة أضافت لشفتيها رونقاً خاص.

وقفت لينة بجانبها ثم وضعت حقيبتها على الحوض، التفتت بجسدها حيث تقف الفتاة وطالعتها لوقت، تفكر جيداً فيما تنوى فعله، مالت برأسها يميناً ويساراً مصدرة صوت طقطقة عنقها، كذلك قامت بقرع أصابع يديها مصدرة صوت فرقعة قوية انتبهت له يُمنى التي اختلست النظر إليها من خلال المرآة.

اقتربت منها لينة بضعة خطوات ثم قامت بنتف خصلاتها التي تشابكت بين أصابعها، تفاجئت الأخرى بفعلتها كما أنها شعرت بالألم الشـ.ـديد فصرخت عالياً:
_ أنتِ مـ.ـجـ.ـنو.نة، أنتِ بتعملي إيه؟!

مالت لينة على أذنها وأردفت بخفوت:
_ تخرجي حالاً تختاري أي عربية من العربيات اللي برا..

شـ.ـدت بقوة أكبر على شعرها وتابعت محذرة:
_ وتتكلمي عدل مع يوسف وإلا أقسم بالله أروحك لعيلتك قرعة، أنتِ فاهمة

سحبت لينة يدها بهدوء من خصلاتها ثم رمقتها بنظرات مشتعلة قبل أن تخرج، ظلت يُمنى متابعة لها إلى أن اختفت فرددت بخفوت والدmـ.ـو.ع تتلألأ في عينيها:
_ Slut
(الترجمة: وقحة)

استدارت ثانيةً باتجاه المرآة، ثم أعادت ترتيب خصلاتها، مسحت عبراتها التي سقطت رغماً عنها، وأوصدت عينيها لبرهة محاولة إستعادة مزاجها الذي تعكر، خرجت بوجه عابس فأثارت ضحكات لينة التي لم تخفيهم، بل تعمدت النظر إليها بتحدٍ.

اقتربت يُمنى من يوسف تاركة مسافة بينهما، حمحمت وأشارت على إحدى السيارات الواقفة خلفها وأردفت باقتضاب وعبوس:
_ تقريباً العربية دي أكتر واحدة عجبتني

تعجب يوسف من أسلوبها المناقض، فلقد كانت تماطل في الأمر منذ دقائق، من أين جاءت تلك الجدية، لا يهم فتلك هي فرصته الوحيدة لإنهاء ذلك اللقاء.

أماء برأسه وهو يردف:
_ تمام هـ..

قاطعته يُمنى حاسمه للأمر بنبرتها الجـ.ـا.مدة:
_ بابي هيبقى يتواصل معاك، بعد إذنك

لم تنتظر إجابته وغادرت تحت نظرات يوسف المذهولة، عاد بأنظاره إلى عامله الذي جاءه راكضاً هاتفاً بتعجب:
_ هي مشت إزاي؟

رفع يوسف كتفيه متشـ.ـدقاً بفمه وصاح مندهشاً:
_ مش عارف، ومش مهم أنا ماشي

أشار يوسف إلى لينة فجاءته ببشاشة وجه، سارت بجواره إلى أن استقلت السياره وكذلك هو ثم انطلق بها قاصداً مكان بعينه.

***

أوقف يوسف السيارة ونظر إليها هاتفاً بتعليمـ.ـا.ته اليومية:
_ كلميني قبل ما تخرجي، ومتكلميش حد مت عـ.ـر.فيهوش و..

قاطعته لينة ساخرة:
_ ومش هروح مع اللي يقولي تعالي أوديكي لماما حاضر

لوهلة لم يستوعب يوسف الذي ردد موافقاً حديثها:
_ بالظبط...

قطب جبينه حينما استوعب كلمـ.ـا.تها ثم نهرها معنفاً:
_ أنتِ بتتريقي عليا!!

انفجرت لينة ضاحكة فهتف هو بحنق:
_ انزلي يا لينة، أنتِ متستاهليش خوفي عليكي أصلاً

رمقته لينة بنظرات متهكمة وقالت ببرود زائف:
_ محدش قالك تخاف عليا

بإقتضاب أجاب:
_ أنا غلطان فعلاً، لو شوفتك بتتخـ.ـطـ.ـفي قدامي مش هسأل فيكي

استدارت لينة وأخذت حقيبة ظهرها من المقعد الخلفي ثم هتفت بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ تمام خليك قد كلامك بقا

ترجلت من السيارة ثم دفعت الباب بقوة، سارت بضعة خطوات ثم توقفت ووضعت يدها على رأسها، فشعر يوسف بالريبة من وقوفها ولم ينتظر في السيارة ثانية أخرى.

هرول إليها متوجساً خيفة، وقف بجوارها متسائلاً باهتمام:
_ في إيه أنتِ كويسة؟

مرت لحظات دون تعقيب منها، حتى ارتفعت ضحكاتها فأثارت غرابته من ضحكاتها المبهمة، نظرت في عينيه قبل أن تردف:
_ دا أنت طلعت خفيف بشكل..

اقتربت منه بضعة خطوات ثم تابعت هامسة:
_ بعد كدا خليك قد كلامك يا سوفي..

أولاته ظهرها وتابعت إلى أن اختفت داخل أحد الأبراج الكائنة أمام يوسف الذي لم يخفض نظريه من علي طيفها قط.

فتاة مشاكسة وذات تصرفات مشاغبة، لكنه لا يضجر منها قط، هو يحب أفعالها حتى وإن كانت على غير هواه.

عاد إلى السيارة ثم دعس على المحرك عائداً إلى مكان عمله.

***

ولج يوسف إلى مكتبه فتفاجئ بوجود السيد سمير يجلس على كرسيه، تبادلا الإبتسام ثم هلل يوسف مرحباً به:
_ المكتب نور يا عمي والله

غمز إليه سمير وصاح ممازحاً:
_ عارف عارف، أقعد

قهقه يوسف ثم جلس أمامه فتابع الآخر:
_ استنيتك تقولي رأيك في العربيات اللي عرضها بلال عليك ومقولتش فجيت لك بنفسي أسمع

نظر يوسف إليه بحرج ثم أردف معللاً:
_ معلش بس دmاغي فيها مليون حاجة

نهض سمير عن مقعده ثم دار حول مكتبه وجلس أمام يوسف وقال بجدية:
_ طيب إحنا فيها أهو قولي

عاد يوسف بجسده للخلف مستنداً بظهره على المقعد وهتف بما يراه في صالح العمل:
_ العربيات دي مشبوهة، فيها حاجة غلط

قطب سمير جبينه بغرابة من كلمـ.ـا.ته المريبة وسأله مستفسراً:
_ إزاي يعني؟

وقف يوسف وتوجه إلى الخزنة الموضوعة في أحد أدراج مكتبه وقام بحل شفرتها ثم سحب منها ملف ورقي وعاد إلى كرسيه وبدأ يشرح للسيد سمير ما لفت انتباهه فيه:
_ لو بصيت هنا هتلاقي أن العربيات طريقة صناعتها غريبة جداً، من امتى الدولة دي بتتعامل مع دي ومن امتى أصلا في عربية بتكون صناعة دولتين؟!
دي عربيات مجمعة يعني خردة والزبون يشرب بقا، دا غير إن اسم الشركة معدتش علينا قبل كدا ولما دورت وراها لقيتها بتتعامل مع معارض مجهولة وملهاش أساس من الصحة وكلهم أسامي فقط مفيش ورق ولا حتى صورة تثبت أنهم موجودين، دي نصباية صدقني متوافقش أنت اللي هتخسر..

كان السيد في حالة ذهول تام بعدmا أخبره يوسف بتلك المصيبة، فهو لم يحسب لذلك قط، أخرج زفيراً محاولا تهدئة روعه ثم أردف بنبرة مهزوزة:
_ أنا كلمت مدير الشركة دي وجاي يقابلني هنا الوقتي..

لم يضجر يوسف مما أخبره به بل كان مرجحاً دعوته لذاك المحتال وقال بصوته الأجش:
_ حلو أوي خليه يجي ونرمي له الكلام اللي قولته دا في وشه وإما يرجع بلده لإما نسلمه، أصل المشرحة مش ناقصة قــ,تــلة كفاية البلد خربانة مش ناقصين خواجات يجو يشغلوا دmاغهم علينا.

طرق باب المكتب فور إنهاء يوسف كلمـ.ـا.ته، ثم دعى الطارق للدخول، فكان رجلين غريبان، خمن أنهما نفسهم المحتالان.

نهض واستقبلهم بفتورٍ شـ.ـديد:
_ Welcome
( مرحباً )

بدأ أحدهما حديثه وكانت لغته العربية الفصحى:
_ أهلاً بك سيد سمير أنا هارون المترجم للسيد أندرو

تدخل يوسف بلهجته المشحونة بالغضب:
_ شكراً لحضرتك مش محتاجين مترجمين..

لم يروق لهارون لهجة وأسلوب يوسف الفظ، رسم علي محياه بسمة لم تتعدى شفتيه ثم قال:
_ حسناً سيد...

عرف يوسف عن هويته:
_ I'm Youssef Al-Rawi, the Automotive Branch Manager here
( أنا يوسف الراوي، مدير فرع العربيات هنا)

ابتسم له الأجنبي وقال بحفاوة:
_ Welcome, Mr. Youssef,
( أهلاً بك سيد يوسف )

التفت الرجل إلى السيد سمير وتابع استرساله بعملية:

_ You invited me, Mr. Samir, to tell me your opinion, so I can hear you
( لقد دعوتني سيد سمير لكي تقول لي رأيك، تفضل أنا أسمعك )

حمحم يوسف وهو من قام بالرد عليه بنبرته الفظة:
_ Your offer is rejected, Mr. Andrew, there is a lot of fraud in what you are doing and we do not accept that at all
( عرضك مرفوض سيد أندرو، هناك احتيال كبير فيما تفعلونه ونحن لا نقبل بذلك مطلقاً )

تجهمت تعابير أندرو، ونظر إلى مترجمه بخوف وتردد شـ.ـديدان، عاد بنظريه إلى يوسف وهدر بثبات:
_ What are you talking about, scam what?
( ما الذي تتحدث عنه، احتيال ماذا؟ )

رمقه يوسف باشمئزاز، فهو لا يحب الأغـ.ـبـ.ـياء مثله، تنهد قبل أن يجيبه بنبرة غاضبة:
_ I think you understand me very well and there is no need to mention it unless you are determined but that will be done through the police
( أظن أنك تفهمني جيداً ولا داعِ لذكره إلا إذا كنت مصمم لكن ذلك سيتم من خلال الشرطة )

لم يقبل الرجل حديث يوسف وانتفض من مكانه مذعوراً ثم رفع سبابته مهدداً يوسف:
_ You are the one who blamed yourself, young master
( أنت الذي جنيت على نفسك أيها السيد الصغير )

أولاهما ظهره وفر هارباً من أمامهما، تبعه مترجمه الخاص إلى الخارج، ثم إلى السيارة، فك أندرو رابطة عنقه فور استقلاله السيارة، لقد شعر لوهلة أنه لن يخرج من ذلك المكان على خير.

أخرج زفيراً عميق ثم وجه بصره على مكتب يوسف فرآه يقف في نافذته يشاهد بإبتسامة منتصرة، كز أسنانه بغضب متوعداً له، عاد بأنظاره إلى هارون وردد بغضب شـ.ـديد:
_ Tell our men to teach him a lesson he will never forget for the rest of his life
( أخبر رجـ.ـالنا أن يلقنوه درساً لا ينساه طيلة حياته )

أطاعه رجله قائلاً:
_ Good
( حسناً )

***

في الأعلى، حرك سمير رأسه غير مصدق ما حدث، كان يتابع تحرك سيارتهم من خلال النافذه، وحينما اختفت صاح بذهول:
_ أنا بجد مش مصدق إن فيه ناس كدا، جايين بلدنا ينصبوا علينا؟!

التفت إليه يوسف وعقب على كلمـ.ـا.ته:
_ توقع كل حاجة في الزمن دا

تذكر سمير حالة الرجل التي تملكته حينما كشف يوسف ألاعيبه المحتالة وردد بفخر:
_ لا بس أنت كنت جـ.ـا.مد، دا الراجـ.ـل معرفش يرد عليك

ابتسم يوسف وهتف بسخرية:
_ شكلهم لسه جداد في النصب

قطع حديثهما دخول بلال، تعجب من وجود والده وربط وجوده بمسألة زيجته من إيمان، شكل على ثغره ابتسامة عريضة وهو يتسائل:
_ أنتوا بتعملوا إيه كدا؟

اقترب منه والده وهو يخبره:
_ لا يوسف يحكيلك، أنا هروح أشوف العمال وصلوا لإيه في المعرض.

استأذن منهما ثم غادر بينما جلس بلال وهتف مستفسراً:
_ قالك حاجة على موضوع إيمان؟

هز يوسف رأسه نافياً وأبدى استيائه بسؤاله:
_ وهو هيكلمني عن إيمان ليه؟

هاجمه بلال برده:
_ مش أنت ابن خالها، قولت سألك حاجة عنهم، أصله عايز يسأل عنهم الأول، مش فاهم بجد سؤال إيه، أقوله بنت خال يوسف وعارفها كويس يقولي هسأل برده

باختصار أوضح له يوسف ما لا يراه هو:
_ جو بنت خالي وإنك تعرفها كويس دا إحنا اللي نفهم كدا لكن أبوك ميفهمهاش وبعدين ما تسيبه يسأل أنت مضايق ليه

تأفف بلال فهو لا يطيق الانتظار، وهتف بنفاذ صبر:
_ يسأل يعني وقت بيضيع الفاضي، أنا عايز أخلص

حرك يوسف رأسه مستنكراً استعجاله وهتف ممازحاً:
_ أنا خايف على سربعتك دي تقولها بحبك في أول قاعدة بينكم وتبان إنك مدلوق أوي

أسرع بلال في نفي ظنون يوسف:
_ لا ياعم مش للدرجة

رمقه يوسف بطرف عينيه غير مصدق أنه لن يفعلها بينما أكد بلال قائلاً:
_ ياعم لأ، لأ

***

حل المساء مرافقاً معه السكون الذي يعم المنزل، حتى خرجت المشاكسة من غرفتها متأففة بضجر، فهي تشعر بالإختناق وعدm رغبتها في مواصلة تلك المذاكرة الغـ.ـبـ.ـية التي لا تنتهي.

تقوس ثغرها الوردي مبتسماً حين رأت فارسها يجلس على الأريكة بمفرده، توجهت ناحيته وهي تسير على أطراف أصابعها بتهمل، واضعة كلتى ذراعيها خلف ظهرها.

" أنتِ كدا هتخضيني يعني؟"
أردفهم يوسف ونظريه لم يبتعدا عن جواله، تأففت لينة بصوت عالٍ وهتفت متذمرة:
_ هو أنا معرفش أخضك أبداً

ترك يوسف هاتفه بجواره ثم أخرج تنهيده قبل أن تتجهم تعابيره وهو يردف بحـ.ـز.ن واضح:
_ فيه حاجات بتحصل لنا بتخلينا فايقين أكتر من الأول يمكن لو كنا فايفين كدا وقتها مكناش خسرنا حد..

لم تستشف لينة ما يقصده وسألته مستفسرة:
_ تقصد إيه بكلامك؟

"ولا حاجة"
قالها ليغير مسار حوارهما ثم تابع متسائلاً:
_ إيه اللي مصحيكي للوقتي؟

أجابته بعدmا أزفرت بعض الأنفاس بملل واضح:
_ كنت بذاكر، بس زهقت من المذاكرة، وحسيت عقلي وقف ومعتش فاهمة حاجة فمحبتش أكمل..

بخوف واضح في كلمـ.ـا.ته قام بنصحها:
_ بس دا مينفعش، لازم تركزي خلاص امتحاناتك أول الأسبوع الجاي

أوصدت لينة عينيها لبرهة وأبدت زمجرتها بقولها:
_ عشان خاطري يا يوسف معتش تجبلي سيرة الإمتحانات

كاد الآخر أن يعقب إلا أنهما انتبها إلى فتح الباب الذي ولج منه زياد، فتعجب من جلوسهما في ذاك الوقت المتاخر من الليل.

اقترب منهما ونظراته تتسائل بفضول:
_ أنتوا سهرانين للوقتي، مش معقولة!

تفاجئ بهجوم يوسف في رده:
_ ولما أنت عارف إن الوقت متأخر، كنت بتعمل إيه كل دا برا؟

قلب زياد عينيه مستاءً وهدر بتهكم:
_ أنا خلصت امتحانات النهاردة وطبيعي يعني أسهر مع صحابي شوية

استشعرت لينة الأجواء المشحونة والتي حتماً ستنقلب في النهاية لمشادة بينهما فتدخلت بلطافة:
_ بقولكم إيه أنا زهقانة وفاقدة شغفي ومحتاجة أجدد مودي، إيه رأيكم نلعب لعبة؟

كان زياد أول من أجاب:
_ اشطا، موافق

بينما أبدى يوسف رفضه:
_ لا يلا كله يدخل ينام الوقت متأخر وأنا ورايا شغل

نظر إلى لينة وواصل:
_ وأنتِ عندك دروس

قابلته بنظرات معاتبة ثم أخفضت رأسها وهتفت بنبرة حزينة لكي تحثه على الموافقة:
بقولك فاقدة شغفي يا يوسف، محتاجة أغير مودي شوية من جو المذاكرة دا عشان أعرف أرجع لها تاني

تنهد يوسف فلم يكن أمامه أي خيارات، ولن يرفض لها طلباً وهو من يحصد ثماره بالأخير:
_ طيب هنعمل ايه؟

رفعت لينة رأسها موجهة بصرها نحوه فاغرة فاها ببلاهة، حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفها الأبله ثم هتف محذراً:
_ ها هتقولي ولا أرجع في كلامي

أسرعت هي في قول:
_ لا لا ثواني هفكر

فكرت لبضعة دقائق ثم وصلت إلى فكرة ما، مررت نظريها بينهما قبل أن تردف بحماس:
_ كل واحد هيمثل مشهد من فيلم أو مسرحية أو مسلسل واللي يقول من فيلم إيه أسرع هو اللي يكون عليه الدور في التمثيل

قطب يوسف جبينه مستاءً وقال بإقتضاب:
_ تمثيل إيه يا لينة أنا مبعرفش أعمل الكلام دا

عقدت هي ذارعيها متذمرة:
_ مبتعرفش، تعرف

تأفف الآخر بضجر وهو يردد:
_ يا الله يا ولي الصابرين

لوت لينة شفتيها متصنعة الحـ.ـز.ن فتدخل زياد معاتباً أخيه:
_ ياعم يوسف ما يلا بقا الموضوع هزار في هزار يعني، مش معقول كل حاجة معترض كدا

لم يعقب يوسف على حديثه، أخذ ثوانٍ قبل أن يبدى موافقته:
_ ماشي يلا، مين هيبدأ

أجابته لينة التي تحولت تقاسيمها إلى الحماسة:
_ زياد لاني مش حاضر في دmاغي حاجة الوقتي

نهض زياد ووقف أمامهم ثم أخذ وقتاً قصيراً يفكر فيما سيقوم بأدائه أمامهما، إلى أن توصل إلى مشهد ما.
قام بتصنع الحماقة وبلهجة صعيدية صاح:
_ إيه يا جعيدي متعصبنيش يا جعيدي، عليا النعمة من نعمة ربي أكلك بوكس في جفصك الصدري أطير العصافير اللي فيه

انفجر يوسف ضاحكاً على أداء أخيه المضحك، بينما قفزت لينة هاتفة:
_ فيلم واحد صعيدي

صفق لها زياد وهو يردد:
_ صح

تبادلا الأماكن حيث جلس زياد ووقفت لينة على مسافة بعيدة عنهما لتبدأ في تمثيل مشهدها حيث تغنجت بجسدها وهتفت بدلال:
_ حسين، حسين، حسين

اقتربت من يوسف وهي تواصل تمثيلها:
_ أخص عليك يا حبيبي نسيت أوام أيامنا الحلوة يا حسين

ذاب قلب يوسف بسبب دلالها المبالغ في أداء المشهد، كان يطالعها بانجذاب وقلبه يخفق بقوة حتى تدخل زياد حين علم إسم الفيلم وقام بمشاركتها الأداء بنبرة خشنة:
_ وجالك عين تقولي الكلام دا قدامي؟!

تابعت لينة أدائها وهي تنظر إلى زياد وكأنها في المشهد الحقيقي:
_ اقــ,تــلني مـ.ـو.تني أعمل اللي أنت عايز تعمله لكن مش هتقدر تفرق بيني وبين حسين أبداً

أردفت آخر كلمـ.ـا.تها وهي تطالع يوسف الذي لم يمنع تسلل ابتسامته على شفتيه فصاحت هي متسائلة:
_ ها عرفت الاسم؟

بإبتسامة هادئة أجاب:
_ إشاعة حب

اتسع ثغرها بإبتسامة عريضة ثم وجهت كف يدها نحوه فضـ.ـر.ب هو بكف يده تلقائياً كفها ثم أنتبها إلى حديث زياد:
_ لا بس مشاركتي كانت جـ.ـا.مدة

قلبت لينة عينيها وبمزاح قالت:
_ أوي أوي

جحظت عيني لينة حين راودتها فكرة مـ.ـجـ.ـنو.نة، وزعت أنظارها بينهما قبل أن تهتف:
_ إيه رأيكم نعمل تيك توك؟

صاح يوسف رافضاً لذاك الهراء:
_ تيك توك إيه لأ طبعاً

لوت لينة شفتيها وهي تهاجمه:
_ على فكرة أنت ممثلتش يعني معملتش معانا أي حاجة

نهض يوسف ناهياً تلك السخافة الحادثة متصعناً اللطافة:
_ يلا تصبحي على خير يا لي لي

رمقته بنظرات مشتعلة ثم أولاته ظهرها وتوجهت نحو غرفتها بخطوات مهرولة لكنه سرعان ما أوقفها بقوله:
_ استني طيب..

انفجر زياد ضاحكاً ثم نهض ونظر إلى لينة رافعاً ذراعه للأعلى قائلاً:
_ كفك

قابلته لينة بجمود ثم قلبت عينيها بتذمر، شعر زياد بالإهانة لحظتها، فهي للتو فعلت التصرف نفسه مع يوسف، لماذا تتخذ موقفاً معه، لا تلامسه ولا تسمح له بممزاحتها عن قرب أو حتى قبول مساعدته إن تطلب الأمر، لكنها دوماً تقبل من يوسف جميع ما ترفضه منه.

أخرج زفيراً بتهمل وهو يطالعها بغيظ بينما أردف يوسف بنبرته الرخيمة:
_ اختاري أي حاجة تانية غير التيك توك دا، بجد مليش فيه

قاطعهما زياد بنبرته البـ.ـاردة:
_ كملوا أنتوا، أنا فصلت وعايز أنام

أنهى كلمـ.ـا.ته ثم تحرك إلى غرفته مباشرةً، بينما هتفت لينة بملل:
_ خلاص مش مهم، نكمل في يوم تاني، بصراحة أنا كمان نفسي أنام اوي

أماء يوسف بتفهم وأردف بلطف:
_ تصبحي على خير

بادلته إبتسامة عفوية مرددة:
_ وأنت من أهله

أولاته ظهرها ولم تخطو خطوتين إلا وأوقفها يوسف بندائه:
_ لينة..

التفتت إليه بأعين لامعة فقال:
_ مش زعلانة؟

وضعت أحد أصابعها على رأسها متصعنة التفكير فصاح يوسف متعجباً:
_ بجد والله؟!

قهقهت لينة ثم أردفت بنبرة متيمة:
_ مقدرش أزعل منك

اقترب منها يوسف بضعة خطوات وقال أمراً:
_ طب يلا روحي نامي

أشارت إليه بأصابعها وهي تهتف:
iyi geceler

عقد حاجبيه حين لم يفهم ما تفوهت به فأوضحت قصدها:
_ يعني تصبح على خير

لبس ثوب الجمود وبتهكم أردف:
_ يلا يابت على أوضتك، آل إي جچلار آل

انفجرت لينة ضاحكة ثم هرولت إلى غرفتها بينما دلف يوسف إلى غرفته لينعم ببعض النوم قبل أن يستيقظ باكراً وكذلك فعلت لينة لتبدأ يوم جديد في رحلة دروسها التي لا تنتهي.

***

صاح بغضب في زميله الجالس بجواره:
_ ما تطفي الزفتة اللي في إيدك دي وتخلصنا بقا، الشارع سكت أهو والرجلين خفت عن المكان، أخلص قبل ما الفجر يأذن وتلاقي الحارة كلها في وشنا

طالعه الآخر ببرود يشوبه التهكم وتحدث بلا مبالاة:
_ لما أخلص السيجارة اللي في أيدي

تأفف صديقه وصاح به معنفاً:
_ بقولك أخلص قبل ما حد يشوفنا

قلب عينيه ثم فتح باب السيارة وترجل منها، تنفس سيجارته ثم ألقاها أرضاً ودعس عليها بحذائه الأسود، التفت مراقباً المكان من حوله جيداً قبل أن يبدأ مهمته.

تحرك نحو السيارة المقصودة ثم جلس القرفصاء وتفحص المكان من خلفه للمرة الثانية قبل أن يدلف بجسده أسفل السيارة وقام بقطع أسلاك الفرامل بآلة حادة.

عاد إلى السيارة التي كانت في انتظاره ثم استقلها، وانطلق بها الآخر بسرعة البرق قبل أن يراهما أحد ويشك في أمرهما.

***

حل الصباح وأشرقت الشمس، بداية يوم مختلف يحمل بين طياته أقدار جديدة للجميع، كان زياد أول من استيقظ في البيت، حيث تعجبت والدته وسألته بقلق انتابها:
_ صاحي بدري ليه خير؟!

اقترب منها ثم قبلها من وجنتها وهو يردف بنبرة طريفة:
_ صباح الخير يا ست الكل

عقدت حاجبيها بريبة من أمره، فتلك الحميمية لا تعتادها قط، طالعته بأعين ضائقة وسألته مستفسرة عن حاله المريب:
_ مالك يا زياد؟ أنت عايز إيه؟

حمحم قبل أن يردف:
_ أحبك وأنتِ فهماني كدا

وضعت ذراعيها في منتصف خصرها ورمقته بحاجبات معقودان:
_ ها؟

"عايز أخد العربية من يوسف"
قالها فأظهرت أن الأمر لا يعنيها:
_ مليش دعوة، منك لأخوك..

قاطعهم صوته الذي استمع لآخر حديثها:
_ عايزين مني إيه؟

شعر زياد بالحرج حينما رأى ولوج يوسف، أرسل لوالدته بعض الإشارات التي تحثها على إخبـ.ـاره بما يريد لكنها أبت بإشارة من كتفها فتدخل يوسف مستاءً:
_ وأنت لما تكون عايز حاجة لازم وسيط يعني؟

عض زياد على شفتيه السفلى وبتردد واضح أردف:
_ كنت متفق أنا وصحابي نفطر مع بعض وكنا هنروح بعربية أبو أمجد بس طلع عنده شغل فكنت بقول يعني لو تديني العربية ساعتين بالظبط وأرجعهالك

صمت حل لثوانٍ فتفهم زياد رفضه وبخجل بائن هتف:
_ خلاص خلاص نروح مواصلات

لحق به يوسف بقوله:
_ استنى..

سحب مفتاح السيارة من جيبه ثم ألقاه إليه فابتسم زياد وهلل بسعادة:
_ أخويا الجدع ملوش مرتجع

ينجح دوما في إضحاكه بأسلوبه المرح أو ربما الساخر لا يعلم، لكنه أعطاه بعض التعليمـ.ـا.ت قبل أن يغادر:
_ العربية يا زياد ترجع سليمة، أنت عارف إنها مش بتاعتي

بعجرفة حدثه:
_ متقلقش أخوك مولود في عربية

ظل يقفز فرحاً بإمتلاكه للمفتاح ثم غادر المنزل سريعاً،لم يستطيع صبراً وهاتف أصدقائه:
_ جيتو تحت زي ما اتفقنا؟

أجابه أحدهم قائلاً:
_ أيوة كلنا تحت، يلا أنجز وانزل

هلل وهو أمام باب البناية:
_ نزلت اهو

استقل الجمع السيارة ثم قام زياد بإقتران هاتفه بالسيارة عن طريق ( البلوتوث )، فارتفع صوت أحد المهرجانات الشعبية الذي قام باختياره، فحمسهم على التصفيق حيث صرخ أحدهم بطيش:
_ علي الصوت يابني علي

أدار زياد زر التحكم بمستوى الصوت فكان أشـ.ـد قوة عن ذي قبل بأصواتهم المشاركة للأغنية، تحرك زياد بالسيارة وابتعد من المنطقة، كان يقود بسرعة متوسطة خشية حدوث أي حوادث، حتى حاول إيقاف السيارة فكانت الكارثة، لا تريد التوقف.

حاول تهدئة روعه والسيطرة على الأمور لربما يكون هناك عطل بسيط ومع التكرار يستطيع حله، فأعاد محاولات الوقوف لكنها بائت بالفشل، السيارة بالفعل لا تتوقف.

انتبه إلى تحذير أمجد الجالس بجواره حين هتف:
_ ما تهدي السرعة شوية يابني إحنا وسط العربيات

التفت برأسه يميناً ناظراً إليه بذعر يسيطر على خلاياه وصاح بنبرة مهزوزة:
_ العربية مفيهاش فرامل! 
ارتشف آخر ما تبقى في كوب الشاي خاصته، ثم هاتف صديقه الذي استقبله بتأفف:
_ مش هخلص منك بقا

تشـ.ـدق يوسف بفمه ساخراً منه:
_ أيوة ما أنت وصلت للي عايزه

قهقه بلال بمرح بينما واصل يوسف بجدية:
_ عايزك تعدي عليا تاخدني في طريقك، زياد أخد العربية

أغلق بلال باب شقتهم ثم هتف:
_ ربنا يستر على العربية وترجع سليمة

بثقة عمياء عقب يوسف:
_ لا زياد عاقل

تنهد يوسف ثم هتف بقلق:
_ إن شاء الله ترجع سليمة

انفجر بلال ضاحكاً ثم أخبره بمكانه:
_ طب أنزل عشان أنا على السلم

باختصار قال يوسف:
_ تمام

أغلق الهاتف ثم تذكر شيء ما فأسرع بالإتصال على أخيه، انتظر بضعة دقائق ثم أجاب فصاح يوسف معتذراً:
_ أنا نسيت أقولك إن العربية مفيهاش بنزين و...

قاطعه زياد بأنفاس لاهثة:
_ الحمدلله إنك مقولتش

استشعر يوسف ثمة سوء قد وقع، نهض من مكانه متوجساً خيفة ثم سأله بقلق:
_ هو حصل حاجة؟

جائه صوته المهزوز في قوله:
_ إحنا عملنا حادثة يا يوسف!

انتفض يوسف من مكانه بذعر تملكه، مما أثر الرعـ.ـب في قلب والدته التي انهالت عليه بالأسئلة:
_ في إيه يا يوسف، أخوك حصله حاجة؟

لم يسمع يوسف أياً من أسئلتها بل بادر بسؤال أخيه بقلق شـ.ـديد:
_ أنت فين الوقتي؟

أخبره زياد مكانه فأسرع يوسف في الركض إلى الخارج ذهباً إلى أخيه سريعاً، بينما ظلت السيدة ميمي تندب خائفة:
_ يارب استر يارب

خرجت لينة من غرفتها على صوت السيدة ميمي، فأسرعت من خطاها مذعورة من حالتها المذرية، اقتربت منها وسألتها بقلق وخوف عارمان:
_ مالك يا ماما؟

رفعت ميمي رأسها والدmـ.ـو.ع تتساقط من عينيها وأجابتها بصوت متحشرج من البكاء:
_ زياد..

جهشت باكية ما أن نطقت إسمه، أنحنت لينه بجسدها وعانقتها في محاولة تهدئتها:
_ إهدى يا ماما وفهميني إيه اللي حصل

***

تعجب بلال من هرولة يوسف نحوه، استقل السيارة ثم أمره بأنفاس لاهثة:
_ أطلع يا بلال، زياد عمل حادثة

"إيه!!"
نطقها بلال بصدmة، ثم انطلق بالسيارة متجهاً إلى المكان الذي أخبره عنه يوسف، بعد مرور بضعة دقائق وصلا كليهما إلى المكان المقصود.

ترجل يوسف من السيارة وهي لم تتوقف بعد، ركض نحو أخيه والخوف يتملكه، تفحصه جيداً متسائلاً بلهفة:
_ أنت كويس، حصلك حاجة؟

أجابه زياد ليهدئ من روعه الظاهر:
_ أنا كويس متقلقش، والعربية ا...

قاطعه يوسف بعصبية:
_ تغور العربية المهم أنت، تعالى نروح المستشفى نطمن عليك

أحاط زياد ذراعي يوسف بيديه ليعود إلى رشـ.ـده قائلاً:
_ والله أنا كويس، حتى بص عليا مفيس حاجة

تراجع يوسف للخلف ناظراً إليه فابتسم له زياد ليطمئن قلبه، أوصد يوسف عينيه في محاولة منه على استعادة سكينته، انضم إليهما بلال الذي صف السيارة في مكان آمن وتسائل باهتمام:
_ أنت كويس يابني؟

أماء زياد برأسه قبل أن يردف:
_ الحمدلله

نظر بلال إلى السيارة التي تخطت رصيف المشاة، ورمق أصدقاء زياد الذين يجلسون بجوار السيارة في حالة مذرية، عاد بنظريه لزياد وسأله مستفسراً:
_ إيه اللي حصل وطلعك على الرصيف كدا؟

بدأ زياد في قص ما حدث لهم:
_ كنت ماشي عادي وبعدين حاولت أوقف العربية ملقتش فرامل

تفاجئ بلال وكذلك يوسف لم يكن أقل منه دهشة، اقترب منه وهو يردد بعدm استعياب:
_ إزاي يعني مفيهاش فرامل؟

رفع زياد كتفيه ثم أجاب:
_ معرفش والله، حاولت أكتر من مرة أوقفها بس مقدرتش، المهم بدأت أحس إن العربية سرعتها بتهدى بس لسه ماشية، ولما بصيت على البنزين لقيته شطب وفجاءة ظهرت قدامنا عربية نقل كبيرة بتلف من ملف قدامنا مكنش ينفع أعمل حاجة غير إني أطلع على الرصيف

اقترب منه يوسف ثم ضمه بقوه وهو يتنهد، كاد أن يمت رعـ.ـباً عليه، أخرج زفيراً عميق ثم ردد:
_ الحمد لله أن محدش حصله حاجة

شعور لا يوصف قد تغلغل لخلايا زياد، لم يمنع ابتسامته التي تشكلت تلقائياً بعد عناق يوسف له، فلا يتذكر أنهما كانا حميمين لتلك الدرجة من قبل.

تراجع يوسف ووجه حديثه لبلال الذي يجلس القرفصاء أمام السيارة يكتشف عواقب الحادثة وقال:
_ كلم ونش يجي يشيل العربية دي

باختصار أردف بلال:
_ حصل وزمانه على وصول

لم يبتعد يوسف عن زياد بل ظل مرافقاً له ومحاوطاً كتفيه بذراعه، أنتبه زياد لهاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين:
_ يوسف هي ماما عارفة حاجة؟ أصل لينة بترن عليا من فترة وأنا مش راضي أرد

اتسعت مقلتي يوسف بذهول متذكراً والدته التي رأته يهرول إلى الخارج، ضـ.ـر.ب جبينه براحة يده ثم أخذ من أخيه الهاتف وقام بالرد عليهن:
_ أيوة يا لينة

أجابته بلهفة:
_ يوسف، زياد كويس؟

جائه صوت والدته القريب متسائلة بتوجس وقلق:
_ في إيه يا يوسف أخوك حصله حاجة؟

أسرع في نفي سؤالها بقوله:
_ لا لا هو كويس متخافيش، حادثة بسيطة بس هو والله كويس

شهقت السيدة ميمي كما لطـ.ـمـ.ـت على صدرها بصدmة ثم صاحت بصوت مهتز:
_ متكذبش عليا يا يوسف، طب لما هو كويس مردش هو عليا ليه

أوضح لها يوسف تصرفه:
_ أنا قولت أطمنك أنا، خديه معاكي أهو يطمنك هو

ناول يوسف الهاتف لأخيه الذي تحدث إلى والدته:
_ أنا كويس يا ماما متقلقيش

انفجرت ميمي باكية، لم تصدق ما يخبرونها به، تشعر وكأنهما يخفون شيئاً عنها لكي لا يخيفونها، عاد زياد ليطمئنها بكلمـ.ـا.ته:
والله العظيم كويس، وهجيلك وهتشوفي بنفسك

انتبه على سيارات النقل التي وصلت فأنهى المكالمة بقوله:
_ أنا هقفل يا ماما وهاجي على طول، اهدي

أغلق الهاتف ثم وقف الجميع بالقرب من الرافعة التي تنقل سيارة يوسف إلى سيارة نقل كبيرة ومن ثم ركب الشباب جميعاً في سيارة بلال وعادوا إلى منطقتهم إلا من يوسف الذي رافق السيارة عند المُصلح.

ترجل جميع الشباب وتفرقوا إلا زياد الذي وقف بجوار النافذة القريبة من بلال وبـ.ـارتباك حرج سأله:
_ هي العربية هتكلف كتير؟

أخرج بلال تنهيدة قبل أن يجيبه:
_ يعني شوية

تأثر زياد كثيراً وتجهمت تعابيره، فهو يشعر أنه المذنب، ولم يكن عليه استعارة السيارة، لاحظ بلال تأثره فحاول تهدئته فقال:
_ إحمد ربنا أن العربية دي مستهلكة مكنتش جديدة زي اللي يوسف بياخدهم أوقات يجربهم، كانت وقتها هتكلفكم هدومكم

قال آخر كلمـ.ـا.ته وهو يضحك فشاركه زياد الضحك ثم استأذن منه وصعد إلى منزله، استقبلته ميمي بعينان متورمتان بسبب بكائها الذي لم يتوقف قط.

عانقته بقوة متسائلة عشرات الأسئلة:
_ أنت كويس، حصلك حاجة، طمني عليك، قلبي هيقف من الخضة متخبيش عني حاجة

تراجع زياد للخلف ظاهراً بدنه بالكامل إليها ورفع يديه للأعلى مجيباً على أسئلتها بجملة واحدة:
_ أنا كويس قدامك أهو

عادت لاحتضانه مرة أخرى فتدخلت لينة التي حضرت بعدmا ارتدت حجابها:
_ أنت كويس يا زياد؟

نظر إليها مجيباً إياها بهدوء:
_ الحمد لله

***

اقتحم يوسف مكتبه بغضب جامح، لا يستطيع تخطى حادثة زياد، والمئات من التوقعات السيئة راودته، ماذا لو يستطيع توقف السيارة؟
ماذا لو لم ينفذ البنزين؟!
ماذا لو اصابه لأخيه مكروه؟
إلخ...

قاطع تفكيره رنين هاتفه، أجاب على الفور بتلهف:
_ أيوة يا حسن وصلت لحاجة؟

أخبره حسن بما استنتجه بعدmا فحص السيارة جيداً:
_ أيوة يا أستاذ يوسف، سلك الفرامل مقصوص يعني حد قصد يعمل كدا

وكأن كهرباء صعقته بقوة بعد كلمـ.ـا.ت المصلح، فغر يوسف فاهه بصدmة جلية، وإزدادت أسئلة رأسه أضعافاً.

"في إيه يابني، متنح كدا ليه؟"
قالها بلال فلم ينتبه له يوسف فكان مغموراً بين أفكاره، تعجب بلال من حالته وأعاد حديثه:
_ عدت على خير يا يوسف

لم يعقب الآخر وكأنه لم يصغي إليه، فمال بلال بجسده على المكتب مشيراً بيده أمام عينان يوسف فتحركت بؤبؤتيه مع يدي بلال حتى عاد لارض الواقع.

طالعه لبرهة قبل أن يسأله بإقتضاب:
_ أنت هنا من امتى؟

بغرابة من أمره أجاب:
_ مش من كتير

عاد يوسف لصمته، فلم يستطيع بلال الصمت دون تعقيب:
_ الحمدلله أنها جت قد كدا، متفكرش كتير

ثم أضاف مرحاً إلى حديثه:
_ ويا سيدي هشاركك حق تصليح العربية متزعلش

رمقه يوسف بنظرات مبهمة قبل أن يهتف:
_ في حد قطع الفرامل!!

بذهولٍ شـ.ـديد تملك بلال قال وهو يطالعها بطرف عينيه:
_ نعم؟ إزاي يعني ومين اللي هيعمل كدا؟

تشـ.ـدق يوسف بفمه رافعاً كتفيه نافياً عدm معرفته بالفاعل، نهض عن مقعده وجاب الغرفة ذهاباً وإياباً مردداً:
_ أنا المقصود، بس مين اللي يعمل معايا كدا؟!

تأفف يوسف حينما لم يصل إلى أحدهم، استلقى على الأريكة الجلدية ذات اللون الاسود المقابلة لمكتبه، اقترب منه بلال وشاركه الأريكة وظل يفكر معه بصوت عالٍ فيمن له اليد في فعل ذلك.

***

عمِلت لينة جاهدة على إخراج يوسف من الحالة المزاجيه التي بات عليها لكنه كان يصدها طيلة اليوم كلما قابلته حاولت مراراً معه لكن محاولاتها تفشل بجدارة.

حل المساء واجتمع أربعتهم في المنزل وقد كان ظاهراً للآخرين عقل يوسف المشتت بسبب صمته طيلة جلوسه معهم، أرادت لينة لفت انتباهه فأردفت برقة:
_ إيه يا جو بتفكر في ايه

شعر يوسف بالملل حيال أسئلتها التي لم تنتهي منذ بداية اليوم، نظر إليها بعبوس وصاح غاضباً:
_ أنتِ قاعدة معانا بتعملي إيه، أنتِ مش عندك امتحانات؟! قومي ذاكري

تفاجئ الجميع برده العنيف وخصيصاً لينة التي رمقته بأعين لامعة غير مصدقة أسلوبه الفظ معها، انسحبت من بينهم بخطوات مهرولة حتى اختفت داخل غرفتها.

لم يعجب ميمي أسلوب يوسف في الحديث وعاتبته بكلمـ.ـا.تها:
_ عملت كدا ليه يا يوسف، هي مضايقة عشان أنت قاعد ساكت ومش مركز معانا وبتحاول تخرجك عن حالتك دي

تأفف يوسف وكاد أن يخبرها بما يشغل عقله إلا أنه تريث، فلن يسبب سوى القلق داخلها فقط، تنهد ولم يعقب فقعله حقاً سيجن إن لم يصل إلى الفاعل.

انتبه لتلك الغاضبة التي خرجت من غرفتها وولجت للمطبخ بخطى مهرولة، شهيقاً وزفيراً فعل ثم نهض ليعتذر منها.

تقابلا في الممرر الذي بين الغرف وتعجب من ذلك المقص الذي بيدها وسألها مستفسراً:
_ المقص دا بيعمل إيه في ايدك

بعناد أجابته:
_ ملكش دعوة

طالعها بأعين ضائقة وبحنق أعاد سؤاله:
_ قولت بيعمل إيه معاكي؟

اقتربت منه بتحدٍ وهمست من بين أسنانها المتلاحمة:
_ وأنا قولت ملكش دعوة

اغتاظ يوسف من أسلوبها معه وبحنق حذرها:
_ اتكلمي معايا عدل يا لينة

واصلت عنادها حيث هدرت:
_ وإن متعدلتش؟

تحرك يوسف بخطوات متمهلة بقربها فتراجعت هي بضعة خطوات للخلف لم يكف يوسف عن رمقها بنظراته الثاقبة لعلها تعتذر منه لكنها لم تفعل ولم يقل التحدي في نظراتها قط.

نبرته كانت غاضبة حين همس بخفوت وهو لازال يتقدm بخطواته للأمام:
_ مش هعيد سؤالي تاني

دلفوا إلى المطبخ فتوقفت لينة عن السير حينما لم يتبقى مساحة خلفها تذهب إليها، شعرت بمحاصرتها من قبله فهتفت بنفاذ صبر:
_ هقص شعري

أنهت جملتها ثم دفعته بعيداً عنها ومرت بجواره عائدة إلى غرفتها، تشكلت تلقائياً ذكري رؤيته لخصلاتها المموجة، فلم يشعر بنفسه سوى وهو يلاحقها، أمسك بيدها قبل خروجها من المطبخ وهتف أمراً:
_ هاتي المقص مفيش قص شعر

انعقد حاجبي لينة بغرابة فما شأنه هو بقص شعرها، حاولت التحرر من بين قبضته لكنه رفض البتة وشـ.ـد على يدها وباليد الأخرى حاول آخذ المقص:
_ هاتي المقص يا لينة

وضعته خلف ظهرها وأصرت على عدm إعطائه له:
_ أنت مالك أقص شعري ولا حتى أولع فيه، دا شعري وأنا حرة

تفاجئت لينة بثورته التي قامت عليها بانفعال لم تراه هكذا من قبل:
_ لا مش حرة، هاتي المقص

كانت تطالعه بذهول، فلم ترتفع نبرته عليها من قبل، ما الذي حدث الأن، بينما بلغ يوسف ذروة تحمله وحاول التقاط المقص من خلف ظهرها، فباتت هي محاصرة بين ذراعيه، فإن حضر شخصاً من خلفهما فلن يراها فجسده يغطيها بالكامل.

خفق قلبها بشـ.ـدة فكان وضعهما حميمياً للغاية، شعرت بهياج نبضاتها وكأنها للتو اكتشفت قلبها لطالما ظنت أنه هادئ وساكن.

أحاط يوسف يدها الممسكة بالمقص بيده محاولاً أخذه منها، أوصدت لينة عينيها مستمتعة برائحته الفريد من نوعها، شعرت لوهلة أن عضلاتها ترتختي رويداً رويداً ولم تعد تستطيع التحكم بشيء.

ارتخت أعصاب يدها فنجح يوسف في التقاط المقص، أخفض رأسه فتفاجئ بلمعة عينيها التي تطالعه بهما، لقد كانت قريبة للغاية، إنه بالفعل ملتصق بها، تراجع أكثر فأخرجت هي أنفاسها التي انحشرت داخلها.

لم يستطيع مواجهتها وفر هارباً إلى الخارج، عاد لغرفته وحالته مذرية، أنفاسه مضطربة لا يستطيع ضبطهما قط، قلبه ينبض وكأنه في سباق منذ ساعاتٍ ولم يتحلى بالراحة.

إزدادت عصبيته حينما فشل في وضع حد لذلك الوضع السخيف وعدm تحكمه في نفسه، ألقى بالمقص بعيداً عنه ثم ألقى بجسده على الفراش ودسر الغطاء أعلى رأسه ظناً أنها طريقة مناسبة للهروب من أفكاره.

مسكين، لا يعلم أن حتى لو سافر لأخر البلاد لن يتوقف عقله عن التفكير مادام لم يحل شفرة أسئلته والوصول لاجابات قاطعة.

بينما لم تبرح لينة مكانها، إلى الأن لم يستوعب عقلها ما حدث، تطالع الفراغ أمامها ومشاعرها مضطربة، تشعر بأنها لم تكتفي باقترابه، تريد المزيد منه.

"واقفة عندك كدا ليه؟"
انتبهت لينة لسؤال زياد فاكتفت بتحريك رأسها ثم انسحبت إلى غرفتها تحت نظرات زياد المتعجبة من أمرها.

وقفت خلف بابها تستنشق الصعداء، تنشطت ذاكرتها سريعاً لتعيد مشهد قربه منها ثانيةً، أوصدت عينيها متلذذة بذلك الشعور الخاص.
ماذا لو انحنى قليلاً فقليلاً ثم قبـ...

اتسعت عينيها لوقاحة أفكارها لكنها لم تمنع ابتسامتها التي غزت شفتيها، فالسعادة دقت باب قلبها، ألقت بجسدها على الفراش وطالعت السقف فشعرت بالخجل يعصف بها كلما تذكرت قربه حتي باتت وجنتيها حمرواتين، وضعت الوسادة أعلى وجهها كاتمة ضحكاتها السعيدة ثم احتضنت الوسادة لتعطي العنان لأفكارها في رسم المزيد من المواقف التي تتمنى لو تحدث لهما.

***

صباحاً، استيقظ يوسف على رنين هاتفه، لوهلة شعر أنه يحلم، لكن تكرار رنين الهاتف أكد له أن الأمر حقيقياً وليس من عقله الباطن.

سحب هاتفه بكسل، ونظر إليه بأعين ضائقة، فلم تعتاد عينيه الضوء بعد، جلس بثلث جسده وأجاب بصوت متحشرج:
_ السلام عليكم
"وعليكم السلام، أستاذ يوسف؟"

بنعاس شـ.ـديد يسيطر عليه أكد هويته:
_ أيوة أنا، مين حضرتك؟
"أنا واحد محتاج يقابلك ضروري"

_ أنا آسف والله مش بقابل حد معرفوش
قالها يوسف فأسرع الآخر متوسلاً:
_ أنا عيسى اللي بنت المرحوم عبدالرحمن كلمتك عنه قبل كدا

أخرج يوسف زفيراً ليهدئ من حشرجة حنجرته وقال بجدية:
_ تمام تعالالي المعرض، بس ياريت يكون قبل الضهر
"تمام، إن شاءالله هكون عندك قبل الضهر"

أنهى يوسف المكالمة ثم تفحص ساعة الهاتف، كاد أن يكمل نومه إلا أنه أراد الهروب من عيناي لينة، فلن يقدر على مواجهته بعد تصرفه البـ.ـارحة.

بدل ثيابه ثم مشط خصلاته وخرج من الغرفة، نظر إلى غرفة لينة الهادئة ثم مر من أمامها بحذر لكي لا تنتبه عليه، لكن المفاجأة كان وجودها في الردهة.

طالعها لوقت غير مصدق أنها أمامه، بينما اقتربت هي منه بوجه جـ.ـا.مد وعقدت ذارعيها أعلى صدرها وببرود هتفت:
_ أنت رايح فين؟

بادلها يوسف نظرات بـ.ـاردة وبملامح متجهمة أجابها:
_ رايح الشغل

رفعت حاجبها وقالت:
_ أنت مش ناسي حاجة؟

ارتخت ملامحه حينما لم يصل إلى شيء قد يكون نسيه، هز رأسه وسألها مستفسراً:
_ حاجة إيه؟

اقتربت منه حتى باتت أمامه تماماً، تاركة بينهما سنتيمرات قليلة، ثم وضعت كلتى يديها في خصرها وبغيظ صاحت:
_ تصالحني مثلاً!

تقوس فم يوسف للجانب مبدي استيائه:
_ نعم؟ أصالحك!
ليه هو أنا زعلتك؟

قلبت لينة عينيها بعدm إعجاب لاستنكاره، في النهاية إنه ذكر ولن يعترف بخطئه بسهولة، تنهدت قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها بحنق:
_ أنت نسيت عملت إيه إمبـ.ـارح؟

تصنع يوسف التفكير، فاتخطت لينة حدودها تلك السنتيمرات التي تفرق بينهما ورفعت سبابتها في وجهه وصاحت مندفعة:
_ مش عايزة استعباط يا يوسف

أمسك يوسف بسبابتها وحذرها من بين أسنانه بعصبية:
_ اتكلمي معايا عدل

تأففت لينة وهدرت به شزراً:
_ يعني مش هتصالحني؟!

شـ.ـد يوسف إصبعها للأسفل قليلاً ثم أمسك بيدها الصغيرة فتوجست لينة خيفة أن يزيد من ضغطه على يدها وهتفت بدلال متعمد:
_ خلاص مش عايزة منك حاجة

تفاجئت بتلك القبلة التي طُبعت على كفها، رمقته بدون استيعاب لتصرفه، بالتأكيد هي مازالت نائمة وهذا حلم، لكنه حلم جميل.

فاقت على صوته العـ.ـذ.ب حينما قال:
_ أنا آسف متزعليش

ابتسمت بعفوية وهي تنظر لوميض عينيه الذي اختلف كلياً عن ذي قبل، ترك يدها ثم بادلها إبتسامة عـ.ـذ.بة قبل أن يتابع سيره نحو الباب ليغادر، لكنه توقف وأعاد النظر إليها قائلاً بنبرته الرخيمة:
_ لينة، متفكريش تقصي شعرك تاني..

أومأت بقبول فغادر يوسف بينما باتت لينة في حيرة من طلبه، لماذا يهتم بشأن شعرها لتلك الدرجة؟
ثم إنه لم يراه من قبل لكي يرفض قص طوله، شعرت بتشتت عقلها فلم تستيطع الإتيان بإجابة واضحة وعادت إلى غرفتها لتبدأ في مذاكرة دروسها.

في الخارج، وقف يوسف مكانه، لحظة استيعاب لما قام به، أهو حقاً قبل يدها؟
كيف تجرأ وتصرف بوقاحة دون تراجع، كيف لم يفكر عقله للحظة أن ما يفعله خطأ!

في النهاية لم يصل لإجابات صريحة ترضى أسئلته، فلم يكن أمامه سوى الذهاب إلى عمله ونسيان وقاحته الحادثة.

***

في مكتب يوسف، كان بلال ووالده في انتظاره، تعجب يوسف من وجودهما في تلك الأثناء، فدوماً هو من يكون أول الحاضرين، جلس ثلاثتهم في الصالون المخصص للضيوف ثم بدأ السيد سمير حديثه:
_ حمد لله على سلامة زياد، معرفتش حاجة عن موضوع قطع الفرامل دا؟

نفى يوسف معرفته بالفاعل:
_ الله يسلمك، مش في دmاغي حد بعينه، ودا اللي هيجنني

اقترح السيد سمير إسما لربما يكون الفاعل:
_ مش يمكن يكون آندور؟

استبعد يوسف ذلك الشخص موضحاً:
_ فكرت فيه، بس ملوش أي مصلحة يعمل معايا كدا، أنا معايا ورق يدينه يعني يخاف يلعب معايا أقوم أأذيه

تنهد السيد سمير قبل أن يردف:
_ على العموم خلي بالك، ومن هنا ورايح تشيك على العربية قبل مـ.ـا.تركبها

أخفض يوسف رأسه بحرج، تردد كثيراً فيما سيقوله، فهذا آخر ما أراد فعله في تلك الفترة، أخذ نفساً عميق ثم نظر إلى السيد سمير وأردف بإقتضاب:
_ أنا عايز أشتري العربية اللي بتتصلح

تعجب بلال من طلبه وتدخل في الأمر:
_ على فكرة محدش طلب منك تشتريها و...

قاطعه يوسف بحكمة:
_ بس أنا عايز، أنا أصلا كنت ناوي أشتري واحدة، بس كنت مأجل الفكرة على لما أخد الخطوة اللي بقالي كتير برتب لها بس الظاهر مفيش نصيب

سأله سمير بجدية:
_ خطوة إيه اللي بتتكلم عنها؟

حمحم يوسف وبتهكم واضح أجابه:
_ خلاص بقا، الموضوع راح لحاله

أصر بلال على معرفة تلك الخطوة:
_ ما تقول يابني كنت ناوي على إيه؟

أخبرهم يوسف عما يريدان معرفته لطالما حلم بتحقيق هدفه ذاك كثيراً:
_ بصراحة كنت عايز أشارك حضرتك

قالها وهو ينظر للسيد سمير، أخرج تنهيدة بطيئة وتابع تحت نظرات الدهشة في عينيهما:
_ كنت حابب يكون لي شغلي الخاص، بس الموضوع صعب وبعيد، ففكرت إني أشاركك على الأقل أسهل بس مفيش نصيب..

انتبه كليهما إلى بلال الذي هتف بحماس يشوبه الجدية:
_ يبقى أنا ويوسف ٥٠٪ وأنت يا بابا الـ ٥٠٪ التانين

تفاجئ يوسف باقتراح بلال وبادر في الرفض خشية أن يضع صديقه في موضع حرج مع والده:
_ لا لا يا بلال...

تدخل السيد سمير حاسماً للأمر:
_ على بركة الله، أنا أصلا كنت محتاج شُركة معايا وبكدا يبقى نقدر نقول مبروك علينا المعرض التالت

هلل بلال بفرحة عارمة:
_ دا الكلام

مد يده إلى صديقه وبحماس شـ.ـديد أردف:
_ مبروك علينا يا شريكي

بالله ماذا يهذي ذاك المختل، كيف بتلك السهولة؟ أحقاً بات من أصحاب الأملاك الآن؟
حقاً سيحقق حلمه وهدفه لطالما تمنى لأعوام عديدة!
بتلك السهولة بعدmا فقد الأمل!
حقاً لا يصدق كرم الله عليه

مد يده إلى بلال وصافحه والسعادة وحدها من تتحدث عما يدور داخله، قطعت لحظتهم حينما طُرق الباب فسمح يوسف للطارق بالدخول:
_ أدخل..

ولج شاب غريب الهوية، كان الإرتباك بادي على تقاسيمه، حمحم وهو يجوب المكان بعينيه باحثاً عن أحدهم لكنه يجهل هويته، فتحدث يوسف متسائلاً:
_ مين حضرتك؟

أجاب الآخر بتردد:
_ أنا عيسى عبد النبي، عندي معاد مع أستاذ يوسف

نهض يوسف واستقبله قائلاً:
_ أيوة أنا يوسف اتفضل

أشار له للجلوس على أحد المقاعد، بينما نهض السيد سمير وكذلك بلال الذي تبعه واستأذنا ثم غادرا المكتب.

طلب يوسف للضيف مشروباً خاص ثم بدأ يستمع إلى ما جاء لأجله، وبعد مدة ليست بقصيرة، أنهى الشاب حديثه فتدخل يوسف بحكمته:
_ أستاذ عيسى حضرتك عندك أخوات بنات؟

أجابه عيسى بتلقائية:
_ أيوة ٣ بنات

ابتسم يوسف فهذا سيسهل عليه الأمور:
_ جميل أوي، حضرتك تقبل إن بنت فيهم تتجوز وتجيب لأخواتها راجـ.ـل غريب يعيش وسطهم؟
يعني هل أنت كراجـ.ـل شرقي وغيور هتوافق؟

نكس الشاب رأسه بخجل شـ.ـديد، ولم يستطيع الرد، فتابع يوسف مالم ينهيه:
_ صدقني أنا احترمت زيارتك ليا وإنك اتكلمت من خلالي، بس الوضع صعب ولا يمكن أقبل بوضع زي دا وفي الآخر طبعاً انتوا أحرار، بس مكنش اشتركت في حاجة شايفها غلط وهتفتح أبواب لمشاكل كتير

صمت يوسف قليلاً وطالع الشاب لبرهة قبل أن يكمل حديثه:
اللي أقدر أعمله إني أشوف لك شغلانة كويسة تقبض منها كويس وتساعد نفسك واحدة واحدة وطلاما هي بتحبك هتستناك حتى لو قعدت سنين، وصدقني طلاما نيتك خالصة لله ربنا هيسهلك أمورك كلها.

ابتسم له الشاب ثم شكره بإمتنان:
_ شكراً لذوقك

نهض ليغادر فأكد يوسف على حديثه:
_ إن شاءالله في خلال أيام بسيطة هنفتح فرع جديد وطبعاً محتاجين عمال كتير وقت ما نقرب هكلمك وتيجي تبدأ شغلك على طول

أعاد الشاب شكره ممتناً لكرمه، ثم استأذن وغادر، تفاجئ يوسف بدلوف بلال ثانيةً، عقد حاجبيه بغرابة لرؤيته مازال هنا ولم يغادر بعد:
_ أنت لسه هنا؟

اقترب منه بلال بنظرات مريبة أخافت يوسف وهمس بغموض:
_ خد لي ميعاد من خالك

بغرابة سأله:
_ وأنت بتتكلم بصوت وا.طـ.ـي كدا ليه؟

طالع بلال السقف ثم رد عليه بعدmا أخرج تنهيدة مطولة:
_ أصل مش مصدق إن أبويا خلاص وافق

ضحك يوسف على أسلوبه الطريف، لكنه سرعان ما اختفت ضحكته حين انفجر فيه بلال بعدm صبر:
_ أنت لسه هتضحك كلم خالك أخلص

عاتبه يوسف بحنق:
_ براحة شوية مش كدا

تأفف يوسف ثم هاتف خاله ليتخلص من سخافة بلال، أجاب الطرف الآخر بود:
_ إزيك يا يوسف باشا، أخبـ.ـارك ايه

بنبرة لطيفة حميمية أجاب:
_ بخير يا خالو، أنتوا أخبـ.ـاركم إيه
- كويسين يا حبيبي، ميمي والواد زياد كويسين؟

- بخير يا خالوا الحمدلله
نفذ صبر بلال وأشار إلى يوسف بأن يسرع قليلاً، استنكر يوسف تلك العجلة التي يريد الأمور أن تسير بها، لكن ما عليه سوى امتثال لمطالبه، حمحم ليخبر خاله عن سبب المكالمة:
_ بقولك يا خالو، كنت عايزك تحدد ميعاد بلال وعيلته يجوا فيه

شهق بلال بصدmة فجذب انتباه يوسف إليه، فهمس الآخر بنفاذ صبر:
_ ميعاد إيه اللي يحدده، قوله إحنا جايين بكرة

رفض يوسف أن يخبره بما يريده بلال لكنه كان لحوحاً للغاية فاضطر إلى قوله:
_ وياريت لو ينفع بكرة

لم يستطيع رمضان إعطاء يوسف إجابة صريحة قبل أن يعود إلى زوجته وابنته ليرى إن كان الموعد يناسبهن أم لأ:
_ طيب هرد عليك بليل يا يوسف

باختصار أنهى المكالمة:
_ تمام هستناك، مع السلامة

إنهال بلال عليه بالمعاتبة فور إنهائه المكالمة:
_ ما تخلص معايا الموضوع دا يا يوسف بقا، عايزك تزق الدنيا معايا كدا عايز أخلص

لم يوافقه يوسف الرأي في سيران الأمور بعجالة وأخبره بجدية:
_ بلاش سربعتك دي يا بلال، كل حاجة تيجي في وقتها كويس، سيب كل حاجة تمشي براحتها عشان مترجعش تنـ.ـد.م في يوم

رمقه بلال بطرف عينيه، غير مقتنع برأيه، نهض عن مقعده مردداً:
_ لما خالك يرد عليك عرفني

"تمام"
قالها يوسف مختصراً بينما غادر الآخر وذهب إلى عمله، عاد يوسف برأسه إلى حافة الكرسي مستنداً عليه، أوصد عينيه لبرهة وظل يتذكر مشاكسته وتصرفاتها التي تروق له كثيراً.

يحب دلالها المبالغ معه، لا يضجر قط من أسلوبها حتى وإن تعدى حدوده قليلاً، تذكر خصلاتها المموجة التي كانت تغطي وجهها بأكمله، شعر برجفة قوية سرت في أوصاله وخصيصاً حينما راوده الشعور نفسه عنـ.ـد.ما كانا في المطبخ.

وميض عينيها وهي تطالعه حينها كان غريباً، مريباً، لم يشعر بخوف فيهما بل شعر لوهلة أنها مستمتعة بقربه، هو رآها موصدة العينين وكأنها تشم رائحته!

لم يكن متأكداً تماماً مما رآه، لكنه يجزم أنها لم تكن خائفة منه، وكيف ستخشاه وهو مأمناها مثلما أخبرته هي من قبل؟!

شعر بأنه بحاجة إلى سماع صوتها، لم يتردد ثانية وهاتفها على الفور، أتاه صوتها بعد ثوانٍ قليلة برقة:
_ سوفي..

خفق قلبه بقوة حينما نادته بتلك الرقة، كذلك تقوس ثغره تلقائياً وأردف بنبرته الرخيمة:
_ بتعملي إيه؟

تفحصت الكتب الكائنة أمامها وأخبرته بملل:
_ بذاكر

نهض عن كرسيه ووضع يده في جيب بنطاله ثم جاب الغرفة بخطوات متهملة، وتابع مكالمته بسؤاله:
_ أنتِ صرفتي نظر عن قص شعرك صح؟

اتسع ثغرها بإبتسامة خجولة وهي تجيبه:
_ مش قولتلك خلاص يبقى خلاص

صمت كليهما، فلم يكن هناك المزيد من الأحاديث ليتبادلاها، حاول يوسف التفكير في شيء ما يتناولاه لكنه لم يجد، فرأى أنه من الأفضل إنهاء المكالمة فليس هناك داعٍ لمواصلتها دون حديث.

"أنت بتعمل إيه؟"
كان سؤالها بمثابة خيط وأمسك طرفه لبداية أحاديث جديدة، ظل يتسامران دون أن ينتبها على الوقت الذي مر سريعاً.

شهقت لينة حينما لمحت ساعة الحائط، انتفضت من مكانها وهي تردد:
_ اتاخرت، اتاخرت

أبعد يوسف الهاتف عن أذنه ليتفقد الوقت فتفاجئ بمرور الوقت ولم يشعر به، أعاد الهاتف وقال:
_ البسي على لما أجيلك

أخذ مفاتيحه ثم خرج من مكتبه ليجد سيارة أخرى يستخدmها اليوم لحين استلامه سيارته.

***

مساءاً،
واضع هاتفه على أذنه ويده أمام فهمه لكي لا يتسلل صوته إلى الخارج وبنبرة هامسه أردف:
_ لا بس صوتك جـ.ـا.مد في الموبايل، وأكيد هيبقى أجمد لو اتقابلنا

= بس أنا مش هعرف أخرج لوحدي، ممكن أجيب واحدة صحبتي

- هاتي اللي تجبيه المهم نتقابل

= ضحكت بميوعة قبل أن تعقب:
خلاص بكرة

- ربنا يصبرني من هنا لبكرة

- ارتفعت ضحكاتها فهلل هو بإعجاب شـ.ـديد:
_ آه يا قلبي، لا كدا مش هصبر لبكرة إديني عنوان بيتكم بسرعة

= لأ أصبر يا زيزو كلها ساعات الليل ونشوف بعض

رققت من نبرتها وبدلال متعمد سألته:
_ قولي يا زيزو أنا لو اديتك العنوان هتعمل إيه؟

تقوس ثغره فهو على علم بما ترمي إليه وتود سماعه، لكنه رضى فضولها بتلهف زائف:
_ دا أنا هعمل كوارث

إزدادت ضحكاتها المثيرة فأبدى عدm قدرته على التحمل بقوله:
_ براحة على قلبي شوية كدا مش هعرف أسيطر عليه وأنتِ اللي هتزعلي بعدين

عضت على شفتيها وهتفت دون حياء:
_ لما نشوف تقدر تعمل إيه..

انتبه على صوت والدته التي نادته من الخارج:
_ يلا يا زياد عشان تتعشى

تنهد وواصل مكالمته:
_ معلش بقا مضطر أسيب القمر عشام بينادوا عليا

أغلق المكالمة ثم بصق على الهاتف بتقزز وتمتم بإشمئزاز:
_ بت سهلة

نهض وخرج من غرفته وجلس مع الجميع يتناولون طعام العشاء، انتهوا من الطعام وإذا بهاتف يوسف قد صدح رنينه، أجاب دون تفكير:
_ إزيك يا خالوا

أجاب رمضان بود:
_ بخير يا حبيبي، بقولك عرف بلال إننا مستنينهم بكرة إن شاء الله وطبعاً أنت لازم تكون موجود وميمي كمان

ابتسم يوسف بسعادة، حتماً سيسعد بلال بذلك الخبر، أخذ نفساً ورد على خاله:
_ إن شاءالله يا خالوا هنكون كلنا موجودين

على جانب آخر، كانت لينة منشغلة في الهاتف، وجه زياد حديث إليها مقاطعاً إياها عما تفعله:
_ بتعملي إيه كدا؟

تأففت ثم ألقت بالهاتف بعيداً عنها، أوصدت عينيها وقد تجهمت تعابيرها، أخرجت زفيراً عميق مخرجة ضيقها معه.

عادت إلى زياد الذي صاح ساخراً:
_ كل دا حصل

رمقته بنفاذ صبر وهدرت به شزراً:
_ مش ناقصاك بجد يا زياد، سبيني في حالي

شعر بالنـ.ـد.م لسخريته، من الواضح أن هناك أمراً يشغل عقلها، تنهد وبجدية سألها:
_ مالك طيب؟

بإقتضاب أردفت:
_ مفيش

تدخل يوسف بسؤاله حين لاحظ تـ.ـو.تر الأجواء:
_ مالك يا لينة؟

أخرجت تنهيدة لكي تستطيع إعطائه إجابة، فخرجت كلمـ.ـا.تها مختنقة قليلاً:
_ مش عارفة أوصل لعلي يا يوسف!
الموضوع شاغلني أوي ومزعلني، هو بجد مش بيفكر فيا؟
قدر ينساني؟ نسى توأمه، أخته اللي سابها ومشى من غير حتى ما يودعها
قلبي بيتو.جـ.ـع كل لما أفكر أنه عايش حياته عادي من غير ما يعرف عني حاجة
وبتو.جـ.ـع أكتر لما أتخيل أن ممكن يكون حصله حاجة وأنا معرفش عنه حاجة

تفاجئ الجميع بمشاعرها التي أفصحت عنها، ضمتها السيدة ميمي لعلها تربط على قلبها المنكـ.ـسر:
وإحنا قصرنا في حاجة يا لينة عشان تفكري كدا؟

نفت لينة سؤالها موضحة قصدها:
_ لا طبعاً، بس هو أخويا، ومش أي أخ دا توأمي، يعني مجبرة أفكر فيه وبخاف يكون حصله حاجة

لم يستطيع يوسف رؤية دmـ.ـو.عها التي تنسدل بغزارة دون توقف، مال بجسده للأمام ليكون أقرب لها وهتف:
_ علي كويس يا لينة والله أعلم بظروفه، إن شاء الله نقدر نتواصل معاه قريب وتطمني عليه

مسحت لينة عبراتها وهي تردد:
_ يارب

نهضت ميمي وجمعت الأواني والكاسات على الصينية، بادر يوسف في أخذهم منها بلطافة:
_ عنك يا أمي

رفضت بحرج:
_ لا لا سيبهم يا حبيبي

أصر يوسف على حملهم بقوله:
_ هاتي كدا كدا أنا داخل المطبخ

أخذهم منها ثم توجه ناحيه المطبخ ووضع الصينية على الطاولة الرخامية، كاد أن يغادر إلا أنه وقف ونظر إلى الكاسات، تناولت يده تلقائياً عند الكأس الخاص بلينة، رفعه بقرب أنفه ليشم رائحتها.

"يوسف، أنت بتعمل إيه؟"
ثم صدح صوت وقطع خلوته، فسقط الكأس من يده من هول المفاجأة وتناثرت أشلائه في جميع زوايا المطبخ.

استدار بجسده وإذا بـ....
هرولت نحوه بذُعر، فأشار بيده إليها مانعاً إياها من الإقتراب:
_ خليكي عندك، متقربيش عشان الإزاز

وقفت مكانها بينما جلس هو القرفصاء وبدأ يجمع حطام الزجاج، لم تحب الوقوف ومشاهدته دون مد العون له، بحثت بعينها على شيء ما يمكنها مساعدته بها فإذا بالمكنسة اليدوية على مسافة قريبة منها.

اتجهت ناحيتها وكانت حريصة بألا تدعس على الزجاج، احضرتها ثم جمعت بها بقايا الزجاج المتناثر في الزوايا، مما ساعد يوسف على جمعهم، حضرت السيدة ميمي متسائلة بقلق:
_ في إيه يا ولاد إيه الصوت دا؟

أخبرها يوسف بنبرة هادئة:
_ المج بتاع لينة وقع يا أمي

صوبت لينة نظراتها تلقائياً على يوسف والدهشة كانت مُشكلة على تقاسيمها بينما هتفت والدته:
_ فداها ألف مج

التفتت لينة برأسها وأرسلت إليها قُبلة في الهواء فبادلتها ميمي قُبلة أخرى قبل أن تردف:
_ خلوا بالكم وأنتوا بتلموا الإزاز

باختصار قال يوسف:
_ متخافيش يا أمي

انسحبت هي للخارج فلم تنتظر لينة ووجهت أنظارها على يوسف وسألته بفضول:
_ المج بتاعي كان بيعمل إيه في ايدك؟

تفاجئ يوسف من سؤالها، وأدرك أن الموقف بات حرجاً للغاية، حمحم وبتلعثم أجابها:
_ مش كنت بودي الصينية هو فلت من بينهم ووقع

رفعت حاجبها الأيسر فلم تصدق ما أخبرها به، لقد رأته ممسكاً به، فصرحت بما رأته قائلة:
_ بس أنا شوفتك وأنت ماسك المج و...

قاطعها يوسف بانفعاله:
_ هعمل إيه بالمج بتاعك يعني، ولو زعلانة عليه هجيب لك واحد جديد، خلصنا

كان قد انتهى من جمعه للزجاج المحطم، استقام بجسده ثم ألقى به في صندوق القمامة وخرج من المطبخ دون أن يلتفت خلفه، هارباً من نظراتها المحملة بالعديد من الأسئلة حول تصرفه المبهم.

وكيف سيعطيها إجابات ولا توجد لديه إجابات واضحة لأسئلته هو، دلف لغرفته واعتلى طرف فراشه مستنداً براحتى يده على الفراش ولم يشعر بقبضة يده الغاضبة التي أمسك بها الغطاء، حتى ولج إليه أخيه، فأرخى من قبضة يده وطالعه دون حديث.

لوهلة خشى أن أخيه أيضاً رآه، فلم يخفض نظريه عنه في انتظار أي علامة تثبت له ذلك أو العكس، تعجب زياد من نظرات يوسف الثاقبة وسأله مستفسراً عما وراء نظراته:
_ بتبصلي كدا ليه؟

حرك يوسف رأسه نافياً وجود شيء وأردف بخفوت:
_ مفيش، عادي..

طالع الفراغ أمامه وانهمر بين أفكاره، يا تُرى ما رأي لينة فيما فعله؟
هل يمكن أن تسوء فهمه؟
كيف ستفكر به الآن بعدmا تصرف بوقاحة؟
ولما تصرف كهذا من البداية؟
ماهو المخزي من فعلته؟
فقط كان شعوراً منبعثاً من داخله يحثه على شم رائحة كأسها، لما؟ حقاً لا يدري!

"إيه اللي شاغلك أوي كدا؟"
قالها زياد بفضول، فحالة يوسف بدت مريبة بالنسبة إليه، لم ينتبه عليه يوسف فازدادت غرابة زياد، اقترب منه وجلس بجواره، لكزه في ذراعه ممازحاً إياه:
_ يابختها..

قطع عليه حبال أفكاره بكلمته، التفت الآخر برأسه ناظراً إليه بحاجبان معقودان مردداً بعدm استعياب:
_ هي مين؟

غمز إليه زياد بخبث وقال بنبرته اللعوبة:
_ اللي بتفكر فيها

احتدت تعابير يوسف ثم هتف بغضب جامح وهو ينهض مبتعداً عن الفراش :
_ مبحبش الكلام ولا الأسلوب دا، واحترم نفسك وأنت بتكلمني

أثار يوسف الجدل حوله بسبب انفعاله المبالغ، فالأمر لم يحتاج لكل ذلك الغضب، كان فقط يمازحه، نهض زياد موضحاً حسن نواياه:
_ في إيه يا يوسف، أنا بهزر معاك

نهى يوسف حوراهما السخيف بتحذيره:
_ ولا بتهزر ولا مبتهزرش، أنا هنام

فك أزرار قميصه ثم ألقاه بعنف على الأريكة الهزيلة الموضوعة في زاوية الغرفة، وتوجه إلى فراشه لينام تحت نظرات زياد المذهولة من تصرفاته الغريبة.

بعد لحظات بدل هو أيضاً ثيابه ثم أخذ قميص يوسف ووضعه على الحامل الذي يتمثل خلف الباب، توجه إلى الفراش وأولى ظهره ليوسف وفي ثوانٍ كان في ثُبات عميق.

في الغرفة المجاورة، كانت تتوسط الفراش حاضنة وسادتها بين ذراعيها مستندة بذقنها عليها، تفكر فيما رأته، كان الأمر شاغلاً حيزاً كبير في عقلها، كلما فكرت قليلاً بالمنطق لا تجد تفسيراً واضحاً لتصرفه.

انتبهت على اهتزازة هاتفها الموضوع على وضعية الصامت، فأجابت على صديقتها شهد:
_ لسه منمتيش؟!

عقبت شهد بنعاس:
_ بنام خلاص، بس كنت عايزة أقولك إني هجيلك بكرة قبل الدروس تفهميني حاجة ونمشي مع بعض

أبدت لينة قبولها قائلة:
_ تمام هستناكي

تثائبت شهد وأردفت بنبرة غير واضحة:
_ سـ سلام

_ "سلام"
قالتها ثم عادت لأفكارها ممكسة بخصلة من شعرها وظلت تلفها بحركات دائرية على إصبعها، وفي النهاية لم تصل لحلٍ يرضى فضولها، فقررت النوم أفضل.

***
في مساء يوم التالي، اجتمعت العائلتان في منزل السيد رمضان، عائلة بلال المكونة من والديه وشقيقتيه وأزواجهن، وعائلة يوسف، والدته ولينة التي أصر على مجيئها بينما تحجج زياد ببعض الأعمال لكي لا يذهب معهم.

رحب بيهم السيد رمضان بحفاوة:
_ البيت نور يا جماعة والله

تولى السيد سمير مهمة الرد عليه بلطف:
_ منور بأهله يا أستاذ رمضان

بإبتسامة قال رمضان:
_ تسلم يا أستاذ سمير

مال بلال على أذنه يوسف الذي كان يجلس بجواره وهتف ساخراً:
_ إيه الجو دا يابني، إحنا في مدرسة

صدرت ضحكة مفاجأة من يوسف فأثار النظرات حوله، أخفض بصره بحرج بينما عاد بلال بأنظاره على زواية خروج فتاته، فهو ينتظر ظهورها بفروغ صبر.

استاذنت هادية منهم بقولها:
_ بعد إذنكم لحظة

نظرت إلى لينة وأردفت:
_ تعالى يا لينة معايا

وجهت أنظارها على ولدها وحثته على المجيء:
_ وأنت كمان يا أسامة

نهض كليهما بينما كز يوسف أسنانه بعصبية وهو يرى لينة تسير بجوار ابن خاله، حمحم ثم نهض ونظر للجميع وهتف بأسلوب طريف:
_ ثواني وراجع، محدش يتكلم من غيري

قهقه الجميع على داعبته بينما أسرع هو إلى الداخل لاحقاً بهما، تعجبت هادية وجوده لكنها لم تعقب بل قابلته بود وبدأت في تحضير الحلوى وتعطيها لهم من أجل ضيافة الحاضرين.

كانت لينة متولية مهمة الضيافة بمساعدة يوسف، بينما دلفت هادية لغرفة ابنتها، كانت تجوب الغرفة ذهاباً وجيئاً تفرك يديها بتـ.ـو.تر.

"يلا يا إيمان عشان تطلعي للناس"
أردفتها هادية فنظرت إليها إيمان بإرتباك واضح، أخذت شهيقاً عميق ثم أخرجته على مهلٍ وقالت:
_ يلا..

خرجت والدتها أولاً ثم تبعتها إيمان إلى الخارج وقلبها يكاد يخترق جسدها من شـ.ـدة تدفق نبضاته، تشعر بالضياع، لا تعلم ماذا تفعل، وهل هي حقاً على استعداد لأخذ تلك الخطوة أم أنها تسرعت ويجب عليها التراجع قبل فوات الأوان.

خرجت من شرودها على وقوف الجميع أثناء ظهورها، شكلت ابتسامة زائفة على محياها ثم بدأت بمصافحتهم واحد تلو الآخر، حتى وقفت أمام بلال الذي كان يخفق قلبه بشـ.ـدة كلما اقتربت منه حتى باتت أمامه مباشرةً.

مد يده وتحسس يدها الناعمة فازدادت نبضاته أضعافاً، غزت الإبتسامة شفتيه وهو يراها واقفة أمامه خجلة بفستانها الأزرق الذي يتماشى مع لون بشرتها القمحية.

جلست إيمان على مقربة من الجميع، ولم ترفع رأسها قط، بل ظلت منكسة الرأس لا تقدر على النظر لأحدهم، فالأمر كان أصعب مما توقعت.

بدأ السيد سمير حديثه فيما جاءوا من أجله بصوته الاجش:
_ يشرفني يا أستاذ رمضان إننا نطلب أيد بنت حضرتك لبلال ابني

ابتسم رمضان وكذلك الجميع بسعادة منتظرين رده:
_ الشرف ليا يا أستاذ سمير إني أناسب عيلة محترمة زيكم

بإمتنان شـ.ـديد قال سمير:
_ ربنا يخليك يارب

حمحم ثم بدأ يعرف عن هوية بلال وما يملكه:
_ بلال عنده شقة عندي في العمارة، وماسك فرع من معارضي، وأهو في الآخر كله ليه ولأخواته يعني

هتف أبنائه في آن واحد:
_ بعد الشر عنك
_ ربنا يطولنا في عمرك يا بابا

بادلهم السيد سمير إبتسامة امتنان وحب، ثم عاد ليتابع حديثه:
_ وكل طلباتكم إن شاءالله متفقين عليها

وجه أنظاره حيث تجلس إيمان واسترسل بمرح:
_ كل اللي تقول عليه عروستنا هيتنفذ بس هي تؤمر

تدخلت شهيرة بنبرة صادقة:
_ آه والله هي تشاور بس وإحنا ما علينا إلا التنفيذ

ابتسمت لها هادية ممتنة لكرمها وشكرتها:
_ تسلمي يا أم بلال، كلك ذوق

أردفت الأخرى مؤكدة:
_ دا مش كلام والله، دي كفاية إنها هتكون مرات بلال لو طلبت عيني هديهالها

تدخلت ميمي في الحديث بقولها:
_ تسلم عيونك يا شهيرة

وزعت أنظارها بين أخيها وزوجته وتابعت:
_ شهيرة دي عشرة عمر، ومشوفتش أطيب منها يعني يابختك يا مونة بحما زيها

استنكرت شهيرة تلك الكلمة الغير مقبولة بالمرة وعدلتها:
_ لا لا يا ميمي بلاش كلمة حما دي مش بحبها، أنا هكون زي مامتها وإن مكنش أكتر كمان

صوبت بصرها على هادية وواصلت بإبتسامة مرحة:
_ متأخذنيش يا هادية بس أنا واثقة من نفسي

قهقه جميعهم بينما عقبت هادية ممتنة:
_ وأنا مكرهش والله، حتى أبقى مطمنة عليها

أسرعت شهيرة في بث الطمأنينة في قلب هادية بقولها:
_ لا أنا عايزاكي تطمني ومتقلقيش خالص

بادر سمير في مواصلة حديثه فحتماً لن تنتهي أحاديثهن تلك الليلة، حمحم ليجذب انتباههم وأردف بنبرته الرجولية:
_ ها قولت إيه يا أستاذ رمضان؟

تنهد قبل أن يردف:
_ أنا عن نفسي موافق، بس رأي العروسة أهم

عقب سمير بتأكيد:
_ دا أكيد، إيه رأيك يا عروسة؟

تفاجئت إيمان بسؤال سمير، خفق قلبها بشـ.ـدة وطالعته بذهول، لم يكن لديها إجابة وإن كان لديها فلن تصرح بها أمام الجميع، أنقذتها شهيرة حينما اقترحت:
_ مش يقعدوا مع بعض الأول يا سمير ويتعرفوا على بعض

زفرت إيمان أنفاسها التي حُشرت داخلها براحة، وافقها سمير الرأى حيث أردف:
_ أكيد طبعاً لو أستاذ رمضان وافق

لم يرفض رمضان الأمر فهذا من حقهم، نهض بلال وكذلك إيمان بينما نظر بلال إلى يوسف وغمز إليه ثم تابع سيره بعجرفة تحت نظرات يوسف الضحوكة، جلس كليهما في الصالون ثم تركتهم شهيرة بمفردهما وعادت إلى البقية.

الخجل كان سيد الموقف، على الرغم من تلهف بلال لخلق حوارً معها إلا إن كلمـ.ـا.ته انحشرت داخله وفشل في إخراجها، ظل يتابع تـ.ـو.ترها البائن، حيث كانت تهز قدmيها وكذلك تفرك أصابعها بقوة.

حتى فاجئته هي بسؤالها:
_ أسمح لي في السؤال، اشمعنا أنا اللي اختارتها؟

سؤالها بمثابة بابً قد فُتح له لبدء الحديث معها، حمحم ليضبط من نبرته رغم ذلك ظهرت متحشرجة:
_ عشان بحبك

رده كان مفاجئاً لكليهما، فلم يرتب هو للإفصاح عن حبه لها الآن، وكذلك هي لم تكن أقل منه ذهولاً.
حب!!
وهل يعقل أن يصرح بمشاعره من الجلسة الأولى لهما؟

كان على قدر كافٍ من التفهم بما يدور في عقلها، فأراد إرضاء دهشتها وإعطائها إجابات واضحة:
_ يمكن تقولي إيه العبـ.ـيـ.ـط اللي قاعد قدامي دا، بس دي الحقيقة، أنا بحبك يا إيمان؟

اتسعت مقلتيها بذهول شـ.ـديد فتابع هو قبل أن يفشل في استكمال حديثه الذي بدأه للتو:
_ يمكن كلامي ميكنش مقنع أوي بالنسبة لك، وأكيد بتقولي هو لحق يحبني امتى، دي تعتبر أول مقابلة لينا اللي فات كان مجرد صدف

أخفضت إيمان رأسها بحياء فهذا حقاً ما تفكر به، زفر بلال أنفاسه وتابع مالم ينهيه بنبرة متيمة:
_ كل دا بالنسبة لك صدفة، لكن أنا اللي كنت السبب في الصدف دي، أنا بقالي ٨ سنين مخبي مشاعري نحيتك، بس كنت متأكد أن في يوم هقدر أعترف بيه وكان جوايا يقين إنك هتبقى حلالي

عض على شفتيه السفلى قبل أن يتابع:
_ ودلوقتي متعشم في موافقتك..

رفعت إيمان نظريها عليه فقابلها بإبتسامة عـ.ـذ.بة، لن تنكر تعجبها منه ومن حديثه وتصريحه بدون زيف، كان صادقاً للغاية وهي استشعرت ذلك بالفعل.

حتماً لن تكذب تلك العينين اللامة التي تنتظر إجاباتها بفروغ صبر، شعرت بالضياع أكثر ولم تعد تعلم ماذا تفعل، من البداية كانت متأكدة من رفضها، لكنها الآن مشتتة، تخشى تحطيم قلبه وأن تكون السبب في انطفاء وميض الأمل في عينيه.

قطع حبال أفكارها سؤاله بتوجس:
_ ها إيه رأيك؟

ابتلعت ريقها مراراً قبل أن تعطيه إجابة:
_ أنا محتاجة وقت أفكر لو دا مش هيضايقك..

نفى بلال وجود أي مضايقة في الأمر:
_ لا طبعاً، خدي وقت زي ما تحبي

تقوس ثغرها ببسمة لم تتعدى شفتيها على عكس الإبتسامة التي غزت وجه بلال، لم يتوقف عن الثرثرة وظل يحدثها عن نفسه وعن أعماله وهواياته وكل ما يخصه بنفسٍ راضية.

***

في الخارج، استغلت لينة فرصة انشغال الجميع وانسحبت من بينهم وولجت لشرفة التي تتوسط الردهة، استندت بمرفقيها على سورها وطالعت السماء والعديد من الأفكار والمشاعر قد راودتها.

انتبه يوسف لذهابها ونهض خلفها ليعلم ما أمر انسحابها من بينهم

"واقفة لوحدك ليه؟"
سألها وهو يستند أيضاً على سور الشرفة، التفت هي برأسها وأجابته بفتور:
_ الجو جوا حلو أوي، وقلب عليا ذكرياتي

التفت بكامل جسدها وواصلت بأعين لامعة تهدد بتساقط عبراتها:
_ واحشني أوي جو بيتنا

ابتسمت بألم وهي تواصل بنبرة مهزوزة:
_ واحشني بابا وماما واخواتي، واحشتني لمتنا، تعرف بابا مـ.ـيـ.ـت وأنا كنت صغيرة أوي، مكنتش فاهمة يعني إيه مـ.ـو.ت، مكنتش لسه قادرة أستوعب يعني إيه يروح وميرجعش تاني، الموضوع مكنش مسبب لي أزمة لأن كان فيه بديل، ماما ويمكن هي كانت الجانب الأكبر اللي محتويانا، بابا كان طول الوقت برا مش بنشوفه كتير فغيابه مأثرش معانا أوي، أنا مفهمتش يعني إيه مـ.ـو.ت إلا لما أحمد راح وماما كمان راحت و..

لم تستطع الصمود لأكثر وجهشت باكية، وضعت أصابعها أمام عينيها تخفي عبراتها التي تنسدل بغزارة، شعر يوسف بوخزة قوية في قلبه، متألماً بسبب دmـ.ـو.عها التي تحاول إيقافها، بينما مسحت هي عبراتها بأناملها وأردفت بصوت متحشرج:
_ حتى علي مشى..

استدارت لينة بجسدها لوضعية وقوفها الأولى حيث استندت على سور الشرفة ثانيةً، ورددت بنـ.ـد.م وهي تطالع البنايات من حولها:
_ أنا آسفة إني نكدت عليك في يوم زي دا..

تفاجئت لينة بيدها التي اختفت داخل يده، التفت برأسها إليه فقابلها بإبتسامة عـ.ـذ.بة وهتف بنبرته الرخيمة:
_ بس أنا موجود، مش كفاية؟

نظرت في عينيه موحية إليه بإشارات معاتبة، فهل حقاً يسألها؟ ألا يدري كم تحبه؟ أيجهل أنه الأهم من بين الجميع!!

كادت أن تجيبه إلا أن صوت ذاك الدخيل قد منعها بسؤاله:
_ بتعملوا إيه عندكم؟

سحب يوسف يده بهدوء لكي لا يسبب الحرج لكليهما، التفت إلى ابن خاله وشكل إبتسامة سمجة على شفتيه وباقتضاب سأله:
_ عايز أيه يا خفيف؟

أبدى أسامة سخافته في رده:
_ برخم عليكم

أيده يوسف رأيه عن نفسه:
_ طول عمرك رخم إيه الجديد

تشـ.ـدق أسامة بفمه غير متقبل سُبابه وردد:
_ لأ أنا مقبلش إهانتي قدام القمر

أردف آخر جملته وهو يطالع لينة بعينيه، برزت عروق عنق يوسف بغضب ثم اقترب من ابن خاله ولكزه في صدره بعنف محذراً إياه:
_ طيب خد عينك وأطلع برا بدل ما أقلعهملك من مكانهم

أرغمه يوسف على الالتفات والسير، دافعاً إياه إلى الخارج، عاد لمشاكسته التي لم تكف عن الضحك فأثارت غضبه وهلل بإقتضاب:
_ معاكسته عجبتك أوي؟!

عقدت لينة حاجبيها واستنكرت ظنونه ثم عللت سبب ضحكها:
_ أنا بضحك عليك على فكرة..

قلب يوسف عينيه ثم طالع الفراغ أمامه محاولاً استعادة رونقه من جديد، بينما أخرجت الآخرى تنهيدة حارة وهي تخبره بمشاعرها:
_ وعلى فكرة أنت الأهم من بين كل اللي حواليا

أدار رأسه نحوها بغرابة فأوضحت هي سبب تصريحها:
_ مش كنت بتسألني أنا مش كفاية؟

فهم ما ترمي إليه ولم يمنع تسلل ابتسامته التي تشكلت عفوياً على محياه، فأجبر لينة على الإبتسام، أخرجت زفيراً عميق واقترحت شيئاً:
_ ما تحكيلي عن أحمد؟

رمقها يوسف والرفض يتجلى في عينيه، استشفت رفضه فقالت:
أكيد فيه بينكم مواقف حلوة، أو كوميدية يعني..

اتسعت إبتسامة عنـ.ـد.ما تذكر طرائفه مع أحمد وبدأ يقص عليها من بين ضحكاته، بينما كانت تصغي له باهتمام شـ.ـديد كما شاركته الضحك أيضاً.

***

في غرفة الصالون، وبعد صمتٍ طال لعدة دقائق تنهد بلال ثم سألها بفضول:
_ ها، لسه مش هت عـ.ـر.فيني رأيك؟

لم تمنع إيمان ابتسامتها التي غزت شفتيها مجبرة إياه على الإبتسام كذلك ثم أردفت ساخرة:
_ أنا لحقت أفكر؟

لم تكن ضحكتها هينة عليه، لقد كانت تعني الكثير والكثير، شعر بأملاً يخلق داخله وأن ردها سيكون في صالحه.

_ نهضت إيمان وبلطف هتفت:
_ نخرج؟

أماء لها بقبول ثم نهض عن الأريكة وتبعها إلى الخارج، أنتبه الجميع لدلوفهما واستقبلاهما بإبتسامة كانت مريبة قليلاً.

وقعت ضحكات يوسف ولينة على أذن إيمان، فوجهت نظراتها تلقائياً عليهما، على ما يبدو أن حوراهما حميمياً للغاية.

لم تصدق عينيها، هل هذا يوسف نفسه؟ تلك ضحكات من تمنت منه إبتسامة حتى وإن كانت زائفة؟!
لكن ما شغل عقلها، أين تكمن المشكلة؟ بها أم به أم بتلك الفتاة التي ينشغل بها؟
حتماً بثلاثتهم، أخرجت تنهيدة مهمومة ثم اقتربت من والدها وانحنت بقرب أذنه وهمست ببعض الكلمـ.ـا.ت ثم عادت إلى كرسيها في هدوء.

حمحم رمضان قبل أن يخبرهم برأي إيمان التي أبلغته به:
_ طيب يا جماعة، العروسة موافقة

السعادة دون غيرها أسرت قلوب الحاضرين، تعالت الزغاريد من قِبل شقيقات بلال فرحين بذاك الخبر السعيد، وفي زواية يقف بلال جاحظ العينين لا يصدق أنها بالفعل قبلت.

لا يستوعب عقله، لقد سألها منذ دقائق عن رأيها به وطلبت منه بعض الوقت، لكنها كانت مفاجأة سارة دق قلبه طرباً بسببها، أخرج من جيب معطفه عُلبة حمراء اللون أثناء خروج يوسف ولينة من الشرفة.

اقترب من ساكنة فؤاده ومد لها يده فنظرت إلى والدها الذي أومأ برأسه فأعطت يدها لبلال فأسرع في وضع الخاتم الذي اشتراه خصيصاً من أجلها في إصبعها، طالع عينيها الخجلتان وأردف بصوته الرخيم:
_ مبروك علينا

عقبت على مبـ.ـاركته بخفوت:
_ الله يبـ.ـارك فيك

تعالت الزغاريد مرة أخرى، حتى قطعها بلال بقوله:
_ دي مش الشبكة دا مجرد هدية بمناسبة قراية الفاتحة

وجه بصره على الجميع متسائلاً بمرح:
_ صحيح إحنا مش هنقرأها ولا إيه؟

هللت شهيره بسعادة لا توصف:
_ طبعاً دا مش من قيمتها، دي قيمتها غالية أوي مش مجرد خاتم

نظر السيد سمير إلى والد إيمان وبود سأله:
_ تقرأ الفاتحة يا أستاذ رمضان؟

أماء له رمضان بقبول مردداً:
_ على خير الله، أقروا الفاتحة

رُفعت أيادي الحاضرين تلقائياً وظل يرددون سورة الفاتحة بخفوت، كانت نظرات الجميع تدل على مدى سعادتهم بتلك المناسبة المفاجئة، على عكس يوسف الذي كان يطالع صديقه بعبوس، غير راضٍ بما يفعله، وعزم بأن يحادثه في وقت لاحق.

"ولا الضالين، أمين"
أنهى بها بلال قرأته لسورة الفاتحة ثم نظر إلى السيد رمضان مباشرةً وهتف بحماس:
_ لو تسمح لي يا عمي، أنا مش حابب أطول فترة الخطوبة، أنا الحمدلله لله شقتي جاهزة، واقفة على شوية حاجات إيمان إن شاء الله تنزل معايا تختارهم بنفسها، وأنا مش محتاج منكم أي حاجة ي...

قاطعته هادية التي تحدث بعجرفة:
_ ولا احنا ناقصنا حاجة، إيمان شوارها خالص من زمان

ابتسم لها بلال بهدوء وواصل حديثه:
_ يبقى تمام أوي، في خلال شهر الشقة هتكون خالصة من مجاميعه ونحدد الفرح على طول

لم يعجب رمضان سيران الأمور بتلك العجلة وقال رأيه في تلك المسألة:
_ وليه الإستعجال يابني؟ استنوا شوية خلص حاجاتك براحتك وبعدين نفكر في الفرح

أبدى بلال رفضه التام حيث أردف:
_ ياعمي أنا خلاص هتم ٣١ سنة الشهر الجاي، يعني مش صغير وطلاما إحنا مخلصين كل حاجة، يبقى ليه نستنى؟
_ أنا حابب نتعرف على بعض أكتر وإحنا في بيتنا

تدخل سمير برأيه حينما شعر برفض رمضان:
_ متصغطش عليهم يا بلال، طلاما كدا كدا في الآخر هتتجوزوا مش فارقة شهر بقا من ٣ أو ٤

شعر رمضان بالحيرة من ذاك الموقف الذي وقع بين طياته، زفر أنفاسه ليعطى لعقله فرصة التفكير قبل أن يعقب:
_ والله يا جماعة أنا معنديش مانع، بس الرأي يرجع للعروسة هي اللي تقرر في الموضوع دا

توجهت الأنظار حول إيمان التي كست الحُمرة وجهها من فرط الخجل، لم ترفع نظريها عن الأرض قط، ابتلعت ريقها وبخجل بائن أردفت:
_ اللي تشوفه حضرتك يا بابا

هتفت شهيرة بحماس:
_ قول موافق يا أستاذ رمضان خلينا نفرح

وزع رمضان أنظاره بين الجميع فلم يرى سوى السعادة التي ستدق قلوبهم بموافقته فما كان أمامه سوى القبول حيث قال:
_ على خير الله

عمت الزغاريد والمبـ.ـاركات المكان، كانت السعادة من تسيطر اليوم على قلوبهم، بينما كان يتابع يوسف ما يحدث ولا يبدي ردة فعل، يشاهد بفتورٍ ولا يعجبه تلك العجلة قط.

بعد مدة طويلة، استاذنت عائلة بلال وكذلك يوسف اصطحب عائلته ليغادروا، وقف بلال في زاوية قبل أن يصل إلى باب الشقة، استغل فرصة انشغال الجميع لتوديع بعضهما البعض وطالب إيمان بحرج:
_ إيمان، ممكن رقم موبايلك

طالعته لبرهة فاختلق بلال سبباً لطلبه لذاك:
_ يعني.. عشان إحنا من بكرة هنبدأ ننزل ونشتري الحاجات وهبقى عايز أتواصل معاكي وكدا..

حمحمت ثم استأذنته بقولها:
_ طب ثواني معلش

اقتربت من والدها ثم همست له تحت نظرات بلال المذهولة، شعر بالحرج الشـ.ـديد ولعن نفسه بأنه طالبها برقم هاتفها، تمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه بدلاً من أن يواجه رمضان، بعد لحظات جائته بعد أن سمح لها والدها ثم أردفت بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ هات موبايلك

أعطاها إياه دون تفكير، فسجلت هي رقمها عنده بإسمها ثم أعادت الهاتف له، تقوس ثغره بابتسامة سعيدة كأنه فاز فى حربٍٍ وليس فقط امتلاكه لرقم هاتفها، طالع بندقيتها قليلاً قبل أن يردف بنبرته المتيمة:
_ تصبحي على خير

أخفضت رأسها بحياء وأجابته بنبرة تكاد تُسمع:
_ وأنت من أهله

"مش يلا بقى يا بلال ولا هتبات عندك؟"
هتف بها يوسف بنفاذ صبر، بينما بادله الآخر نظرات غيظ وصاح بحنق:
_ جاي خلاص أهو يا خفيف

أشار إلى إيمان مودعاً إياها:
_ مع السلامة

اكتفت الأخرى ببسمة لم تتعدى شفتيها، ثم غادر بلال برفقة الجميع، استقل كلاً منهما سيارته وغادروا عائدين إلى منطقتهم.

بعد وصولهم، تعمد يوسف عدm الصعود لمنزله ونادى بصوته الأجش على صديقه:
_ بلال عايزك قبل ما تطلع

أؤمأ إليه بقبول وصاح من على بُعد مسافة منه:
_ هركن العربية وأجيلك

بعد لحظاتٍ انضم بلال إليه فتفاجئ بانفجار يوسف به:
_ مش عاجبني أبدا سربعتك اللي مشيت بيها الموضوع، جواز إيه اللي يتم في شهر؟
جبت الثقة دي منين عشان تقرر تتجوز في شهر واحد اللي هو أصلا هيضيع كله في تجهيز البيت؟!
أنت بجد مخوفتش للحظة إن حياتك تفشل؟
يعني على الأقل كنت تصبر ٥ أو ٦ شهور كدا تكون فهمت دmاغها وهي فهمت دmاغك، شاركتوا بعض في الفرح والزعل، اتخانقتوا وعرفتوا أن كنتوا هتعرفوا تتعاملوا أو حتى لأ
حاجات كتيرة أوي المفروض تعرفها عنها والعكس صحيح، وأنت تيجي تقرر إن الجواز في شهر؟!!

تأفف بلال بضجر بائن، فكلمـ.ـا.ت يوسف لم تأثر به ولو بذرة، تنهد ليخرج كلمـ.ـا.ته هادئة وليست غاضبة وحاول أن يريه وجهة نظره:
_ أنا استنيت كتير أوي أوي يا يوسف، مش كفاية بقى؟!
معتش قادر أضحك على نفسي أكتر من كدا، أنا بحبها وعايزها تكون حلالي ودا المهم، التفاهم والتعارف دا يجي بعد الجواز حتى يكون أسهل ومناخدش وقت..

أوصد يوسف عينيه لاعناً تفكيره الساذج، أعاد فتح عينيه وبنبرة مشحونة بالعصبية صاح:
_ دا تفكير عقيم، مفيش في الدنيا حاجة اسمها كدا، إحنا نتجوز لما نلاقي نفسنا متفاهمين ومستعدين لكدا

زفر أنفاسه وواصل مسترسلاً بضيق:
_ أنا وأنت عارفين اللي فيها يا بلال، على الأقل عودها عليك وعلى وجودك الأول وبعدين فكر في الجواز يا أخي

قابله بلال بملامح جـ.ـا.مدة، فهو يفهم مخزى حديثه، ولم يتقبله قط، تنهد يوسف وحاول كبح جماح غضبه، فهو مجبر أن يهدأ ويصلح ما اقترفه، شعر بالنـ.ـد.م حيال كلمـ.ـا.ته التي لم يرأف بصديقه عند قولها وهتف مبرراً:
_ أنا عارف إن كلامي يضايق، بس أنا مش عايزك تزعل في الآخر لما يتقفل عليكم باب ومتلاقيش اللي كنت مستنيه يا بلال

ربت على ذراعه وأكمل بنبرة سوية:
_ ياض أنت أخويا، وسعادتك تهمني..

استقام بلال في وقفته بعدmا كان يستند على سيارة يوسف، وباختصار قال:
_ ربنا يسهل يا يوسف

أولاه ظهره وعاد إلى منزله وكلمـ.ـا.ت يوسف تتردد في عقله، لقد تبخرت سعادته بتذكيره لحبها له، كيف تجنب تلك المسألة بسهولة، أم أنه تعمد نسيانها فقط ليصل إلى مراده في النهاية.

تشتت عقله ولم يعد يعلم أين الصواب، فقرر النوم ليريح ذهنه قليلاً من تعب التفكير لعله حينذاك يعرف ماذا يريد.

***

تأفف بضجر بائن، شعر بالصداع من ذاك الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين، تلفت أعصابه ولم يعد يستطيع التحمل فصاح بملل:
_ ما ترد يابني على البتاع دا، أنا صدعت، دا موقفش رن من وقت ما خرجنا

قلب زياد عينيه بتزمجر ثم أردف بلا مبالاة:
_ سيبها ترن..

التفت إليه أمجد متشـ.ـدقاً بفمه وهو يصيح بعدm تصديق:
_ خليها ترن! أنا قولت برده الصداع دا مش هيخرج عن واحدة من اللي بتمشي معاهم، ودي مين المرة دي؟

أجابه بثقة الفتى المشاكس:
_ ريم، البت الأخيرة دي

فغر أمجد فاهه بذهول وهو يردد بعدm تصديق:
_ مش دي اللي حفيت عشان تاخد رقمها؟!

إستاء زياد من وصفه ثم هدر به شزراً:
_ مين دي اللي حفيت وراها؟

رمقه أمجد بطرف عينيه بتهكم فتراجع زياد عن قوله:
_ ماشي كنت عايز أوصلها وأديني وصلت، بس خلاص زهوة البدايات بهتت كدا، مبحبش البنات السهلة اللي بكلمة واحدة تلاقيها وقعت، بحب البت اللي طلع عيني على لما أقدر أوصلها ويا سلام بقا لو موافقتش بتدخل دmاغي بطريقة ياض يا أمجد وببقى همـ.ـو.ت عليها وبقلب بطة بلدي قدامها بس أول ما تنخ وتتساهل معايا بتقع من نظري

طالعه أمجد بتقزز، هاتفاً بتهكم:
_ أنت محتاج تتعالج يا زياد

قلب زياد عينيه وهتف ساخراً:
_ ياعم فكك مني، يلا سلام

ترجل من السيارة ثم صعد إلى منزله بينما ذهب أمجد ليصف سيارة والده في موضعها ليعود إلى منزله.

***

"ها يا بنتي، ما تقوليلي رأيك إيه في اللي حصل النهاردة؟"
توسطت فراشها وأخذت وسادتها بين ذراعيها، واضعة إصبعها في فمها لتأكل أظافرها، وعقلها منهمراً في الأحداث الأخيرة

نفخت والدتها بضيق وصاحت بنفاذ صبر:
_ ما تنطقي يا إيمان، غلبتيني معاكي

خرجت إيمان عن صمتها مجيبة والدتها بنبرة هادئة مريبة:
_ معرفش يا ماما، مش قادرة أقول إني موافقة على اللي حصل وبرده مش قادرة أحدد إن كنت رافضة ولا لأ

رفعت هادية شفتيها العليا وعلامـ.ـا.ت الإستفهام ازدادت داخل عقلها، هزت رأسها حينما لم تفهم منها شيئاً ورددت بتأفف:
_ أنا مش فاهمة حاجة من كلامك دا

حاولت إيمان تبسيط كلمـ.ـا.تها فقالت:
_ بلال شكله طيب أوي يا ماما دا حتى قالي إنه بيحبني من ٨ سنين

اتسعت مقلتي هادية بدهشة، فسماع ذلك لم يكن هيناً قط، تشكلت بسمة عريضة على ثغرها هاتفة بسعادة:
_ كان فين دا من زمان؟

تنهدت إيمان بفتور وتابعت حديثها:
_ وأهله كمان شكلهم طيبين أوي، بس أنا مش مستعدة أبداً للجواز الوقتي، دا بيقول شهر!!
يعني يدوب أغمض وأفتح ألاقيني في بيت جديد عليا مع راجـ.ـل معرفش عنه أي حاجة، دا في حد ذاته يخوف، يخوف إيه دا الموضوع يرعـ.ـب، أنا كدا بظلم نفسي وبظلمه معايا، أنا مش هعرف أتعامل معاه بسهولة، مش هعرف أكون له زوجة يا ماما مش هقدر أديله حقوقه وأنا حاسة أنه غريب عني، والله أعلم هتعافى من التاني دا امتى وهركز مع دا امتى، أنا بجد تايهة ومتلخبطة وسرعة الأحداث دي مـ.ـو.تراني..

اقتربت منها والدتها وقامت باحتضانها، فشعرت برجفة جسدها ثم صغت إلى آناتها التي تلاها بكاءاً غزير، شـ.ـدت شهيرة من ضمها إليها وحاولت التخفيف عنها بقولها:
_ أنا عارفة إن قلبك مكـ.ـسور، وكان نفسك في واحد بس ربنا مأردش، نقوم نحمد ربنا إن فيه حد غيره بيحبنا، أهو دا اللي هيطبطب ويدادي ويداوي جروحنا، وإن جيتي للحق الواد ميعيبوش حاجة أبدا، أبوكي سأل عنهم وطلعوا ناس محترمة ومعروفة، وهو الوحيد يعني لا سلفة تقرفك ولا تضايقك، وأمه شكلها نفسها تجوزه النهاردة قبل بكرة وهتشيلك في عينها، وغير إن مستواه المادي كويس جداً يعني مش هيخليكي محتاجة لأي حاجة، وبعيد عن كل دا أنا شوفت لهفته عليكي ونظراته اللي متشالتش من عليكي طول القاعدة كأنه مش شايف غيرك، وشكله بيحبك بجد على فكرة، مش بيقولوا العاشق تفضحه نظرة عنيه؟

رفعت إيمان رأسها ناظرة لوالدتها التي ابتسمت لها وتابعت بنبرتها الحنونة وهي تملس على خصلاتها:
_ اسمعي كلامي وسيبي الموضوع يمشي زي ماهو، لو مشى من غير تعقيد يبقى دا نصيبك وعوضك، لو حصل أي حاجة فشكلت الموضوع يبقى منقولش غير الحمدلله لأن يابنتي ربنا مش بيكتب لنا غير الخير، بس إحنا مش بنشوف دا غير بعدين..

انتبهن كلتهاهن على رنين هاتف إيمان، تناولته من أعلى الكومود وعقدت حاجبيها متعجبة من ذاك الرقم مجهول الهوية، مالت والدتها مختلسة النظر إلى شاشة الهاتف وسألتها بفضول:
_ رقم مين دا؟

بعد ثوان جائتها إجابتها:
_ طالع على تروكولر بلال!

ابتسمت هادية ثم رددت بحماس:
_ ردي عليه، إدي له فرصة

لم تبدي إيمان ردة فعل بل ظلت ترمقها في صمت، فحثتها والدتها على فعلها:
_ ردي ومش هتنـ.ـد.مي

غمزت إليها ثم انسحبت سريعاً من جانبها، كادت أن تخرج إلا أن تراجعت وأكدت عليها:
_ ردي عليه

أجبرت إيمان على الإبتسام وهي تردد:
_ خلاص يا ماما

بادلتها شهيرة إبتسامة عفوية ثم خرجت وتركتها بمفردها، نظرت إيمان إلى شاشة الهاتف بتردد كبير ثم أجابت قبل أن تنتهى مدة الإتصال:
_ ألو..

خفق قلبه فور سماعه لصوتها، حمحم قبل أن يردف متسائلاً بمزيج من الحماس والانطفاء:
_ نمتي؟

باختصار همست:
_ لأ..

تنهد بلال فعقله منشغلاً بكلمـ.ـا.ت يوسف، لم يستطيع إخراجها من عقله، يشعر بالتخبط بينها، لا يعلم إن كان ما فعله الصواب أو العكس. استشعرت إيمان صمته وسألته مستفسرة:
_ حاسة إنك عايز تقول حاجة ومتردد

هز رأسه وكأنها أمامه ثم هتف بما يدور في عقله:
_ أنا بس استغربت موافقتك المفاجئة، عشان كنتي لسه قيلالي محتاجة وقت تفكري

تلعثمت إيمان في الحديث، حتماً لن تخبره أنها قبلت لأنها رأت عدm مبالاة يوسف لشأنها، أخذت مدة تفكر فيما ستخبره به ثم هتفت بتلعثم:
_ جت كدا، حسيت إني عايزة أعمل كدا بس..

شهيقاً وزفيراً فعل بلال قبل أن يتابع:
_ أنا لما لقيتك وافقتي فجاءة رغم إنك احتاجتي وقت تفكري، اقترحت إننا منطولش الخطوبة، يعني حاجة من جوايا برده خليتني أقول كدا، مش عارف إذا كان دا صح ولا غلط بالنسبة لينا، أنا مش عايزك تفهميني غلط أنا لو عليا لو أقدر أخلص الشقة على آخر الأسبوع هعمل كدا، بس يعني عشان مكنش أجبرتك على وضع أنتِ مش حباه أو مش مستعدة ليه!

أوصدت إيمان عينيها ثم استلقت على الفراش وطالعت سقف الغرفة لبرهة قبل أن تفصح عن شعورها:
_ مش هقدر هقولك إني مستعدة وخصوصاً إننا لسه منعرفش بعض، بس مش عارفة حاسة إني متلخبطة ومش عارفة أنا عايزة إيه

اقترح بلال شيئاً لربما تقتنع به:
_ تيجي نسيبها لربنا وللظروف؟

تسائلت بفضول:
_ إزاي؟

أوضح قصده من وراء حديثه:
_ يعني نسيبها تمشي زي ما اتفقنا، وننزل نشتري كل اللي يخص البيت ونجهز فيه، ولو ربنا أراد يوفقنا، الأمور هتمشي سهلة ولو محتاجين وقت أكيد هتظهر لنا أي عقبة تعطلنا..

تفاجئت إيمان بتفكيره فكان مشباهاً تماماً لتفكير والدتها، تقلبت على جانبها الأيسر وقالت مؤيدة الرأي:
_ ماما قالتلي نفس الكلام دا برده، عموماً ربنا يسهل

حل الصمت لوقت فلم يجد بلال مجالاً لإطالة الإتصال فأنهاه بقوله:
_ تمام، أسيبك بقى عشان تنامي، تصبحي على خير

بخفوت أردفت:
_ وأنت من أهله

أنهى المكالمة وظل يطالع شاشة هاتفه شاعراً بتلك الراحة التي انتابته من وراء حديثهما سوياً، ظهرت إبتسامة عفوية على شفتيه، ضم الهاتف إلى صدره وأغلق عينيه راسماً ملامح وجهها في تلك الظلمة خاصته.

شعر برجفة قوية في أوصاله إثر تخيله لها بين ذراعيه، وشعر أنه كان على صواب لطلبه إتمام زيجتهما في ثلاثون يوماً فقط.

عاد بظهره إلى الخلف مستلقياً بنصف جسده على الفراش والنصف الآخر كان على الأرض، ابتسم بسعادة قد دقت قبول قلبه، وظل يرسم لهما مواقف عدة وهما في منزلهما بمفردها.
زقزقرت العصافير وأشرقت الشمس، وفي تمام الساعة التاسعة ونصف يجلس ذاك الوسيم الذي يرتدي قميصاً أسود قاتم، تارك بعض الأزرار الأفقية مفتوحة ظاهراً جزءاً من عضلات صدره، يرتشف كوب من الشاي بجانب الشطائر التي أعدتها له والدته.

ابتسمت له وبنبرتها الحنونة أردفت:
_ أهي إيمان وخلاص على وش جواز، أنت مش ناوي تفرح قلب أمك بقا يا يوسف؟

هضم ما كان في فمه أولاً ثم تحرك بجسده إلى اليسار لينظر إليها قبل أن يجيبها:
_ صدقيني أنا مش ممانع والله، بس هي فين؟

أثارت كلمـ.ـا.ته تعجب والدته فانعكس على تقاسيمها وهتفت بتهكم:
_ دا البنات مفيش أكتر منهم يابني، أنت مش بتبص حواليك في الشارع؟ دول أكتر من الرجـ.ـا.لة!

قهقه يوسف على كلمـ.ـا.تها وبهدوء قال:
_ هتصدقيني لو قولتلك إني مبشوفش بنات خالص ماشين في الشارع

لم تفهم ما يرمي إليه فأوضح قليلاً بعد:
_ والله بجد، أنا من الشغل لدورس لينة للبيت، حتى الجيم بقالي فترة مش عارف أروحه زي الأول، يومي كله مشغول، عارفة الناس اللي بتقولك ماشي مش شايف قدامي حرفياً أنا دا الفترة دي، لا بشوف بنات ولا حتى رجـ.ـا.لة، دا كويس إني صاحبت قبل الدوامة اللي أنا وقعت فيها دي وإلا كان زماني الوقتي مليش صحاب

أخرج تنيهدة واعتدل في جلسته يطالع الفراغ أمامه، على الجانب الآخر لم تستطيع والدته الصمت وهي ترى شبابه يمر هباء:
_ بس أنت كدا بتظلم نفسك يا يوسف، إحنا يابني مش أنانيين للدرجة دي، أنت مش شاغل نفسك غير بينا وبس، أنا وأخوك ولينة، الأول كان ممكن أقول هو الكبير وملناش غيره، بس الوقتي أخوك كبر وبقا راجـ.ـل وآن الأوان يشيل شيلة نفسه وأنا سواء أنت ولا هو مش هتسيبوني..

انتظر يوسف استكمالها لبقية الحديث الناقص فلم تكمل، التفت إليها متسائلاً بغرابة مختلطة بالمعاتبة:
_ ولينة؟ دي أهم مني أنا وأخويا، دي في الآخر بنت، لما أنا اشوف نفسي مين هياخد باله منها؟

أخذت ميمي نفساً عميق، مترددة في قول ما تخفيه في جوفها، لكن الأمر يحتم عليها إخراجه فألقت الحديث دفعة واحدة:
_ مهو برده يا يوسف لينة مش صغيرة، والمفروض تعتمد على نفسها، دي خلاص هتدخل الجامعة والله أعلم يمكن تقابل واحد و...

لم يتحمل يوسف ذلك الهراء وصاح بهجوم:
_ إيه الكلام دا يا أمي؟!
لينة هتفضل في أمانتي طول مافيا النفس، وواحد إيه اللي تقابله والكلام الفارغ دا، هو إحنا عندنا الكلام دا!
ثم إنها لسه صغيرة أوي على اللي بتقوليه، كل اللي المطلوب منها الوقتي تكمل دراستها وبس، وطول ما أنا عايش مش هخليها محتاجة حاجة حتى لو على حساب نفسي..

نهض عن كرسيه مستأذناً منها:
_ عن إذنك يا أمي

سار بخطاه للخارج، ثم زفر أنفاسه فور غلقه للباب وكأن شيئاً ما ثقيل للغاية يطبق على صدره، حاول تهدئة روعه والسيطرة على غضبه الذي تأجج داخله ثم هبط إلى الأسفل بملامح متجهمة.

بحث بعينيه عن سيارته، ثم تأفف بضجر، لقد تناسى تماماً أنه لم يجلبها بعد من عند المصلح، تنهد ثم سحب هاتفه من جيب بنطاله وهاتف صديقه لكي يصطبحه إلى مكان عمله.

أتاه صوته النشيط بعد ثوانٍ:
_ صباح الخير يا جو

بإقتضاب تحدث الآخر:
_ صباح النور، انزل يلا عشان توصلني

حمحم بلال وهو يمرر بصره على الجالسين أمامه ثم اعتذر منهم:
_ عن اذنكم لحظة..

ابتعد عنهم فأثار الريبة داخل يوسف وسأله مستفسراً:
_ أنت فين كدا؟

وضع بلال يده اليسرى على فمه لكي لا يصل صوته إلى الآخرين وأجابه:
_ بنجيب الشبكة..

"شبكة!!"
رددها يوسف بعدm فهم فأوضح له الآخر جيداً:
_ أنا وإيمان ومامتها وأمي بنجيب الدهب

أبعد يوسف الهاتف عن أذنه ليتفحص الوقت قبل أن يعود إليه قائلاً:
_ شبكة إيه ودهب إيه الساعة ١٠ الصبح؟
أنت اتجننت يا بلال؟ للدرجة دي مش قادر تصبر لبعد الضهر حتى!

بتلقائية عابثة قال بلال:
_ بعد الضهر هنروح نختار الأوض

أوصد يوسف عينيه لبرهة محاولاً استيعاب هذا الهراء، عاد إليه متسائلاً بفضول:
_ أنت عرفت توصلهم إزاي أصلاً أنا مش فاكر إني اديتك رقم خالي!

التفت بلال برأسه مختلساً نظرة عليهم قبل أن يرد على يوسف:
_ كلمت حمايا واتفقت معاه

"حماك!"
_ هتف بها يوسف بلا وعي، ثم واصل متعجباً مما يصغي إليه:
_ حماك دا اللي هو خالي صح؟!
ماعلينا طيب جبت رقمه منين؟

أجابه باختصار:
_ من إيمان

"إيمان!!"
ردد يوسف إسمها بذهول شـ.ـديد واسترسل ساخراً:
_ أنا خايف بالسرعة اللي أنت ماشي بيها دي تيجي تقولي بكرة بـ.ـارك لنا هنجيب بيبي

انفجر بلال ضاحكاً، حاول جاهداً السيطرة على ضحكاته ثم قال برجاء:
_ أبوس ايدك يا يوسف مش عايز تقطيم، صاحبك فرحان ومش عايز حاجة تقفله

لم يعاتبه يوسف بل شعر أن إيلامه سيكون سخيفاً بعد توسله، في النهاية هو يريد سعادته، وطالما هو كذلك فليفعل ما يحلو له، ابتسم وبـ.ـارك له بنبرة ودودة:
_ ربنا يتمم لك على خير يا حبيبي

أسرت السعادة قلب بلال بمبـ.ـاركة يوسف، فهو شخصًا مهماً للغاية بالنسبة له وحتماً دعمه سيكون في صالحه.

رد عليه وهو يومئ برأسه لوالدته التي تناديه:
_ يارب يا جو، معلش هقفل عشان بينادوا عليا

أنهى المكالمة ثم عاد إليهن بينما نفخ يوسف فلم يدري كيف سيصل إلى عمله، وبالأخير طلب سيارة لتقوم لتوصيله.

***

كانت الحيرة دون غيرها مسيطرة على إيمان، الجميع يضغط عليها لتختار طاقماً من الحُلي ولا تدري أيهما تختار، تمرر أنظارها بين الجالسين شاعرة بالنفور مما يقودنها إليه.

لا تنتمي لذاك الرجل الذي يجلس أمامها يبتسم لها، تطالع والدتها التي تشجعها بنظراتها تارة وتارة أخرى تمرق عينيها على الحُلي، تريد اختيار أي منهم سريعاً لتمضي بعيداً عن ذلك المكان.

خرجت من شرودها على صوته الرخيم وهو يشير إلى أحد الأطقم:
_ إيه رأيك في دا؟

لم يعجبها ذوقه، فكان مرصع بالأحجار وهذا يتنافى تماماً مع ذوقها، مررت نظريها سريعاً على بقية الأطقم فكان هناك ما جذب انتباها من بينهم، كان أكثر هدوئها ورقة، لكنها لم تجرأ على طلبه بل أعادت النظر إلى بلال الذي يتابعها جيداً وقالت مختصرة:
_ حلو..

تنهد بلال فردها لم يروق له، وجه نظره إلى أحد الأطقم وأشار إليه بإصبعه ثم أمر البائع قائلاً:
_ ممكن تورينا اللي هناك دا، حاسس إنه أحلى

وضعه أمامهما فتفاجئت إيمان أنه نفسه الذي لفت انتباهها، انتبهت على سؤال بلال حينما قال:
_ ها إيه رأيك، دا أحلى صح؟

طالعته ورأت لمعة عينيه المنتظرة إجابتها بفروغ صبر، هي استشفت اهتمامه منذ حضورهما لكن ليس لذاك الحد، فهو استشف إعجابها بالطاقم من خلال عينيها.

غمز إليها بلال بمشاكسة وأردف:
_ ولا نغيره؟

حركت رأسها رافضة قبل أن تعطيه إجابة خجلة:
_ لأ، حلو

اتسع ثغر بلال بإبتسامة عـ.ـذ.بة، نظر إلى البائع وهتف بحماس:
_ تمام هناخد دا

انتظرت شهيرة لحين انتهائهم من شراء طاقم الحلي خاصتهم ثم تدخلت بنبرة مرحة:
_ يلا جه دوري، نقي يا إيمان أي حاجة تعجبك

تفاجئت هادية بكلمـ.ـا.ت شهيرة، تغلغلت السعادة قلبها، وظلت تشاهد ما يحدث في صمت دون إبداء رأي، بينما شعرت إيمان بالخجل يجتاحها وأبدت رفضها بذوق:
_ دا كتير اوي يا طنط، كفاية اللي بلال جابه

آه والف آه، لقد ذاب قلبه بعد نطقها إسمه، لم تختفي الإبتسامة من على شفتيه قط، بل كانت تزداد كلما تفوه هذا الثغر الملون باللون البني.

أصرت شهيرة على اختيار حلي كما يحلو لها، وافقت إيمان تحت ضغط شـ.ـديد منها وتشجيع من بلال، اختارت ساعة ذهبية فاخرة، تنهدت شهيرة براحة حينما اختارت هديتها ثم صاحت قائلة:
_ لسه هدية عمك سمير

صوبت إيمان عينيها نحوها بذهول وباتت تردد بحرج بائن:
_ بجد كدا كتير أوي، كفاية اللي جه

هزت شهيرة رأسها برفض تام مصرة على ما قالته:
_ مفيش حاجة تكتر عليكي يا حبيبتي، يلا شوفي اللي يعجبك واختاريه

أعادت إيمان النظر إلى بلال الجالس أمامها فحثها على اختيار ما تريده بإشارة من عينيه، حمحمت إيمان ثم بدأت تفكر فيما ستقوم باختياره، لكن لم يكن هناك مالم تمتلكه ففضلت اختيار سوار رقيق.

نهضت بعدmا انتهت من اختيار الحلي واقتربت من والدتها فهتفت شهيرة مرة أخرى:
_ استني راحة فين، لسه هدية هدى وهدير

لم تتحرك إيمان من مكانها، فكان هذا يفوق الإستيعاب، استدارت إليها لتتأكد مما وقع على مسامعها فقابلتها شهيرة ببسمة صادقة وحثتها على العودة إلى مكانها:
_ تعالي يلا نقي اللي تحبيه

وكعادتها توجهت بنظريها إلى بلال الذي يحشر ضحكاته داخله رغماً عنه، فنظراتها المذهولة كانت مثيرة للضحك، لكنها إلى الأن لا تعلم مع عائلة من تتعامل، إنها عائلة الجيار، عائلة ذو مكانة مرموقة في المجتمع.

عادت إيمان إلى كرسيها ولازالت أسفل تأثير الصدmة، فلم تتوقع مثل هذا البذخ من أجلها، تنهدت وتسايرت مع الأمور كأنها طبيعية، كان تلك المرة اختيارها خاتمين مزدوجان، والآخر كان حرفاً من بداية إسمها لتعلقه في عقدها.

لم تنهض بتلك السرعة التي فعلتها من قبل خشية أن تعيدها شهيرة مرة أخرى، لكنها لم تقل واكتفت بما قاموا بشرائه من أجلها.

غادروا جميعاً ولازالت إيمان ووالدتها لا تصدقن ما حدث لهمن، بينما كان بلال فخوراً بما فعلته عائلته على الرغم من ترتيبه لذلك مسبقاً، ثم تابعوا تسوقهم في شراء أثاث عشهم الجديد.

يوم يليه الآخر، حتى مر أسبوعاً الذي تلاه أسبوعاً آخر إلى أن مر ثلاثين يوماً، كانوا قد انتهوا من تجهيزات المنزل، وكذلك أنهت لينة امتحاناتها وتترقب ظهور نتيجتها.

***
في أحد غرف المنزل الجديد، تقف إيمان برفقة والدتها يضعن ثيابها في الخزانة، التفتت شهيرة إلى حيث تقف إيمان وهتفت أمرة:
_ روحي قولي لبلال يجيب هدومه عشان نعلقها ونكون خلصنا

رفعت إيمان كتفيها مع تحريك رأسها باشارات رافضة البتة ثم قالت:
_ مليش دعوة، روحي قوليله أنتِ

تأففت هادية وعاتبتها بضيق:
_ أنتِ مش شايفة إنك مش بتتعاملي معاه خالص؟
هتعملي إيه لما يتقفل عليكم باب كمان يومين؟

تأففت الأخرى وأولاتها ظهرها هاتفة بحنق:
_ أنا لغاية دلوقتي مش مصدقة أصلاً اللي بيحصل وماشية مع الأحداث زي ما قولتيلي ولا أنا ارتحت وحسيت إني فعلاً عايزاه ولا ظهرت مشكلة تفشكل الموضوع

أسرعت هادية في وضع راحة يدها على فم ابنتها مجبرة إياها على الصمت وحدثتها بإيلام:
_ هشش وطي صوتك شوية، أنتِ ناسية إنه واقف برا وممكن يسمع، ولا عايزة تفرحي سي يوسف لما يسمع كلامك دا؟

تراجعت إيمان للخلف بتزمجر شـ.ـديد وهي تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها، لماذا لا يشعر بها أحد؟!!

لم يعجبها هادية تصرفاتها الحمقاء التي ستضيع عليها كل ذلك الثراء التي باتت فيه، استدارت بجسدها وخرجت من الغرفة قاصدة بلال، شكلت بسمة على محياها ووقفت تشاهده وهو يعلق التابلوهات العصرية على الحائط بمساعدة يوسف.

أنتبه إليها بلال فسالها باهتمام:
_ محتاجة حاجة يا ماما؟

أومأت قبل أن تخبره بمرادها:
_ أيوة يا حبيبي، لو خلصت ممكن تنزل تجيب هدومك عشان نعلقها لأن معتش فاضل غيرهم

بهدوء أردف:
_ حاضر هنزل أجيبهم أهو

التفت برأسه ناظراً ليوسف الذي هبط السلم الخشبي وسأله مستفسراً:
_ كدا خلصنا، صح؟

أماء له يوسف ثم هتف وهو يشير إلى أحد الأركان:
_ أيوة، بس لسه الشاشة

بتلقائية رد عليه بلال وهو يبتعد عنه:
_ تمام، هنزل اجيب الهدوم وأجي نعلقها

توجه يوسف ناحية الحائط الذي سيعلقان عليه التلفاز بينما عادت هادية إلى غرفة ابنتها وأخبرتها بما فعلته:
_ بلال نزل يجيب الهدوم، يلا نخلص الكام حاجة دول قبل ما يطلع..

لمعت عيناي إيمان ثم نهضت معللة ذهابها:
_ نسيت حاجة برا هجيبها..

فرت سريعاً من أمامها قبل أن يفـ.ـضـ.ـح أمرها، ابتلعت ريقها واقتربت من يوسف بخطى متهملة، ويدين متشابكتين من فرط حيائها، حمحمت لتجذب انتباهه فقال وهو يرمقها بطرق عينيه:
_ معلش عاملين لكم دوشة، بس عشان نخلص معتش وقت

عاد ليخرج الشاشة من علبتها لكنه فشل لكبر حجمها الهائل ففضل انتظار عودة بلال، انشغاله عنها كان يتلف أعصابها ويثير غيظها، لا ينظر إليها مرة واحدة ويتعامل وكأنها ليست موجودة.

زفرت أنفاسها لتكون أكثر هدوءاً عكس غضبها التي تشعر به بسببه وسألته بتعالي:
_ إيه رأيك في البيت؟

أبدى يوسف رأيه باختصار وبرود:
_ جميل ما شاء الله

شعرت بغصة في حلقها ولم تخرج كلمـ.ـا.تها التي فكرت بها بسهولة، فبات الحديث صعباً، لكنها قاومت وهتفت:
_ عقبال بيتك

كاد يجيبها يوسف إلا أن عودة بلال قد منعته، توجه نحوها مباشرةً ثم قال:
_ الشنطة أهي بس تقيلة أوي، خليني أدخلها أنا جوا

أخفضت بصرها في حياء ثم أولاته ظهرها وعادت إلى الغرفة، تبعها بلال ووضع حقيبته الخاصة على الفراش ثم تركهن يفعلن بها ما يحلوا لهن.

تعجب يوسف من طريقة إيمان فهي لم تردف حرفاً في وجوده، وليس اليوم فقط، هي كذلك بقية أيامه الذي يأتي ليساعد بلال، لاحظ تجنبها من الحديث معه وتتعامل فقط من خلال والدتها.

انتظر عودة صديقه الذي وقف مقابله وقاموا بحمل التلفاز بحذر ثم قاموا بتعليقه على الحائط، قابلوا صعوبة لبعض الوقت في ذلك بسبب كبر حجمه وعدm تمكنهم من حمله فترة طويلة.

صاح يوسف بنفاذ صبر:
_ أنت جايبها كبيرة أوي كدا ليه، دا حتى المسافة بينها وبين الليفنج بسيطة أوي، عيونكم هتو.جـ.ـعكم

أجاب بلال وتركيزه التام في تعليق الشاشة في وضعها الصحيح:
_ والله لقيت دي أكبر حجم وأغلاهم جبتها

تعجب يوسف من رده وسأله مستفسراً:
_ اشمعنا يعني بدور على أكبر حاجة وأغلاهم، مش بتجيب الحاجة العملية، أيوة فاهمين إن الغالي تمنه فيه بس يعني مش للدرجة دي، أنت صارف على الشقة دي أكتر من اللي أبوك كسبه طول حياته، حاسك أوفر شوية

تنهد بلال ثم أخبره بما يدور في عقله:
_ والله بعمل اللي عليا يا يوسف، عشان تبقى راضية وبس..

شعر يوسف بالإسيتاء من خلف كلمـ.ـا.ته الساذجة وعاتبه بإقتضاب:
_ فأنت لما تجيب أغلى وأكبر حاجة كدا تزغلل عينيها وتحببها بيك، يابني الحب عمره ما كان قيمته الفلوس، آه الفلوس طبعاً مهمة عشان الحياة تمشي، بس الفلوس عمرها ما هطبطب على زعل وهداوي جـ.ـر.ح، ولا تشفي روح تعبانة، الشخص نفسه اللي قادر يعمل كل دا ومن غير الفلوس، قادر يحتويها وقت زعلها، ويبدأ بالصلح وميهونش عليه زعلها حتى لو كان مش غلطان، يسامح ويراضي ويطبطب ويدلع، ويحترم رغبتها ورأيها وطموحها، يشجعها ولو فشلت يقف جنبها ويساعدها تقف من تاني، ميرميش اللوم عليها ولا يهينها، حاجات كتير عمر الفلوس ما تقدر تعملها، الفلوس تشتري خاطر الناس الجعانة لكن اللي عيونهم مليانة محتاجين راجـ.ـل حنين يقود العلاقة برحمة ومودة مش حتى بالحب بس لأنه أوقات زهوته بتنطفي واللي بيكمل العلاقة ويخليها مستمرة وكمان ناجحة أنه يكون شخص رحيم، فهمت؟!

أماء له بلال بتأكيد ناهيك عن ابتسامته التي زادته حماساً، وأخيراً قد نجحا في وضع التلفاز بسلام دون خسائر، جلس كليهما على الأريكة الوردية الفاخرة، تردد يوسف كثيراً قبل أن يشارك صديقه بما شعر به، تنهد واقتربت منه ثم أردف كلمـ.ـا.ته هامساً:
_ هو أنتوا إيه نظامكم مع بعض؟

قطب بلال جبينه بغرابة فلم يستشف ما يرمي إليه يوسف وسأله مستفسراً:
_ مش فاهم

أوضح يوسف قصده بصوته الأجش:
_ أنت وإيمان، يعني أنا من وقت ما دخلت البيت دا مشوفتكوش بتتعاملوا مع بعض أصلاً، وكل كلامك مع أمها لو احتاجوا لحاجة، مفهمتش دا عشان محروجة من وجودي مثلاً ولا إيه!

تجهمت تعابير بلال، ابتعد عن يوسف وعاد بظهره مستنداً على الأريكة، طالع أمامه بعينيان وميضهما منطفئ، ثم أجاب بخذلان:
_ لا دا تعاملنا أصلاً مش بسببك ولا حاجة، يدوب إزيك الله يسلِمك، تصبحي على خير وأنت من أهله

أنتبه بلال على نظرات يوسف المعاتبة، فأسرع في نفي ضيقه في هذا الأمر وهتف متأملاً في المستقبل:
_ بس عادي يابني إحنا انشغلنا في البيت وحاجته فطبيعي يعني، هنتعرف أكتر بعد الجواز وخلاص هانت أهي

لم يقتنع يوسف بكلمـ.ـا.ته، لا يدري أهو أبله أم يتعمد أن يكون كذلك، اقترب منه إلى أن التصق به، التفت برأسه متفحصاً المكان من خلفه وحينما لم يجد أحد عاد إلى صديقه وهمس إليه:
_ أنت هتعمل إيه يوم الفرح؟

تفاجئ بلال من وقاحة السؤال وابدى تهكمه بالأمر:
_ إيه اللي هعمل إيه يوم الفرح، أنت شايفني عيل قدامك؟!

استنكر يوسف ظنه السوء وأوضح ما يقصده من خلف سؤاله:
_ أنت فهمت إيه، أنا قصدي إزاي يعني هتعرف تقرب منها وأنتوا حتى مفيش بينكم لغة حوار؟!

مال بلال برأسه إليه وتسائل باهتمام:
_ طيب أعمل إيه في اليومين دول؟

قهقه يوسف ثم ردد ساخراً:
_ قولها ت عـ.ـر.في البيبي بيجي إزاي؟

لم تهدأ ضحكات يوسف على منظر بلال المذهول، رمقه بلال بنظرات جـ.ـا.مدة ثم تركه بمفرده وولج إليهن ليرى إن كنا قد انتهين أم مازال هناك أعمالاً ليقومن بها.

شعر بالريبة من أمر ضحكاتهن في الخفاء، حاولن التريث فور ظهوره لكن لم يجدى الأمر نفعاً، عقد بلال حاجبيها متسائلاً بفضول:
_ هو فيه حاجة؟

رفعت شهيرة كلتي يديها ظاهرة ذاك القميص الشفاف ذو اللون الأحمر وهتفت من بين ضحكاتها التي تحاول جاهدة إخفائهم:
_ لقينا دا وسط هدومك

صعق بلال مما وقع على أذنيه، طالعهن بعينيان جاحظتان، ثم ظل يردد بحرج شـ.ـديد:
_ إيه دا، جه منين دا؟

أكدت هادية وجوده بين ثيابه، كاد بلال أن يهبط إلى والدته ليعلم سر ذاك القميص إلا أنه رآها أمامه، تنفس بعمق ثم أشار بيده على القميص متسائلاً عنه:
_ هو ايه دا؟ جه وسط هدومي إزاي؟

وجهت شهيرة نظريها على ما يشير إليه بلال وتفاجئت بما رأته، شهقت بخجل شـ.ـديد ثم اقتربت منهن وتناولت القميص من بين يدي هادية وقالت بتلعثم:
_ دا بتاع هدى، أصل كنت بعين لها هدومها في الشنطة دي، متأخذنويش يا جماعة شكلنا نسيناه في الشنطة

ربتت هادية على ذراعها وأردفت كلمـ.ـا.تها لتزيل الحرج منها:
_ ولا يهمك يا أم بلال، حصل خير

انسحبت إيمان من بينهم فالأمر كان سخيفاً بالنسبة لها، استغل بلال فرصته وهرول خلفها، دلفت إلى المطبخ فتبعها هو.

انتبهت عليه فلم تجرأ على رفع بصرها بعد الحادثة الاخيرة، كان يريد خلق حوارً معها فلم يصل إلى شيء بحد عينه فأردف بتلقائية:
_ إيمان ت عـ.ـر.في البيبي بيجي إزاي؟

صدmة كبيرة حلت على وجه إيمان، فغرت فاها وهي تطالعه بعينين متسعتان، لا تصدق ما تفوهه للتو، لم تستطيع الوقوف أمامه لحظة وهـ.ـر.بت سريعاً إلى والدتها، سحبت حقيبتها وهي تردد بإقتضاب:
_ يلا يا ماما عشان نمشي..

تعجبن الأخريات من طريقتها المفاجئة، فتدخلت السيدة شهيرة متسائلة باهتمام:
_ مالك يا حبيبتي في حد ضايقك؟

طالعتها إيمان لبرهة ثم شعرت أنها بالغت في ردة فعلها أمامهن، حمحت لتضبط من نبرتها المشحونة بالغضب وقالت بنعومة:
_ لا لا، بس إحنا خلصنا وأنا معتش قادرة محتاجة أرتاح شوية

ابتسمت لها شهيرة ثم ربتت على ذراعها وهي تهتف بمكر:
_ هانت يا حبيبتي كلها يومين وترتاحي خالص

اكتفت إيمان ببسمة زائفة ثم التفت حيث تقف والدتها وأردفت وهي توحي إليها بالقبول من خلال نظراتها:
_ مش يلا يا ماما

أماءت هادية وقالت وهي تأخذ حقيبتها:
_ يلا يا حبيبتي، عن إذنك يا أم بلال

تفاجئ بلال بخروج ثلاثتهن ومنظر إيمان لا يبشر بالخير، لعن سؤاله الساذج الذي أوقعه في ذلك الوضع، انتبه على حديث والدته حينما هتفت:
_ وصلهم يا بلال وتعالى عشان عايزاك

أومأ برأسه بينما غادرن الأخريات، اقترب بلال من يوسف ونظراته مشحونة بالغضب ثم هتف بعبوس:
_مش عارف عقلي كان فين وأنا بسمع كلامك

تعجب يوسف مما قاله وردد دون فهم:
_ كلام إيه؟

مال بلال بقرب أذنه وهمس له:
_ البيبي بيجي إزاي يا يوسف!!
أهي قلبت عليا، لو الجوازة باظت يبقى أنت السبب

لم تكن كلمـ.ـا.ته هينة على يوسف، فلقد كان يسخر منه، وهو أخذ حديثه على محمل الجد، طالعة لبرهة غير مصدق أنه بالفعل قال ذلك، تحولت تقاسيمه من الذهول إلى السخرية مطلقاً ضحكاته دون توقف.

صاح من بين صحكاته بنبرة غير مفهومة:
_ دا أنا كنت بتريق، مش متخيل إنك قولت كدا بجد

عاد لضحكاته ثم جسى على ركبتيه فلم تعد قدmيه تتحملانه من فرط الضحك، بينما رمقه بلال بغيظ شـ.ـديد ثم أولاه ظهره وغادر ليلحق بهن.

خرج يوسف من حالته على رنين هاتفه، بالكاد تحكم في نفسه وأجاب بنبرة مهزوزة:
_ إيه يا لينة؟

جائه نبرتها المتلعثمة في قولها:
_ النتيجة هتظهر النهاردة يا يوسف!

تجمدت تعابيره محاولاً تهدئة روعها:
_ طيب اهدي ومتخافيش كدا، إن شاء الله خير

بخوف واضح في صوتها ارطفت برجاء:
_ ممكن تيجي..

استقام بجسده وتوجه ناحية الباب مجيباً إياها بهدوء:
_ أنا جاي على طول

أغلق باب الشقة ثم وضع المفتاح أسفل البساط الماثل أمام الباب وغادر عائداً إلى منزله.

***

بعد مرور نصف ساعة قد وصل بلال إلى وجهته، ترجلت هادية أولاً وكادت أن تتبعها إيمان إلا أن بلال لحق بها وأمسك بيدها، التفتت إليه رامقة يده الملامسه ليدها، فسحب الآخر يده برفق واعتذر منها بحرج:
_ أنا آسف..

طالعت المارة من أمامها وبفتور سألته:
_ على إيه؟

حمحم بلال ليستعيد رونق حنجرته وأجاب بتردد يشوبه الخجل:
_ على اللي أنا قولته هناك

صمت لثوانٍ قبل أن يواصل موضحاً:
_ بصراحة كنت حابب افتح معاكي حوار، بغض النظر عن اللي قولته يعني بس أنتِ مش شايفة إننا مش بنقول أكتر من إزيك الله يسلمك، مفيش لينا أي حوار، ويمكن دا قالقني شوية لأن خلاص كلها يومين ويتقفل علينا باب، التعامل بينا هيكون صعب أوي لو استمرينا كدا..

انتظر منها إجابة تريح قلبه، لكنه صعق من ردها الجـ.ـا.مد:
_ خلاص نأجل الفرح على لما ناخد على بعض

ترجلت من السيارة وولجت لمنزلهم، لم يستطيع بلال الجلوس مكانه وهرول خلفها، لحق بها على درجات السلم التي تخطت نصفها لكنه أجبرها على التوقف بكلمـ.ـا.ته:
_ أنا مش عايز أأجل حاجة، دا أنا اللي مشيت كل حاجة بسرعة، أنا بس بقول يعني لو تدينا فرصة نتعرف على بعض أكتر ونقرب المسافات...

طالعته بغرابة فهي لم تفهم إلى ماذا يرمي، فسألته بتلقائية:
_ يعني نعمل إيه؟

ابتلع بلال لعابه، ثم حرك قدmيه واقترب منها قليلاً، فأثار الرعـ.ـب في قلبها، تفاجئت به يتناول يدها ثم رفعها للأعلى بقرب فمه وقام بتقبيل كفها بحرارة.

طالعها ولازالت يدها أمام فمه ربما يستشف من نظراتها القبول أو الرفض، كانت عينيها تتلألأ فيهما الدmـ.ـو.ع، لم يدري إلى ماذا يشير هذا؟

ابتلعت ريقها وأخفضت رأسها في حياء ثم رددت بخفوت:
_ عن إذنك

مرت بجواره ثم تابعت صعودها للأعلى حتى اختفت تماماً عن نظريه، كان متعجباً من ردها المبهم، فلم ترفضه وأيضاً لم يفهم لماذا تركته وغادرت دون تعقيب، حقاً سيجن عقله إن إستمرت علاقتهما على هذا المنوال.

لكن ما عليه سوء الصبر فإنه مفتاح الفرج، أخرج تنهيدة ثم عاد إلى سيارته ومنها إلى شقته لينهى الأعمال المتبقاه فيها.

***

حل المساء، وكان الجميع في حالة يرثى لها، يسيطر عليهم القلق الشـ.ـديد، تخفق قلوبهم بخوف خشية تلقي مالا يحمد عقباه.

انتفضت من مكانها متأففة بنفاذ صبر:
_ معتش قادرة استنى، هما بيعملوا فينا كل دا ليه؟

وقف يوسف بجوارها محاولاً تهدئة روعها بصوته الرخيم:
_ يا لينة إهدى أن شاء الله هتظهر

أوصدت عينيها بتعب ثم زفرت بعض الأنفاس المرهقة، صدح رنين هاتفها فأسرعت نحوه وإذا بها صديقتها شهد، أجابت دون تفكير:
_ الموقع فتح يا لينة، روحي شوفي النتيجة بسرعة

أنهت لينة المكالمة على الفور وأعادت تسجيل دخولها إلى ذلك الموقع الإلكتروني، اتسعت عينيها بذهول حينما انتقلت الشاشة إلى أخرى، تسارعت نبضات قلبها بتوجس شـ.ـديد.

التقط يوسف الهاتف فجاءة فطالعته وعينيها مليئة بعلامـ.ـا.ت الاستفهام فقال هو بنبرة هادئة:
_ لينة من الأول كدا ومن قبل ما نعرف النتيجة، مش هنزعل وهنرضى بأي درجة لأنه كله خير لينا، تمام؟

أماءت برأسها فأعاد لها الهاتف وقامت بتفحص نتيجتها، والجميع يقف أمامها في انتظار ما ستخبرهم به، أعصابهم تلفت من الإنتظار لكن ما باليد حيلة.

رفعت لينة عينيها ومررتها على الجميع ثم هتفت:
_ ٩٦ ونص...

وضعت كلتى يديها على فمها بعدm تصديق فارتفعت زغاريد السيدة ميمي بينما صاح يوسف وزياد مهللين بفرحة عارمة، عمت السعادة المنزل بتلك المناسبة.

مطت ميمي ذراعيها مشيرة إليها بالقدوم، فلم تنتظر لينة وهرولت إليها حتى تلقت عناقاً حاراً، قبلت السيدة ميمي رأسها مرددة بسعادة ظاهرة:
_ ألف مبروك يا روح قلبي

"الله يبـ.ـارك فيكي يا ماما"
قالتها لينة والسعادة تغمر نبرتها، بينما تدخل يوسف قائلاً:
_ مين اللي هيلبس بسرعة عشان ينزل يختار هديته بنفسه؟

فغرت لينة فاها بذهول وطالعته بعينين واسعتان ثم قالت بعدm تصديق:
_ بتهزر صح؟!

غمز إليها بمرح وأكد على حديثه بمشاكسه وهو يطالع ساعة يده:
_ قدامك عشر دقايق وفات منهم دقيقة أهو..

ركضت لينة باتجاه غرفتها فهتف زياد مبـ.ـاركاً لها:
_ مبروك يا تـ.ـو.تر

لم تكترث لتعقيبه الساخر وأجابته من بين ضحكاتها:
_ الله يبـ.ـارك فيك يا زيزو

اختفت لينة خلف باب غرفتها فبادرت ميمي في إبداء رفضها:
_ نزول إيه بس يا يوسف الوقتي، إحنا متأخر استنى للصبح، الناس تقول إيه

استاء يوسف من كلمـ.ـا.تها وهلل بعدm إعجاب لنظرتها لاقاويل الآخرين:
_ ناس مين يا أمي؟ الناس كلامها تحت رجلي، سيبك أنتِ منهم، تيجي معانا؟

هزت رأسها رافضة وقالت:
_ لا أنا مش قادرة، المهم متتأخروش

خرجت الأخرى هاتفة بحماس طفولي:
_ خلصت قبل العشر دقايق ما يخلصوا

طالعها يوسف بحب ثم قال:
_ يلا بينا

التفت لأخيه ووجه حديثه إليه:
_ تيجي معانا؟

هرب زياد بعينيه فاستشف يوسف ما يوجد خلفه وردد:
_ هعديهالك النهاردة بمزاجي، بس بعد كدا في حساب على التاخير والشغل... والجيش

غمز إليه وتركه وغادر برفقة لينة بينما تأفف زياد فهو علم جيد بقرارات يوسف الحاسمة إن عزم على فعلها، لم يعطي الأمر أكبر من حجمه ثم خرج من المنزل أيضاً ليحظى بسهرة مع أصدقائه.

***

لم تعد تتحمل ذلك النواح الذي لم يتوقف قط منذ ساعات، فصاحت بها متذمرة:
_ يابنتي ما تفهميني إيه اللي حصل يخليكي تعيطي كدا من وقت ماجيتي؟

حاولت كبح غضبها بقدر المستطاع، لكي لا تزيد همها، أخرجت نفساً عميق واقتربت منها، جلست مقابلها على الفراش وبنبرة حنونة سألتها:
_ بلال عملك حاجة؟

رمقتها إيمان بنظرات نادmة ثم إزداد نحيبها، فخفق قلب هادية بذعر وانتفضت من مكانها وهي تتمتم:
_ لا أنا هكلمه وأعرف منه عمل إيه يخليكي في الحالة دي

هرولت إيمان خلفها مجبرة إياها على التوقف:
_ لا لا متكلمهوش، هو معملش حاجة

نفخت هادية بنفاذ صبر وسألتها بجدية:
_ أيوة أومال بتعيطي ليه لما هو معملش حاجة؟

أولاتها إيمان ظهرها ثم اعتلت طرف الفراش وأخفضت بصرها ثم بدأت تصرح بما يكمن في جوفها:
_ عشان هو كل يوم بيثبتلي إنه كويس، وبيحاول يرضيني بكل حاجة، كل حاجة في الشقة آخر موديل نزل وتمنها غالي جداً، حاجات عمري ما كنت أحلم بيها، بس كل دا مش مفرحني كل دا بيخلي ضميري يأنبني أكتر، لأني ولا مرة حسيت إني مشـ.ـدود له أو حتى فيه أمل إني أحبه، أنا لو كملت هظلمه أوي، مش هعرف أتعامل معاه، مش هعرف أقوم بواجباتي وأنا قولتلك الكلام دا في الأول وأنتِ قولتي سبيها تمشي وأديها مشت يا ماما وأنا لسه مشاعري زي ماهي، تقدري تقوليلي هعمل معاه إيه كمان يومين؟
هسمح له يقرب لي إزاي وأنا مش حساه؟
لو رفضت يمكن يشك فيا!
ولو قبلت مش هقدر والله ما هقدر
نفسي حد يحس بيا أوي

وضعت كلتى يديها أمام وجهها وانفجرت باكية، تشعر بقلة حيلتها، وكأن يديها مقيدتان بحبال من حديد لا تنفك أبداً.

شعرت بذراع والدتها الذي حاوط ظهرها، ضمتها إليها وحاولت التخفيف من عليها:
_ ت عـ.ـر.في لو مكنتش شيفاه قدامي كويس، كنت أنا أول واحدة قولت لأ من الأول، بس الواد طيب وحنين وبيتمنى لك الرضا ترضي، ومش بيهمه صرف إيه طلاما عاجبك، والله العظيم أنا مستخسرة أننا نخسره لأن معتش حد بالمواصفات دي في الزمن دا
وبعدين مش لازم تقبلي وهو هيتفهم دا كويس، انتوا متعرفوش بعض فطبيعي أنك ترفضي
بلال واعي وناضج وهيفهمك
وياما فيه ناس كتير اتجوزت من غير حب وبعد الجواز والعشرة جه ويمكن أحسن وأصدق كمان
بس أنتِ إدي لنفسك فرصة معاه ومش لازم رفض طول الوقت لأن كدا عمره ما هيحصل لا قرب ولا حب ولا حاجة خالص.

رفعت هادية رأس إيمان واسترسلت:
_ اسمعي مني وأنتِ الكسبانة في الآخر، وقومي يلا اغسلي وشك ونامي لك شوية، بقا دا منظر عروسة كمان يومين؟

ابتسمت لها هادية ثم قبلتها من أنفها وخرجت من الغرفة، فنهضت الأخرى بعدmا شعرت ببعض الراحة من وراء كلمـ.ـا.ت والدتها وذهبت إلى المرحاض لتغسل وجهها بالماء البـ.ـارد لكي تخفف من حرارتها المنبعثة به.

***
بحثت بعينيها سريعاً على السيارة فلم تجدها، فتسائلت بفضول:
_ هي عربيتك فين؟

أجابها بتلقائية:
_ لسه عند الميكانيكي، إحنا قدامنا حلين، نمشي أو نطلب عربية

صاحت لينة مهللة:
_ أنت لسه هتسأل، نمشي طبعاً

أومأ لها بقبول ثم سألها مستفسراً:
_ طيب قوليلي عايزة هديتك إيه عشان نعرف هنمشي إزاي

عضت لينة على شفتاها السفلى وطالعت السماء وهي تفكر في شيء يمكنه شرائه من أجلها، وبعد تفكير طال لدقائق عادت بأنظارها عليه ورددت بحيرة:
_ بص مفيش حاجة معينة في دmاغي، بس أنا عايزاها تكون حاجة مميزة منك لما أشوفها أفتكرتك على طول وبرده تنفعني كـبنت فاهمني؟

طالعها يوسف بأعين ضائقة ينشط عقله بالتفكير فيما يهديها إياه، أنارت تلك الفكرة عقله فأردف بحماس:
_ ممم عرفت إيه هي

سألته بفضول أنثوي:
_ إيه؟

غمز إليها ولم يريد إخبـ.ـارها ليثير جدلها قليلاً وردد:
_ هت عـ.ـر.في لما نجيبها..
قام بشراء هديتها ثم خرج باحثاً عن تلك المشاغبة، لا يصدق أنها صمدت في الخارج دون أن تداهم المكان لتعلم ماهي هديتها.

كانت واقفة على بُعد مسافة قريبة من المكان، اقترب منها مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة ثم هتف ممازحاً إياها:
_ مش مصدق بجد إنك سمعتي الكلام ووقفتي مكانك من غير ما تيجي ورايا!

قهقهت هي ثم رددت بحماس:
_ أصل أنا حابة أتفاجئ

بحثت بعينيها على تلك الهدية التي تنتظرها بفروغ صبر فلم تجد في يديه شيء، عادت إلى عينيه متسائلة بحنُق:
_ إيه دا فين الهدية؟

دس يده في جيب معطفه وأخرج منها قلادة بيضاوية بني اللون ذات طراز مميز للغاية، قام بفتحها فانقسمت إلى نصفين، طالعها وشرح لها تفاصيلها:
_ حطي هنا أي صورتين تحبيهم، وكمان ليها قفل صغير عشان لو مش حابة حد يفتحها غيرك

أبدت لينة سعادتها بالقلادة هاتفة:
_ واو، تعرف إني كنت بشوفها على طول في المسلسلات وكان نفسي في واحدة منها، بجد شكراً يا يوسف، أنت أحلى سوفي في الدنيا

كان يروق له تلقيبها على الرغم من أنه مائع قليلاً ولا يشبه شخصيته أو أسلوبه، غمز إليها هاتفاً وهو يشير نحوها بسبابته:
_ تقعدي على الكورنيش؟

رفعت هي الأخرى سبابتها ولمست إصبعه مجيبة إياه بحيوية:
_ وناكل آيس كريم؟!

ردد ما قالته بقبول:
_ وناكل آيس كريم..

سار سوياً حتى وصلا أمام البحر، قام يوسف بشراء المثلجات من البائع الذي يمر بعربته وجلس كليهما على المقاعد الخشبية المقابلة للبحر.

مدت لينة ملعقتها نحوه وقالت برجاء:
_ دوق التوت طعمه خطير

رفض يوسف تناوله معللاً أسبابه:
_ لا مش عايز مش بحب التوت

أصرت لينه على تناوله بقولها:
_ دا غير التوت اللي بناكله طعمه حلو أوي جربه مش هتنـ.ـد.م

هز رأسه برفض تام:
_ لا يا لينة

مطت لينة شفتاها السفلى للخارج متصعنة الحـ.ـز.ن وبنبرة مدللة توسلته:
_ عشاني..

دلالها كان له سطواً عليه، لا يستطيع الرفض أمامه، تنهد ثم تناول معلقتها بين أسنانه وتفاجئ بذك الطعم الشهي الذي مر من حلقه، استشفت لينة إعجابه بنهكة التوت وهتفت بمرح:
_ شوفت بقا إنه حلو

حرك الآخر رأسه باستنكار:
_ مش حلو

اتسعت مقلتيها وهي تطالعه بعدm تصديق فتابع هو:
_ هو حلو أوي

إزدادت ابتسامتها بهجة لرأيه، فكان يوسف سعيداً بإبتسامتها التي كان سبباً في رسمها، كانت تطالعه لينة بعينين عاشقتان، فانتبه لها يوسف وأراد مشاكتها فقال:
_ لا متفكريش إني هديكي من الآيس كريم بتاعي

انفجرت لينة ضاحكة وصاحت بإصرار:
_ طب والله لتأكلني، ها

ناولها يوسف خاصته مسترسلاً:
_ اتفضلي

رفضت أخذها موضحة ما تقصده:
_ لأ مش عايزاها، أنت هتأكلني زي ما أنا أكلتك

التفت يوسف برأسه متفحصاً المكان من خلفه فلم يجد مارة، عاد إليها ومد يده بملعقته فتناولتها هي بشهية، أعجبه منظر تناولها للمثلجات من يده فأعاد إعطائها ملعقة يليها الأخرى مستمتعاً بمشاهدتها.

"ربنا يخليكم لبعض يا بيه وتتجوزوا قريب، خد مني وردة عشان أروح"
ذعر يوسف حينما وقعت كلمـ.ـا.ت الفتى المراهق على أذنيه، رمقه بتوجس ثم عاتبه قائلاً:
_ أنت طلعت لنا منين، خضتني

ابتسم له الفتى فوجه يوسف أنظاره على الأزهار التي يغلفها بأوراق مبهجة وسأله بفضول:
_ أنت لسه هتبيع دول عشان تروح؟

أماء له الفتى فأكمل يوسف حديثه:
_ طب هاتهم وروح يلا

ابتهج الفتى حينما اشترى منه يوسف الأزهار المتبقية ثم ركض بعيداً عنهما والفرحة لا تسعه، بينما نظر يوسف إلى لينة التي أعجبت بموقفه الإنساني وهداها الأزهار هاتفاً بصوته الرخيم:
_ أحلى ورد لأحلى لينة

تناولتهم منه ثم شكرته بدلال:
_ تشكر إدريم

قهقه يوسف وسألها مازحاً:
_ ودي يترد عليها إزاي؟

فكرت لينة للحظات قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة لسه متعلمتهاش

هز يوسف رأسه مستنكراً ما تقوله ثم وجه بصره على البحر، تقوس ثغره للجانب مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة قبل أن يصرح بشعوره الآن وهو يفرك يده:
_ أنا اكتشفت إن أسعد وقت بقضيه بيكون معاكي!

تفاجئت لينه بتصريحه دون سابق انذار، رمقته بعينين لا تصدق أنه قال ذلك بالفعل، عاد يوسف ناظراً إليها واسترسل بصوته الأجش:
_ الشغل فيه ضغط، والبيت برده فيه ضغط ومسؤولية، ومهما ضحكت في الاتنين دول مش بيكون من قلبي زي ما بكون معاكي، بحس إني مش شايل أي هم رغم إنك مسئولية كبيرة أوي يا لينة!
كلمة أمانة صاحبي اللي سبهالي دي تخض أي حد وتخليه مرعوب طول الوقت أنه ممكن ميصونش الأمانة، بس أنا عمري ما شلت هم لأي مسؤولية تخصك، كل حاجة بتتعملك بكل حب ومن غير ضغط ومش بكون خايف ولا متردد، يارب أكون وفيت طول السنين وقدرت أسد كل احتياجاتك سواء المعنوية أو المادية

انتهى يوسف من حديثه فتفاجئ بعبراتها تنسدل بغزارة، فتسائل بريبة من أمرها:
_ أنا قولت حاجة زعلتك؟

مسحت لينة عبراتها سريعاً ثم نفت سؤاله:
_ لا لا أنا بس اتاثرت..

تابعت مسح عينيها فنهض يوسف عن المقعد وأردف:
_ طيب يلا عشان نروح

نهضت هي الأخرى وطالعت الطريق أمامها بتعب ثم صوبت بصرها نحو يوسف وقالت بإرهاق:
_ مش هقدر أرجع كل دا مشي

وافقها يوسف ما قالته:
_ ولا أنا، يلا نركب تاكسي

تقدmا بالقرب من الطريق في انتظار مرور سيارة تاكسي، فتحت لينة حقيبتها وأخرجت منها القلادة تتفحص معالمها مرة أخرى، انتبهت على سؤال يوسف حينما قال:
_ ناوية تحطي صور مين فيها؟

مطت شفتاها للخارج وكذلك رفعت كتفيها للأعلى قبل أن تعطيه إجابة:
_ لسه مش عارفة..

بالطبع لن تخبره أنه من ستضع صورة له، ابتسمت في الخفاء ثم أعادتها في الحقيبة عنـ.ـد.ما قام يوسف بإيقاف إحدى السيارات، استقلت هي المقعد الخلفي بينما جلس يوسف بجانب السائق الذي أخبره بوجته فانطلق بهما حيث يريدان الذهاب.

عادا إلى المنزل بعد منتصف الليل، كان زياد جالساً في انتظار عودتهما، اقترب منهما وخصيصاً لينة ثم ناولها سوار يدوي يفصل بين حبات اللؤلؤ خاصته قطعة جلدية مدون عليها حروف إسمها.

ابتسم بحرج وهو يعطيها لها وأردف بنبرة مهزوزة:
_ كان فيه واحد بيبعهم على النيل فاشتريت لك واحدة بمناسبة النجاح وكدا

تناولته لينة منه وشكرته ممتنة:
_ شكراً يا زياد حلوة أوي

أخرجت القلادة الخاصة بيوسف لتريها إياه فأبدى زياد إعجابه بها لكن لم يخلوا حديثه من المشاكسة:
_ هي حلو بس هديتي أحلى

قهقه ثلاثتهم ثم لكزه يوسف في ذراعه بخفة، استأذنت منهما لينة وأسرعت نحو المرحاض تاركة حقيبتها على الطاولة، بينما غمز يوسف إلى أخيه مردداً بإعجاب لتصرفه:
_ لا بس حلو منك إنك بتفكر في حد غير نفسك

رمقه زياد بنظرات متهكمة ثم صاح بعجرفة:
_ أنتوا بس اللي مستقلين بيا

"ماشي يا واثق"
هتف بها يوسف ثم انصرف إلى غرفته فلم يعد ينجح في فتح عينيه، فالنعاس كان متملكاً منه، خرجت لينة وعادت إلى الطاولة ثم حملت حقيبتها وقلادة يوسف في يديها وتوجهت إلى غرفتها، لمح زياد سواره الذي أهداه إليها موضوعاً على الطاولة، حتماً نسيته، كاد أن يناديها لتأخذه أيضاً إلا أنه تراجع وفضل الإحتفاظ به ليرى إن كانت ستلاحظ اختفائه أم لا.

أمسك بالسوار وقبض عليه بغيظ وهو يتابع سيرها حتى اختفت خلف باب غرفتها، لماذا لم تنسى قلادة يوسف أيضاً؟!
أم أنه هو فقط من تتجاهله دوماً وعلى النقيض الآخر لا تتذكر سوى يوسف!!

ضاعف من قبضته على السوار ثم عاد إلى غرفته لينعم ببعض النوم حتى يرى إلى ماذا سينوى لتلك الفتاة التي تتعمد تجاهله طيلة الوقت.

في الصباح، جلس أربعتهم حول المائدة يتناولون الفطور التي أعدته لينة لكرتها الأولى، كان الطعام نفسه من تعده السيدة ميمي لكن بلمسات شابة فازادته شهية وطالبت به معدتهم.

أبدى يوسف إعجابه بطريقة التحضير قائلاً:
_ تسلم ايدك يا لي لي الأكل شكله يفتح النفس

عاتبته والدته مازحة:
_ قصدك إن أكلي كان يسد النفس يا سي يوسف؟!

أسرع يوسف في سحب كلمـ.ـا.ته وتوضيح ما يقصده:
_ لا أبدا يا أمي والله هو فيه أحلى من أكلك، أنا بشجع لينة وكمان طريقتها في الأطباق مختلفة وجديدة وعجبتني، تسلم ايديكم أنتوا الاتنين

ربتت ميمي على ذراعه بحنو وأردفت ممازحة:
_ أنا بهزر يا حبيبي، أنا أصلا عايزاها تبقى أحسن مني مليون مرة

مالت لينة الجالسة بجوارها برأسها على كتفها وهتفت ممتنة لها:
_ ربنا يخليكي ليا

مالت ميمي هي الأخرى برأسها ووضعتها على رأس لينة ورددت بحنو أمومي:
_ ويخليكم ليا يارب

كان الجميع في مزاج سوي دوناً عنه، لم يخفض نظريه عن لينة منذ جلوسهما على المائدة ذاتها، يطالعها ببغض شـ.ـديد في انتظار أي علامة تدل على تذكرها لسواره التي نسيته البـ.ـارحة.

لكنها لم تقل، حتماً لا تتذكره مطلقاً، أخرج تنيهدة قبل أن يردف سؤاله:
_ أنتِ مش ناسية حاجة يا لينة؟

عقدت ما بين حاجبيها بغرابة ثم فكرت قليلاً ولم تتذكر شيئاً قد أضاعته فأجابته بثقة:
_ لا مفيش..

أعطاها محاولة أخرى لربما تتذكر:
_ فكري كويس، حاجة نستيها كدا ولا كدا!

وزعت لينة أنظارها بين الجيمع وعقلها يفكر جيداً فيما يقصده زياد فلم تجد، تأففت بضيق وأبدت انزعاجها:
_ لا مش فاكرة إني نسيت حاجة..

رفع زياد يده لأعلى ظاهراً ذاك السوار، فشعرت لينة بالخجل حياله وهتفت معتذرة:
_ أنا نسيته خالص، كويس إنه معاك عشان ميضيعش كنت هزعل أوي

ببرودٍ هدر:
_ لا ماهو واضح

نهض عن كرسيه فأثار الغرابة في أعين الجالسين من أسلوبه المريب، أوقفه يوسف بقوله:
_ استنى يا زياد..

توقف زياد وطالع أخاه في انتظار ما سيقوله فتابع يوسف بجدية:
_ ناوي تقدm في الجيش امتى؟ أنا سايبك بقالك أكتر من شهر ونص بتلعب وتسهر ومتكلمتش، مش آن أوان الجيش بقى؟!

نفخ زياد بنفاذ صبر فلقد بلغ ذروة تحمله من فرد سيطرته عليه، صاح هاتفاً بعدm قبول لطريقته تلك:
وأنت مالك بيا يا يوسف، أقدm في الجيش ولا لأ، آن أوانه ولا لأ كل دول يخصوني أنا مش أنت!!

تدخلت السيدة ميمي محاولة إيقاف سخافة زياد:
_ زياد أنت إزاي بتتكلم مع أخوك بالطريقة دي، احترم نفسك

لم يكترث لها زياد بل تابع هتافه بتجهم تحت نظرات يوسف المذهولة من ردوده وفظاظة أسلوبه:
_ تعليم وأجبرتني أدخل معهد، خلصت وقولت أشم نفسي لا إزاي، لازم زياد يتجبر في حاجة تانية، ندخله جيش يلبس فيه سنتين ونخلص من قرفه وبعد ما يخلصه هيطلع لنا حاجات تانية نجبره عليها برده

اقترب زياد من أخيه وعيناه ينطق منهما الشر فتحركت السيدة ميمي هي أيضاً خشية أن يتطاول أحدهما على الآخر بينما أخرج زياد ما تبقى في جوفه من بين أسنانه المتلاحمة:
_ فكك مني يا يوسف، أنا مش هعمل أي حاجة تاني أنا مش عايزها، مش هسمح لك تجبرني على حاجة تانية خلاص

تراجع زياد واختلس نظرة على لينة الواقفة خلف الطاولة ثم ألقى آخر مالديه بسخرية:
_ أنا مش عارف إزاي لغاية الوقتي أنت فاكرني أصلا!!

أولاه ظهره وغادر من المنزل، لم يعقب يوسف ولم يعطي ردة فعل، قلقت والدته بشأن صمته المريب، وقفت مقابله محاولة تبرير تصرفات زياد:
_ متاخدش على كلام أخوك يا يوسف، هو واضح إنه مضايق من حاجة من وقت ما صحى وجت فيك أنت، متزعلش منه الوقتي يهدى ويجي يراضيك

تحرك بؤبؤتي يوسف نحوها وقال بهدوء:
_ ابنك عنده حق يا أمي..

استنكرت ميمي ردة فعل يوسف وعاتبته بضيق:
_ عنده حق إزاي يعني؟ أنت بتعمل كل دا ليه؟ مش عشان مصلحته؟ هو غلطان وملوش حق يقول كدا ولما يرجع أنا هـ..

قاطعها يوسف بقوله:
_ متعمليش حاجة يا أمي، سبيه يعمل اللي هو عايزه

تركها يوسف وغادر دون إضافة المزيد بينما صوبت ميمي نظرها نحو لينه وتسائلت بحيرة:
_ معناه إيه الكلام دا؟

اقتربت لينة بخطوات سريعة متفهمة ردة فعل يوسف:
_ أنا فاهمة كويس وجهة نظر يوسف

تسائلت الأخرى بفضول مختلط بالقلق:
_ فهميني طلاما أنتِ فاهمة

ربتت لينة على ظهر ميمي وطالعت الباب حيث اختفى يوسف خلفه وهتفت موضحة تصرفه المبهم:
_ يوسف هيسيبه يعمل اللي هو عايزه عشان يعرف إن كل اللي يوسف عمله كان لمصلحته

نفخت ميمي بضجر وقلق أمومي ثم هتفت بقلب حزين:
استغفر الله العظيم يارب، ربنا يهديك يا زياد

***

مر يومان وقد حان موعد الزفاف، يقف بلال أمام الباب يعد الثوانٍ لكي يرى عروسه في ثوب زفافها الأبيض، حتماً هي من ستزيده بهجة وجمالاً.

فُتح الباب واستقبلته لينة التي شكلت حاجزاً أمامه مانعة إياه من المرور، عبس بلال وهتف بحنق زائف:
_ عايز أدخل على فكرة؟!

شاكسته لينة بمرح:
_ حضرتك مين أصلاً عشان تدخل جوا

قلب بلال عينيه بتهكم وقال:
_ والله مش عارف إيه اللي يخلي يوسف يخليكي المرافق ليها، هي ناقصة شغل عيال؟!

اتسعت عيناي لينة وأشارت على نفسها ثم رددت بذهول:
_ أنا عيلة!!

عاد بلال برأسه هاتفاً بنبرة مرتفعة:
_ يـــاااا يوسف..

قهقت لينة بينما حضرت السيدة ميمي من خلفها وقامت بسحب لينة من أمام الباب واعتذرت من بلال بلطف:
_ معلش يا عريس، شغل عيال زي ما قولت

أظهرت لينة رأسها من خلف ميمي التي تمنعها من تخطيها وصاحت مستاءة:
_ برده عيال!

التفتت نحوها وغمزت إليها لكي تكف عن المشاكسة قبل أن تردف ممازحة:
_ يابت بس بقا جايلك يوم

أخرجت لينة تنهيدة حارة داعية ربها بأن يعجل ذلك اليوم بينما وقفت ميمي بجوار هادية وانضمت إليهن لينة ووقفت تتابع لحظة رؤية بلال لعروسه التي كانت تقف وتوليه ظهرها.

كان الحماس يسيطر على بلال، لم يعد يطيق الانتظار، فقط يريد رؤيتها بفروغ صبر، أخذ شهيقاً عميق ثم دار حول فستانها البسيط ووقف مقابلها.

كانت إيمان خافضة رأسها بحياء شـ.ـديد، اقترب منها بلال ورفع وجهها بإصبعه، فتشكلت الإبتسامة على محياه تلقائياً فور رؤيته لملامحها الهادئة، وما زاد إعجابه بها تلك اللمسات الرقيقة التي وضعتها من المساحيق التجميلية.

كاد أن يطبع قُبلة على جبينها إلا أن لينة تدخلت قائلة:
_ كتب الكتاب لسه متكتبش يا عريس

تراجع بلال عما كان ينوي فعله، رمقها بغيظ شـ.ـديد فهي قطعت عليه أهم لحظة كان سيعيشها مع حبيبته.

بادلته لينة ضحكات أثارت استفزازه، بينما عاد بلال إلى إيمان الهادئة ومد لها يده، فنظرت هي إلى يده وعقلها لا يستوعب أنها ستكون زوجته بعد دقائق قليلة، كيف سيحدث ذلك؟
أين العقبة التي آمنت بها طيلة الأيام الماضية؟!
كيف ستسير معه يداً بيد وتشاركه عدة ساعات تحت مسمى يوم زفافهما!

لم يكن أمامها سوى الرضوخ فكيف سترفضه الآن؟ كيف تخبره أنها تريد الهروب مما هي مقبلة عليه؟
سعادته الواضحة بها لا تزيدها سوى ألماً..

مدت يدها وشعرت بنعومة يده التي عانقت يدها وأغلقت عليها، سارا بجوار بعضهما البعض وخرج من الغرفة، تبعتهم هادية برفقة ميمي بينما انتظرت لينة قليلاً لتتفحص زينتها قبل المغادرة.

خرجت من الغرفة بخطوات مهرولة لكي تلحق بهم
فتفاجئت بيوسف أمامها، تفقدها جيداً بنظراته فلم يعجبه كثرة مساحيقها التي وضعتها وزادتها جرأة.
أمسك بيدها وعاد بها إلى الداخل، ثم هتف بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ هاتي منديل بسرعة

أردفت سؤالها بفضول:
_ ليه؟

لم يجيبها بل بحث عن المناديل الورقية بنفسه، ركضت خلفه في محاولة منها على فهم ماذا يفعل لكنه لا يعطيها إجابة صريحة، التقط علبة المناديل المبللة ثم جذبها من يدها مقرباً إياها نحوه وبدأ في مسح وجهها بخفة.

شهقت لينة من خلف تصرفه وحاولت التملص من بين يديه لكن أبى وصاح بجدية:
_ اهدي ومتتحركيش عشان متبوظيش وشك

لم تكف عن التذمر وضـ.ـر.بته في صدره مرددة بحنق:
_ بس يا يوسف أنت بتعمل إيه، أبعد المنديل دا عني

لم يستطيع يوسف السيطرة عليها بسبب فركها المستمرة، فاضطر إلى محاوطة خصرها وجذبها نحوه حتى باتت ملاصقة لصدره، كادت لينة تقع بسبب محاولاتها للإبتعاد عنه فلم يكن أمامها سوى التمسك بقيمصه من الخلف حتى توازن جسدها.

الوضع بدى حميمياً للغاية، فمن يراهم من بعيد يظن أنهما حبيبين يتبادلان العناق، استكمل يوسف مسحه على شفتيها ليخفف من لونهما الفاقع، بادلته الأخرى نظرات بعينيها اللامعة، لا تصدق وضعهما ذاك، أنتبه يوسف عليها واستشعر قربها المبالغ.

بالله ماذا يفعل؟ أهو حقاً يلمس شفتيها؟!
ظل يطالعها وشعوراً غريب قد راوده حينها، خفق قلبه بشـ.ـدة، لم يعد يستطيع الصمود أمام نظراتها تلك، أخفض يده عنها فأزاحت لينة يديها بعيداً عنه.

أخفضت بصرها في حياء شـ.ـديد، كما تلونت وجنتيها بالحُمرة الصريحة من شـ.ـدة خجلها، استدارت بجسدها وتوجهت نحو المرآة لتتفقد ما تسبب به بينما زفر هو أنفاسه التي حشرها داخله وابتلع ريقه لعله ينجح في استعادة رشـ.ـده.

تنهد ثم هتف مبرراً عنـ.ـد.ما استشف تذمرها من خلال المرآة:
_ أصلك كنتي حلوة أوي ومش عايز حد يبص لك!!

فغرت فاها مذهولة مما صغت إليه أذنيها للتو، رآها يوسف فابتسم تلقائياً لرؤية ردة فعلها تلك، اقترب منها لكنه توقف حينما سمع طرقات أحدهم على الباب.

التفت برأسه يميناً حيث يقطن الباب فإذا بها شهد تقف أمامه، لم يكمل يوسف سيره بل عكس مسار ذهابه وقبل أن يغادر وجه حديثه لمشاكسته:
_ هستناكي برا

تابع خروجه من الغرفة بينما دلفت الآخرى والذهول مشكلاً على تقاسيمها، وقفت خلف لينة وطالعت صورتها المنعكسة قبل أن تهتف بصدmة:
_ هو إيه اللي أنا شوفته دا؟

التفتت إليها لينة متسائلة بغرابة:
_ شوفتي إيه؟

أخبرتها شهد بما شاهدته بأم عينيها لكي تغلق عليها باب الهروب أو الإنكار:
_ أنا طلعت أشوفك اتاخرتي ليه، لقيتك في حـ.ـضـ.ـنه!!

تقوس ثغر لينة للجانب مشكلة إبتسامة خجولة، عضت على شفتيها بحياء ثم أردفت بخفوت:
_ الموضوع مش زي ما أنتِ فاهمة

رفعت شهد حاجبيها لا تصدق ابتسامتها الخبيثة، ثم قلدت نبرتها المائعة:
_ أومال إزاي؟

ازدادت نبرة لينة حماس وحيوية ثم بدأت تقص لها ما يحدث لهما تلك الأيام:
_ أنا ويوسف علاقتنا بقت قريبة أوي

لم تتفاجئ شهد فهي على علم بذلك، تنهدت قبل تهتف بملل:
_ وإيه الجديد ما طول الوقت علاقتكم قريبة

حاولت لينة التوضيح عما تشعر به:
_ لا لا قُرب تاني، قُرب مختلف عن الأول، يعني مثلاً طول ماهو في الشغل بقا بيكلمني كتير أوي

ازدادت تلهفاً لإخبـ.ـارها المزيد كما تحدثت بحماسة زائدة:
_ حتى مرة كنت ناوية أقص شعري لأن طوله مضايقني أعترض وأخد مني المقص وفضل بعدها بفترة يأكد عليا مقصوش، مش فاهمة ليه لغاية الوقتي بس الموضوع غريب!

أخرجت تنهيدة حارة قبل أن تتابع:
_ يوم ما نتيجتي ظهرت وخرجنا أكلني الآيس كريم بإيده وقالي كمان إنه بيحس إنه سعيد لما بيتكلم معايا ومش بيكون مضغوط ولا شايل هم

رفعت كتفيها ولازالت الإبتسامة تغزو شفتيها وهي تتذكر ما حدث منذ دقائق وأخبرتها به أيضاً:
_ يعني اللي حصل الوقتي دا مش زي ما فهمتي خالص بس هو الوضع نفسه كان غريب، أول ما شافني مسك أيدي ودخل الأوضة ودور على مناديل عشان يمسح لي الميك اب، طبعاً رفضت وحاولت أبعد عنه وعشان يجبرني أقف لف ايدي عليا وشـ.ـدني لعنده وأنا عشان مقعش لأني كنت بعافر إني أبعد مسكت في قميصه بس بعدها قلبي دق جـ.ـا.مد، وبصت له وأنا مش مستوعبة إني يعتبر في حـ.ـضـ.ـنه

أخفضت بصرها وتابعت بخجل انعكس على وجهها التي تحول لونه إلى الإحمرار:
_ ولقيته هو كمان بيبص لي ونفسه كان عالي أوي، كنت حاسة بحاجة غريبة في نظراته محستهاش ومشوفتهاش قبل كدا!!

كانت تصغي إليها الأخرى بذهول شـ.ـديد يزداد كلما أخبرتها المزيد، هللت شهد فور انتهاء لينة من الحديث معاتبة إياها:
_ كل دا يحصل ومتحيكليش؟!

بررت لينة موقفها:
_ ما أنا مكنتش فاهمة إيه اللي بيحصل دا، أنا حتي ساعات بحس إنه هو بدأ يحبني زي ما بحبه!

بادلتها شهد إبتسامة ثم تسائلت بفضول:
_ طيب هتتأكدي إزاي من إحساسك دا؟

اتسع ثغر لينة ببسمة عريضة ثم أردفت بتعالي:
_ عندي خطة ناوية أعملها وهي اللي هتعرفني إن كان بيحبني ولا لأ!!

"خطة إيه؟"
سألتها شهد بفضول لكن ولوج يوسف قد قطع عليهم مواصلة حديثهم حيث قال:
_ مش يلا عشان إحنا متأخرين؟

أماءت له لينة بقبول ثم حاوطت ذراع صديقتها وخرجن سوياً، بينما تقدm يوسف عنهن وذهب إلى مكان التصوير الخاص بالفندق.

بعد مرور بعض الوقت، كان الجميع يلاحظ تجهم وجه إيمان، عابسة طيلة فترة التصوير لا تبتسم قط، حتى وإن كانت إبتسامة زائفة، على عكس بلال الذي كان يملئ المكان بهجة بمرحه ناهيك عن ابتسامته الصادقة التي لم تختفي من على شفتيه.

كان يوسف يشعر بالغضب يتأجج داخله كلما رأى عبوس إيمان، يطالع صديقه بإيلام شـ.ـديد، بالله كيف يكون اليوم زفافهما وهي بتلك الحالة؟!

أيضاً يشعر بالآسى حياله، هو متأكد أنه لن يجد السعادة التي تمناها بأي شكل على الأقل تلك الفترة، فهذا ما استشفه من تعابير ابنة خاله.

عاد إليه شعور الغضب كلما تذكر تنبيهاته التي لم يصغي إليها بلال، ألا يرى ما الحالة الذي أوقع نفسه بها؟!.

أنتبه لسؤال لينة التي أخرجته من شروده:
_ هي إيمان عاملة كدا ليه، حساها تايهة!!

نفخ يوسف بضجر بائن وهتف مستاءً وهو يطالع بلال بشفقة على ماهو مقبل عليه:
_ الله يكون في عونك يا بلال

استنكرت لينة تحيذه لصديقه وعارضته بحدة:
_ وليه متقولش الله يكون في عونها هي؟
على الأقل صاحبك عمل اللي عايزه إنما هي محدش فكر فيها، يا ترى شعورها إيه الوقتي وهي مع واحد مش بتحبه وخلاص معتش ينفع لا رفض ولا هروب؟

رمقها يوسف بنظرات مشتعلة لا يقبل أن تلقي اللوم على صديقه وعارضها بأسبابه:
_ كان قدامها الفترة اللي فاتت كلها تقدر تقول لأ طلاما هو مش عاجبها ومش بتحبه أو حتى كانت اعترضت على المدة البسيطة دي وقالت محتاجة وقت أطول ناخد على بعض فيه، بس هي مقالتش ومعترضتش يبقى اللوم عليها هي مش عليه، هو يتلام إزاي؟

صوب أنظاره نحو صديقه وتابع بآسى:
_ بصي عليه كدا، شايفة فرحته!! أنا زعلان عليه أوي،
هو مبسوط أنه قدر يحقق حلمه وياخد اللي بيحبها بس ميعرفش اللي هيقابله أول ما يتقفل عليهم باب، أنا زعلان عشان صاحبي وبرده متعصب بسبب غبائه اللي هيوصله لنقطة تزعله!!

لم تعقب لينة باعتراض تلك المرة، فما قاله صحيحاً، تنهدت ثم دعت لهما بحب:
_ ربنا يكتب لهم السعادة يارب

عادت ببصرها إلى يوسف وسألته باستفسار ممزوج بالفضول:
_ هو أنت ليه طول الوقت أخد موقف من إيمان رغم إنها بنت خالك يعني والمفروض تعاملكم مع ميكنش كدا حتى لو مفيش حب بس يبقى فيه ود واحترام وصلة رحم

أبدى يوسف انزعاجه من سيرتها التي تزعجه فور ذكرها ثم بدأ يقص عليها سبب أسلوبه الفظ الدائم معها:
_ إيمان من يوم ما اتولدت وهي مفروضة عليا، بالإجبـ.ـار كدا، كنت طفل صغير عندي ٣ سنين وكانوا بيقعدوني بيها عشان أحبها ولما أكبر اتجوزها متخيلة أنا في الحوارات دي ومن أنا طفل؟ مسابوش طفولتي في حالها زي أي طفل، خد إيمان معاك، هات إيمان ودي إيمان، إيمان هتبات عندكم إيمان بتحب تلعب معاك إيمان جيبالك الهدية دي، كانوا بيفرضوها عليا طول الوقت لغاية ما كرهتها لأني زي أي طفل طبيعي هيكون عايز يلعب مع صحابه أو حتى يقعد لوحده يتفرج على كرتون، لكن دي كنت بشوفها في كل مكان كانت محاوطاني زي عفريت العلبة كدا فطلعت زي ما أنتِ شايفة كدا أطيق العمى ولا أطيقها

قهقهت لينة عالياً ثم هتفت ساخرة من بين ضحكتها:
_ يا حـ.ـر.ام دا أنت كانت طفولتك بائسة

حرك يوسف رأسه يميناً ويساراً مستنكرا ما عاشه في الماضي وشاركها السخرية:
_ شوفتي بؤس أكتر من كدا

نفت بحركة من رأسها وقالت:
_ بصراحة لأ

انتهت فقرة التصوير ثم ذهب الجميع إلى القاعة وبدأ حفل الزفاف كما هو مرتب له، كانت إيمان رافضة مشاركة أي رقصة مع أصدقائها والعائلة، لم تبرح مكانها بينما لم يكف بلال عن الرقص بسعادة ظاهرة للآخرين.

انتهى الحفل سريعاً على الجميع إلا من إيمان، كان الوقت يمر عليها بثقل شـ.ـديد وكأن اليوم لا آخر له، استقل الجميع سيارتهم وذهبوا خلف سيارة العروسين ليقوموا بتوصليهم إلى عش الزوجية الجديد.

***

أوصد الباب بعد ولوجهما، أخرج زفيراً عميق ثم استدار بجسده إليها، لا يصدق أنها بالفعل باتت في منزله، وهو بنفسه قد أغلق باب عُشهم الجديد الذي سيشهد لحظات ثمينة من الرومانسية وكوميدية وغيرهما.

ابتلع ريقه واقترب بخطاه منها، فكانت هي واقفة منكسة الرأس لا تجرأ على رفع بصرها من فرط حيائها ناهيك عن عدm تصديقها لتلك النهاية الغير مرضية بالنسبة لها.

ليس عادلاً أبداً وجودها هنا، في بيت لا تنتمي إليه، بجانب رجل لا تشعر بذرة مشاعر نحوه؟
نهاية ليست عادلة بالمرة فهو رتب لها منذ زمنٍ وكانت هي أكبر أمانيه وها هو اليوم قد نجح في تحقيقها، لكن ماذا عنها؟
أين أمنيتها لطالما لم تتمنى سواها؟
أين نهاية الأحلام والأماني التي نراها في الأفلام والروايات؟
كيف ستتقبله زوجاً لها وهي لا تستطيع حتى النظر في عينيه، هي بحاجة ملحة إلى البكاء ليس فقط على اللبن المسكوب بل على الإناء الذي تحطم أيضاً.

أخرجها من حبال أفكارها النادmة بصوته الناعم:
_ إيمان أنا عارف إن كل حاجة جت بسرعة، بس أنا عايزك ت عـ.ـر.في إنك مش هتنـ.ـد.مي لحظة على السرعة دي، أنا مش حابب أمجد في نفسي وأقولك إني هخليكي أسعد واحدة في الدنيا بس هسيبك تشوفي بنفسك

تناول يديها التي ترتجف بشـ.ـدة وتابع بنبرة حنونة:
_ أنا بس طالب منك تديني فرصة، فرصة أقدر أثبت لك فيها إني بحبك، ياريت نبدأ حياتنا وإحنا راضيين عن قرارانا حتى لو مكنش دا اللي اتمنيته..

رفعت إيمان نظريها عليه متعجبة من آخر كلمـ.ـا.ته، فشكل بلال ابتسامة وأوضح ما يقصده:
_ أنتِ طول الوقت ساكتة ومقولتيش رأيك في ولا حاجة من اللي اختارتها رغم إني كنت حريص جداً في اختياري أنه يعجبك
اللحظة دي ياما حلمت بيها، وياما رسمت لها مواقف وردود كتيرة، بس كنت برسمها وأنتِ بتشاركيني الكلام مش واقفة ساكتة، بس أنا هعذرك وأقول لسه متعرفنيش، بس ياريت مرحلة الكسوف دي تنتهي بسرعة لأن مهما كان فهي تضايق عشان أنا في الآخر بقيت جوزك مش لسه خطيبك!

رفع راحتى يدها ووزع قبلاته عليهما، ثم اقترب منها وطبع قبلة حارة على جبينها، احتضن يدها الصغيرة وأردف:
_ تعالي، غيري الفستان

لم تعطيه رد بل سارت بجواره بهدوء، وكلمـ.ـا.ته تتردد في عقله، حقاً تريد إعطائه فرصة لكن كيف، لا تعلم بداية الطريق لتلك الفرصة، حسناً الآن عليها تبديل ذلك الفستان الثقيل ثم تفكر جيداً فيما ستفعله لاحقاً.

توقفت قدmيها أمام الباب ونظرت إليه في حياء منعكس على وجهها وهمست بخفوت:
_ أنا هدخل لوحدي..

تقبل بلال طلبها بصدر رحب ثم فتح لها باب الغرفة مردداً:
_ لو احتجتي حاجة نادي عليا..

اكتفت بإيماءة من رأسها ثم دلفت للغرفة وأغلقت بابها، لم تكتفي بذلك بل أوصدته من الداخل لكي تمنع أي محاولة اقتحام منه.

لن ينكر بلال أن الأمر أزعجه قليلاً لكن عليه الصبر، وضع بعض الأسباب لتصرفها لكي يهدأ من انزعاجه بالأمر، توجه إلى المرحاض الخارجي ولحسن الحظ كان لديه بيجامة معلقة خلف الباب، بدأ في خلع حلته وارتداء بيجامته الحمراء من قماش الستان الناعم.

وقف أمام المرآة بيضاوي الشكل أعلى الحوض يتفحص خصلات شعره وكذلك ذقته لربما لا تكن مرتبه، وضع من عطره الموضوع في الخزانة التي تتوسط الحائط، ثم خرج من المرحاض مختلساً نظرة على باب غرفتهما فلم تنتهي بعد.

توجه إلى الردهة وأمام السفرة يشم رائحة الطعام الذكية، بدأ يفتح العلب وطالع الطعام بشهية، التفت برأسه ناظراً إلى باب الغرفة الذي لا يصدر منها أي صوت.

تنهد بنفاذ صبر ثم توجه إلى الأريكة واستلقى أعلاها لحين ظهور حوريته.

في الغرفة، وخصيصاً في المرحاض الداخلي، تجلس هي تبكي في زاوية، لا تستطيع فعلها، حقاً ليس لديها القدرة على الخروج ومسايرة الأحداث كما فعلت في الأيام الماضية، الأمر بات جدياً للغاية.

لقِفت هاتفها وكادت أن تهاتف والدتها إلا أنها تراجعت فهي ستخبرها بأن تعطيه فرصة، في النهاية لن تنقذها من ذاك المأزق التي وقعت فيه.

والآن ليس أمامها سوى مجراة تلك الليلة، تمر بما هو مقدر لها، اقتربت من ذاك الفستان الأبيض المطرز بالدانتيل في أطرافه وقامت بإرتدائه ووضعت الروب أعلاه خافية معالم جسدها بالكامل.

غسلت وجهها مراراً لكي تخفف عنه ذاك اللون الوردي إثر بكائها ومن ثم حررت خصلاتها وخرجت إلى الغرفة، وقفت أمام المرآة تتفحص مظهرها جيداً قبل ظهورها أمامه.

كيف ستقف أمامه هكذا حباً في الله؟!
شهيقاً وزفيراً فعلت طاردة أفكارها التي تزيد من حسرتها ثم خرجت من الغرفة وقدmيها ملتصقان ببعضهما، تشعر بالخجل الشـ.ـديد لطلتها هذه التي سيراها رجلاً للمرة الأولى، لكن ما باليد حيلة ليس هناك ما يمكنها فعله.

كان يتنقل بلال بين القنوات في التلفاز في انتظارها، أنتبه لطلتها التي خفق لها قلبه، آكلها بنظراتها التي لم ترفع قط من عليها، يتفحص كل أنش بها باهتمام وسعادة بالغة.

بداية من ذاك الشعر القصير، إلى ثيابها المحررة التي يراها عليها لمرته الأولى، ناهيك عن ساقيها التي تفركهم بـ.ـارتباك حرج.

نهض وتوجه نحوها فازداد تسارع نبضاتها ناهيك عن وتيرة أنفاسها التي ارتفعت حتى شعرت لوهلة أنها تكاد تختنق كلما اقترب بخطاه أكثر.

وقف أمامها وابتسامته لم تختفي من على شفتيه، أعاد خصلاتها الشاردة خلف أذنها مردداً بخفوت:
_ مكنتش أعرف إنك قمر كدا!

سرت رجفة شـ.ـديدة في أوصالها إثر كلمـ.ـا.ت الغزل خاصته، فلم تحظى بهم من قبل، تفاجئت إيمان بقدmيها التي حلقت في الهواء إثر حمله لها بين ذارعيه، أسرعت في إعادة وضع روبها على جسدها مرة أخرى بعدmا حلق معها من خلف تصرفه المفاجئ.

توجه بها بلال نحو غرفته متجاهلاً الأطعمة التي كانت تزقزق لها عصافير بطنه منذ قليل، فلقد ذهب عقله تماماً، وضعها على طرف الفراش ثم جلس بجوارها، كانت هادئة تماماً لكنها كانت حريصة بألا يظهر منها جزءاً أكثر من الذي سمحت له بالظهور.

مرر بلال إصبعه على طول ذراعها فقشعر بدنها إثر فعلته، أوصدت عينيها حينما فشلت في النظر في عينيه، مال هو على رقبتها مخرجاً بعض الأنفاس الحارة وهو يشم رائحتها العطرية الذكية.

اقترب من شفتيها ثم طبع قُبلة عليها وهمس بنبرة متحشرجة:
_ بحبك..

شعر برجفة جسدها التي تزداد فعاد يقبل ثغرها، بينما شعرت هي بـ.ـارتخاء عضلات جسدها فخرجت بعض الحروف منها دون وعي:
_ يـ و س ـف

توقف بلال عما كان يفعله، عاد برأسه للخلف ناظراً إلى عينيها، بالتأكيد ما وقع على أذنيه ماهو إلا من محض خياله، أو ربما كان ذلك من همسات الشيطان، تجمدت تعابيره وارتفعت وتيرة أنفاسه وهو يردد:
_ يوسف! أنتِ قولتي يوسف!
سكون حل للحظات، لا عقل يستوعب ما قيل ولا أذن تصدق أن ذاك الإسم قد وقع على مسامعه، ماهي إلا لحظات قليلة من الهدوء قبل أن يتحول تدريجياً إلى بركان غاضب على وشك الثوران.

تلون وجهه وبات قاتماً إثر غضبه المتأجج داخله، تجهمت تعابيره واحتدت بصورة مخيفة، ارتفعت وتيرة أنفاسه وهو يطالعها بعينين حمراوتين.

بتلعثم حاولت نفي ما قالته:
_ أنا مقولتش.......

ارتعدت إيمان فور صياحه بنبرة اهتزت لها جدران الغرفة:
_ ششششش، اخرسي مش عايز أسمع صوتك

خفق قلبها بقوة وتسارعت نبضاته، تعالت أنفاسها بخوف بالغ، فلم تراه غاضباً هكذا من قبل، لوهلة ظنت أنه يحتفظ بوحش داخله يخرجه وقت غضبه.

تسابقت عبراتها في السقوط بغزارة كالسد الذي فتحت بوابته للتو، تمنت لو كانت تحلم وتستيقظ من ذاك الكابوس المزعج.

ابتعد بلال عن الفراش مثل المـ.ـجـ.ـنو.ن الذي فقد عقله، تصرفاته كانت مريبة وتبث الرعـ.ـب داخل إيمان، كان يجوب الغرفة بخطوات سريعة ثم أمسك بتلك الفازة وألقاها أرضاً مطلقاً "ااااه" قوية من داخله.

كور يده وظل يضـ.ـر.ب الحائط حتى جـ.ـر.حت أصابعه وانفجرت منها الدmاء تاركة بصمـ.ـا.تها على الحائط، حتماً سيصاب عقله بالجنون، نظر إلى المرآة التي كانت على يمينه ولم يتردد في تحطيهما بيده فتضاعفت الجروح في يده.

بينما كانت تجلس إيمان واضعة راحتى يديها على أذنيها تبكي بخوف شـ.ـديد خشية أن يمسها جنونه، كان بلال كالثور الهائج الذي يبحث عن ضحيته ليفتك بها وهذا آخر ما يتمنى حدوثه.

أجبر قدmيه على الخروج من الغرفة قبل أن يقع حادث ينـ.ـد.م على فعله طوال حياته، هرولت إيمان نحو الباب وقامت بتوصيده، وقفت خلفه تحاول كتم شهقاتها بيدين مرتجفتين، كان جسدها ينتفض بقوة إثر ذعرها من هول ما عاشته قبل ثوانٍ.

انهارت ساقيها التي ترتجف ووقعت بإهمال على الأرض، وضعت يدها على صدرها شاعرة بعلوه وهبوطة بصورة مضطربة ولم تحرك بؤبؤتيها قط وهي تعيد في ذاكرتها ردة فعله المرعـ.ـبة.

في الخارج،
جاب بلال الردهة وهو يكاد يرى، رؤيته كانت ضعيفة مشوشة، يصغى لضـ.ـر.بات قلبه المتزايدة، ناهيك عن شعوره بالإختناق الذي يراوده تدريجياً، لم يعد يستطيع التنفس وفشل في أخذ أكسجين لتمتلئ به رئتيه.

ألقى بجسده على الأريكة مستنداً بظهره على جدارها وطالع السقف محاولاً استنشاق الهواء لعله يعود إلى رشـ.ـده، شعور مخيف كلما فشل في استنشاق الأكسجين، تعالت أنفاسه مستنجدة بأي شئ يمكنه إعادته للحياة مرة أخرى.

وقع صوته على أذني إيمان فتضاعف خوفها خشية أن يحدث مكروه له، لم تتردد ونهضت إلى الخارج بخطوات متعرقلة، شهقت بذعر حينما رأته يفشل في التنفس، اقتربت منه فنهض هو هارباً منها لكنها أوقفته حين أمسكت يديه وأردفت بنبرة متوسلة:
_ خليني أساعدك..

لم يتابع هروبه فهو بالفعل بحاجة إلى المساعدة، سيفقد حياته إن استمر ثانية أخرى على ذاك الوضع، حاوطته إيمان من ظهره عاقدة ذراعيها عند بطنه وبدأت تضغط عليها بقوة وحينما تفشل في استعادة أنفاسه تضغط بقوة أكبر، أعادت تكرار فعلتها عدة مرات حتى استعاد بلال أنفاسه.

سحبت يديها على الفور وانتظرت منه رد فعل تجاهها لكنه تابع سيره إلى الأمام ودلف الشرفة ثم أوصدها جيداً لكي لا تأتي خلفه، جلس على أحد المقاعد مستنشقاً الهواء العليل الذي فقده لعدة ثوانٍ وكادت أن تنتهي حياته اليوم!!

اليوم الذي تمناه ولطالما كانت حلمه منذ زمن، اليوم الذي رتب له بعناية وحيوية، اليوم الذي خطط لأقل التفاصيل به، ورسم له مواقف حميمية لكليهما إلا أنه يجلس في الشرفة هارباً مما تمنى قربه طوال حياته!

"يوسف، يوسف، يوسف"
رددها بلال غاضباً متذكراً همسها بإسم رجلاً غيره، تخطأ في إسمه وهي بين ذراعيه إلا إذا كانت تتخيل يوسف من معها، تضاعف غضبه وكرهه لها، شعر بالتقزز والنفور منها.

عقله لا يتوقف عن التفكير، ذاكرته تعيد له همساتها بإسم غير إسمه، كلما تجددت الحادثة في ذاكرته كلما شعر بشعور آخر نحوها، لكن الشعور المسيطر الآن هو الكُره الشـ.ـديد لها، فهي نجحت في تعكير أجمل ليلة كانت ينتظرها بفروغ صبر.

شعر بلال أنه سيصاب بالجنون إن ظل يفكر فيما حدث، وخشى أن يعود لحالته مرة أخرى ففضل الهروب من الواقع، اختلس نظرة للخارج فلم يجدها واقفة، نهض وعاد إلى الردهة ثم توجه إلى الأريكة واستلقى بجسده عليها مرغماً عقله وعينيه على أخذ قيلولة، بعد محاولاتٍ فاشلة قد نجح أخيراً في ذهاب عقله.

في الغرفة، عقلها كان منشغلاً به، لم يرف لها جفن قبل أن تطمئن عليه، تخشى حدوث مكروه له، وما يثير قلقها هدوئه منذ وقت، عقلها يحثها على الخروج والإطمئنان عليه وداخلها يرفض تخطي خطوة خارج الغرفة خشية أن تنال نصيباً من بطشه إن أجبرت نفسها عليه.

لكن لا يهم، فما عاشه بسببها منذ قليل يستحق الإهتمام به حتى وإن قابلها بالرفض، وقفت أمام الباب وزفرت أنفاسها عدة مرات قبل أن تدير مقبضه وتخطوا للخارج، تقدmت باتجاه الردهة بتهمل شـ.ـديد وقلبها يخفق بقوة.

هدأت نبضاتها حين رأته غافياً على الأريكة، اقتربت منه بحذر ومالت عليه تستمع لأنفاسه، فتنهدت براحة حينما شعرت بحرارتها ترتطم في وجهها.

عادت إلى الغرفة أخذه غطاء من خزانتها، ثم دسرته أعلاه برفق لكي لا يستيقظ، هرولت إلى غرفتها وتوسطت الفراش ثم ضمت ساقيها بذراعيها مستندة برأسها عليهم.

لم تكف عن إيلام نفسها، كيف تفعل ذلك؟ كيف تهمس بإسم يوسف في ليلة زفافها؟!
كيف لم تكن حريصة وتمتنع عن تخيله في ذاك اليوم؟
كيف قللت من شأن الرجل الذي يحقق أحلامها قبل أن تخبره بها، لقد أساءت له وأهانت كرامته.

رفعت رأسها وطالعت الفراغ أمامها لاعنة عقلها الذي لم يفكر لثانية قبل أن تتفوه بإسم رجل غيره وهي بين ذراعيه، لكمت رأسها مرات عديدة وهي تردد:
_ غـ.ـبـ.ـية، غـ.ـبـ.ـية

لقد انتقى من أجلها أجمل الأثاث وكان حريصاً على اختيار جميع ما تقع عينيها عليه، تعيش في منزل كالقصر، لم ينقص لها شيء، أختار من الحُلى أجملهم وأغلاهم ثمناً، كان يتودد إليها بعينيه وكلمـ.ـا.ته الحنونة، وهي ماذا فعلت له؟
لقد ردت الحُسنة بالإساءة!

استلقت على الفراش وتكورت في نفسها حتى باتت صغيرة الجسد، محاولة النوم لعلها تهرب مما اقترفته، لكن كيف ينام المرء وهو متسبب في حـ.ـز.ن قلب أحدهم؟!

لم تجف عينيها قط فعبراتها تتساقط في صمت، عاكسة تلك الضجة الحادثة داخلها، كيف تسببت في هدm سعادته في لحظة؟
كيف تحولت تلك الليلة التي كان ينتظرها بفروغ صبر إلى ليلة تعيسة وحزينة؟!

العديد والعديد من الأفكار التي تتخبط بينهم ناهيك عن ضميرها الذي لا يكف عن تأنيب ذاته، إلى أن شعرت بالتعب ينهال عليها وخصيصاً عينيها التي أرهقتها الدmـ.ـو.ع حتى سقطت على الفراش فاقدة وعييها.

***

في الصباح، فتح بلال جفنيه بتمهل، لوهلة لم يلاحظ مكان نومه، تدفقت الدmاء سارية في شريان قلبه فأدت إلى تسارع نبضاته حينما تنشطت ذاكرته بما حدث أمس.

شعر بدفء يعلوه فتفحص ذاته وتفاجئ بذاك الغطاء، أبعده سريعاً عنه ثم ألقاه بعيداً، اعتدل في جلسته خافياً وجهه براحتي يده، يشعر بالتعاسة التي ملئت قلبه، شعور النفور المختلط بالنـ.ـد.م يرافقه، كم كان أبله حينما ظن أن بإستطاعته سلب عقلها وكسب حبها بشراء بعض الحُلي الثمين والأثاث الحديث.

نهض عن الأريكة وتوجه إلى غرفته التي بات لا يكره سواها، يكره تلك الذكرى التي عاشها بها، يكره رائحتها آنذاك، يكره لهفته على التودد إليها على فراشهم الجديد.

وقف أمام باب الغرفة ثم فتحه وطالع جسدها المتكور في نفسه وظل يردد أنه يكرهها، اختفى ذاك الحب الذي كان يكنه لها وتحول إلى بغض وكره شـ.ـديدان.

تقدm بخطاه للداخل ناظراً إلى الخسائر الذي تسبب بها، تعجب من غضبه الذي ظهر البـ.ـارحة، فلم يثور يوماً مثلما كان أمس، يتسائل كيف نجت تلك الفتاة بحياتها ولم يفتك بها لحظتها؟

تابع سيره متجهاً إلى غرفة الملابس، وقام بتبديل بيجامته إلى بنطال جينز أسود وقميص أبيض ثم خرج من الغرفة وغادر المنزل، ترجل إلى الطابق الأول حيث منزل والديه، تردد كثيراً في قرع الجرس لكن في النهاية خضع لما يحثه عقله على فعله.

جائه الرد بعد ثوانٍ، لم تتوقع والدته قط زيارته لها المبكرة، لوهلة طالعته بذهول ثم تقوس ثغرها للجانب مبتسمة في سعادة ثم صاحت مهللة:
_ يا صباح الهنا يا أحلى عريس في الدنيا، صباحية مبـ.ـاركة يا حبيبي

تردد صدى زغاريدها في السُلم فأسرع بلال في إيقافها:
_ بس يا ماما هتلمي علينا الناس

هدأت زغاريدها تدريجياً حتى اختفت ثم رحبت به بحفاوة كأنه غائب عن المنزل منذ أشهر فتعجب بلال من استقبالها الحافل وهتف ساخراً:
_ إيه كل دا، دا أنا لسه سايبك بليل

ربتت على يديه والسعادة ظاهرة في عينيها ثم قالت موضحة:
_ فرحانة بيك يا حبيبي..

اقتربت ثم لكزته في كتفه غامزة إليه بعينيها اليمنى:
_ طمني عليك يا حبيبي وعلى إيمان، هي كويسة؟

حاول بلال جاهداً بألا يكون بـ.ـارداً في رده لكي لا تشعر بشيء وأجابها مختصراً:
_ كويسين، كويسين يا حبيبتي

جاب المكان من حوله بنظراته هارباً من أسئلتها التي لن تكف عن سؤالها بقوله:
_ بابا فين؟

أجابته بلهفة:
_ نزل من شوية..

هز بلال رأسه ثم توجه إلى غرفته معللاً ذهابه إليها:
_ ياااه أوضتي وحـ.ـشـ.ـتني أوي

قفز على الفراش فتشكل الذهول على تقاسيم والدته، وضعت يديها في منتصف خِصرها قبل أن تهتف بعدm تصديق:
_ أوضة إيه اللي واحشتك يا بكاش دا اللي يشوف لهفتك على الجواز يفكر إنك هتنسانا!

تشكلت بسمة متهمكة على شفتي بلال لا إرادياً فاستشفتها والدته وشعرت بثمة أمراً به، حتماً هناك ما يوجد خلفه.

طالعته بأعين ضائقة وسألته مستفسرة بقلق:
_ أنت متأكد إنكم كويسين؟

أكد بلال أنهما بخير بإيماءة من رأسه ورسمه لإبتسامة زائفة قبل أن يردف:
_ أيوة كويسين..

تنهد قبل أن يواصل استرساله:
_ ما تعملي فنجان قهوة بإيديكي الحلوين دول أصل أنا مصدع أوي

تفاجئت شهيرة بطلبه، فمن التي في خدmته الآن حتى يطالبها بذلك وليست زوجته، كانت متأكدة أن هناك ما حدث وعكر صفوه وبالتأكيد لن يخبرها إذا سألته مرة أخرى، لكنها تعلم جيداً من الذي يمكنه معرفة ماذا به.

انسحبت بهدوء إلى الخارج فتجهمت تعابيره تلقائياً فور خروجها، همسها بإسم "يوسف" لازال يتردد في أذنه وكأنها إلى جانبه تعيد وقاحتها.

ازداد غضبه ونفوره منها، لم يعد يريدها، لكن كيف سيحدث ذلك؟ بالتأكيد لن يرسلها إلى عائلتها ثاني يوم لها معه، عليه إخماد غضبه والتفكير بذهن صافِ لكي لا يقع وزر على عاتقه ويكون المخطئ في نظر الجميع.

في الخارج، وقفت شهيرة على باب المطبخ بعد أن وضعت القهوة لتُطهى، تراقب المكان خشية خروج بلال في أي لحظة ثم قامت بعمل مكالمة هاتفية.

"السلام عليكم، مين معايا؟"
أردفهم بصوته الأجش فأجابت هي مع مراعاة هدوء نبرتها:
_ وعليكم السلام، أنا أم بلال يا يوسف، إزيك

أجابها يوسف بغرابة لإتصالها الذي أثار القلق فيه:
_ الحمدلله..

حمحمت وقالت وعينيها مصوبة على غرفة بلال:
_ معلش يا يوسف إني بكلمك بدري كدا بس بلال هنا وأنا حاسة إن فيه حاجة وبيحاول يخبي عني، ممكن تيجي تشوفه وتتكلم معاه يمكن يحكي لك، أنا عارفة إنه مش بيخبي حاجة عنك

أثارت كلمـ.ـا.تها القلق داخله، تفقد ساعة الحائط فالوقت مازال باكراً للغاية، لماذا قد يعود بلال لبيت والديه في تلك الساعة المبكرة؟

أخرج زفيراً قبل أن يخبرها:
_ حاضر جاي..

أغلق الهاتف وأعاد وضعه في جيبه ثم هز رأسه باستنكار شـ.ـديد، فتلك عواقب تحذيراته لطالما حذر بها بلال وهو لم يصغي إليه.

خرج من غرفته فقابلته مشاكسته بإبتسامتها المعهودة وأردفت برقة:
_ Gün adın سوفي

رد عليه يوسف وعقله مشغولاً فيما أخبرته به والدة بلال:
_ صباح الخير، قولي لميمي إني مستعجل أفطروا أنتوا

غادر المنزل تحت نظراتها المتابعة له، ارتخت ملامحها وبدت متملقة فلم ينتظر حتى تخبره بما لديها، نفخت بضيق ثم ولجت المطبخ لتخبر السيدة ميمي بذهاب يوسف.

***

بعد مرور دقائق قليلة، سمعت شهيرة طرق باب منزلها، أسرعت في فتح الباب واستقبلت يوسف بترحاب شـ.ـديد، فسألها هو مستفسراً:
_ بلال فين؟

أشارت بيدها على غرفته قائلة:
_ في أوضته من وقت ما نزل وهو قاعد فيها وآخر مرة دخلت له القهوة اللي طلبها قالي سبيني لوحدي

الأن تأكد يوسف أن هناك ما حدث بينهما أو ربما لم يحدث وذلك ما يضايقه، أخرج زفيراً قبل أن يدلف غرفة بلال بعد أن طرق الباب وسمح الآخر له بالدخول ظناً أنها والدته، فتفاجئ بدخول يوسف.

لوهلة شعر بالغضب يتأجج داخله، طالعه ببرود دون ترحيب، بينما بادله يوسف ابتسامة عريضة مشاكساً إياه:
_ لا لا متوقعتش أنك تورينا وشك قبل شهرين تلاتة كدا

لم تتغير ملامح بلال بل كانت جـ.ـا.مدة تثبت ليوسف أن هناك مصـ يـ بـةقد وقعت، اقترب منه وسحب كرسي وجلس أمامه قبل أن يسأله باهتمام:
_ عامل ايه؟

ببرودٍ أردف بلال سؤاله:
_ أنت إيه اللي جابك؟

رمقه يوسف بنظرات احتقاريه ثم لكزه في صدره بعنف قبل أن يردف مستاءً:
_ إيه المقابلة دي وأنا كنت نايم في حـ.ـضـ.ـنك طول الليل؟

شعر بلال بفظاظة أسلوبه فرقق من تعامله:
_ لا بجد عرفت منين إني هنا؟

فكر يوسف لثوانٍ قبل أن يخبره:
_ حسيت..

رمقه بلال بطرف عينيه ثم ظهرت إبتسامة على محياه، اعتدل في جلوسه حيث يكون قريباً منه وقال بهدوء:
_ مش فايق لرخامتك يالا، جاي تعمل إيه؟

لم يطيل يوسف وأوضح سبب وجوده:
_ جاي أشوفك بتعمل هنا إيه ماهو مش طبيعي يعني تبقى قاعد في أوضتك الساعة ٩ الصبح وسايب بيتك ومراتك..

تجهمت تعابير بلال ولم ينجح في إخفاء غضبه الواضح، استشف يوسف ملامحه المشـ.ـدودة وأردف سؤاله مهتماً لأمره:
_ هو حصل حاجة؟

عاد بلال بأنظاره عليه قبل أن يسأله بتردد:
_ حاجة إيه؟

رفع يوسف كتفيه مبدي عدm معرفته، تنهد وقال عدة إقتراحات:
_ مش عارف، مثلاً شـ.ـديتوا مع بعض، محصلش اللي...

قاطعه بلال ناهياً الحوار بينهما:
_ مفيش حاجة حصلت يا يوسف إحنا كويسين، ارتاح

"متأكد؟"
سأله للمرة الأخيرة فأكد بلال عدm وجود شيء بقوله:
_ يابني مفيش حاجة، يلا قوم امشي

اتسعت مقلتي يوسف بدهشة ومازحه:
_ أنت بتطردني؟!

نهض بلال عن الفراش وهتف مسايراً إياه في مزاحه:
_ أنا كدا كدا طالع أنت هتقعد تعمل إيه، تطبخ مع أمي؟

طالعه يوسف باحتقار زائف ثم نهض وتقدm عنه بضعة خطوات قبل أن يلتفت برأسه متسائلاً باهتمام:
_ يعني كله تمام؟

قلب بلال عينيه ثم صاح:
_ يابني كله تمام أعمل إيه عشان تصدق

تنهد يوسف ثم حاول تصديقه:
_ حاول أصدقك

أجبره بلال على الخروج بوضع يديه على ظهره دافعاً إياه للخارج وهو يردد:
_ طب يلا برا

ارتفعت ضحكاتهم فوقعت على مسامع شهيرة وسببت لها السعادة، انضمت إليهما وطالعت بلال بعينين لامعة وهي تراه يضحك ببشاشة، وجهت بصريها على يوسف وأرسلت إليه بعض الإشارات المتسائلة من خلال عينيها فهتف يوسف بمرح:
_ زي القرد أهو مفيهوش حاجة

تفاجئ بلال بكلمـ.ـا.ت يوسف ثم عاتب والدته ممازحاً:
_ يعني أنتِ اللي بلتيني بيه على الصبح كدا؟

لم تستطيع شهير إخفاء ضحكاتها التي أثبتت له حدسه، فهز بلال رأسه مستنكراً تصرفها لكنه لم يعقب، فلا يمتلك القوة لخلق أحاديث ولوم، هو فقط يريد الهروب من الجميع، وكانت فكرة نزوله غير موفقة بالمرة.

غادر يوسف بينما صعد بلال للأعلى جاهلاً مستقبله مع تلك الفتاة.

في تلك الأثناء استيقظت إيمان من نومها، جابت الغرفة بنظريها، لا تتذكر متى غابت عن الوعي، نهضت ثم ولجت المرحاض وغسلت وجهها وعادت للغرفة، نظرت للباب بتعجب فهي لم تتركه مفتوحاً.

تقدmت نحوه وكادت أن تعيد غلقه لكنها تراجعت وتابعت سيرها للخارج لترى إن كان لازال نائماً ام استقيظ فهي مدينة له باعتذار.

انقعد حاجبيها فور عدm رؤيتها له، استدارت بجسدها لتعود إلى الغرفة إلا أن انتبهت لفتح الباب، خفق قلبها بذعر حين وقعت عينيها عليه.

لم يعطيها بلال أي اهتمام وكأنها نكرة، استلقى على الأريكة ثم دعس على جهاز التحكم وظل ينتقل بين القنوات.

شهيقاً وزفيراً فعلت إيمان وسارت نحوه بخطى متهملة، وقفت أمامه فحجبت عنه الرؤية، أخفض الآخر بصره بهدوء دون تعقيب.

عضت إيمان على شفتيها شاعرة بحرج شـ.ـديد يشوبه النـ.ـد.م على ما فعلته، جاهدت على كسب بعض القوة لكي تعتذر منه وتنهي ذاك الخلاف.

حمحمت قبل أن تردف بخفوت:
_ أنا آسفة..

تشكلت ابتسامة ساخرة على شفتي بلال، صوب بصره عليها وردد بذهول:
_ آسفة! بس كدا؟

لم تستطيع النظر في عينيه الذي يلومها من خلالهما وحاولت وضع بعض التبريرات:
_ مكنش قصدي معرفش أنا قولت كدا إزاي ااا...

لم يعد في استطاعتها مواصلة حديثها بينما نهض بلال وظل يقترب منها بخطوات رزينة وهو يردد كلمـ.ـا.تها:
_ أنا آسفة، مكنش قصدي، معرفش أنا قولت كدا إزاي!!

وقف قبالتها وانحنى برأسه ليكون في نفس مستوى طولها وصاح منفعلاً:
_ دا أنا كنت هخسر صاحبي بسببك!! وأنتِ تقوليلي آسفة!! دا أنا اول ما شوفته كنت هرمي اللوم عليه وأقوله مراتي نطقت باسمك أنت مش بإسمي!
كنت هخسر عشرة ٢٥سنة بسببك أنتِ!

أجبرها على النظر إليه برفعه لوجهها، ظل ممسكاً بذقنها وواصل هتافه من بين أسنانه المتلاحمة:
_ عارفة اللي بتنطق إسم راجـ.ـل تاني غير جوزها وهي في حـ.ـضـ.ـنه دي بيتقال عليها إيه؟
بيتقال عليها وسـ...

قاطعته إيمان بإبتعادها عنه ثم توسلته قائلة:
_ لو سمحت يا بلال بلاش غلط

قهقه بلال قبل أن يصـ.ـر.خ عالياً:
_ غلط؟ هو أنا لسه قولت غلط؟ دا أنا هعـ...

خرجت إيمان عن صمتها وانفجرت به بكل ما أوتي من قوة:
_ كفاية بقا كفاية، أنا مغطلتش، مش أنا السبب في اللي إحنا فيه دا، أنت السبب، أنت اللي مشيت كل حاجة بسرعة، أنت اللي أناني ومفكرتش غير في نفسك وبس، مكنتش بتفكر غير في اللي أنت عايز توصله وبس، وهو أديك وصلت برافوا

صفقت له أيمان ثم اقتربت منه وهي تشير على نفسها:
_ ومفكرتش مرة فيا، مفكرتش أنا عايزة كدا ولا لأ، مفكرتش تديني حتى مهلة أخد عليك، أنت قولت نمشي كل حاجة بسرعة وبعدين نتعرف على بعض براحتنا، بحييك على تعارفنا ببعض، باللي عملته دا خليتنا أتعس اتنين في الدنيا

أولاته ظهرها لتعود إلى غرفتها فهدر هو شزراً:
_ أنا اللي غلطان فعلاً، بس غلطان إني حبيتك!

اهتزت إيمان من اعترافه الصريح، هرولت إلى الغرفة وأوصدت بابها، جلست أرضاً وجهشت باكية بحـ.ـز.ن شـ.ـديد تحول بعد لحظاتٍ إلى غضب وكره.

نهضت عن الأرضية واتجهت إلى أحد الأدراج والتقطت منه مقص ثم أسرعت باتجاه فستان زفافها ولم تتردد في خرق كل ثغره به لاعنة ذاك اليوم الذي استسلمت به ولم تبدي رفضها لتلك الزيجة.

ألقت المقص بعيداً عنها وتكورت في نفسها تبكي بغزارة، كانت تضـ.ـر.ب رأسها من آن لآخر كلما تذكرت ما اقترفته في حق نفسها.

انتبهت على رنين الهاتف، فمسحت على أنفها الذي سالت مائه وأجابت على هاتفها بنبرة مهزوزة:
_ الو

استشعرت والدتها نبرتها الغريبة وسألتها بقلق:
_ مالك يا إيمان أنتِ كويسة؟

أحقاً تسألها إن كانت بخير أم لا؟! هل استطاعت نطقها وهي على علم بحقيقة الأمور؟ لم تستطيع تمالك صمودها وانفجرت باكية وهي تخبرها أنها ليست بخير:
_ مش كويسة خالص يا ماما..

أصاب الذعر هادية ثم هتفت بالعديد من الأسئلة:
_ حصل ايه بس؟ أنتِ بتعيطي كدا ليه؟ طمنيني عليكي

أجابت إيمان من بين بكائها بتلعثم لعدm تمكنها من الحديث:
_ محتاجة لك اوي، ينفع تيجي؟

"أيوة طبعاً هاجي، مسافة الطريق وهكون عندك"
هتفت بهم هادية ثم أسرعت نحو غرفتها لتبدل ثيابها حتى تذهب إلى ابنتها، فلقد انفطر قلبها حـ.ـز.ناً على صوتها الباكي وحالتها المذرية بينما وقعت إيمان على الفراش وظلت تبكي دون توقف.

***

كانت لينة تجلس برفقة السيدة ميمي عابسة، عقلها مشغول في أمراً ما، لاحظت صمتها طيلة فترة مرافقتها لها وسألتها بفضول لمعرفة ما يشغل بالها:
_ مالك يا لينة بتفكري في إيه كدا من وقت ما قعدتي معايا؟

تنهدت لينة بملل ممزوج بالحـ.ـز.ن قبل أن تجيبها:
_ يوسف شكله نسى عيد ميلادي!

حاولت ميمي تبرئته بقولها:
_ يمكن الوقتي يفتكر ويكلمك، أنتِ عارفة يوسف مشغول إزاي الفترة دي

عارضتها بعدm اقتناع:
_ يوسف على طول مشغول وعمره ما نسى عيد ميلادي وكان أول واحد بيفتكره ويقولي كل سنة وأنتِ طيبة

زمت شفتيها بحـ.ـز.ن قبل أن تتابع مستاءة:
_ بس شكله كدا شافني كبرت ومعتش هيهتم بحاجة تخصني

لم تعلق ميمي بل تركتها تخرج ما في جوفها، بينما شعرت الأخرى بالملل يجتاحها حينما لم تبادلها ميمي الحوار، استأذنت منها ودلفت غرفتها تفكر في عمل أشياء تشغل عقلها عن يوسف، بينما ظهرت إبتسامة على شفتي ميمي لتصرفاتها الطفولية، ثم تابعت طهيها للطعام.

***

"أستاذ يوسف، استنى"
هتف بهم أحد الشباب منادياً على يوسف فتوقف الآخر وأردف بلطف:
_ إزيك يا طارق؟

وقف طارق يلتقط أنفاسه وأجاب:
_ بخير الحمدلله، كنت حابب أوريك حاجة شوفتها وأنا براجع الكاميرات عندي في المحل

رمقه يوسف بطرف عينيه قبل أن يسأله مستفسراً:
_ حاجة إيه؟

تنهد طارق وقال مختصراً:
_ تعالى وشوف بنفسك

سار يوسف برفقته حتى دلف كليهما لمكان عمل الشاب، جلس طارق أمام شاشة الكمبيوتر ثم أعاد تشغيل الفيديو الذي أوقفه قبل قليل.

انحنى يوسف بقرب الشاشة ليرى ما الأمر، اتسعت مقلتيه تلقائياً فور رؤيته لذاك الرجل الملثم الذي قطع له الفرامل.

ابتلع ريقه وتحدث بلهفة وهو يشير إلى السيارة التي خرج منها الرجل:
_ أعمل زوم يا طارق على رقم العربية لو سمحت

ضاعف له طارق حجم الصورة فظهرت أرقام السيارة بوضوح، استعار يوسف ورقة وقلم منه ثم دون بها أرقام السيارة لكي يبحث عن أولئك الأوغاد، وتوعد لهم بأشر انتقام.

شكر الشاب لتعاونه ثم هاتف أحد معارفه في إدارة المرور وأعطاه الرقم ثم أنهى المكالمة قائلاً:
_ حبيبي يا مراد باشا، هستنى منك مكالمة

وضع الهاتف أمامه في السيارة ثم تحرك بها بعيداً قاصدا مكان عمله لينهي بعض الأعمال سريعاً.

***

قرع الجرس أخرجه من شروده، توجه نحو الباب وفتحه فإذا بها والدة إيمان، قابلها بملامح جـ.ـا.مدة فلم ينجح في تصنع سعادته تلك المرة، تعجبت هادية من مقابلة بلال الجـ.ـا.مدة فلم يكن يوماً هكذا.

حمحمت بحرج شـ.ـديد ثم تسائلت باهتمام:
_ إزيك يا بلال؟

باختصار أجاب:
_ كويس

لاحظ عينيها الباحثة عن ابنتها فأردف بنبرة خشنة:
_ إيمان في الأوضة، أنا هنزل عشان تكونوا على راحتكم

لم ينتظر ردها بل غادر على الفور، ازدادت حيرة وقلق هادية من أمرهما، دعت داخلها بأن تجد عـ.ـا.قبة الأمور هينة، توجهت نحو غرفة ابنتها وقلبها يكاد يقــ,تــلع من مكانه لشـ.ـدة تدفقه خشية وقوع ماهو سيء.

أمسكت مقبض الباب وحاولت فتحه لكنه كان موصداً من الداخل، طرقت عليه برفق معلنة عن مجيئها:
_ إيمان افتحي الباب..

في غضون ثوانٍ كانت قد فتحت لها الباب، صعقت هادية من تورم جفنيها وحالتها المذرية، ألقت إيمان نفسها بين ذراعي والدتها وانهمرت باكية، فبثت الخوف في قلب والدتها التي انهالت عليها بالأسئلة:
_ أنتِ عاملة في نفسك كدا ليه؟ وبلال ماله مقابلني وهو مش طايق نفسه؟ حصل إيه لكل دا احكي لي

ازداد نحيب إيمان فصاحت والدتها بتوجس شـ.ـديد:
_ بطلي عـ.ـيا.ط وفهميني إيه اللي حصل، انطقي يا إيمان قلبي هيقف من كتر الخوف

أولاتها إيمان ظهرها وعادت إلى الغرفة، حاولت السيطرة على بكائها، تبعتها شهيرة وقد وقعت عينيها على الزجاج المتناثر، فوقع قلبها رعـ.ـباً، وتسائلت ما الذي أدى لذاك الجنون؟
بعد مرور بضعة دقائق استطاعت إيمان تمالك نفسها واستعادة جزء من رونقها.

تنهدت هادية وهي تربت على ظهرها بحنو ثم قالت:
_ أحكي بقا إيه اللي حصل؟

أخبرتها إيمان ما عاشته منذ ليلة أمس إلى الوقت الحالي أسفل ذهول هادية التي وقعت بين طياته، هزت رأسها رافضة تصديق ما وقع على مسامعها.

خرجت من صمتها مرددة ما يدور في عقلها:
_ أنا مش قادرة أستوعب إنك عملتي كدا؟ أنتِ نطقتي بإسم يوسف يوم فرحك يا إيمان؟

توسلتها إيمان أن تتوقف عن المعاتبة فهي لم تعد تتحمل سماع المزيد:
_ أبوس ايدك مش عايزة لوم، اللي أنا عيشته من امبـ.ـارح للنهاردة بعمري كله، معتش قادرة أسمع كلمة زيادة

طالعت أمامها لبرهة قبل أن تسترسل:
_ هو السبب في اللي إحنا دا، وأنتِ كمان السبب..

بكت وهي تتابع تحت نظرات والدتها المصدومة:
_ وأنا كمان السبب!
يعني إيه نجيب اتنين ملهمش علاقة ببعض نحطهم في بيت واحد والمفروض يتعاملوا مع بعض عادي؟!
ما طبيعي يفشلوا من أول دقيقة، مش عارفة إزاي سمعت كلامك وكملت من غير ما أرفض، مش عارفة إزاي كنت مغيبة بالشكل دا؟
أنا غـ.ـبـ.ـية واستاهل كل اللي يجرالي

لكمت إيمان رأسها بقوة، فأسرعت والدتها في منعها من مواصلة ما تفعله، ثم قامت باحتضانها، سقطت عبراتها بسبب إيلام إيمان لها، لم يكن في مقدرتها سوى مأزرتها بالمشاعر فقط، فلم يكن لديها كلمـ.ـا.ت لتطيب بها جـ.ـر.حها وأي كلمـ.ـا.ت ستطيبه بعد ما مرت به؟

***

بعد مرور ثلاثون دقيقة من السكون، لا تشعرن إحداهن إلا بأنفاسهن، تنهدت هادية قبل أن تسألها بخفوت:
_ بقيتي أحسن الوقتي؟

أماءت إيمان بتأكيد وابتعدت عنها، ابتسمت لها والدتها ثم أردفت ما توصلت إليه:
_ أنا مش هعاتب ولا هدي نصيحة لأن الاتنين ملهمش لازمة خلاص، بس أنا عايزة أقولك إني معاكي في أي قرار هتاخديه، سواء حاولتي تحافظي على بيتك وتظبطي علاقتك مع جوزك أو...

باتت الكلمـ.ـا.ت أكثر ثقلاً على لسان هادية، زفرت بعض الأنفاس وعادت لمواصلة حديثها:
_ أو تطلقي.. أنا معاكي في أي قرار المهم إنه يكون في مصلحتك، بس ليا طلب عندك

نظرت إليها إيمان باهتمام وآذان صاغية فتابعت والدتها:
_ لو قررتي تطلقي، استنى على الأقل فترة، لأن طـ.ـلا.قك في الوقت دا هينعكس عليكي بالسوء، والكلام عليكي هيكتر وأنا مش عايزاكي تعيشي الحاجات دي عشان متتعبيش

اكتفت إيمان بإيماءة من رأسها فنهضت هادية مبتعدة عنها ثم لقِفت حقيبتها وقالت مودعة بآسى:
_ أنا مش هينفع أقعد أكتر من كدا لأني مقولتش لابوكي إني هخرج، ابقي كلميني طمنيني عليكي على طول

اقتربت منها ثم طبعت قُبلة على جبينها وغادرت المنزل، عادت إيمان إلى الغرفة وبدلت قميصها التي باتت عليه منذ البـ.ـارحة بثياب أخرى محتشمة.

***

تابعها بنظراته حتى اختفت من المنطقة، فترجل إلى المنزل، لم يفضل مكوثة فترة وجودها عند والدته لكي لا يثير قلقها مرة أخرى ففضل الصعود لسطح البناية.

صغت إيمان إلى صوت إغلاق الباب، خرجت من الغرفة بعد أن قامت بجمع خصلاتها على شكل ذيل حصان، وقفت في المرر الذي يفصل بين الغرف ووجهت حديثها له بجمود:
_ أنا من حقي أعرف إحنا هنتعامل إزاي مع بعض؟

ببرود تام أجاب بلال بعدmا وقف على بعد مسافة منها:
_ مش هنتعامل!

اغتاظت إيمان من رده البـ.ـارد وصاحت بإقتضاب:
_ يعني اتنين في بيت واحد مش هيصدف إننا نتعامل مع بعض؟

هز رأسه مراراً ثم اقترب منها فتراجعت هي للخلف خشية أن يتطاول عليها، مر بلال من جوارها ثم دلف غرفته ومنها إلى غرفة الملابس، جمع ثيابه وخرج من الغرفة تحت نظرات إيمان التي سألته بفضول:
_ أنت بتعمل إيه؟

لم يجيبها وتابع سيره إلى غرفة الأطفال خاصتهم، وضع ثيابه على أحد الأفرشة الكائنة في الغرفة ثم عاد إليها وقال بلهجة مقتضبة:
_ من هنا ورايح أنا في أوضة وأنتِ في أوضة، بيتك مليان بكل اللي تحتاجيه، ولو احتجتي لحاجة اكتبيها في ورقة وسبيها على التلاجة، عايزة تروحي زيارة لأهلك معنديش مانع، وفيه يوم إخواتي بيجوا تحت هننزل نقضي اليوم معاهم وهنبقى أسعد زوجين قدام أي حد، غير كدا ملكيش عندي حاجة، تمام؟!

تخطاها بخطواته وجلس في الردهة ينتقل بين القنوات ليشاهد أحد الأفلام، بينما كانت تقف إيمان على جمر متقد لقد خطط لحياتهم القادmة واتخذ موقفاً بالفعل، نفخت بضيق ثم شعرت بالجوع الشـ.ـديد فهي لم تتناول شيء منذ صباح اليوم الماضي.

ولجت المطبخ وبحثت عن أشياء للأكل، أعدت بعض الشطائر لها وله، خرجت من المطبخ وتوجهت إليه ثم تركت ما معها على الطاولة فتفاجئت به يبعد الطبق بيده متمرداً على ما أحضرته.

لم تصمت تلك المرة وصاحت هاتفة بحنق:
_ زي ما أنت خططت ورتبت لدورك هنا في البيت سبيني أنا كمان أقوم دوري ماهو مش هقعد زي الأباجورة طول اليوم لغاية ما انفجر من الزهق!!

طالعها بلال لثوانٍ كانت كفيلة لإرهابها، لم تزيد حرفاً وهرولت عائدة إلى غرفتها، بينما مال الآخر برأسه متفحصاً المكان فلم يجدها، أسرع في أخذ الشطائر وبدأ يتناولها بشراهة فلقد تضور جوعاً لكن سرعان ما أعاده ما تناوله فور تذكره لهمساتها، أبعد الطبق بيده ثم نهض وتوجه إلى المطبخ لكي يعد له طعام آخر.

في الغرفة، توسطت إيمان الأريكة وهتفت بغيظ:
_ مياكلش، أنا هاكل

رفعت يدها بالشطيرة وقضمتها بشهية حتى أنهتها وقامت بتناول الاخرى في محاولة منها على تصنع اللامبالاة.

***
حل المساء، ولم يعود يوسف، كانت لينة تقف في نافذتها تشاهد النجوم بملل، انطفأت جميع المصابيح فجاءة، فخفق قلب لينة رعـ.ـباً فهي لا تكره سوى الظلام وتخشاه للغاية.

خرجت من غرفتها راكضة بعد أن وضعت حجاب رأسها فكان المكان مظلم للغاية، شعرت بوجود أحدهم خلفها فتسارعت نبضاتها بقوة من فرط الخوف، استدارت بجسدها وارتفعت وتيرة أنفاسها، جحظت عينيها حينما رأت ذاك الجسد العريض يتقدm نحوها فصرخت عالياً بذعر: 
"كل سنة وأنتِ طيبة يا لي لي"
دوى صوته العـ.ـذ.ب ثم اشتعلت الأضواء من خلهما بواسطة السيدة ميمي، تفاجئت لينة بهما وقد تبخر ذعرها فور رؤيتهم لكنها مازالت أسفل تأثير الخوف، وضعت يدها على قلبها وحاولت ضبط أنفاسها المتزايدة ثم اقتربت من يوسف ولكمته بقوة في كتفه معاتبة إياه:
_ حـ.ـر.ام عليك يا يوسف، قلبي كان هيقف

بادلها الآخر إبتسامة فوجهت هي نظريها على السيدة ميمي ورفعت حاجبيها متعجبة من ابتسامتها وأردفت بدون تصديق:
_ دا أنا قاعدة معاكي طول اليوم وأقولك يوسف نسى عيد ميلادي وأنتِ تقوليلي معلش تلاقيه مشغول!

قهقت ميمي عالياً ثم ردت عليها:
_ يعني كنت أقولك وأبوظ المفاجأة؟

هزت لينة رأسها باستنكار وعادت بأنظارها إلى يوسف الذي قال:
_ وأنا ينفع برده آنسى عيد ميلادك؟

أجبرها على الإبتسام وهي تطالعه، نظرت إلى الكعكة فهتف هو بسعادة:
_ كبرتي يا لي لي وبقا عندك ١٨ سنة!!

ازدادت ابتسامتها ثم تحركت نحوه إلى أن وقفت مقابله لا يفصلهما سوى الكعكة، أوصدت عينيها لبرهة تتمنى أمنية قبل أن تطفئ الشمع.

أثارت الفضول داخل يوسف حول أمنيتها فسألها:
_ اتمنيتي إيه؟

اتسع ثغرها ببسمة رقيقة قبل أن تجيبه مختصرة:
_ لما تتحقق هقولك

ارتخت ملامح يوسف بتهكم وأردف مستاءً:
_ أنتِ كل سنة تقولي الجملة دي ومبتقوليش حاجة؟!

عضت لينة على شفتيها وهتفت بحماس يشوبه الحياء:
_ ماهي نفس الأمنية..

ازداد فضول يوسف حولها لكن ما باليد حيله سينتظر حتى تخبره بتحقيق أمنيتها، تنهد ثم أمرها بلطف:
_ روحي هاتي الأطباق والشوك من المطبخ

أماءت له بقبول ثم هرولت إلى المطبخ بينما استدار يوسف ونظر إلى والدته وسألها مستفسراً:
_ كلمتيه؟

حركت رأسها بتأكيد وقالت:
_ كلمته وقالي إنه جاي

اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه ثم توجه إلى الأريكة في انتظار عودة لينة لكي يبدأ في تقطيع الكعك.

عادت لينة إليهما فبادر يوسف بتقطيع الكعكة ووضعها في الصحون، بعد دقائق عاد زياد من الخارج بوجه عابس كعادته منذ يومين، طالعهم من على بعد ثم أخذ شهيقاً وأخرجه على مهل وتابع تقدmه إليهم وخصيصاً من لينة.

وقف مقابلها ثم ناولها هديته المغلفة بورق مزين وردد بحرج:
_ كل سنة وأنتِ طيبة

نهضت لينة وأخذت ما معه مجيبة إياه بإمتنان:
_ وأنت طيب يا زيزو، جبت لي إيه؟

أجابها وهو يفرك أصابعه بإرتباك:
_ افتحي وشوفي

لم تنتظر لينة لحظة وقامت بتفحص هديتها بلهفة، تفاجئت بالكوب المرسوم عليه شخصية كرتونية بـ.ـارزة عن الكوب، اتسعت عينيها بعدm تصديق وهللت في سعادة:
_ مارد وشوشني!

تقوس ثغرها للجانب مشكلة إبتسامة عريضة عاكسة سعادتها الداخلية، عادت بنظريها إليه وشكرته ممتنة:
_ حلو أوي أوي، شكراً يا زيزو

بادلها إبتسامة لم تتعدى شفتيه ثم تركهم ودلف غرفته، نهضت والدته لتلحق به فأسرع يوسف بمنعها:
_ استني يا أمي، هدخل له أنا

أخذ نفساً عميق وتوجه إلى غرفته، طرق بابها قبل دخوله فرأى أخيه يعتلي الفراش ممسكاً بهاتفه، وضع زياد الهاتف جانباً فهتف يوسف بنبرة خشنة:
_ أنت عـ...

قاطعه زياد بترديده:
_ أنا آسف

ابتعد عن فراشه واقترب من يوسف الذي تملكته الحيرة من أمر اعتذاره وردد متسائلاً:
_ بتتأسف على إيه؟

حمحم زياد وأخفض نظريه فلم يتحلى بالشجاعة ليواجه أخيه، تنهد قبل أن يجيبه:
_ عشان كنت رزل معاك وقولت كلام مينفعش يتقال

بهدوء قال يوسف:
_ إذا كان كدا ماشي، أسفك مقبول

انعقد حاجبي زياد تلقائياً، فلم يعتاد تلك السلاسة دون إيلام، رمق أخيه بطرف عينيه ثم صاح متعجباً:
_ بس كدا؟!

حرك يوسف رأسه نافياً وجود حوار آخر:
_ أيوة بس كدا أومال أنت عايز إيه؟

جاب زياد الغرفة بعينيه مبدي حيرته من حالة يوسف الهادئة ثم أردف:
_ يعني مش متعود عليك سهل كدا، فين العصبية واللوم والخناق؟

أخرج يوسف تنيهدة ووضع يديه في جيبي بنطاله، وأجابه بصوته الأجش:
_ أصلك كبرت!

ظن زياد أنه يستهزأ به فهدر معاتباً:
_ ما خلاص يا يوسف بقا انسى الكلام اللي قولته

حاول يوسف توضيح اعتقادته له:
_ لا بجد مش بتريق، طريقتي كانت غلط معاك، كنت المفروض أخد بالي إنك كبرت وطريقتي معاك كانت لازم تتغير!!

لا يستطيع تصديقه، ما الذي تغير فجاءة ليكون هادئاً ورزيناً بهذا الشكل، ظل يحرك رأسه مردداً بعدm تصديق:
_ هو اللي بيحصل دا بجد؟

أماء له يوسف بتأكيد وقال:
_ بجد

ابتسم الأخوين تلقائياً، بينما رفع يوسف يده ولكزه في كتفه فأطلق زياد آنات موجوعة ثم هتف يوسف وهو يحاوط كتفيه بذراعه:
_ يلا عشان تاكل تورتة مع إنها خسارة فيك

قهقه زياد ثم سار معه مجبراً رأسه على الإنحناء بسبب يد يوسف المحاوطة لكتفيه، خرج كليهما وابتسامتهما تغزو وجهيهما، أسرت السعادة قلب السيدة ميمي لرؤيتهما في هذا الوضع الحميمي، تقوس ثغرها تلقائياً وابتسمت لهما ثم هللت بفرحة:
_ ربنا يخليكم لبعض يارب ومايدخلش الشيطان بينكم أبدا

اكتفت لينة برمقهما ببسمة سعيدة، جلس جميعهم يتناولون الكعكة والأحاديث، لم تخلوا جلستهم من الضحك و الكوميديا، ارتفع صوت زياد فأجبر الآخرين على الإصغاء حينما هدر:
_ ما حد يشغل لنا حاجة حلوة نسمعها

وافقته لينة الرأي ونهضت هاتفة بحماس:
_ هشغل أنا على ذوقي

ثم قامت بتوصيل هاتفها بالسماعة عن طريق البلوتوث، أخذت دقيقتان حتى اختارت اغنيتها لشخصها المفضل حيث كانت كلمـ.ـا.تها حنونة تمس القلب، كانت بدايتها عزف هادئ يدل على تصنفيها الرومانسي.

فلم تعجب زياد الذي تذمر:
_ إيه دا مُحن؟! لا الله يخليكي غيري بيقلب لي معدتي

رمقته لينة بتقزز يشوبه الإستياء ثم هتفت:
_ أسمعها الأول، هتعجبك

بدأت كلمـ.ـا.ت الأغنية تقع على مسامعهم فنظرت لينة تلقائياً إلى حبيب فؤادها، وأسير قلبها بعينين لامعتان وهي تدندن مع الكلمـ.ـا.ت:
أصابك عشق أم رمـ.ـيـ.ـت بأسهم
فما هذه إلا سجية مغرم
ألا فاسقيني كاسات وغني لي
بذكر سليمة والكمان ونغمي

شعور مريب قد راود يوسف آنذاك، شعر لوهلة وكأن كلمـ.ـا.ت الأغنية رسالة موحية إليه من خلال نظراتها التي لم ترفعهم من عليه قط، ابتلع ريقه وحاول مسايرة الأمر وسماع بقية الأغنية وكأنه لا يوجد شئ.

:
أيا داعيا بذكر العامرية أنني
أغار عليها من فم المتكلم
أغار عليها من ثيابها
إذا لبستها فوق جـ.ـسم منعم
ليل ياليل ليل الليل يا ليل يا ليل
يا ليل يا ليل يا ليل، يا يا يا ليل يا ليل
يا ليل يا ليل يا ليل، يا ليل

كلمـ.ـا.تها أعجبته وخصيصاً ذاك المقطع الثاني، لمس شيء داخله يجهل حقيقته، لكنه كان مستمتعاً بما يقع على آذنيه، تدخل زياد مقاطعاً لحظتهما بسخريته:
_ غيري يابنتي البتاعة اللي أنا مش فاهم منها حاجة دي

أوقفت لينة تشغيل الأغنية ورمقته بغيظ شـ.ـديد قبل أن تبدي تذمرها:
_ يا باي ما تسمع وتستمتع بقا بلاش فصلان

كاد زياد أن يتابع استهزائه من ذلك النوع الذي يتناقض مع شخصيته تماماً إلا أن يوسف تدخل بحسمه للأمر:
_ شغلي يا لينة وسيبك منه

اتسع ثغرها بإبتسامة عريضة بينما تأفف زياد واضطر إلى الخضوع لكليهما حتى تنتهى تلك الأغنية المملة من وجهة نظره.

أعادت لينة تشغيل الأغنية وكانت متابعة إهتمام يوسف في مواصلة سماعها وكانت سعيدة للغاية بما يحدث.

أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغم
وأحسد كاسات تقبلن ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغم
وأحسد كاسات تقبلن ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
ليل يا ليل
يا ليل
يا ليل
يا ليل
يا يا ليل

أنتبه يوسف لقلبه الذي لم يتوقف عن الخفقان منذ سماعه لتلك الأغنية، أنتبه لصراخ لينة وهي تنظر لوجهة بحد عينها، فنظر تلقائياً في نفس وجهتها وإذا بأخيه يكاد يرتشف من كأسها.

فأسرع في سرقة الكأس قبل وصوله لفم أخيه ونهره بعنف:
_ قولتلك قبل كدا اشرب من كوبايتك

قلب زياد عينيه مستاءً من تصرفه وردد ساخراً:
_ هو أنا فيا جراثيم ولا إيه؟!

أجابته لينة وهي في طريقها للجلوس:
_ مش بحب حد يشرب من حاجتي، بقرف

اكتفى زياد برمقها بطرف عينيه بتهكم، أخفض بصره على هاتفها الذي بيدها وأمرها بحنق:
_ طب الغي الإقتران عشان هشغل من عندي

أغلقت لينة تفعيل البلوتوث فاقترن هاتف زياد على الفور بالسماعة، نظر إليهما بعجرفة وأردف:
_ شوفوا بقا اللي يتسمع مش تقولي ليلى العامرية وأغار عليها من أبيها وأمها

حرك رأسه مستنكراً وواصل استهزائه:
_ مش فاهم يعني بيغير من أبوها وأمها ليه يعني ناقص يقولها متطبخيش أصل بغير عليكي من عيون البوتاجاز

لم يفشل في إضحاكهم بسخريته، شاركهم زياد الضحك أيضاً قبل أن يتابع:
_ عايزين تعرفوا الغيرة اللي بجد اسمعوا دي

أنتبه جميعهم لما قام بتشغيله ذاك المشاكس وهو يشير بيديه على نفسه مطلقاً بعض الرقصات المـ.ـجـ.ـنو.نة:
غلطان فى غيرتى عارف
علشان عليكى خايف
وهواكى اقوى منى
ولا غيرك انتى شايف
غلطان فى غيرتى عارف
علشان عليكى خايف
وهواكى اقوى منى
ولا غيرك انتى شايف
لا داعى من وداعى
سامحينى فى اندفاعى
بهواكى يا ملاكى
ومنايا لو تراعى
لا داعى من وداعى
سامحينى فى اندفاعى
بهواكى يا ملاكى

دخل الجميع في نوبة ضحك شـ.ـديدة على ما يفعله بعفويته، حتى شرقت السيدة ميمي فأسرع يوسف ليجلب لها بعض المياه وكذلك لينة التي وقفت بجوارها لتطمئن عليها.

شعرت ميمي ببعض الراحة حينما ارتشفت القليل من المياه ثم هتفت موجهة حديثها إلى زياد:
_ يخرب عقلك يا زياد معتش قادرة أخد نفسي من الضحك

غمز إليها بثقة ثم قال:
_ عشان تعرفوا قيمتي بس

عادوا إلى أماكنهم، فشعر يوسف بالعطش، مد يده تلقائياً وأخذ كوباً مملوء بالمياه وارتشفه كاملاً، فتحولت نظراتهم عليه، تعجب من عينيهم المصوبة نحوه وسألهم بفضول:
_ في إيه بتبصولي كدا ليه؟

أجابته لينة ناظرة للكوب الذي في يده:
_ دي كوبايتي!

أخفض يوسف بصره على الكوب فتفاجئ بكوبها، حمحم بحرج وأبدى جهله بكوبها:
_ مختش بالي..

حاولت لينة تغير الحوار عنـ.ـد.ما رأت حرجه الظاهر، ونظرت إليه بأعين جاحدة فأثارت الرعـ.ـب في قلبه وهتفت بتذمر:
_ فين هديتك؟

بالتأكيد لن يمرق زياد ما قالته دون وضع بصمته فهتف مازحاً:
_ عشان ت عـ.ـر.في بس إني أنا اللي فاكرك

تشـ.ـدق يوسف بفمه بتهكم لحديث أخيه وردد وعنفه:
_ وأنا يعني عمري نسيتها؟

عاد بنظريه إليها وأوضح لها:
_ أنتِ عارفة إني فاشل في اختيار الهدايا فأنا بسيب لك الحرية تختاري اللي تحبيه

ابتسمت بعذوبة وحماس وهتفت:
_ هديتي أنا عارفاها، عايزاك توديني البلد

"البلد!'
رددها يوسف بتعجب فأوضحت هي ما تقصده:
_ أيوة بلدي، وحـ.ـشـ.ـتني أوي يا يوسف، نفسي أروح وأشوفها لسه زي ماهي ولا اتغيرت، نفسي أدخل بيتنا تاني، مش يمكن ألاقي فيه حاجة نسيت أخدها وقت ما جيت معاك من هناك؟

تجهمت تعابير يوسف وطالع أمامه دون إعطائها إجابة، لاحظت لينة تغيره بل استشف الجميع ذلك، فسألته متلهفة لسماع رده:
_ أنت سكت ليه؟

نظر إليها مبدياً رأيه في طلبها:
_ عشان مش موافق

تفاجئت لينة برفضه فكان أول طلب يرفضه لها، استشف يوسف ذهولها فهدر بنبرة رخيمة:
_ هنروح هناك يعني ذكريات هتتعاد ومواجع هتتقلب وأنا اللي هضايق عشان طاوعتك

حاولت لينة نفي ظنونه لكي تستطيع إقناعه:
_ مفيش الكلام دا، وبعدين حتى لو فرضنا إني اتاثرت فكونك أنت جنبي هفتكر على طول أنك كنت موجود معايا وقتها والسبب في سعادتي لغاية النهاردة، موافقتك هتفرق معايا أوي يا يوسف

ظل يرمقها دون إجابة، يدرس الأمر جيداً في عقله قبل إعطائها رد آخر، فلم تستطيع صبراً وهتفت متوسلة بدلال:
_ عشان خاطري يا سوفي

أخرج تنهيدة بطيئة فواصلت هي بدلال مبالغ:
_ عشاني، عشان لي لي وافق

قلب عينيه وهو يتمتم بإقتضاب:
_ ماشي

صاحت لينة بسعادة عارمة فتدخلت السيدة ميمي قائلة:
_ هتروحوا امتى؟

أجابها يوسف بحسم:
لما أظبط اموري في الشغل الأول وبعدين نروح

دقت طبول السعادة قلب لينة، فكانت سعادتها واضحة للجميع، وقعت عينيها على الكأس الذي أهداها زياد إياه، فالتقطته من على الطاولة مبدية إعجابها به:
_ حلو أوي

صدح صوت يوسف حين قال:
_ شبهك

اتسعت مقلتي لينة بذهول ورددت بحنق:
_ شبهي! ليه هو أنا بعين واحدة ومكعبرة كدا؟

قهقه يوسف وكذلك الآخرين ثم أوضح مقصده:
_ أكيد مش قصدي كدا، قصدي يعني إنك طفولية زيه

حدقته بعينين متسعتان غير مصدقة ما رمى إليه:
_ طفولية! أنت شايفني طفلة؟!

بتلقائية عابثة أجابها:
_ أكيد

حاولت الإعتراض لتلك الرؤية الغـ.ـبـ.ـية:
_ بس أنا مش صغيرة أنا تمـ.ـيـ.ـت ١٨سنة ياسي يوسف!

لم يعرف ماهي نقطة اعتراضها بالضبط فأكد على رؤيته لها:
_ حتى لو بقيتي تمـ.ـيـ.ـتي ٣٠سنة هتفضلي طفلة بالنسبة لي

كان يردف كلمـ.ـا.ته ولا يدري ما يتسبب به، فكان هذا بمثابة اعتراف صريح لكونها صغيرة لا تصلح لأن تكون حبيبته يوماً.

عبست تعابيرها ونهضت بهدوء وقالت:
_ تصبحوا على خير

غادرت المكان قبل أن تسمع لردهم مما أثار التعجب حولها وخصيصاً يوسف الذي لم يفهم سبب تحولها المفاجئ، نهض ثلاثتهم لكي يحظوا بثُبات هادئ عدا لينة التي لم يرف لها جفن، فكانت كلمـ.ـا.ت يوسف غير هينة بالمرة، شعرت بوخزة في صدرها ولم تختفي بسهولة.
نهضت وتوجهت نحو خزانتها ثم أخذت منها دmيتها التي أهداها إياها يوسف، فلقد تناستها تماماً، عادت إلى الفراش واحتضنتها بقوة فتساقطت عبراتها أعلاها وظلت تبكي في صمت وكلمـ.ـا.ته لا تريد الاقلاع عن عقلها.

هطلت دmـ.ـو.عها كالمطر الغزير حزينة على مشاعره الجـ.ـا.مدة التي لم تتغير قط، ألم يشعر بها ولو لمرة؟ ألم يلاحظ كلمـ.ـا.ت الغزل التي تخبره بهم من خلال نظراتها؟
ألا يقولون أن العاشق تفضحه عينيه؟
فلا يوجد تفسير لهذا الأمر إلا أنه جاهل لقراءة العيون..

لم تتوقف عن البكاء، فهذا كان حلمها الوحيد، ألن تحظى بتحقيقه؟
أرهقها التفكير فاستسلمت للنوم الذي سيطر عليها خلال ثوانٍ.

***
في نهارٍ جديد، غازلت الشمس عينيها فتسببت في إيقاظها، فركت عينيها ثم استلقت على الجانب المعاكس للنافذة حتى تحجب الضوء عنها، فتحت عينيها بتهمل وراحت ببصرها على الغرفة، انتفضت بتوجس حينما رأت اثار تحطيم الزجاج مازال متناثراً في الأرجاء، فأعاد لها ذلك المشهد ثورة بلال.

خفق قلبها بذعر ولكنها طردت أفكارها المخيفة ونهضت متوجهة للخارج، صغت إلى صوتٍ يصدر من المطبخ فلم تتردد في الدلوف.

شاهدت قامته المنتصبة وهو يعد الفطور، زفيراً عميق أخذته ثم زفرته على مهل وتابعت تقدmها للداخل، لم يشعر بها فأرادت جذب انتباهه:
_ أحضر لك الفطار؟

التفت برأسه وحدجها بنظراته الثاقبة التي بثت الرعـ.ـب فيها ثم عاد ليواصل تحضيره دون تعقيب، تأففت إيمان لكنها لم تصدر صوتاً، فقد احتفظت بضيقها منه داخلها، اقتربت بعض الخطوات منه فوقعت عينيها على الشطائر التي أحضرتها بالأمس، وعلمت أنه لم يلمسها.

تنهدت قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها بنبرة مختنقة:
_ إحنا مضطرين نتعامل مع بعض لأننا في بيت واحد، بلاش التجاهل دا أنا معملتش حاجة لكل دا!

جائها رده الجـ.ـا.مد وهو على نفس حالته لم يلتفت:
_ لا مش مضطرة تتعاملي معايا ولا حاجة

فرت دmعة على مقلتيها فأسرعت في مسحها، أحضرت أدوات التنظيف وغادرت المطبخ سريعاً، عادت إلى غرفتها لتجمع حطام الزجاج المتناثر.

أنهته بعد فترة قصيرة ثم بدلت ثيابها إلى أخرى، انتبهت على رنين الجرس فخرجت من غرفتها لتعلم من الطارق.

"صباح الخير يا حبيبي"
ألقت شهيرة التحية على بلال فأجابها بلطف، رأتها شهيرة تقف في زواية بعيدة عنهم فابتسمت لها ثم أردفت:
_ إزيك يا حبيبتي، جيت أطمن عليكم وأشوفكم لو محتاجين حاجة

جائتها إيمان على استحياء، فتعجبت شهيرة لثيابها التي لا تناسبها كـعروس، لم تطيل النظر وسألتها بنبرة حنونة:
_ محتاجة حاجة مني؟

نفت إيمان بإيماءة من رأسها وشكرتها ممتنة:
_ شكراً لحضرتك

بادلتها شهيرة إبتسامة وعادت بنظريها إلى بلال وقلبها يخبرها أنهما ليسوا بخير، فهي لديها خبرة كافية في رؤية الأشخاص ومعرفة ما أن كانوا سعداء أم تعساء، ولم ترى فيهما سوى إخفاء تلك التعاسة عنها متصنعين السعادة.

استأذنت منهما وغادرت، لم يتوقف عقلها عن التفكير فيما هو أسوء، كانت شاعرة بانطفاء ولدها الواضح، فهي شهدت حماسته قبل زواجه ولهفته على التودد من إيمان، فما الذي تغير الآن؟

عبست ملامحه وتجهمت فور ذهاب والدته، التفت حيث تقف إيمان، صوب نظره على جهة ما بها لبعض الوقت فأثار الفضول داخل إيمان ونظرت إلى ما ينظر فتفاجئت بالدmاء تسيل من إصبعها، لقد جـ.ـر.حته دون أن تشعر.

لم تطيل الوقوف مكانها وهرولت إلى المرحاض لكي تضمده على الفور، كان بلال مهتماً لأمر ذاك الجـ.ـر.ح ويريد معرفة ما أن كان عميق أم أنه سطحي، لكن حتماً لن يسألها، فقط سينتظر إن كان الأمر عصيباً فحتماً ستأتي وتطلب مساعدته.

لم يستطيع الجلوس، فجلس على حافة الأريكة حتى ظهرت هي، لمح يدها سريعاً فرأها قد ضمدت أحد أصابعها، وعلم أن الأمر لا يستحق فتوجه إلى الأريكة وجلس أعلاها وظل يتنقل في هاتفه بملل شـ.ـديد.

بينما عادت هي إلى غرفتها فلم يكن هناك ما تفعله، حتى تناولها للطعام لم يكن اقتراحاً جيداً فلقد فقدت شهيتها بعد حوارهما الأخير.

***
خرج من المكان متعجباً من عدm وجود أحد وسأل رجل الأمن مستفسراً منه:
_ الموظفين راحوا فين ياعم آمين؟

أخبره أمين بالأحداث التي جرت أخيراً:
_ سمير بيه أعطاهم إجازة النهاردة، أنا فكرتك عارف

حرك يوسف رأسه نافياً معرفته بقرار الإجازة وقال:
_ لا معرفش حاجة، طيب أنت مختش إجازة معاهم ليه؟

ابتسم أمين بسخرية قبل أن يجيبه:
_ يمكن لو مكنتش أمن كنت أخدت، كلك نظر يا أستاذ يوسف

استاء يوسف من سذاجة سؤاله وهدر:
_ متأخذنيش يا عم أمين

سكون ساد لثوانٍ قبل أن يأمره يوسف:
_ طيب روح أنت يا عم أمين

قطب الرجل جبينه بغرابة ممزوجة بالحماس وسأله:
_ طب والمعرض؟

باختصار أجاب الأخير:
_ أنا هتصرف

تقوس ثغر الرجل ببسمة عريضة هاتفاً بإمتنان:
_ شكراً يا أستاذ يوسف ربنا يجعله في ميزان حسناتك

بادله يوسف ابتسامة ثم هاتف أحد شركات الأمن حتى تؤمن المكان ليوم، جلس في مكتبه وقام بعمل مكالمة هاتفية أخرى، جائته الإجابة خلال ثوانٍ بصوتها الناعس:
_ إيه يا يوسف

"أنتِ لسه نايمة؟ قومي البسي بسرعة"
أردفهم يوسف فاعتدلت لينة قليلاً وسألته بفضول:
_ ألبس ليه؟ هنروح فين؟

أخبرها مختصراً:
_ مش عايزة تروحي بلدك

اتسعت عينيها بذهول، قفزت مبتعدة عن الفراش ورددت بعدm تصديق:
_ بتهزر صح؟

أكد نيته في الذهاب معها بقوله:
_ لا مش بهزر بتكلم جد

أخذت تتلفت حولها جاهلة ما عليها فعله، فجائها صوته الساخر حينما تأخرت عن الرد:
_ لو بتلفي حوالين نفسك أوقفي وروحي البسي

توقفت لينة عن الدوران حول نفسها وسألته من بين ضحكها:
_ أنت عرفت منين؟

بثقة أجابها:
_ عرفت منين؟ دا أنا حافظك

ازداد ضحكها وهتفت بحيوية:
_ طيب سلام عشان أروح أجهز نفسي

ألقت الهاتف على الفراش وهرولت لتتجهز، تشكلت إبتسامة على شفتي يوسف حينما رسم صورتها وهي تدور حول نفسها مضيفاً لخياله خصلاتها المموجة التي تحلق معها.

وقعت عينيه على شاشة حاسوبه المحمول، فرأى انعكاسه، اختفت ابتسامته فجاءة وتمتم بينه وبين نفسه:
_ في إيه يا يوسف مالك؟!

أغلق الحاسوب ثم نهض ليستقبل رجل الأمن الجديد حتى يغادر عائداً إلى منطقته، صف سيارته أسفل البناية وهاتف لينة يخبرها بعودته.

في البنايات المجاورة، كان بلال يقف في شرفة منزله، فوقع نظريه على سيارة يوسف، لم يتردد في مهاتفته وما هي إلا لحظاتٍ حتى جائه صوت يوسف:
_ صباح الخير يا عريس، عقبال ما تقولهالي

تقوس ثغر بلال بتهكم وهتف مستاءً:
_ يلا ندورلك على عروسة وأنت تبقى زيي

بمشاكسة هدر يوسف:
_ لا وقتها مش هبقى زيك، أنت هتكون راحت عليك خلاص

قهقه بلال ثم سأله بفضول بعدmا رأى لينة تستقل السيارة:
_ أنتوا رايحين فين كدا على الصبح؟

أخبره يوسف بوجهتهم:
_ رايحين بلد ست لينة

أردف جملته وهو يطالعها فابتسمت هي بحماس، سرعان ما تحولت تعابير يوسف إلى التعجب عنـ.ـد.ما قال بلال:
_ طب استناني هلبس وجاي معاكم

أغلق الهاتف ولم يعطيه فرصة للتحدث، ظل يوسف مطالعاً الهاتف لثوانٍ، والكثير من الأسئلة قد راودته آنذاك، قطعت عليه حبال أفكاره بسؤال لها:
_ إحنا واقفين ليه؟

التفت برأسه إليها قبل أن يجيب بغرابة:
_ بلال جاي!

انعقد حاجبيها تلقائياً مبدية غرابتها لمرافقة بلال لهما بقولها:
_ بلال جاي يعمل إيه؟

رفع يوسف كتفيه معلن عدm معرفته، بعد مرور دقائق قليلة ظهر بلال أمام مرأى عيني يوسف في المرأة الخارجية فأمر لينة بحرج:
_ معلش يا لينة انزلي واقعدي ورا

تأففت بضيق ثم امتثلت لأمره، استقل بلال المقعد بجوار يوسف الذي طالعه وظل يحرك عينيه يميناً ويساراً متسائلاً عن وجوده فلم يريد إحراجه أمام لينة بسؤاله.

فاستشف الآخر حيرة يوسف وأجاب مازحاً:
_ أصل أنا اكتشفت إني طلعت شوارعي جداً، قاعدة البيت دي مش كاري

"يا سلام!"
هتف يوسف بها بعدm تصديق بينما تنهد بلال بملل قبل أن يردد:
_ ما تطلع يابني هتفضل مبحلق لي كتير

لم يكن أمام يوسف سوى التحرك بالسيارة مبتعداً عن منطقتهم، قطع يوسف مسافة طويلة فشعرت لينة بالعطش فأخبرته بعفوية:
_ سوفي، أوقف عند أول سوبر ماركت تقابله نجيب مية

أماء بقبول ثم أنتبه على تمتمة بلال الساخرة:
_ سوفي!!

رددها ثم انفجر ضاحكاً وهو ينظر إلى يوسف الذي نادته لينة بـ سوفي، كان يردد بسخرية من بين ضحكاته المدوية:
_ همـ.ـو.ت مش قادر، بقا أنت طلع أسمك سوفي!

ثم يعود إلى قهقته مرةٍ أخرى، طالع يوسف لينة من خلال المرآة الأمامية ورمقها بغيظ قبل أن يهتف متذمراً:
_ معتيش تنطقي حرف قدام الحـ.ـيو.ان دا تاني

لم تصمت لينة وأبدت زمجرتها من ضحكاته السمجة:
_ وأنت مش بتدلع ولا إيه ولا إيمان مش بتعرف تدلع؟!

توقف بلال عن الضحك لكن مازال وجهه مبتسماً، فتابعت الأخرى بانتصار:
_ أنا قولت كدا برده..

اختفت ابتسامته تماماً من على محياه ولم تترك أثراً، حاول بلال جاهداً أن يبدو طبيعياً إلا تعابيره قد خانته وتجهمت بشكل ملحوظ، هرب منهما بنظراته التي تابع بها الحركة في الخارج، لكنه كان ظاهراً لكليهما وضعه الذي انعكس كلياً.

شعرت لينة لوهلة أنها كانت مخطئة في حقه، لا تعلم من أين أتى ذاك الشعور لكن عبوسه سبب لها الضيق، بينما لاحظ يوسف تحول حالته، وكان يزداد اليقين داخله أن صديقه ليس على ما يرام كما يدعي.

توقف أمام إحدى الاستراحات على الطريق واصطحب لينة إلى الداخل لكي تشتري ما يحلو لها، في السيارة رفض بلال الترجل منها، جذب هاتفه ونظر إلى المحاولات التي قامت بها إيمان الإتصال به، فهو أغلق تفعيل خط هاتفه لكي لا يستطيع أحد الوصول إليه، أو ربما هي!

أعاد الهاتف في جيبه عنـ.ـد.ما لمح عودة يوسف ولينة، وضعت لينة الكيس البلاستيكي كبير الحجم بجوارها فخرج بلال عن صمته قائلاً:
_ كل دي ازازة مية!

قام يوسف بالرد عليه لكي لا تنشب بينهما مشادة كلامية:
_ جبنا مية وحاجات تانية نتسلى فيها على لما نوصل

مال بلال برأسه للجانب ناظراً إليه قبل أن يردف:
_ قصدك على لما نوصل ونرجع

لكزه يوسف في رأسه وردد مستاءً:
_ ياعم أنت دافع حاجة من جيبك؟

تحرك يوسف بالسيارة بينما بدأت توزع لينة بعض التسالي عليهم بالتساوي، مرت ساعة تلتها أخرى حتى وصلا إلى مرادهم.

ترجل الشابان من السيارة بينما ظلت لينة تطالع المنزل من نافذة السيارة وقد تجدد شعور الحنين إلى موطنها مرة أخرى، حجب يوسف رؤيتها بوقوفه أمامها فرأى لمعة عينيها، انحنى بجسده مستنداً بمرفقيه على سور النافذة مردداً:
_ أنتِ وعدتيني يا لينة..

أومأت برأسها عدة ايماءات ففتح لها الباب وترجلت هي، وقفت أمام المنزل تطالعه كيف وضع الزمان بصمته عليه، لقد بات عتيقاً على الرغم من أنهما فقط ثمانِ سنوات إلا أنهما كانوا بمثابة قرون قد مروا عليه ليكون بهذا الشكل.

"أنتوا مين؟"
أنتبه ثلاثتهم على سؤال تلك السيدة، فاستداورا إليها فعادت هي متسائلة:
_ أنتوا عايزين مين؟

اقتربت منها لينة وأخبرته هن هويتها:
_ أنا لينة نعمان فاضل والبيت دا بيتي..

اتسعت مقلتي السيدة، وكان الذهول يتأجج في عينيها قبل أن تهتف:
_ يا حبيبتي يا حبيبتي، أنا خالتك سعاد

لم يكن هناك مجالاً لعدm معرفتها، فهي كانت آخر من رأتها ذلك اليوم المشؤوم، ضمتها سعاد بقوة وجهشت باكية، بادلتها لينة العناق فلقد رأت فيها والدتها وأحاديثهن سوياً.

ابتعدت سعاد عنها وحدجتها بتفحص لا تصدق أنها تراها أمامها مرة أخرى فلقد ظنت أنهما ذهبا مع الرياح بعد فعلة خالهما، ابتسمت بعفوية ورددت:
_ يا عمري كبرتي وبقيتي عروسة إسم الله عليكي ربنا يحرسك

انتبهت على يوسف وبلال وحدجتهما بنظرات مريبة فأثارت الريبة داخلها من أمرها، استشفت لينة ما وراء نظراتها، فاقتربت من يوسف وتخللت يده بأصابعها فتفاجئ يوسف بتصرفها وكذلك الآخرين قبل أن يصيبهم الذهول مما تفوهت به:
_ دا يوسف، كاتبين كتابنا!!

تحولت نظرات يوسف وبلال المذهولة عليها، لم يتوقع يوسف رد كهذا، ظل يحدجها بنظرات مشتعلة فتوسلته هي بعينيها أن يجاري الأمر كما خططت له.

تنهد ثم وجه أنظاره إلى السيدة سعاد وشكل بسمة لم تتعدى شفتيه وأردف:
_ أهلاً بحضرتك

ابتسمت له سعاد وتمتمت بشغف:
_ ربنا يسعدكم يارب ويبـ.ـارك لك على اللي عملتوا معاهم، أنا افتكرتك أنت اللي كنت جاي مع الحكومة يوم..

لم تستطيع مواصلة حديثها، حمحمت ثم وجهت نظريها على بلال وهتفت متسائلة:
_ أكيد دا مش علي مش معقول كبر كدا

كاد بلال أن يعرف عن هويته لكن قاطعته لينة بقولها:
_ لا لا مش علي، دا بلال أخو يوسف

مفاجأة أخرى تلقاها الشابان، وفي النهاية لم يكن أمامهما سوى مسايرة ما يحدث، ابتسم لها بلال وأكد على حديث لينة:
_ أيوة أنا أخوه..

التفت بجسده سريعاً قبل أن تلاحظ السيدة ضحكاته ويفـ.ـضـ.ـح أمرهم، بينما تسائلت سعادة بفضول:
_ أومال علي فين مجاش معاكي ليه؟

عبست ملامح لينة وأخفضت رأسها بحـ.ـز.ن تشكل على تعابيرها، زفرت أنفاسها ثم أجابتها:
_ علي سـ..

"علي تعبان شوية ومقدرش يجي معانا، إن شاء الله يجي مرة تانية"
هتف بهم يوسف فازدادت ضحكات بلال على أكاذبيهم التي لا تنتهي، شعرت سعاد بالغرابة لقهقهته المفاجأة فاعتذر هو معللاً أسبابه:
_ معلش أنا آسف بس أنا عندي مرض الضحك، بضحك في أي وقت غـ.ـصـ.ـب ومش بقدر أسيطر على نفسي..

انفجر ضاحكاً على ما اختلقه تحت نظرات يوسف ولينة المذهولة لما أردفه للتو، بينما تعجبت سعاد من مرضه فلم تسمع عنه من قبل، ورددت مستفسرة:
_ ياعيني يابني ودا ملوش علاج دا؟

لم يستطيع بلال تمالك نفسه حينما رأى تعابيرها المتأثرة وانفجر ضاحكاً ولكن تلك المرة لم يستطيع السيطرة على نفسه فتولى يوسف الرد عليها:
_ معلش اعذرينا، هو على طول زي ما أنتِ شايفة كدا

تأثرت سعاد بحالة بلال المريبة ودعت له بحـ.ـز.ن:
_ ولا يهمك يابني، ربنا يشفيه يارب

تابعت حديثها الموجه إلى لينة:
_ أنا موجودة يا حبيبتي لو احتجتي لأي حاجة تعالي خبطي عليا

شكرتها لينة بإمتنان كبير ثم عادت سعاد إلى منزلها، سحب يوسف يديه فور ذهاب المرأة، وعاتب لينة على فعلتها:
_ إيه اللي قولتيه للست دا؟

حاولت لينة شرح سبب تصرفها له:
_ يا يوسف أنا كانوا بيمنعوني ألعب في الشارع وأنا عندي ٧سنين عشان عيب ومينفعش اختلط بولاد، عايزني أقولها جاية مع شابين ميقربوليش حاجة؟ متخيل كان موقفي هيكون إيه؟
وكان ممكن أوي تتكلم على تربية أهلي من ورايا وأنا مش هسمح إن حد يغلط في أهلي أبداً

تدخل بلال مؤيداً تصرف لينة الحكيم:
_ بصراحة يا يوسف اللي لينة عملته عين العقل، أنت مشوفتش الست بصت لنا إزاي تخيل كانت تقولها الحقيقة وأنها قاعدة في بيتك؟! دي كانت أكلت وشنا

شعر يوسف بغصة في حلقه، يتحدثان وكأنه المذنب، كأنه افتعل خطأً فادحاً في حق تلك الفتاة ولم يقصد مساعدتها، حاول طرد أفكاره التي عكرت صفوه ونظر إلى صديقه وصاح به:
_ طيب هي وفهمنا، أنت إيه مرض الضحك اللي ظهر فجأة دا؟

قهقه بلال وكذلك لينة شاركته الضحك، وزع يوسف أنظاره بينهما وهتف بعدm تصديق:
_ بجد والله؟

هللت لينة من بين ضحكاتها:
_ مش عارفة قدرت أمسك نفسي ومضحكش إزاي

طالعهما يوسف بغيظ شـ.ـديد، فهتف بلال بقلة حيلة:
_ كنت أعمل إيه يعني؟ دا اللي جه في دmاغي وقتها فقولته

حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفاتهما، ثم انتبه لسؤال لينة حينما قالت:
_ وبعدين أنت ليه قولت إن علي تعبان، ليه مقولتش إنه مسافر؟

تنهد يوسف وردد وهو لا يعي الإجابة الصريحة على سؤالها:
_ معرفش، بس محبتش تعرف أنه بعيد عنك وأنتِ لوحدك من غيره وتفكر فيكي وحش

تقوس ثغر لينة ببسمة عـ.ـذ.بة وأردفت بإمتنان:
_ شكراً

قاطعه بلال لحظتهما بقوله:
_ ما تشوفوا هتعملوا إيه عشان نلحق نرجع

رمقه يوسف بطرف عينيه وهتف ساخراً:
_ لما أنت مش قادر تبعد عنها إيه اللي جابك معانا؟!

تأفف بلال وقلب عينيه بتزمجر قبل يهتف مستاءً:
_ ياعم وأنت مالك، خلصوا بجد بقا فيه ناموس كتير اوي هنا آكل قفايا

أنهى جملته ثم ضـ.ـر.ب مؤخرة رأسه بعد أن لدغته بعوضة، قهقه يوسف على حالته المثيرة للشفقة فلم تقترب منه بعوضة منذ مجيئهم، فقط بلال من ينال لدغات البعوض.

أخرجت لينة مفتاح المنزل من حقيبتها ثم قامت بفتح الباب، لم تمر ثانية حتى ارتفع صراخها الذي دوى في الأرجاء بذعر...
"معرفش هو فين وق